شبهات حول القرآن الكريم
شبهات دلالية
زعموا أن في القرآن الكريم مخالفات دلالية، وحصروها فيما يلي:
التناقض في معاني
الألفاظ
ادعوا
أن القرآن يستخدم اللفظ الواحد في المعنى ونقيضه، واستدلوا لذلك بقوله تعالى:
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلاقُو رَبِّهِمْ} البقرة/46.
فمدح الذين {يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلاقُو رَبِّهِمْ}، وفي قوله
عز وجل: {وَإِنَّ الظَّنَّ
لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}
النجم/ 28. والظن هنا
مذموم. وهذا ـ في زعمهم ـ تناقض.
ولو أنهم راجعوا كتب اللغة ـ بل لو كان عندهم طرف من المعرفة بمبادئ علم اللغة ـ
لما أوردوا هذه الشبهة الواهية.
فمن المسلمات المعروفة في علم اللغة: ظاهرة الاشتراك اللفظي، أو تعدد المعنى، وقد
أفردت لهذه الظاهرة كتب كاملة نذكر منها:
· الأشباه والنظائر، لمقاتل بن سليمان البلخي.
· المنجد في اللغة، لكراع النمل.
ومن أنواع المشترك اللفظي في العربية ما يعرف بالأضداد. وهي كل لفظٍ يعبر عن معنى
وضده، ومن الكتب التي أفردت لهذه الألفاظ:
· الأضداد، لابن السكيت.
· الأضداد، للأصمعي.
· الأضداد، للسجستاني.
· الأضداد، للصغاني.
· الأضداد، لابن الأنباري.
وغير ذلك الكثير من الكتب التي أفردت لتلك الظاهرة اللغوية المعروفة، حتى إنه لا
يكاد كتاب في علم اللغة يخلو من الإشارة إليها باستفاضة أو بإيجاز.
وفي الإنجليزية تسمى هذه الظاهرة "Polysemy"، "Homonymy"
يقول "ليش" في تعريفها: Homonymy: كلمتان أو أكثر
تشتركان في النطق والهجاء، و"Polysemy": كلمة واحدة
لها معنيان أو أكثر(1).
وهل هناك أحد ـ ممن يدعي المعرفة باللغة ـ لا يعرف أن كلمة (عين)
ـ على سبيل المثال ـ لها معانٍ متعددة يحددها السياق، مثل: حاسَّة الإبصار، عين
الماء، الجاسوس، حقيقة الشيء (نحو: عين اليقين، الشخص عينه)،
الحسد (أصابته عين... إلخ) (2).
وقد نال لفظ (العين) حظًّا عظيمًا من اهتمام
اللغويين، وعكف بعضهم على حصر دلالته، فوصل بها أحدهم إلى ما يزيد على المائة(3)،
كما تردد هذا اللفظ كثيرًا في كتب المشترك اللفظي(4)،
وغيرها من كتب اللغة (5)،
كأحد الألفاظ المهمة التي تمثل ظاهرة الاشتراك اللفظي أصدق تمثيل(6).
وكلمة (ظن) من المشترك اللفظي باتفاق علماء اللغة، يقول "ابن
فارس":
"الظاء والنون أُصَيْلٌ صَحِيحٌ يدلٌّ على معنيين مختلفين: يقين، وشك؛ فأما اليقين
فقول القائل: ظننت ظنًّا، أي أيقنت، قال الله تعالى: {الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ}، أراد ـ
والله أعلم ـ : يوقنون. والعرب تقول ذلك وتعرفه، قال دريد ابن الصمة:
عَلانِيَةً ظُنّوا بِأَلفَي مُدَجَّجٍ *
سَراتُهُمُ في الفارِسيِّ المُسَرَّدِ
أراد: أيقنوا. وهو في القرآن كثير(7).
ومن هذا الكثير في القرآن ما أورده مقاتل بن سليمان، وبدأ به في تفسير الظن، فقال:
الظن على ثلاثة وجوه: فوجه منها الظن بمعنى اليقين، وذلك في قوله
عز وجل: {وَظَنَّ
دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}
ص/ 24 يعني: أيقن داود
أنما ابتليناه: وقال في الحاقة: {إِنِّي
ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}
الحاقة/ 20، يعني: إني
أيقنت، وقال في البقرة: {إِنْ
ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}
البقرة/ 230 يعني: إن
أيقنا.
ثم ذكر الوجهين الآخرين، وهما: الشك، والتهمة (8).
