مقالات العدد الثالث
د. عبد المعطي محمد بيومي
كيف نطبق الشريعة الإسلامية في دولة مدنية؟
دكتور
عبد المعطي محمد بيومي
عضو مجمع البحوث الإسلامية
بالأزهر الشريف
تثور المخاوف لدى البعض عندما يطلق النداء بتطبيق الشريعة الإسلامية، وتزداد هذه
المخاوف عندما يركز المنادون بتطبيق الشريعة، أو بعضهم، على تطبيق الحدود، بل تصل
هذه المخاوف إلى درجة الفزع أو الرعب عندما يكون المنادون بذلك من جماعة الإخوان
المسلمين أو السلفيين مما يشكل "فوبيا" أو فزاعة، لا من هؤلاء أو هؤلاء بل من
الشريعة نفسها أحيانا ومن قيام دولة دينية كالتي انتفضت عليها أوروبا خروجا من
العصور الوسطى إلى العصور الحديثة.
ولئن كنا نقدر المخاوف الحقيقية من سلوك بعض الإخوان أو بعض السلفيين، فإننا في هذا
المقال نحاول الكشف عن حقيقة هذه المخاوف بمنهج علمي يضع الأمور في نصابها الحقيقي.
ونبادر في البداية إلى لفت النظر إلى أن بعض الإخوان أو بعض السلفيين، وليس الكل
من هؤلاء وهؤلاء عندما يتحدثون عن الشريعة أو يعبرون بسلوكهم وفكرهم عنها، لا
يعبرون حق التعبير عن الشريعة حتى في مظهرهم حين يبدو أحيانا مبالغا مبالغة تخرج عن
مظهر الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وسلفه الصالح، وحين تبدو القضايا التي
يقدمونها في سلسلة أولوياتهم بعيدة عن الأولويات الحقيقية التي تشغل بال الناس في
مجموعهم، ولا ضرورات قيام الدولة وتقدم المجتمع، وتوفير امكانيات الحياة الآمنة
المريحة للناس
فهذا الفصيل من الإخوان يبدو بالفعل مخيفا للكثيرين حين يحصر الكفاءة في الزواج
بين الإخوان بعضهم بعضا وليست بين الإخوان وأي مستوى آخر من المجتمع أو يتحدث أحدهم
عن غير المسلمين في المجتمع الإسلامي أو خارج المجتمع الإسلامي، على أنهم مطالبون
بما لا يطالب به المسلم من حقوق وواجبات أو يجعل لهم معاملة خاصة تختلف عن معاملة
المسلمين
كذلك حين يتحدث بعض السلفيين عن هدم الأضرحة، أو يقوم البعض مبكرين بهدمها فعلا
ولما يصلوا بعد إلى الحكم، فكيف إذا وصلوا؟ وكان بيدهم الحل والعقد أو قل: الهدم
والبناء.
ومع ذلك لا يجوز أن تخيفنا كل هذه المظاهر، ومن الضروري أن يضع الخائفون نصب أعينهم
أن هذه المظاهر ليست لها في عصرنا خاصة أو مبررات من الشريعة.
والحقيقة أن هذه المظاهر أو الاعتقادات بعيدة عن الشريعة وعن المذهب السلفي الحقيقي
من ناحية، ولا يدين بها رؤوس الإخوان أو السلفيين.
صحيح أن بعض الإخوان – كما قلنا – تسيطر على تصوره النزعة الذاتية الأنانية، ولا
يفقهون الشريعة حق الفقه، وأن بعض السلفيين لديهم نزعة الغلو والمبالغة في تجميد
الإسلام، والوقوف به عند عصر معين، دون أن يتصلوا بهذا العصر الذي نعيش فيه، ودون
أن يعرفوا علل الأحكام الكثيرة التي بها تتغير تلك الأحكام أو تبقى.
لكن ما يطمئنني – شخصيا – أن في الإخوان والسلفيين رجالا يستطيعون التمييز بين
مقتضيات العصر القديمة ومقتضيات العصور الحديثة، ولديهم القدرة على فهم صلاحية
الإسلام لكل زمان ومكان.
