مقالات العدد الثالث
أ.د./ أحمـد عمـر هـاشـم
من ركائز الوحدة الوطنية
التعايش الاجتماعي للمسلمين مع غير المسلمين
بقلم : أ.د./ أحمـد عمـر هـاشـم
رئيس جامعة الأزهر الأسبق
وعضو مجمع البحوث الإسلامية
لقد أرسي الإسلام أصولاً بمقتضاها يتعايش المسلمون مع غير المسلمين فوق أرض الوحدة،
وتحت سماء واحدة، وفي مجتمع واحد.
وكانت هذه الأصول متمثلة في البر والعدل حيث قال الله تعالي: «لا
ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم
وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين
وأخرجوكم من دياركم وظاهروا علي إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون»
الممتحنة/98.
وجعل الإسلام التعايش الاجتماعي بين المسلمين وغير المسلمين قائماً علي المعاملة
الحسنة، فعند الحوار أو الجدال لابد أن يكون الجدال بالتي هي أحسن حتي تظل جسور
التواصل والتعاون قائمة فقال الله تعالي: «ولا تجادلوا أهل
الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل
إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسملون» العنكبوت/46.
ولو كان غير المسلم مشركاً واستجار بالمسلم، فعلي المسلم أن يجيره وأن يبلغه مأمنه،
وهنا تتجلي عظمة الإسلام في إرساء أصول التعايش الاجتماعي الآمن، حيث قال الله
سبحانه وتعالي: «وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتي يسمع
كلام الله ثم أبلغه مأمنه» التوبة/6.
ومن أوجه التعايش الاجتماعي إباحة زواج المسلمين من نساء أهل الكتاب وإباحة طعامهم
وإباحة طعام المسلمين لهم كما قال الله تعالي: «اليوم أحل
لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين
ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين»
المائدة/5.
ومن أوجه التعايش الاجتماعي ما فعله رسول الله صلي الله عليه وسلم حيث عامل أهل
خيبر وهم يهود علي نصف ما يخرج من أراضيهم، علي أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم، وهذه
شركة في الزرع والغرس والثمر، وقد ابتاع رسول الله صلي الله عليه وسلم طعاماً من
يهودي بالمدينة، ورهنه درعه فهذه تجارة مع اليهود ومعاملتهم
جائزة
[1].
وها هو ذا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ذبحت له شاة في أهله، فلما جاء
قال: «أهديتم لجارنا اليهودي» سمعت النبي صلي الله
عليه وسلم يقول: «مازال جبريل يوصيني بالجار حتي ظننت
أنه سيورثه»[2].
ومن نماذج التعايش أيضاً تقدير الرسول الله صلي الله عليه وسلم للأموات ولو كانوا
غير مسلمين ولجنائزهم، عن عبد الرحمن بن أبي يعلي قال: «كان
سهيل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية، فُمرَّ عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما
إنهما من أهل الأرض، أي من أهل الذمة، فقالا: إن النبي صلي الله عليه وسلم مرت به
جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: «أليست
نفساً؟»[3].
بل بلغت سماحة التعايش الاجتماعي للمسلمين مع غير المسلمين مبلغاً سمح لوفد نجران
بدخول المسجد النبوي وأداء شعائرهم فيه، لما قدم وفد نجران علي رسول الله صلي الله
عليه وسلم، دخلوا عليه مسجدْ فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده فأراد الناس منعهم
فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم وسلم: «دعوهم فاستقبلوا
المشرق وصلوا صلاتهم»[4].
ولم يقتصر هذا التسامح علي حال دون أخري بل رأينا توجيهات الاسلام تنهي حتي في
الحروب عن الغدر والتمثيل، عن بريدة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلي الله
عليه وسلم إذا أمر أميراً علي جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوي الله ومن معه من
المسلمين خيراً، ثم قال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله
تعالي قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا
ولا تقتلوا وليدة»[5].
وقد شهدت الحياة الاجتماعية تعايشاً بين المسلمين وغيرهم وشهدت دفاع المسلمين عنهم
وحمايتهم لحقوقهم، لدرجة أن ابن تيمية رحمه الله حين تغلب التتار علي الشام، وأسروا
جماعة من المسلمين وأهل الذمة، ذهب إلي حاكمهم، وكلَّمه في إطلاق سراح الأسري فأطلق
أسري المسلمين ومنع أسري أهل الذمة، فأبي الرجوع إلا بافتكاك أسري أهل الذمة وحصل
له ما
أراد
[6].
