الطعن في أحاديث العدوى(*)
مضمون الشبهة:
ثار كثير من الجدل ـ قديما وحديثا ـ حول الأحاديث النبوية التي تتعلق بالعدوى، فقيل: إن الأحاديث التي ترفض فكرة العدوى لا تتفق مع مقتضيات العلم الحديث؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عَدْوَى ولا طِيَرَة »؛ حيث ثبت انتقال كثير من الأمراض عن طريق العدوى، كما يقولون: إن هذه الأحاديث تتعارض مع الأحاديث التي تثبت العدوى؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «فِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يُورِد مُـْمرِض على مُصِحّ»، ويتساءلون: هل الإعجاز في الأحاديث الأولى أم في الأحاديث الأخيرة؟! ويصلون إلى نتيجة مؤداها أن المفاهيم العلمية والطبية ليست من العقيدة ولا من الأوامر الإلهية الموحاة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وجها إبطال الشبهة:
1) أجمع العلماء على أنه لا تعارض بين تلك الأحاديث؛ لأن المراد من حديث: «لا عدوى ولا طيرة»- وما في معناه- نفي ما كانت الجاهلية تعتقده بأن العاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله عز وجل وقدره، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم أن العدوى تكون بقدر الله عز وجل؛ لذلك قال في آخر الحديث: «فمن أعدى الأول»؟! وأما الأمر بالفرار من المجذوم ـ وما في معناه- فمن باب سد الذرائع؛ لئلا ينتقل للشخص السليم الذي يخالطه شيء من ذلك فيعتقد صحة العدوى فيقع في الحرج، فأمر بتجنبه حسمًا للوقوع في المحظور.
2) لقد ميز النبي صلى الله عليه وسلم بين المريض الذي لا يسبب العدوى والُممرِض الذي تنتقل العدوى منه قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا، وقبل أن يكتشف علماء هذا العصر هذه الحقيقة؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم ندب- من ناحية أولى- زيارة المريض، ونهى- من ناحية ثانية- عن إيراد الُممرض على الُمصِحّ، وأمر بالفرار منه والبعد عنه، كما ميز صلى الله عليه وسلم بين الُممرض بمرض مُعْدٍ والممرض بمرض وبائي، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم بالطرق التي نتعامل بها مع المصابين بالأمراض المعدية أو الأمراض الوبائية الفتاكة.
التفصيل:
أولاً. لا تعارض بين أحاديث العدوى، فكل شيء بقدر الله وحكمته:
ذهب جمهور العلماء إلى الجمع بين هذه الأحاديث؛ يقول الإمام النووي: وطريق الجمع أن حديث: «لا عدوى ولا طيرة...»([1]) المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، وأما حديث: «لا يورد الممرض على المصح»([2]) فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها، ولم ينفِ حصول الضرر عند ذلك بقدر الله عز وجل وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدرته، فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الأحاديث والجمع بينها هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء([3]).
ثم يزيد الإمام النووي الأمر وضوحًا فيقول: قوله: «كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: إنا قد بايعناك فارجع»([4])، هذا موافق للحديث الآخر في صحيح البخاري: «وفِرَّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد»([5])، وأنه غير مخالف لحديث: «ولا يورد مُمرض على مُصح».
وقال القاضي: اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجذوم؛ فثبت عنه الحديثان المذكوران، وعن جابر رضى الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة وقال: كُلْ ثقةً بالله وتوكلاً عليه»([6])، وعن عائشة قالت: «كان لي مولى مجذوم، فكان ينام على فراشي ويأكل في صحافي»([7]).
والصحيح الذي قاله الأكثرون، ويتعين المصير إليه أنه لا نسخ، بل الجمع بين الحديثين، وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط لا الوجوب، وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز([8])، وحديث جابر ضعيف كما حكم بذلك الألباني في "السلسلة الضعيفة"([9]).