ويزيدنا الراغب الأصفهاني إيضاحًا لهذه المسألة فيقول: الظن اسم لما يحصل عن
أمَارةٍ، ومتى قَوِيَتْ أَدَّتْ إلى العلم، ومَتَى ضَعُفَتْ جدًّا لم يتجاوز حدَّ
التوهم. ومما ساق الراغب من الآيات التي استُعمل فيها الظن بمعنى اليقين
ـ سوى ما ساقه مقاتل، وآية البقرة التي نحن بصددها ـ الآيات التالية:
· {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ
قَادِرُونَ عَلَيْهَا}
يونس/ 24.
· {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ
وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ
يُرْجَعُونَ} القصص/
39.
· {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا
فَتَنَّاهُ} ص/
24 .
· {وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ
اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ}
فصلت/ 22.
· {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي
ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ}
فصلت/ 23.
· {وَظَنُّوا أَنَّهُم
مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم}
الحشر/ 2 .
· {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ
السَّوْءِ} الفتح/
6، يفسره ما بعده وهو قول الله عز وجل:
{بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن
يَنقَلِبَ الرَّسُولُ}
الفتح/ 12.
· {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ}
القيامة/ 28.
· {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ
أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ}
المطففين/ 4.... إلخ (9).
وقد أطبق جمهور المفسرين قاطبة على أن قول الله عز وجل:{الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ}
البقرة/ 46.
يعني: يوقنون؛ لأنه وصف للخاشعين، ومَنْ وُصِفَ بالخشوع لا يَشُكُّ أنه مُلاقٍ
ربَّه، ويؤيِّده أن في مصحف عبد الله بن مسعود رضى الله عنه:
"الذين يعلمون"، ومثله قوله تعالى:
{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ
حِسَابِيَهْ} الحاقة/
20، وقوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ
النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}
الكهف/ 53؛ فالظن في هذه
المواضع ونظائرها بمعنى اليقين(10).
وقد فسر العلامة الطاهر بن عاشور هذا الاشتراك في لفظ الظن تفسيرًا حسنًا فقال: "حقيقة
الظن: علم بما لم يتحقق؛ إمَّا لأن المعلوم لم يقع بعد، ولم يخرج إلى عالم الحسِّ،
وإمَّا لأن علم صاحبه مخلوط بشك. وبهذا يكون إطلاق الظن على المعلوم المتيقَّن
إطلاقًا حقيقيًّا، وعلى هذا جرى الأزهري في التهذيب، وأبو عمرو، واقتصر على هذا
المعنى ابن عطية" (11).
وإذن فالسياق ـ وغيره من قرائن فهم المعنى ـ هو الذي يحدد معنى اللفظ، وبخاصة
المشترك اللفظي، ولله دَرُّ علمائنا إذ منعوا غير العالم بحقائق اللغة وأسرارها من
التعرض لكتاب الله بالتفسير، وليس هذا نوعًا من الكهانة ولا احتكار العلم، بل مجرد
منهج وضوابط ينبغي الإحاطة بها كما هو الشأن في كل علم من العلوم، فمثلاً قد يكون
اللفظ مشتركًا، وهو يعلم أحد معنييه، والمراد المعنى الآخر(12).
والمشترك اللفظي في القرآن الكريم مظهر من مظاهر الإعجاز اللغوي في هذا الكتاب
العظيم؛ حيث كانت الكلمة الواحدة تنصرف إلى عشرين وجهًا، أو أكثر أو أقل، ولا يوجد
ذلك في كلام البشر(13)، إلا مع اضطراب دلاليٍّ
والتباس يشق على المخاطَب ويضيع معه المعنى.
وقد استنفد القرآن الكريم ما في المشترك اللفظي من جوانب إيجابية ـ دون أن تشوبه
شائبة من سلبيات هذه الألفاظ ـ ومن الجوانب الإيجابية للمشترك اللفظي في القرآن
الكريم:
-استغلال الغموض كخاصة من خواص الأسلوب مما يثير فضول السامع أو القارئ إلى التوقف
للحظات أول الأمر لفهم المعنى المراد وإزالة ما قد يشوبه من غموض أو خفاء، فيتحقق
الرضا والارتياح ويتمكن المعنى في النفس.
-تحقيق نوع من الموسيقى الداخلية، والملاءمة اللفظية الناتجة عن استخدام اللفظ
بمعنيين في آية واحدة أو آيتين متجاورتين كقوله تعالى: {وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ
} الروم/
55، وقوله تعالى: {يَكَادُ
سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ* يُقَلِّبُ
اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}
النور/ 43 ـ 44.
