شبهات حول القرآن الكريم
ادِّعاء وجود اضطراب في
بعض التراكيب القرآنية:
من ذلك
ما زعموه من وجود لبس فى:
· استخدام الضمائر:
زعموا أن هناك اضطرابًا في استعمال القرآن للضمير، في الآيات التالية:
1) قوله تعالى: {وَإِذْ
أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا
وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}
المائدة/ 111؛ حيث جاء الضمير المستتر في الفعل"اشهد"
للمفرد المخاطب، والصواب ـ في زعمهم ـ أن يقال: قالوا آمنَّا ونشهد بأننا مسلمون!!
وذلك ـ في دعواهم ـ لأن الفعل "اشهد"
عائد على المتكلم الجمع "الحواريين".
وهذه الشبهة تدل على جهل فاحش من صاحبها بأبسط قواعد اللغة، من جهة التركيب، ومن
جهة المعنى:
· من جهة التركيب: الفعل "اشهد"
خطاب من الحواريين لله الواحد الأحد، أي: آمنَّا، واشهد يا رب، لنا بهذا الإيمان.
· ومن جهة المعنى: لو أنهم قالوا كما اقترح صاحب الشبهة:آمنَّا ونشهد بأننا مسلمون،
لكان في هذا الكلام تكرارٌ ولغو لا فائدة منه؛ لأن قولهم "آمنَّا"
يعادل قولهم "شهدنا بأننا مسلمون"
وما الفارق بين إقرار المرء بإيمانه، وأن يشهد لنفسه بهذا الإيمان؟!
أما نظم الآية الكريمة فتضمن شيئين:
· إقرارهم بالإيمان: "قالوا آمنا".
· دعاؤهم الله عز وجل أن يشهد لهم بهذا الإيمان:"واشهد
بأننا مسلمون".
ولعل صاحب هذه الشبهة قد اشتبه عليه الفعل "واشهد"
فظنَّه فعلاً مضارعًا، ومنشأ هذا الوهم جهله بالفارق بين همزة المضارع، وهمزة فعل
الطلب، فهمزة المضارع همزة قطع "وأَشْهَدُ"
وهمزة فعل الطلب همزة وصل "واشهَدْ"
وهو ما جاء في الآية.
فكيف يتصدى من جهل هذا الفرق اليسير لنقد القرآن الكريم، ويدَّعي وجود اضطراب في
بنائه التركيبي؟!
2) قوله تعالى: {إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلاً}
الفتح/ 8 ـ 9.
زعموا أن في الآيتين اضطرابًا في استخدام الضمائر من وجهين:
الأول: أن هناك انتقالاً من مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم"أرسلناك..."
إلى مخاطبة المؤمنين "لتؤمنوا".
الثاني: أن ضمير الغائب في "تُعَزِّروه،
تُوقِّروه" يعود على الرسول المذكور آخرًا، وفي"تسبحوه"
عائد على الله المذكور أولاً.
ويؤيدون شبهتهم بقولهم: فلو كان الضمير في الأفعال الثلاثة "تعزروه
ـ وتوقروه ـ وتسبحوه" عائدًا على النبيصلى
الله عليه وسلم فهذا كفر؛ لأن التسبيح لا يكون لغير الله سبحانه.
وإن كان الضمير في الأفعال الثلاثة عائدًا على الله عز وجل
فهذا أيضًا كفر؛ لأن الله عز وجل لا يحتاج إلى من يعزره
ويقويه.
وليس في الآيتين اضطراب، بل هو فنٌّ بلاغي يسمى الالتفات، وهو الانتقال من حالة
خطاب إلى حالة أخرى، كالانتقال من الغائب إلى المتكلم، أو من خطاب المفرد إلى خطاب
الجمع. وهو أسلوب عربي معروف، ومنه قول النابغة:
أَلا
زَعَمَت بَنو عَبسٍ بِأَنِّي
أَلا كَذَبوا كَبيرُ السِنِّ فانِ
وهو
التفات من معنى إلى معنى آخر، ومنه قول شاعر الحماسة:
فإنَّك
لم تبعدْ على متعهِّدٍ
بلَى كلُّ مَنْ تَحْتَ التراب بعيدُ[1]
وإذن
فالتحول من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطاب
المؤمنين ليس اضطرابًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
خُوطب بالرسالة والشهادة، والبشارة والنذارة في قوله تعالى: {إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}
وخوطب المؤمنون بالغاية من تلك الرسالة في قوله: {لِتُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وهو التفات جَلِيٌّ في
التركيب والمعنى.
أما عن ضمائر الغائب في الأفعال الثلاثة: "وتعزروه
ـ وتوقروه ـ وتسبحوه" فليس فيها اضطراب؛ لأن
مرجعها جميعًا الله عز وجل ومعنى "تعزروه":
تعزروا دينه، أي تُقَوُّوه وتنصروه. ولا شبهة للكفر في نصر دين اللهعز
وجل وتقويته، قال تعالى: {إِنْ
تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ }محمد/
7. ومعنى "تُوَقِّرُوه":
تُعَظِّمُوه.