يقول الحافظ ابن حجر: قالوا: وأما حديث جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال: كُلْ ثقةً بالله وتوكلاً عليه» ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي وبيَّن الاختلاف فيه على راويه ورجَّح وقفه على عمر، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم أكل معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة، قال الكلاباذي في "معاني الأخبار": والجواب أن طريق الجمع أَوْلَى، وفي طريق الجمع مسالك أخرى:
أحدها: نفي العدوى جملة، وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذوم؛ لأنه إذا رأى الصحيح البدن السليم من الآفة تعظم مصيبته وتزداد حسرته، ونحوه حديث: «لا تديموا النظر إلى المجذومين»([10])، فإنه محمول على هذا المعنى.
ثانيها: حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين؛ فحيث جاء: «لا عدوى» كان المخاطب بذلك من قوِي يقينه، وصحَّح توكله، بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى، كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وهذا مثل ما تدفع قوة الطبيعة العلة فتبطلها؛ وعلى هذا يُحمل حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة وسائر ما ورد من جنسه، وحيث جاء: «فِرَّ من المجذوم» كان المخاطب بذلك من ضعُف يقينه، ولم يتمكن من تمام التوكل، فلا يكون له قوة على دفع اعتقاد العدوى، فأريد بذلك سد باب اعتقاد العدوى عنه بأن لا يباشر ما يكون سببًا لإثباتها([11]).
المسلك الثالث: أن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمر طبيعي، وهو انتقال الداء من جسد لجسد بواسطة الملامسة والمخالطة وشم الرائحة؛ ولذلك يقع في كثير من الأمراض في العادة انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة، وهذه طريقة ابن قتيبة، قال: المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته ومضاجعته، وكذا يقع كثيرًا بالمرأة من الرجل وعكسه، وينزع الولد إليه، ولهذا يأمر الأطباء بترك مخالطة المجذوم لا عن طريق العدوى، بل عن طريق التأثر بالرائحة؛ لأنها تسقم من واظب اشتمامها، قال: ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يورد ممرض على مصح»؛ لأن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حكها وأوى إلى مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وكذا بالنظر نحو ما به... وأما قوله: «لا عدوى» فله معنى آخر، وهو أن يقع المرض بمكان كالطاعون فيفر منه مخافة أن يصيبه؛ لأن فيه نوعًا من الفرار من قدر الله تعالى.
المسلك الرابع: أن المراد بنفي العدوى- كما ذكرنا آنفًا- أن شيئًا لا يعدي بطبعه، نفيًا لـما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله عز وجل، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذوم؛ ليبين لهم أن الله هو الذي يمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنو منه؛ ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها؛ ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئًا، وإن شاء أبقاها فأثرت، ويحتمل أيضًا أن يكون أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم أنه كان به أمر يسير لا يعدي مثله في العادة؛ إذ ليس الجَذْمَى كلهم سواء، ولا تحصل العدوى من جميعهم، بل لا يحصل منه في العادة عدوى أصلاً كالذي أصابه شيء من ذلك ووقف فلم يعد بقية جسمه فلا يعدي، وعلى الاحتمال الأول جرى أكثر الشافعية.
قال البيهقي: وأما ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا عدوى» فهو على الوجه الذي كان يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح ومن به شيء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «فِرَّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد»، وقال: «لا يورد مُمرض على مُصحّ»، وقال في الطاعون: «فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه»([12])، وكل ذلك بتقدير الله عز وجل.
المسلك الخامس: العمل بنفي العدوى أصلاً ورأسًا، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة؛ لئلا يحدث للمخالط شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوى التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد وتبعه جماعة، فقال أبو عبيد: ليس في قوله: «لا يورد مُمرض على مُصحّ» إثبات العدوى، بل لأن الصِّحاح لو مرضت بتقدير الله تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى فيفتتن ويتشكك في ذلك، فأمر باجتنابه([13]).