-يعتمد القرآن على المجاز بعلاقاته المختلفة، وبخاصة علاقة المشابهة لتحقيق الأداء
اللغوى الرفيع، بالإضافة إلى ما تحققه الاستعارة من حسن التصوير، وتوضيح المعنى،
والإيجاز في الأداء، وجعل التعبير أكثر أدبية. وقد تمضى الاستعارة خطوة إلى الأمام
حين تعبر عن المعقول والمعنوي بالمحسوس فيصبح كأنه أمر ملموس مرئي من خلال خلعها
على الجمادات صفات الكائن الحي.
ولكن الاستعمال القرآني للمشترك اللفظي لم يترك القارئ في حيرةٍ وارتباك، بل كان
المعنى المقصود واضحًا لمن تأمَّل، اعتمادًا على عدد من القرائن التي تحدد المعنى
المراد، نذكر منها:
· المخالفة بين المصادر حين يكون الفعل من المشترك اللفظي.
· المخالفة بين الجموع حين يكون المفرد من المشترك اللفظي.
· الاعتماد على السياق اللغوي.
· الاعتماد على السياق غير اللغوي.
· مخالفة الرسم الإملائي.
أما المخالفة بين المصادر حين يكون الفعل من المشترك اللفظي فمن أمثلته في القرآن
الكريم الفعل "صام" الذي يدل على معنى الإمساك عن الطعام والشراب، كما يدل على معنى
الصمت وعدم الكلام.
وقد حرص القرآن على أن يميز في المصدر بين النوعين، فاستخدم للأول كلمة "صيام" كما
في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ }
البقرة/ 183، واستخدم
للثاني كلمة "صوم" كما في قوله تعالى:
{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ
صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}
مريم/ 26.
وأما المخالفة بين الجموع للإشارة إلى تعدد معنى المفرد فقد أخذ شكلين في القرآن
هما:
النوع الأول: دلالة المفرد على أكثر من معنى باعتباره من ألفاظ المشترك اللفظي.
فمن أمثلة النوع الأول ما يأتي:
أعين وعيون: كلا اللفظين مفرده "عين"، وقد ورد هذا المفرد في القرآن بمعنى آلة
البصر كقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ
} المائدة/
45، كما ورد بمعنى عين الماء، كما في قوله تعالى: {فِيهَا
عَيْنٌ جَارِيَةٌ} الغاشية/
12.
فإذا نظرنا إلى الجمع وجدناه قد ورد في القرآن بصيغتين اثنتين هما:(أعين)
و(عيون). وإذا تتبعنا جميع الآيات التي استُخدِم
فيها الجمعان ـ وعددها اثنتان وعشرون آية للجمع(أعين)،
وعشر آيات للجمع (عيون) ـ اكتشفنا أن سر هذا التنوع
هو تخصيص كل جمع لأحد المعنيين دون الآخر.
فلم ترد أعين في القرآن الكريم إلاَّ جمعًا للعين الباصرة، مثل:
{ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ
مِنَ الدَّمْعِ } (المائدة:
83)، {سَحَرُواْ أَعْيُنَ
النَّاسِ} (الأعراف: 116)،
{لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا}
(الأعراف: 179).
كما لم يرد الجمع (عيون) فيه إلاَّ جمعًا لعين الماء،
مثل:
{جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}
(الحجر: 45، الشعراء:57، 147، الدخان: 25، 52، الذاريات: 15).
ولا يصح هنا أن يكون السبب هو إرادة القلة مع الجمع (أعين)،
والكثرة مع الجمع (عيون) كما يقول النحاة؛ إذ لا
يستساغ معنى القلة في آيات مثل: {فَلَمَّا
أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}
(الأعراف: 116)، ومثل: {وَفِيهَا
مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ}
(الزخرف: 71)، لأن معنى الكثرة هو الأنسب والأكثر
ملاءمة للسياق هنا.
النوع الثاني: دلالة المفرد على أكثر من معنى نتيجة تخصيص المعنى العام للفظ في
اتجاهين مختلفين يراد بكل منهما نوع معين من أفراد هذا المعنى العام، وهو ما يمكن
أن يسمى بالاختلاف في تطبيقات الاستخدام، لكن دون أن تختلف المعاني اختلافًا كليًّا
لتصير الكلمة من المشترك اللفظي.
ومن أمثلة النوع الثاني:
حمير وحُمُر: ورد لفظ (الحمير) في القرآن الكريم
مرتين هما: قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ} النحل/
8، وقوله تعالى: {إِنَّ
أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}
لقمان: 19.
أما لفظ (الحمر) فقد ورد مرة واحدة في قوله تعالى:
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ}
المدثر/ 50 ـ 51.