وهذا هو الوجه الراجح في مرجع الضمائر، واقتصر عليه الزمخشري[2]،
ورجَّحه أبو حيَّان[3]، وأيَّده الطاهر بن عاشور
بقوله: ضمائر الغيبة المنصوبة الثلاثة عائدة إلى اسم الجلالة؛ لأن إفراد الضمائر مع
كون المذكور قبلها اسمين ـ دليل على أن المراد أحدُهما، والقرينة على تعيين المراد"أنه
الله سبحانه" ذكرُ "وتسبحوه"؛
ولأن عطف "ورسوله" على لفظ الجلالة اعتداد بأن الإيمان بالرسول
صلى الله عليه وسلم إيمان بالله، فالمقصود هو الإيمان بالله[4].
3) قوله تعالى: {حَتَّى
إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا
بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ}يونس/
22؛ حيث انتقل الكلام من ضمير المخاطب "كنتم"
إلى ضمير الغائب (بهم ـ فرحوا) والصواب ـ في ظنِّهم ـ أن يقال: حتى إذا كنتم في
الفلك وجرين بكم بريح طيبة، وفرحتم بها.. وبذلك يستمر الكلام على نسق واحد، وتتوحد
الضمائر.
جاءت الآية الكريمة على نسق أسلوب بلاغي يُعْرَف بالالتفات، وهو ما أشرنا إليه في
الآية السابقة.
وها هنا بدأت الآية بتوجيه الخطاب للناس كافَّة "مؤمنين
وغير مؤمنين"، امتنانًا بنعمة التسيير في البحر،
وهي شاملة لجميع الناس، فَحَسُنَ خطابهم بذلك، ثم التفت من الخطاب إلى الغيبة؛ لأن
هذه الحالة "حالة جرى السفن"
هي حالة غياب، فالسفن حملت راكبيها، وغابت بهم في خضم الأمواج، واستمر الكلام بضمير
الغائبين في قوله تعالى: {وَفَرِحُوا
بِهَا}؛ لأنه يخص الباغين الذين لم يشكروا نعمة
الله، فأخرج الله عز وجل المؤمنين من الخطاب وأفرده
للكافرين لئلا يشترك المؤمنون مع الكافرين في هذا العقاب والهلاك في البحر[5].
هكذا جاء الالتفات في الآية من ضمير المخاطبين إلى ضمير الغائبين متوافقًا مع
المعنى، فلما كان السياق خاصًّا بالنعمة جاء ضمير المخاطب الجمع لجميع السامعين،
فلمَّا تَهَيَّأت للانتقال إلى ذكر الضراء حدث الانتقال من ضمير الخطاب إلى ضمير
الغيبة بما يخلص وقوع الضراء بالمشركين.. ثم استمر ضمير الغيبة في الآية التالية
خاصًّا بالمشركين وحدهم: {فَلَمَّا
أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}يونس/
23؛ فَتَمخَّض الضمير للمشركين[6].
ليس في الضمائر اضطراب إذن، بل إن تركيب الآية على هذه الصورة جاء متَّسقًا تمام
الاتساق، فجاء كل ضمير مطابقًا لحال صاحبه، هذا إلى ما في الانتقال من الخطاب إلى
الغياب من تفريق بين حالين: حال المؤمنين الذين شكروا نعمة الله، وحال المشركين
الذين امتحنوا بخطر الهلاك في البحر فارتفعت أصواتهم بدعاء الله
عز وجل ثم لَمَّا أنجاهم استمروا في بغيهم وطغيانهم. وكانت الضمائر على
النحو التالي:
كنتم: خطاب عام يشمل جميع السامعين من مؤمن وكافر، ثم أخرج المؤمنين وأفرد الضمير
لغير المؤمنين، بهم، أنجاهم، هم، يبغون، فرحوا.
ثم عاد الخطاب إلى جميع الناس، فقال تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ} يونس/
23.
· زمــن الفعــل:
في القرآن الكريم تَنَوُّعٌ أسلوبيٌّ في أزمنة الأفعال، فنجد الماضي مُعَبَّرًا عنه
بلفظ دالٍّ على الحاضر، أو المستقبل، كما في قوله تعالى: {إِنَّ
مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} آل
عمران/ 59؛ حيث عَبَّر بالمضارع"يكون"
بدلاً من الماضي "كان"،
وقد زعموا أن هذا خطأ.
وقوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي
الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك}الصافات/
102؛ حيث عبَّر باللفظ الدالِّ على الحاضر "أَرَى"،
وهو حكاية حالة ماضية، والصواب ـ في زعمهم ـ أن يقال: إنِّى رأيت.