كما حمي الاسلام أموال غير المسلمين، وصانها وجاء في عهد النبي صلي الله عليه وسلم
لأهل نجران: «ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة رسوله علي
أموالهم وملتهم وبيعهم وكل ما تحت يديهم من قليل أو كثير».
ومن الوقائع التاريخية التي توضح مراعاة ولاة أمر المسلمين لحقوق غير المسلمين تلك
الحادثة التي أخذ فيها الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك كنيسة يوحنا وأدخلها في
المسجد الأموي فلما استخلف عمر بن عبدالعزيز شكا النصاري إليه، فكتب إلي عامله برد
ما زاده في المسجد عليهم، لولا أنهم تراضوا مع الوالي علي أساس أن يعرضوا
بما يرضيهم
[7].
ويؤكد ولاة أمر المسلمين علي الوصية بأهل الذمة مهما حدث، فها هو ذا عمر بن الخطاب:
رضي الله عنه رغم ما جري له من واحد من غير المسلمين وهو وأبو لؤلؤة المجوسي الذي
أصيب بسبب ضربته، فمع هذا كان عمر رضي الله عنه وهو في لحظات حياته الأخيرة يقول: «أوصي
الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً أن يوفي بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم، وألا يكلفهم
فوق
طاقتهم»[8].
وبهذا التوجيه الإسلامي العظيم، وعلي هذا النحو من الدعوة إلي التعايش الاجتماعي
للمسلمين مع غير المسلمين أكد الإسلام عبر عصور التاريخ علي عالمية دعوته، وسماحة
عقيدته.
وهذا التعايش المتسم بالتسامح يستوجب علي غير المسلمين أن تكون معاملتهم للمسلمين،
خاصة للأقليات الاسلامية بمثل هذا الأسلوب المتميز المتسامح العادل، حتي يعيش
العالم في سلام عالمي وتعايش سلمي، فآدم عليه السلام هو والد الجميع وحواء هي الأم
«يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً
وقبائل
لتعارفوا»[9].
احترام الإسلام لسائر الأديان السماوية
واحترم الإسلام جميع الأديان السماوية، وأرسل الله تعالى سيدنا محمدًا صلى الله
عليه وسلم خاتمًا للأنبياء والمرسلين، مصدقًا لجميع الرسل الذين كانوا قبله، وأنزل
الله تعالى على رسوله القرآن الكريم تبيانًا لكل شيء، ومصدقًا لما بين يديه من
الكتب ومهيمنًا عليها وحارسًا أمنيًا لها.
وكان من عناصر الإيمان: الإيمان بجميع الرسل السابقين وبجميع الكتب السماوية، قال
الله تعالى:
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } البقرة/285.
بل إن إيمان المؤمن لا يكون صحيحًا إلا إذا آمن بجميع الأنبياء السابقين، وآمن بما
أنزله الله تعالى عليهم من الكتب السماوية الصحيحة، قال الله تعالى:
{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا
أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
} البقرة/136.
ومادام كل مسلم مأمورًا أن يؤمن بجميع الرسل السابقين وبجميع الكتب السماوية، فلا
يكون لديه تعصب، ولا كراهية لدين آخر أو نبى أو رسول، ولا كراهية ولا حقد على أحد
من أتباع الأديان الأخرى.
ووضح القرآن الكريم لأتباعه ما قضته الإرادة الإلهية منذ الأزل، من اختلاف الناس فى
عقائدهم وأجناسهم وألوانهم وذلك لحكمة يعلمها الحكيم الخبير، قال سبحانه:
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ
خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) } هود.
وقال جل شأنه:
{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ
كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
(99) } يونس.
ولا يحجر الإسلام على أحد، ولا يكره أحدًا على الدخول فى عقيدته، قال الله تعالى:
{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
الْغَيِّ } البقرة/256.
موقف الإسلام من غير المسلمين
من المعلوم أن الإسلام هو دين السلام، لا يأمر بالحرب إلا فى الضرورة القصوى التى
تستدعى الدفاع والجهاد فى سبيل الله. ومع مشروعية الجهاد فى سبيل الله، ومع مشروعية
الجهاد فى سبيل الله، دفاعًا عن الدين والعقيدة والأرض والعرض، فإن الحرب فى
الإسلام لها حدود وضوابط، وللمسلمين أخلاقهم التى يتخلقون بها حتى فى حربهم مع من
يحاربهم من غير المسلمين. فأمر الإسلام بالحفاظ على أموال الغير، وبترك الرهبان فى
صوامعهم دون التعرض لهم، ونهى الإسلام عن الخيانة والغدر والغلول، كما نهى عن
التمثيل بالقتلى وعن قتل الأطفال والنساء والشيوخ وعن حرق النخيل والزروع وقطع
الأشجار المثمرة.