ولعلي لا أزكي على الله أحدا إن قلت إن فصل الإخوان حزبهم "الحرية والعدالة" عن
الجماعة، وبروز الجماعة من الإخوان الذين كان بيني وبينهم حوار طويل امتد سنوات
مجلس الشعب 2000-2005 ومنهم الدكتور/ محمد مرسي رئيس حزب "العدالة
والحرية" الآن، ولا أعتقد أنه والصفوة في الحزب، لديهم هذه الاعتبارات
المخيفة للأمة، وهذا كفيل بتحقيق الضمان لكافة المواطنين من هذه الاعتقادات.
على أن الضمان الكامل والحقيقي إنما هو الشريعة الإسلامية ذاتها، حتى إن جار حزب من
الأحزاب على حقوق المواطنين المسلمين أو غير المسلمين.
ذلك أن الشريعة تقوم على عدة أسس في التطبيق إن روعيت تمنع الانحراف أو التطرف
والمغالاة والجمود. فالتطبيق للشريعة الإسلامية يقوم على محورين:
1-
الوحي: ممثلا في النصوص القطعية التي لا تقبل
التأويل، حتى لا تتعدد التأويلات، وذلك في المسائل الثابتة عبر الزمان والمكان
والأحكام في هذه المسائل ثابتة بدورها كالعقائد، لا تقبل الاجتهاد.
كما أن من الوحي نوعا آخر يتمثل بعد ذلك في نصوص عامة تمثل مبادئ عامة ترسى مقاصد
للتشريع.
وهذا النوع من النصوص يؤدي دورا يتحقق في المبادئ الكلية للشريعة والهدايات التي
توجه العقل الإنساني، وتجعل المشرع يدور في إطارها الواسع لاختيار أنسب السبل
لتحقيق العدل أو تحقيق المصلحة، دون أن يرتبط بحكم كان موجودا في عصور ماضية.
فتحقيق العدل بوسيلة من الوسائل أو بحكم من الأحكام ليس مرتبطا بهذه الوسيلة أو هذا
الحكم في كل زمان ومكان فليس هذا الحكم أو هذه الوسيلة لازمة أو مفروضة على المشرع
أو مقيدة لحريته أو محققة لمصالح العباد في كل زمان ومكان. بل للمشرع أن يتجاوز
الوسيلة التي كانت تحقق العدل في زمن مضى، إلى وسيلة أخرى.
والنوعان من الوحي سواء كان قطعي الدلالة أو ظني الدلالة لا يستقل كل منهما أو هما
معا بالتشريع بل يسلمان المشرع إلى العقل
2-
العقل: وهو المصدر الثاني للتشريع المتمثل في القياس.
وهنا تبدو الشريعة الإسلامية على أكمل وجوه المرونة. فالقياس بمصادره من الاستحسان
والمصالح المرسلة يكشف عن الدور البشري دون العقل.. ذلك الدور المدني الذي يقوم
عليه الفقه الإسلامي.
فالعقل في عملية القياس يستفيد من الخبرة الإنسانية بجميع مصادرها، حتى إن كانت هذه
المصادر غير إسلامية
ولعلنا نتذكر هنا بما نستطيع من وعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه استفاد من
الخبرة البشرية الفارسية في غزوة الخندق. حين عرض عليه "سلمان الفارسي" أن يحفر
خندقا بين المسلمين والمشركين الذين تجمعوا حول المدينة، ولم تكن الحروب العربية
تعرف فكرة الخنادق، بل كان العربي يحارب عدوه وجها لوجه، كما استفاد "عمر
بن الخطاب" في تنظيم وهيكلة الدولة بالنظام الإداري في الإمبراطورية
الفارسية، حين دون الدواوين؛ ديوانا للخراج؛ ديوانا للجند ؛بيتا للمال ولم تكن
العرب في نظام القبيلة تعرف فكرة الدواوين بل لم تكن ذات صلة بهذه الأنشطة التي هي
من أنظمة الدول، لا من طرق القبائل في تدبير العيش وإدارة علاقات أفراد القبيلة
وعلاقتها بالقبائل الأخرى.