والتعبير عن الماضي بلفظ الحاضر شائع معروف في كلام العرب، قال رؤبة:
لَقَد
أَتَى في رَمَضانَ الماضِي
جارِيَةٌ في دِرْعِها الفَضْفاضِ
تُقَطِّعُ الحَدِيثَ بِالإِيْماضِ
أَبَيْضُ مِنْ أُخْتِ بَنِي إِباضِ
وقال
امرؤ القيس:
مَطَوْتُ
بِهِم حَتّى تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ
وحتَّى الجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ
وليس
العدول عن لفظ إلى غيره عبثًا، بل له أسرارٌ بلاغية، وهي ـ فيما يخص الشواهد التي
أمامنا ـ استحضار الحال الماضية في الذهن، حتى كأنها مشاهدة وقت الإخبار[7].
فقوله عز وجل: {كُنْ
فَيَكُونُ}حكاية حال ماضية، فالأمر"كن)
عبارة عن إيجاد الصورة التي صار بها الإنسان إنسانًا[8]،
وصيغة المضارع "فيكون"
جاءت بدلاً من الماضي لغرض التعبير عن تجدد الخلق واستمراره في ذرية آدم، وإثارة
ذهن المشاهد لاستحضار هذه الصورة كأنها ماثلة أمامه في اللحظة الحاضرة.
ونزيدهم شواهد من كتاب الله على التعبير عن الماضي بلفظ الحاضر:
· {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ
الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }الحج/
31. فعبَّر بالمضارع"يشرك"
للدلالة على التجدد والاستمرار؛ فالوصف التالي حال متجددة لكل من يشرك بالله، ثم
عَبَّر بالماضي "خَرَّ"؛
لدلالة الماضي على الثبوت والوقوع، فهو أمر لا فِكَاكَ منه، ثم جاء الفعلان
التاليان بلفظ الحاضر "تَخْطَفُهُ
ـ تَهْوِي" لاستثارة الذهن كي يستحضر هذه الحال،
وكَأنَّها ماثلة متجددة أمامه أبدًا.
· {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ
الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا
بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ }فاطر/
9؛ حيث جاءت ثلاثة أفعال بصيغة الماضي (أرسل ـ فسقناه ـ فأحيينا)، بينما جاء
فعل واحد بصيغة المضارع"فتثير"؛
وقصد بلفظ الحاضر هنا استحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة في
إثارة السحاب: يبدو أولاً قطعًا، ثم تتضامُّ القطع متقلِّبة بين أطوارٍ حتى تصير
ركامًا [9].
وهكذا تفعل العرب بكل فعل فيه نوعٌ من التميُّز والخصوصية أو الأهمية، كما في قول
تأبَّطَ شرًّا:
بأنِّي
قَدْ لَقِيتُ الغُول تَهْوِي
بِسَهْبٍ كَالصَحيفَةِ صَحْصَحانِ
فَأَضْرِبُها بلا دَهَشٍ فَخَرَّتْ
صريعًا لليدينِ ولِلْجِرَانِ
ميز
الفعل "فأضربها" بصيغة الحاضر؛ لأنه قصد أن يصور
لقومه الحالة التي تشجع فيها ـ بزعمه ـ على ضرب الغول، كأنَّه يُبَصِّرُهم إيَّاها
ويُطْلِعُهُم عليها كأنها مُشَاهَدَة الآن، تعجيبًا من جرأته وثباته وشجاعته
[10].
وأمَّا سائر الأفعال فجاءت بصيغة الماضي؛ لأن المقصود منها إثبات وقوع هذه الأفعال
وتحقُّقها، أما الحالة التي قصد استحضارها في الأذهان فهي حالة تشكل السحاب، وتجمعه
حتى يصير مطرًا، وقد عُبِّرَ عن هذه بلفظ الحاضر.
ومما قد يظنه الجاهلون اضطرابًا في استخدام الأفعال: تعبير القرآن عن الحاضر بلفظ
الماضي، نحو قوله عز وجل:
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرًا} الأحزاب/
27.
وقوله عز وجل: {وَكَانَ
اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}الأحزاب/
40.
وفي كثير من الآيات التي فيها وصف الله عز وجل
بلفظ "كان"،
والمراد التعبير عن أَزَلِيَّة هذا الوصف [11].
وغير ذلك الكثير في كتاب الله تعالى، وفي كلام العرب من التعبير عن الحاضر بلفظ
الماضي، والتعبير عن الماضي بلفظ الحاضر. ولكل استعمال سياقه الذي يخلع عليه دلالةً
بعينها تناسب المقام.
· حروف الجر:
زعم بعضهم أن ثمة اضطرابًا وتعارضًا في استخدام القرآن لحروف الجر[12]،
واستدلوا لذلك بقول الله عز وجل:{وَلا
تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا}
الأنعام/ 164. فعلَّق فعل
الكسب بحرف الاستعلاء "على".