وواضح من سياق الآيات أن القرآن قد استخدم لفظ (الحمير)
حين أراد الأهليَّ منها فهي التي تستخدم للركوب. أما لفظ الحمر فالمراد به الحمر
الوحشية بدليل السياق كذلك، لأن القسورة ـ سواء فسرت بالأسد أو بالرماة والصيادين ـ
لا توجد عادة داخل المساكن والبيوت. ويدل على ذلك أيضًا قول ابن عباس: إن المراد في
الآية الحمر الوحشية.
وأما الاعتماد على السياق اللغوي فمن أمثلته:
تفسير كلمة "الفاحشة" باللواط في قوله تعالى:
{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ
وَأَنتُمْ تُبْصِرُون}
النمل/ 54 بقرينة الكلام السابق في الآية نفسها:
{وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ}،
وتفسيرها بالزنا في قوله تعالى: {وَاللاَّتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ}
النساء/ 15 بقرينة الكلام
التالى: {فَاسْتَشْهِدُواْ
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ}.
أمَّا ما يعتمد على السياق غير اللغوي، فعادة ما يتوقف فهمه على معرفة أسباب النزول
من ناحية، وعلى الرجوع إلى التفسير بالمأثور من ناحية أخرى، ومن أمثلته في القرآن
الكريم: لفظ "إنسان" الذي أريد به آدم نفسه في قوله
تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِن
صَلْصَالٍ كَالْفَخَّار}
الرحمن/ 14 قال القرطبي: باتفاق من أهل التأويل
يعني آدم (14).
وفي قوله تعالى: {إِنَّا
خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ} (الإنسان:
2)، قال القرطبي: أي ابن آدم من غير خلاف (15).
وأريد به شخص بعينه في آيات أخرى منها أبو جهل في قوله تعالى:
{كَلاَّ إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ
اسْتَغْنَى} العلق/ 6،
7، وعتبة بن أبي لهب في قوله تعالى: {قُتِلَ
الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}
عبس/ 17، وأمية بن خلف أو
الوليد بن المغيرة في قوله تعالى: {أَوَلاَ
يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئا}
مريم/ 67.
وأما اختلاف الرسم الإملائي فمن أمثلته في القرآن الكريم الفعل "طغى" الذي كتب
بالياء حين جاء بمعنى التجاوز في العصيان، كما في (طه: 24 ،
43، النجم: 17، النازعات: 17، 37)، وكتب بالألف حين جاء بمعنى علا وفاض، كما
في (الحاقة/ 11)(16).
ونخلص مما سبق إلى أن الظن يستعمل في القرآن الكريم ـ وفي كلام العرب ـ بمعنى الشك
تارة، وبمعنى اليقين تارة أخرى، ويتحدد معناه تبعًا للسياق وللقرائن الأخرى على نحو
ما قدمنا.
والشبهة التي أثاروها حول الآية السابقة أثاروها ـ أيضًا ـ حول قول الله
عز وجل: {وَالْفِتْنَةُ
أَشَدُّ مِنَ الْقَتْل}
البقرة/ 191، وقوله تعالى: {وَمَا
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاس}
الإسراء/ 60، حيث ذمَّت
الفتنة في الآية الأولى، ولم تُذمَّ في الآية الثانية، قالوا: كيف يكون ذلك ومعنى
الفتنة واحد؟
أولاً: الفتنة ليست بمعنى واحد، ولكنها ترد بمعانٍ متعدد، ومن معانيها في القرآن
الكريم:
1) الاختبار، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ
فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } ص/
34.
2) التحريق بالنار، كما في قوله عز وجل:
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ
وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}
البروج/ 10.
3) الضلال، كما في قوله تعالى: {فَتَنْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ}
الحديد/ 14.
4) الكفر، كما في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}
البقرة/ 193.
5) الخداع، كما في قوله تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ
أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}
المائدة/ 49.
وغير ذلك من المعاني، وأصل مادة (ف ت ن): إدخال
الذهبِ النارَ لتظهر جودته من رداءته، ثم استُعير لكل شدة (17)،
كالاختبار كأن المختبَر يحرق بالنار، والضلال والكفر لأنهما مدعاة لدخول النار،
والخداع لأنه نوع من البلاء الشديد لمن وقع به.
ثانيًا: معنى الفتنة في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ
أَشَدُّ مِنَ الْقَتْل}
البقرة/ 191 المحنة والبلاء الذي أصاب المسلمين
بأيدي المشركين، وهو إخراجهم من أرضهم وديارهم، وصدُّهم عن المسجد الحرام،
وابتلاؤهم بصنوف العذاب ليرتدُّوا عن دين الله، وهذا أشدُّ من أن يقتلوا بسيوف
المشركين(18).