فكل تجربة ناجحة، أو قانون مفيد في أي أمة استطاعت أن تحل به مشكلة اجتماعية، أو
اقتصادية، أو سياسية، أو غيرها من الأمور الدنيوية إذا عرضناه على العقائد
الإسلامية أو المبادئ الكلية للإسلام ووجدنا أنه لا يتعارض مع نص قطعي، فلا حرج في
أن نأخذ هذا القانون أو هذه التجربة، طالما تحقق مصلحة وتتفق مع القواعد الإسلامية
العامة، والنصوص قطعية الدلالة، حينئذ تصير إسلامية. وهذا هو معنى قبول الإسلام
وصلاحيته لكل زمان ومكان، وتلك مرونة الشريعة الباهرة التي تجعل الوحي وما يتضمن من
مبادئ كلية هدايات للعقل ومعالم ترشده ولا تقيده، بل تهديه وترشده إلى ما ينفع
الناس.
إنها شريعة العقل بامتياز، مضافا إليه هدايات الوحي ومعالمه العامة، خاصة أن النصوص
تتناهى والحوادث لا تتناهى، مما يستوجب إعمال العقل في الأمور الدنيوية وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنت أعلم بأمور دنياكم"
(رواه مسلم) كما قال عليه الصلاة والسلام" إذا جئتكم بشئ من
عند الله فخذوه، وإذا جئتكم بشئ من عندي فإنما أنا بشر" (رواه مسلم).
وقد فهم الصحابة كلهم رضوان الله عليهم أن الغاية الكبرى من مقاصد التشريع "إقامة
العدل وتحقيق مصالح العباد".
قال الإمام "ابن القيم": " فإن الشريعة مبناها وأساسها على
الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها، ومصالح كلها.
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى المفسدة،
ومن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة".(ابن القيم، إعلام الموقعين جـ3 ص
14 ط1)
فكلما روعيت ضوابط العدل والمصلحة كانت الشريعة مطبقة كما يقال دائما "حيث
تكون المصلحة فثم شرع الله".
ولابد أن ننبه هنا إلى أنه إذا كانت "إقامة العدل وتحقيق
مصالح العباد" معيار تطبيق الشريعة فأي مذهب فقهي، وأي اجتهاد يحقق هذا
المعيار فإنه يعد تطبيقا للشريعة دون التعصب لمذهب فقهي، وإنما الانفتاح على أصول
الشريعة وقواعدها العامة ومقاصدها العليا، فتطبيق الشريعة ليس مرهونا بحكم فرعي أو
مذهب فقهي.
ومعنى ذلك – كما لا يخفى على بصير عالم بالشريعة – أن المشرع قد لا يطبق حكما فرعيا
من أحكام الفقه الإسلامي أو مذهبا من المذاهب الإسلامية، وإنما يجتهد برأيه في
النظر في ساحة الشريعة الواسعة، وذلك إذا رأى أن هذا الحكم الفقهي أو هذا المذهب لم
يعد مناسبا لعصرنا، وإنما المناسب هو اجتهاده الفقهي الجديد الذي يتعامل مع النوازل
تعاملا مناسبا موافقا للنصوص العامة في إطار القواعد العامة للشريعة.
وهذا بالضبط ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤكده، ويبعث به إلى الأجيال.
حين سأل معاذ بن جبل وقد بعثه قاضيا إليها. فقال له :بم تقضي؟ قال معاذ: أقضي بكتاب
الله. قال عليه الصلاة والسلام: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم فإن لم تجد؟ قال معاذ: أجتهد رأيي ولا آلو
أي لا أقصر.
فعدم وجود الحكم الفقهي، أو وجوده لدى المذاهب الفقهية ولكنه غير مناسب لحل المشكلة
المعاصرة، أو غير مناسب للواقع يجعله كأنه غير موجود.