بينما في موضع آخر علق الكسب مرة باللام وأخرى بعلى، وهو قوله تعالى:{لَهَا
مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}
البقرة/ 286 وهذا ـ في
ظنهم ـ تناقض.
في آية البقرة اقترن كسب الخير بحرف الملك "اللام"،
واكتساب الشر بحرف الاستعلاء "على"؛
لأن الشر أوزار وأثقال يحملها صاحبه فهي "عليه"
وهو تحتها يعاني وطأتها، بينما الخير مما تَفْرح به النفوس وتُسَرّ، فهو"لها"
بمنزلة الملك[13].
وأما آية الأنعام فاقترن فعل الكسب فيها بحرف الاستعلاء "على"
فقط؛ لأن سياق هذه الآية خاصٌّ بعاقبة الكسب، والمعنى: لا تكسب نفس شيئًا يكون
عاقبته على أحد غيرها. وجاءت الآية جوابًا عن قولهم للمؤمنين: {اتَّبِعُوا
سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ}العنكبوت/
12؛ ولذا كان الجواب بيان عاقبة الخطايا، وأن كل نفس "عليها"
ما كسبت من آثام [14].
فليس لما ادَّعَوْه أساس يقوم عليه، اللهم إلا جهلهم بأهمية السياق، وأنه لا يجوز
عزل أي عنصر لغويّ عن سياقه، أو لعله تجاهل منهم لدور السياق في الدلالة، بهدف
إثارة الشبهات، والتعمية على المقاصد الحقيقية.
· حروف العطف:
زعموا أن القرآن الكريم قد استخدم حروف العطف في غير موضعها، واستدلُّوا لزعمهم
بقول الله عز وجل: {فَانْكِحُوا
مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}النساء/
3. حيث إن الواو تدل على الجمع، وبذلك فإن الآية تدل على إباحة الزواج بتسع
نساء "مثنى + ثلاث + رباع"
= تسع نساء!!
والأمر ليس كما زعموا؛ لأن الأعداد التي تُجْمَعُ قسمان:
القسم الأول: قِسْمٌ يُؤْتَى بِهِ لِيُضَمَّ بعضُه إلى بعض، وهو الأعداد الأصول،
ومنه قوله تعالى: {فَصِيَامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ
كَامِلَةٌ} البقرة/
196، وقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا
مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}
الأعراف/ 142، فها هنا جاءت الواو للجمع بين
الأعداد.
والقسم الثاني: يراد به الانفراد لا أن ينضم بعضه إلى بعض، وهو الأعداد المعدولة،
كما في الآية التي استدلوا بها، وكما في قوله عز وجل:{الْحَمْدُ
لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي
أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}
فاطر/ 1.
أي: منهم جماعة ذوو جناحين، وجماعة ذوو ثلاثة أجنحة، وجماعة ذوو أربعة أجنحة، فكلُّ
جنسٍ مفردٌ بعدده.
ومن ذلك قول الشاعر:
ولكنَّما
أهْلِي بِوَادٍ أنيسُهُ
ذِئَابٌ تَبَغَّي الناس مَثْنَى ومَوْحَدُ
وهو لا
يريد ضم المثنى إلى الموحد، بل وصف مهاجمة الذئاب للناس بحالتين: حالة انفراد كل
واحدٍ منها، وحالة اجتماع كل واحد مع آخر [15].
وإذن فالمراد من الآية إباحة التعدد على أيِّ واحدة من الصور المذكورة: مثنى، ثلاث،
رباع.
ولا يجوز هنا التعبير بـ "أو"
بدلاً من الواو؛ لأنه بدخول "أو"
يصبح المعنى أنهم جميعًا لا ينكحون إلا على واحدة من الصور المذكورة، فإمَّا أن
يتزوج كل رجل اثنتين، وإمَّا أن يتزوج كل رجل ثلاثًا، وإمَّا أن يتزوج كل رجل
أربعًا. وليس هذا هو المراد، بل المراد إباحة أيِّ صورة من صور التعدد لكل من شاء
أن يكون له أكثر من زوجة [16].
وقد أجمع الفقهاء على عدم إباحة أكثر من أربع؛ لأنهم فهموا المراد من الآية،
وعَلِموا أن الأسلوب العربي لا يجيز الجمع في الأعداد المعدولة، بل حين تأتي هذه
الأعداد معطوفة بالواو، فالمراد إفراد كل عدد منها، على نحو ما بينَّا في الآيات
السابقة.
· أسماء الإشــارة:
زعموا أن هناك اضطرابًا وتعارضًا في الاستخدام القرآني لأسماء الإشارة،
واستدلوا لدعواهم بقول الله عز وجل:
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ}البقرة/
2 وقولهعز وجل: {وَهَذَا
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}الأنعام/
92. حيث أشارعز وجل إلى القرآن في الآية الأولى
بأداة الإشارة للبعيد"ذلك"،
وفي الآية الثانية بأداة الإشارة للقريب "هذا".