وأوصى أبو بكر الصديق رضى الله عنه أسامة بن زيد عندما وجهه إلى الشام بالوفاء
بالعهد وعدم الغدر أو التمثيل، وعاهد خالد بن الوليد أهل الحيرة ألا يهدم لهم بيعة
ولا كنيسة ولا قصرًا، ولا يمنعهم من أن يدقوا نواقيسهم أو أن يخرجوا صلبانهم فى
أيام أعيادهم.
وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه رحيمًا بغير المسلمين من أهل الكتاب، وكان ينصح
سعد بن أبى وقاص عندما أرسله فى حرب الفرس بأن يكون فى حربة بعيدًا عن أهل الذمة،
وأوصاه ألا يأخذ منهم شيئًا لأن لهم ذمة وعهدًا، كما أعطى عمر رضى الله عنه أهل
إيلياء أمانًا على أموالهم وكنائسهم وصلبانهم وحذر من هدم كنائسهم. وأمر الإسلام
بحسن معاملة الأسرى وإطعامهم، قال الله تعالى:
{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا
وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) } الإنسان.
ولقد كانت معاملة الإسلام كلها خير ففى أسرى غزوة بدر الكبرى عاملهم النبى صلى الله
عليه وسلم خير معاملة فوزعهم على الصحابة وأمرهم أن يحسنوا إليهم فكانوا يؤثرونهم
على أنفسهم فى الطعام وفى الغذاء، ولما استشار أصحابه فى شأن أسرى بدر، وأشار البعض
بقتلهم وأشار الآخرون بالفداء، وافق على الفداء وجعل فداء الذين يكتبون منهم أن
يعلم كل واحد منهم عشرة من أنباء المسلمين القراءة والكتابة، وكان هذا أول إجراء
لمحو الأمية.
ولم يقبل الرسول أن يمثل بأحد من أعدائه فى الحروب مهما كان أمره، ولما أشير عليه
أن يمثل بسهيل بن عمرو لأنه كان يحرض على حرب المسلمين وعلى قتالهم فأشير عليه أن
ينزع ثنيتيه السفلتين حتى لا يستطيع الخطابة بعد ذلك، لم يوافق النبى صلى الله عليه
وسلم على ذلك بل رفض قائلًا: " لا أمثل به فيمثل الله بى وإن
كنت نبيًا؟ " وعندما حقق الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أمنيته بفتح
مكة المكرمة ودخلها فاتحًا منتصرًا ظافرًا قال لقريش: ما تظنون أنى فاعل بكم؟ "
قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن اخ كريم. فقال صلى الله عليه وسلم "
اذهبوا فأنتم الطلقاء لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لى
ولكم " ومن توجيهات الإسلام للمسلمين فى الحرب:
1.
أن يكون القتال فى سبيل الله.
2.
وأن يكون القتال لمن يقاتلون المسلمين.
3.
وعدم الاعتداء. قال الله تعالى:
{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
} البقر ة.
فالذين يعتدون على المسلمين ويقاتلونهم أُمر المسلمون أن يقاتلوهم، ولكنه قتال عادل
بمعنى ألا يمثلوا بأحد وبلا تعذيب حيث قال الله تعالى:
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ
وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ
مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ (194) } البقرة. وهذا فيمن يقاتلون المسلمين.
أما الذين لا يقاتلون من غير المسلمين فكان النبى صلى الله عليه وسلم ينهى عن
قتالهم، عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا
شيخًا فانيًا ولا طفلًا صغيرًا ولا امرأة
"
[10].
وفى حديث آخر " سيروا باسم الله وفى سبيل الله قاتلوا من كفر
بالله ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تغلوا وتقتلوا وليدًا "
[11].
كما كان ينهى صلى الله عليه وسلم عن التعرض للرهبان وأصحاب الصوامع وعن التمثيل
والغلول، عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
بعث جيوشه قال: " اخرجوا باسم الله، قاتلوا فى سبيل الله من
كفر بالله لا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع
"
[12].
|