ولعل ذلك لا يفزع بعض إخواننا الإسلاميين الذين يتشبثون بكتب الفقه مع ما فهيا من
فقه يجب احترامه وأحكام مازال أغلبها نافعا لعصرنا، لكن في بعض المشكلات الحاضرة
ربما لا تنفع الآراء الفقهية الغابرة
ولنضرب مثالا نجعله في الوقت نفسه برهانا على ما نقول: إن كتاب الخراج لأبي يوسف
يعد من عيون تراثنا الفقهي وقد كان يمثل عبر عصور طويلة تخطيطا عبقريا لسياسة
الدولة المالية في كان أوج ازدهار الحضارة الإسلامية والدولة العباسية، فهل يصلح
هذا الكتاب أن يكون تخطيطا لميزانية الدولة الحديثة في عصرنا بعد أن تبدلت وجوه
الإيرادات، وتغيرت وجوه المصروفات، مع احترامنا الشديد لكتاب الخراج واعجابنا
بعقلية الإمام "أبي يوسف" أبرز القضاة في أرقى العصور
في تاريخ الإسلام.
إن
الأحكام القانونية ستتغير حتما في الشكل والصياغة وحتى المضمون لكنها لن تنخلع عن
مصدريتها الإسلامية وأصولها الشرعية، وهذا التغير سببه تغير العلاقات الدولية بين
الدول، وتغير العلاقات الاجتماعية بين فئات الدولة الإسلامية.
ومن عبقرية الشريعة الإسلامية أنها تمثل شجرة تتغير فروعها وأحكامها مع بقاء الجذر
والساق فأصلها ثابت وفروعها يعتريها التغيير ولعل ذلك هو الذي جعل الفقهاء
القانونيين المصريين في صياغتهم للمادة الثانية من الدستور المصري (دستور
سنة 1971) النص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع
المبادئ... لا الأحكام الفقهية
وفي الختام لابد من سؤال:
هل
يقبل بعض إخواننا الذين ينتسبون إلى السلف أن يزاح رأي أو حكم فقهي للإمام ابن
تيمية؟ أو يقبل البعض من الإخوان المسلمين أن يزاح مذهب فقهي في مسألة من المسائل
كان يرتضيه الشيخ حسن البنا؟
هل
هؤلاء وهؤلاء على استعداد لفهم الفرق بين الفقه والشريعة؟ وأن الشريعة باقية؛ لكن
الفقه متغير.
وإني ون كنت آمن بعض السلفيين وبعض الإخوان المسلمين، فلا آمن بعض من بني جلدتي
وذوي قرابتي من الأزهريين، أن يصرخ أحدهم: كلا إن الفقه هو الشريعة والشريعة هي
الفقه، وقد يكون باعثه ودليله السؤال: أليست كلية الشريعة بجامعة الأزهر هي المترعة
بمذاهب الفقهاء. حتى أقسامها تقسم حسب المذاهب الفقهية. ولأصول الفقه قسم خاص مع أن
المستقبل سيلقي بأحماله في معظمها على أصول الفقه، وسيكون عليه الاعتماد أساسا في
الاجتهاد الفقهي المعاصر وهو صورة رائعة للفلسفة الإسلامية وكيف تنتج فقها جديدا
يواكب التغير، ويقود تطبيق الشريعة الإسلامية.
وعلى كل حال.........إذا كان كلامنا هنا مقبولا، فلنا أن نستبشر بمستقبل تطبيق
الشريعة الإسلامية، وإذا كان غير مقبول فاللهم اشف صدور أقوام لا يريدون شفاءها
وافتح بصائر أقوام على واقعنا الذي لا يرونه! لأنهم يعيشون في كهف لا يدركون صلتهم
بالعصر ويقطعون صلة الإسلام به، مع أنه الدين الحي المتجدد دائما، رغم ثبات أصوله
ومبادئه وقواعده في كتابه وسنته ولكنهم لا يشعرون... أقصد بعضهم والأمل في المجموع.
|