وإننا نلتمس العذر لصاحب هذه الدعوى؛ لأنه قد خفي عليه تنوع أساليب التعبير في
العربية؛ بل وفي اللغات عامة، ولهذا التنوع مقتضياته؛ فلكل عبارة سياقها الذي يقتضي
وجهًا بعينه من وجوه التركيب، ينسحب هذا على أدوات الإشارة وغيرها.
فقد يُشَار إلى القريب بالأداة الموضوعة للإشارة إلى البعيد؛ إذا أريد تعظيم المشار
إليه وبيان عُلُوِّ منزلته، كما أن تبادل البعيد مع القريب وارد في العربية.
وفي الإشارة إلى القرآن العظيم باسم الإشارة "ذلك"
في الآية الأولى ملمحان بلاغيان:
الأول: تعظيم القرآن، وهذا على حَدَّ قول الشاعر:
أَقولُ لَهُ وَالرُمحُ يَأَطِرُ مَتنَهُ
تأمَّلْ خُفَافًا إِنَّني أَنَا ذلكا[17]
والثاني: زيادة التنبيه، وهذا الغرض البلاغي لا يتحقق إلاَّ بالمخالفة، أي أن يؤتى
بأداة الإشارة للبعيد في حين أن المشار إليه حاضر ماثل، كما في البيت المذكور.
وقد صرح النحاة بجواز استعمال "هذا"،"ذلك"
في مثل هذا السياق، ومن ذلك قول ابن مالك:
"وقد ينوب ذو البعد عن ذي القرب لعظمة المشير أو المشار إليه، وذو القرب عن ذي
البعد لحكاية الحال، وقد يتعاقبان مشارًا بهما إلى ما وَلِيَاهُ من الكلام"[18].
والقرآن الحكيم استعمل أداة البعد في آية البقرة لما سبق بيانُه.
وأمَّا في الآية الثانية فجاء باسم الإشارة للقريب "هذا"؛
لأنه قد سبق الكلام على الكتب السماوية المنزلة قبل القرآن، في قولهعز
وجل:
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ
أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ
تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا
لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي
خَوْضِهِمْ يَلْعَبُون}
الأنعام/ 91.
ثم استؤنف الكلام على كتاب آخر غير "الكتاب الذي جاء
به موسى"، وهو القرآن الكريم الذي ينزل عليهم "الآن":{وَهَـذَا
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}، فأشير إليه
بإشارة القريب كي لا يضطرب الكلام ويلتبس؛ إذ لو قيل: "وذلك
كتاب أنزلناه مبارك"، لكان الكلام استمرارًا لما قبله، وحينئذٍ يكون المشار
إليه هو كتاب موسى المذكور.
من هنا آثر القرآن الانتقال إلى الحديث عن القرآن بلفظ الإشارة للقريب"هذا"
ليصرف الأذهان عما سبق ذكره ويلفتها إلى الكتاب الذي يتنزل عليهم، الحاضر بين
أيديهم لترغيبهم في العكوف عليه وتدبر آياته.
فلكل تركيب لغوي سياقه الذي يقتضي مقتضيات تعبيرية بعينها، حتى وإن تساوت أساليب
التعبير في نقل المعنى، يظل لكل تركيب خصوصيته "البلاغية"
الزائدة على مجرد نقل المعنى.
وإذن فليس ثمة تعارض بين الإشارة إلى القرآن الكريم مرة بـ"ذلك"،
وأخرى بـ"هذا"،
بل حكم عالية وملامح بلاغية رائعة.
· أسلوب القسم:
زعموا أن هناك تناقضًا في الاستعمال القرآني لأسلوب القسم، واستدلوا لزعمهم بقول
الله عز وجل: {لا
أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}البلد/
1. وقوله عز وجل:{وَهَذَا
الْبَلَدِ الأَمِينِ}
التين/ 3.
فجاء فعل القسم منفيًّا في آية البلد، ثم جاء مثبتًا في آية التين ـ وهذا ـ في ظنهم
ـ تناقض.
أولاً: القسم في كلتا الآيتين مثبتٌ وليس منفيًّا، والمشكلة في فهمكم لمعنى"لا"
في أسلوب القسم.
ثانيًا: "لا"
في مثل هذه المواضع داخلة في الكلام لتقويته وتأكيده، وليس لنفيه، نحو قوله تعالى:{قَالَ
يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا *
أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}طه/
92 ـ 93. وقوله تعالى:{قَالَ
مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}
الأعراف/ 12،
ويوضحه ما في الآية الأخرى: {قَالَ
يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}ص/
75، والسياق واحد في الآيتين، فتكون "لا"
في الآية الأولى داخلة للتقوية والتأكيد، ولهذا الاستعمال نظائر في كلام العرب،
منها قول الأحوص:
وَتَلْحَيْنَنِي في الَّلهْوِ أنْ لا أُحِبَّهُ
وَلِلَّهْوِ دَاعٍ دائبٌ غيرُ غافِلِ
أي: أَن
أُحِبَّه، بزيادة "لا"
للتأكيد.
