حرف الألف
الإيمان ـ التصديق
لم يفرِّق
اللغويون بين الإيمان والتصديق، وجعلوهما مترادفين ترادفًا تامًّا، وفى ذلك يقول
الأزهرى: اتَّفَق أهل العلم من اللغويين وغيرهم أن الإيمان معناه التصديق.
ثم نقل إجمال المفسِّرين على أن كلمة "مؤمن"
فى قول الله عز وجل: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ
كُنَّا صَادِقِينَ} يوسف/17، معناها: مُصَدِّق
[1].
بَيْدَ أن بعض العلماء أنكروا الترادف التامَّ بين اللفظين، كابن تيمية الذى قال
بأن الإيمان أخصُّ من التصديق؛ لأن الإيمان تصديق يُسْتَعْمَل على نحو مخصوص، ولأن
كل مُخْبِرٍ عن مشاهدة أو غيب يقال له فى اللغة: صدقْتَ، كما يقال كَذَبْتَ. وأمَّا
لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا فى الخبر عن غائب، ولهذا يقال للشهود: صدَّقناهم، ولا
يقال: آمنَّا لهم؛ ذلك أن الإيمان مشتقٌّ من الأمن أو الأمانة؛ ولذلك فهو يستعمل فى
خبرٍ يُؤْتَمَنُ عليه المخبِر، ولم يستعمل لفظ "آمَنَ"
فى القرآن إلَّا فى هذا النوع ... وقوله سبحانه وتعالى: {يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} التوبة/61،
أى: يُصَدِّقهم فيما أخبروا به ممَّا غاب عنه، وهم مأمونون عنده، فاللفظ متضمِّن مع
التصديق معنى الائتمان والأمانة.
ومن أوجه الفرق أيضًا أن لفظ الإيمان فى اللغة لَمْ يُقَابَلْ بالتكذيب كما قُوبِلَ
به لفظ التصديق، وإنما قُوبل به لفظ الكُفر، يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا
يختصُّ بالتكذيب فحسب، وإنما قد يكون "الكُفْرُ"
تكذيبًا، وقد يكون مخالفة وامتناعًا بلا تكذيب. ولَّما كان الأمر كذلك لزم أن يكون
الإيمان تصديقًا مع موافقة وموالاة وانقيادٍ، لا مجرد التصديق.
ومن أوجه الفرق أيضًا ما قال به بعضهم
[2]
من أن الإيمان أصله فى اللغة من الأمن الذى هو ضد الخوف، وعلى ذلك يكون معنى
"آمَنَ": صار داخلًا فى
الأمن، وأنشدوا فى ذلك بيت النابغة:
والمؤمنِ العائذاتِ
الطَّيْرَ يَمْسَحُها ***
رُكْبانُ مكَّةَ بين الغِيلِ والسَّعَدِ
[3]
وخلص ابن تيمية
إلى أن الإيمان أصله التصديق، ولكنه تصديق مخصوص، كما أن الصلاة دعاءٌ مخصوص، والحج
قصد مخصوص، والصيام إمساك مخصوص
[4].
وابن تيمية يقصد بعبارته الأخيرة أن الإيمان معناه اللغوى التصديق، ولكن الشرع
خصَّصه فى نوع بعينه من التصديق كما شرحه فيما سبق ذكره، وَمثَّلَ لذلك بأن معنى
الصلاة فى اللغة: الدعاء، ولكنه دعاء مخصوص بالطريقة المحددة التى عينَّها الشارع
للصلاة من توجُّه إلى القبلة وتكبير وقيام وركوع وسجود وتسليم. وكذلك الصيام فى
اللغة معناه الإمساك، ولكنه نوع بعينه من الإمساك هو الإمساك عن شهوتى البطن
والفرج. والحج فى اللغة معناه القصد، ولكنه قصد مخصوص بالبيت الحرام دون غيره.
واستقراء الآيات الكريمة التى وردت فيها الكلمتان مصداق لكلام ابن تيمية، فقد ذُكِر
الإيمان فى الكثير من الآيات بهذه المعانى المذكورة، ومن الآيات الجامعة لتلك
المعانى قول الله عز وجل:
-{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ
دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}
الأنفال/2-4.
فاشتمل الإيمان على صفات عدَّة تكون فى المؤمن، منها تصديق الله ورسوله فى
كل ما أخبر به، وعدم الشك، والجهاد فى سبيل الله، ووجل القلوب عند ذكر الله سبحانه
وتعالى، وزيادة الإيمان بسماع آيات الله تُتلَى، والتوكُّل على الله، وإقامة
الصلاة، والإنفاق
[5].
أمَّا التصديق فليس فى مفهومه ما تقدَّم من صفات ولوازم الإيمان، ومن شواهده فى
القرآن الكريم:
- {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ
هُمُ الْمُتَّقُونَ} الزمر/33.
- {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}
الصافات/37.
الآيتان تتحدثان عن صدق النبى صلى الله عليه وسلم الذى جاء بالحق وصدَّق به
وصدَّق المرسلين من قبله
[6]،
وإيثار لفظ التصديق هنا جاء فى مقابلة تكذيب الكافرين.
• ونخلُص مما سبق
إلى أن الاستعمال القرآنى لكلمتى "الإيمان،
والتصديق" يجعلهما متقاربتين فى الدلالة؛ حيث
يشتركان فى معنى عام هو التصديق بالقلب.
ويختص الإيمان بملامح دلالية تميزه، هى:
1- أنه يختص بالغيب دون المشاهدة.
2- أنه يجمع بين التصديق والأمانة والأمن.
3- أنه يتضمن مع التصديق: الموافقة والمولاة والانقياد.
4- أن له لوازم ومظاهر على نحو ما تقدَّم.
**************************
[1]
تهذيب اللغة، المحكم، الصحاح، مقاييس اللغة، اللسان (أ م ن،
ص د ق).
[2]
انظر: مقاييس اللغة، اللسان (أ م ن).
[3]
جاء فى نضرة النعيم (2/649) أن هذا البيت ليس فى
الفتاوى، وأن المحقِّق ترك فى موضعه بياضًا، ولكن فى نضرة النعيم: (والسَّنَد)
بالنون، والصواب ما أثبتناه: (والسَّعَد) وفقًا
للأستاذ عبد السلام هارون، حيث ذكر فى حاشية مقاييس اللغة (1/135)
أن فى الأصل: (والسَّنَد) بالنون، والصواب ـ كما فى
ديوان النابغة ـ : (والسَّعَد) بالعين، وهى أجَمَةٌ
بين مكة ومنى.
[4]
فتاوى ابن تيمية 7/286 ـ 297 باختصار وتصرف.
[5]
الفتاوى 7/19.
[6]
الكشاف 3/339، 3/398.
|