وأما قوله تعالى: {وَمَا
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ}
الإسراء/ 60،
فالمراد بالفتنة فيه: الاختبار والابتلاء، وذلك حين أخبر النبي
صلى الله عليه وسلم الناسَ أنه قد أُسْرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى ليلة البارحة، فارتدَّ لذلك قوم من ضعفاء المسلمين، وراح المشركون يسخرون من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلك هي الفتنة التي أريد
بها تمحيص القلوب، وتمييز المؤمن من الكافر والطيب من الخبيث(19).
وفرق بين هذه الفتنة وتلك، فالفتنة التي في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ
أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} هي من فعل البشر، والتى
في قوله تعالى: {إِلاَّ فِتْنَةً
لِلنَّاسِ } هي من عند الله
عز وجل، وقد جرى القرآن الحكيم على ذم الفتنة التي من فعل الإنسان؛ لأنها
مفسدة عظيمة، وأما الفتنة التي من الله عز وجل فهي على
وجه الحكمة الإلهية، ويتجلَّى هذا بوضوح في قوله تعالى: {أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ
* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}
العنكبوت/ 2 ـ 3. أي:
أَحَسِبَ الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم وأظهروا القول بالإيمان أنهم يتركون
بذلك غير ممتحنين، بل يمتحنهم الله بضروب من المحن حتى يبلو صبرهم وثبات أقدامهم
وصحة عقائدهم؛ ليتميز المخلص من غير المخلص، والراسخ في الدين من المضطرب(20).
وقد جرت سُنَّة الله في خلقه أن يختبر عباده، وإلاَّ بطَلَ التكليف، فالدين يبيِّن
لنا الخير والشر، ولكلٍّ وجهةٌ هو مولِّيها، والبلاء والاختبار في الدنيا ركن ركين،
وسنَّة كونية إلهيَّة.
(1)Semanttics, CS, P .28 ، نقلاً عن: علم الدلالة
بين النظر والتطبيق، د. أحمد نعيم الكراعين، ص 117..
(2) جسد الإنسان والتعبيرات اللغوية (دراسة دلالية
ومعجم)، د..محمد محمد داود، ص 173: 194.
(3) انظر التاج (ع ي ن.) .
(4) انظر: أبو عبيد، كتاب الأجناس من كلام العرب،
تحقيق امتياز الرامفوري، المطبعة القيمة، الهند، 1356هـ ـ 1938م، ص 8.، أبو العميثل
الأعرابي: المأثور من اللغة، تحقيق د. محمد عبد القادر أحمد، مكتبة النهضة المصرية،
1408هـ ـ 1988م، ص 63.
(5) انظر: إصلاح المنطق ص 56، والمزهر 1 / 372 ـ 375.
(6) د. عبد الكريم محمد حسن جبل، في علم الدلالة،
دراسة تطبيقية في شرح الأنباري للمفضليات، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1997،
ص 298. والحواشي الثلاث السابقة عن هذا المرجع.
(7) مقاييس اللغة (ظن)، وانظر: المحكم، تهذيب اللغة،
الصحاح، اللسان (ظ ن ن.).
(8) الأشباه والنظائر في القرآن الكريم، مقاتل بن
سليمان، ص 327 ـ 328.
(9) مفردات الأصفهاني، (ظن).
(10) الكشاف 1/ 278، 4/ 153، البحر المحيط 1/ 185، 8/
325، التحرير والتنوير 1/ 480 ـ 481، الفتوحات الإلهية 1/ 48.
(11) التحرير والتنوير، مجلد 14، جـ29، ص130.
(12) البرهان في علوم القرآن 1/ 215، الإتقان 2/490.
(13) البرهان 1 / 102.
(14) القرطبي، 17/ 160.
(15) السابق 19/ 120.
(16) الاشتراك والتضاد في القرآن الكريم: دراسة
إحصائية، د. أحمد مختار عمر، ص 124 ـ 125.
(17) المفردات، مقاييس اللغة، اللسان (ف ت ن)، العمدة
في غريب القرآن: ص (80، 96، 122، 205، 257، 281)،
الكشاف: 1 ص (301، 342،413،633) ،2ص (560)، 3 ص (195،196،355)، 4 ص (14، 170).
(18) الكشاف 1/ 342، البحر المحيط 2/ 66، التحرير
والتنوير 2 / 202.
(19) الكشاف 2 / 455، البحر المحيط 6 / 54.
(20) الكشاف 3 / 197.
|
|