ثالثًا: من العلماء من ذهب إلى أن "لا"
في مثل هذه المواضع نافية، ولكنها ليست نافية للقسم، بل لشيء تقدم، وهو ما حكى عنهم
كثيرًا من إنكار البعث، فقيل لهم: "لا"
ـ أي ليس الأمر كما زعمتم ـ ثم استؤنف القسم.
وصح ذلك لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة
أخرى، كما في قوله تعالى: {وَقَالُواْ
يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}الحجر/
6. وجاء الرد عليه في قوله تعالى: {مَا
أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ }
القلم/ 2 [19].
رابعًا: من العلماء من ذهب إلى أن عبارة (لا أقسم) صيغة تحقيق وتوكيد للقسم، وأصلها
أنها امتناع من القسم تَحَرُّجًا وخشية من الحنث، فشاع استعمال ذلك في كل قسم يراد
تحقيقه، واعتبر حرف "لا"
كالمزيد[20].
وعلى كل فإن "لا"
ليست نافية للقسم بل مؤكدة له، سواء أخذنا بقول من قال: إنها كالمزيد، أو بقول من
قال: إنها نفي لشيء تقدم، وعلى ذلك فلا تعارض بين قوله تعالى: {لاَ
أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}، وقولهعز
وجل: ]وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِين[.
· حذف جواب الشرط:
زعموا أنَّ هناك مخالفة تقود إلى اللبس في الاستعمال القرآني لأسلوب الشرط، وذلك
بسبب إغفال ذكر جواب الشرط أحيانًا، واستدلوا لزعمهم بقول الله
عز وجل: {فَلَمَّا
ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}يوسف/
15.
وبادئ ذي بدء نقول لهم: إن حذف جواب الشرط شائع كثيرًا في كلام العرب، وقد تكرر في
عديد من آيات الله عز وجل، كقوله تعالى:
· {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ
إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ
سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ
عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }الأنعام/
35، تقدير جواب الشرط المحذوف: ما آمنوا.
· {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا
سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ
الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا}
الرعد/ 31، تقدير جواب الشرط الحذوف: لَمَا آمنوا به.
· {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا
مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}يس/
45، تقدير جواب الشرط المحذوف: أعرضوا.
· {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}
النور/ 10، تقدير
جواب الشرط المحذوف: لهلكتم.
· {وَلَوْ تَرَى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا
وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}السجدة/
12. تقدير جواب الشرط المحذوف: لرأيت أمرًا فظيعًا [21].
أمَّا جواب "لَمَّا"
في آية يوسف التي أمامنا ففيه ثلاثة احتمالات:
الأول: أنه مثبت في الآية رقم (17) وهو: قالوا، أي
لَمَّا ذهبوا به وكان كيت وكيت، قالوا يا أبانا.
الثاني: أنه مثبت في الآية نفسها، وهو "وأوحينا"،
والواو زائدة، كما في قول امرئ القيس:
فَلَمّا أَجَزنا ساحَةَ الحَيِّ وَاِنتَحَى * **بِنا بَطنُ خَبتٍ ذي حِقافٍ
عَقَنقَلِ
فجواب الشرط "انتحى"،
والواو زائدة.
الثالث: أن الجواب محذوف يدل عليه ما قبله، والتقدير: فلما ذهبوا به وأجمعوا أن
يجعلوه في غيابة الجب ـ جعلوه فيها [22].
ومثل هذا الحذف كثير في القرآن، وهو من الإيجاز الخاص بالقرآن، فهو تقليل في اللفظ
لظهور المعنى[23].
وعلى أيٍّ من الاحتمالات تسقط دعواهم اضطراب الاستعمال القرآني لأسلوب الشرط، وتظهر
أغراض بلاغية رائعة.
· وضع الاسم الموصول موضع المصدر:
زعموا أن هناك اضطرابًا تركيبيًّا في قول الله عز وجل:{لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر}البقرة/
177؛ حيث إن المبتدأ "البرّ"
في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
دالٌّ على معنى لا على ذات، ولكن جاء خبره "مَنْ"
وهو اسم موصول دال على ذات.
وفي هذا اضطراب، والصواب ـ في ظنهم ـ أن يقال: ولكن البرَّ أن تؤمنوا.
وقد أعدت صياغة الشبهة؛ لأنهم صاغوها بطريقة خاطئة، فقالوا: أتى باسم الفاعل بدل
المصدر. وليس في الآية اسم فاعل. وموضع الاشتباه عندهم هو مجيء
"مَنْ" ـ وهو اسم
دالٌّ على ذات ـ خبرًا عن معنى: "البَرّ".
وتركيب الآية على هذا النحو مجازيٌّ؛ لأنه لا يخبر عن معنى بذات، ولكن الآية لها
تخريجات منها:
1) أنها من باب الوصف بالمصدر نحو: زيدٌ عدلٌ، أي
كأنه العدل لشدة تحريه العدل.
2) على تقدير مضاف محذوف من الأول، والتقدير: ولكن
صاحبَ البر مَنْ آمَنْ.
3) على تقدير مضاف محذوف من الثاني، والتقدير: ولكن
البِرَّ برُّ من آمن.
ورجَّح كثير من النحاة هذا التقدير الأخير، ومنهم سيبويه وقطرب، وأبو حيان [24]،
والزمخشري[25]، وابن هشام[26].
وفي كلام العرب نظائر لهذا، نحو قول الخنساء:
تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حتَّى إِذَا ادَّكرتْ
فإنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وإدْبَار [27]
تريد أن تصف سرعة الفرس، فجعلت الفرس هي الإقبال والإدبار نفسهما.
وفي الآية بمجيئها على هذا النسق التركيبي معنى دقيق مرهف لمن تأمل، وهو أن الإيمان
متمكن في قلوب المؤمنين، فلو قيل: ولكن البر أن تؤمنوا، لكان الإيمان المدعو إليه
مجرد فكرة، ولكن لما أخبر عن هذا المعنى (الإيمان)
بالذوات التي تحمله (مَنْ) التحم الإيمان بالمؤمن،
والمؤمن بالإيمان، فصار إيمانًا عمليًّا متمكنًا في القلوب.
وإذا كانت الشبهات المذكورة سابقًا قد تَبيَّنَ تهافتها وسقوطها وضعفها، واتضح ما
فيها من جهل أحيانًا، وغش وتدليس أحيانًا أخرى، فإن من الغريب أن نجد في شبهاتهم
فوق ذلك ما يشير إلى تطاولهم، مثال ذلك ادعاؤهم أن القرآن الحكيم قد أقر بجنون
النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في قول اللهعز
وجل: {أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ*
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ
مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُم}
الأعراف: 184 ـ 185.
ويفسرون هذه الآية بقولهم: هل نسوا ما بصاحبهم من جنة كما نسوا أن يتفكروا في
ملكوت السماوات والأرض؟!
وهذا محض افتراء وتلفيق وخداع؛ فقد فَسَّروا "ما"
في الآية الأولى على أنها موصولة "بمعنى
الذي"، وعلى هذا التفسير يكون المعنى:
أو لم يتفكروا الذي بصاحبهم من جِنَّة؟!
والصحيح الذي لا يجهله أحدٌ ممن يعرف شيئًا عن قواعد العربية أن
"ما" في الآية
نافية، والمعنى: أو لم يتفكروا أنه ليس بصاحبهم من جنة، وما هو إلا نذير مبين.
وأما الاستفهام في الآية الثانية فهو استفهام إنكارى ينكر عليهم أنهم لم يتفكروا في
خلق السماوات والأرض، كما أنكر عليهم في الآية السابقة أنهم اتهموا النبيصلى
الله عليه وسلم ولو أنهم تفكروا لعلموا أن ليس به من جِنَّة، وأن خلق
السماوات والأرض دليل على وجود الخالق سبحانه.
ثم كيف يُعْقَل أنْ يُقرَّ القرآن بجنون النبي صلى الله عليه
وسلم المنزل عليه القرآن؟!
أليس هذا تناقضًا في الدَّعْوى؟!
هل يُعقَل أن يبعث المولى عز وجل رسولاً ثم بعد ذلك يحكم
بجنونه؟! إنّ ذلك لمستَبعد جدًّا، حتى في حياتنا اليومية حينما يختار أحد الناس
رسولاً إلى غيره.
فكيف يُحال في حق البشر فعل ذلك ويُقال بفعله في حق الله ـ تعالى الله عن ذلك
علوًّا كبيرًا ـ وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يُوصف بذلك.
إن صاحب الدعوى يقتطع من الآيتين أجزاءً يُفسرها على هواه فيقول عن قولهعز
وجل: {أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّة }:
هل نَسُوا ما بصاحبهم من خَبَل وجنون.؟! ويقول عن قوله عز وجل:{أَوَلَمْ
يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
مثلما قال عن سابقتها من أنهم نسوا أن ينظروا في عجائب السماوات والأرض.
ويُضاف إلى الاقتطاع سوء الفهم والتفسير الخاطئ، فهو يُفسر قوله
عز وجل: {أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُواْ}، {أَوَلَمْ
يَنظُرُواْ} بمعنى: هل نَسُوا، وهذا عين الخطأ.
وأصحاب الفهم السليم يقرأون الآية كلها ويفهمون معناها، ولو فكَّر صاحب الدَّعوى
قليلاً لاستراح كثيرًا.
فالآية الأولى بـها عبارة: {مَا
بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ}، وبها أيضًا:{إِنْ
هُـوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}، فكيف يجتمع
الضِّدَّان؟! ومعلوم في مبادئ المنطق والعقل أن الضدَّين لا يجتمعان.
يُضاف إلى ذلك وجود "ما" في الآية وهى حرف نفى،
ولكنَّ صاحبنا فهمها على أنها اسم موصول.
وبعد هذا الإعياء من الاقتطاع، والتَّلفيق، ومحاولة لَيّ عنق النص القرآني
واستنطاقه بعكس ما يعنيه، بعد هذا فقد أثار صاحبنا شفقتنا؛ لذلك نلفت نظره إلى
التفسير الصحيح للآية، وكما يتضح من سبب نزولها أن الله عز وجل
استنكر على الكفار أن يصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم
بالجنون دون أن يُفَكِّروا ويُعْمِلُوا أذهانهم في كلامه ومنهجه؛ لأن الرسول لم
يَنْهَهُم إلا عن كل رذيلة، ولم يَدْعُهُم إلاّ إلى كل فضيلة، فهل هكذا يكون
المجانين؟! ثم يُقرر عز وجل في عبارة قاطعة أنهصلى
الله عليه وسلم بريءٌ من أيّ شبهة جنون فيقولعز وجل:
{مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ}،
أى: ليس به أدنى جنون و"ما" في الآية كما قُلْنا
سابقًا نافية، وليست موصولة كما يزعمون، وتتضح بلاغة الآية في توظيف إمكانيات
اللغة، وتوظيف مفرداتها للهدف الذي جاءت من أجله، فاستخدم ـ سبحانه ـ كلمة
"صاحبهم" التي تدل على معرفتهم التَّامة به، وأنهم أعلم الناس بأنَّه ليس مجنونًا.
كما جاءت كلمة "جِنَّة"
نكرة لتُفيد العموم والشُّمول، أي ليس به أي شبهة جنون(1).
***************
[1]
أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، د. حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة 1998م،
ص 18 ـ 21.
[2] الكشاف 1 / 542.
[3] البحر المحيط 7 / 91.
[4] التحرير والتنوير، مجلد 12، جـ26، ص 156.
[5] البحر المحيط 5 / 138 ـ 139.
[6] التحرير والتنوير، مجلد 6، جـ11، ص 135.
[7] مغني اللبيب، ص 905.
[8] البحر المحيط 2 / 478.
[9] مغني اللبيب، ص 205 ـ 206.
[10] الكشاف 3 / 301 ـ 302.
[11] مفردات الأصفهاني (كان).
[12] راجع بتفصيل: القرآن وتفاعل المعانى/ محمد محمد
داود . ـ القاهرة: دار غريب، 2002م.
[13] البحر المحيط 2 / 367.
[14] الكشاف 2 / 64 ـ 65، البحر المحيط4 / 263.
[15] مغني اللبيب، ص 857 ـ 858.
[16] انظر: الفقه على المذاهب الأربعة، عبدالرحمن
الجزيرى 4/120.
[17] التحرير والتنوير 1/220 ـ 221، والبيت لخفاف بن
ندبة، أحد شعراء العرب وفرسانهم المشهورين.
(2) شرح التسهيل لابن مالك 1/ 248.
[19] مغني اللبيب، ص 327 ـ 328.
[20] التحرير والتنوير، مجلد 14، جـ 29، ص 141.
[21] مغني اللبيب، ص 849 ـ 850، وفيه المزيد من
الشواهد على حذف جواب الشرط.
[22] البحر المحيط 5 / 287.
[23] التحرير والتنوير، مجلد 6، جـ12، ص 233.
[24] انظر: البحر المحيط 2 / 3.
[25] الكشاف 1 / 330.
[26] مغني اللبيب،ص 201 ـ 202، 814.
[27] أنشده الزمخشري في: الكشاف 1 / 330.
(1) تفسير الطبرى، طبع مصطفى البابى الحلبى: القاهرة،
1968، 9/136، تفسير البغوى، تحقيق/ خالد عبد الرحمن العك، مروان سوار، دار المعرفة:
بيروت، 2/219، الفخر الرازى (مفاتيح الغيب)، دار الفكر: بيروت – ط3، 1405هـ - 1985،
8/79-81، البحر المحيط، دار الفكر: بيروت، 4/431-432، تفسير أبى السعود، دار إحياء
التراث العربى: بيروت، 3/298-299، روح المعانى 5/127-128، في ظلال القرآن، سيد قطب،
دار الشروق: القاهرة، ط 11، 1405هـ ـ 1985م، 3/1405 ـ 1407.
|