وهذا ما قرره ابن القيم في كتابه "زاد المعاد"، وقد أكده الشيخ الألباني تعليقًا على حديث: «ائته فأعلمه أني قد بايعته فليرجع»([14]) قائلاً: وفي الحديث إثبات العدوى والاحتراز منها، فلا منافاة بينه وبين حديث: «لا عدوى»؛ لأن المراد به نفي ما كانت الجاهلية تعتقده أن العاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله عز وجل وقدره، فهذا هو المنفي، ولم ينفِ حصول الضرر عند ذلك بقدر الله ومشيئته، وهذا ما أثبته الحديث، وأرشد فيه إلى الابتعاد عما قد يحصل الضرر منه بقدر الله وفعله([15]).
وبناء على ما سبق، فإن حديث: «لا عدوى ولا طيرة» أشار فيه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إلى من اتكل على الأسباب، وحديث: «فِرَّ من المجذوم» فيه إشارة إلى من اعتمد واتكأ عليها، فهذا ليس فيه نفي للعدوى، إنما فيه إثبات لها، بدلالة تتمة الحديث حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال: فمن أعدى الأول؟»([16]) أي: أول جمل أجرب على وجه الأرض من أعداه؟ فيريد أن ينبه بهذا إلى أن الله عز وجل هو الذي قدر العدوى وقدر تأثيرها، وأنه لا عدوى تنتقل بذاتها، بدليل أن الجمل الأول الذي أصابه الجرب لم يـجرب بسبب عدوى، وإنما قدرة الله عليه، وهكذا ما بعده([17]).
ثانيًا. الإعجاز العلمي في لفظي "المريض" و "الممرض":
لقد عملت أجهزة الكشف والتحليل الحديثة على توسُّع العلوم والمعرفة في شتى الميادين بشكل هائل للغاية، كما مكَّن توسع العلوم المتعلقة بمسبِّبات الأمراض العلماء من إظهار علم جديد أطلق عليه "علم أسباب الأمراض" (Aetiology)، وعرف الإنسان أن المريض قد يصاب بالأمراض نتيجة تعرضه لمسببات مختلفة ومتنوعة.
وحسب نوع المرض فإن المرض إما أن يظل حبيسًا في جسد المريض ولا ينتقل إلى من يخالطهم ويآكلهم، ولا تحدث العدوى بهذا المرض أبدًا، وإما أن ينتقل هذا المرض من المريض إلى من يخالطهم ويآكلهم، وتحدث العدوى، ويكون هذا المريض ممرضًا لغيره بإذن الله عز وجل ومشيئته.
ولسنا بحاجة لأن نشير إلى أن كل مؤمن يعرف ويوقن تمامًا أن من يتعرض لمسببات المرض فإن ذلك لا يعني أبدًا أنه سوف يصاب بهذا المرض إذا أراد الله سبحانه وتعالى حفظه وتجنيبه، وفي الوقت نفسه فإن من لا يتعرض لمسببات المرض الظاهرة فإن ذلك لا يعني للمرء أنه لن يصاب بالمرض إذا قدر مقدِّر المقادير ومسبِّب الأسباب أن يصاب هذا المرء بالمرض، ومن واجب المسلم التوكل على الله سبحانه وتعالى في جميع أمور حياته اليومية، لكنه مأمور بالأخذ بالأسباب والتحصن ضد مسببات الأمراض.
ولعدم معرفة الطرق الصحية السليمة للتعامل مع المرضى المصابين بأمراض معدية، وللخوف الشديد من انتقال العدوى منهم- فقد واجه مرضى الجذام في القرون السابقة انعزالاً اجتماعيًّا مـجحفًا، خاصة في تلك المجتمعات التي لم تتقيد بالتعاليم الدينية والأخلاقيات الإنسانية؛ إذ أشارت الموسوعات العلمية إلى أن مرضى الجذام كانوا في الأزمنة السابقة ضحايا تحامل الناس عليهم وخوفهم منهم، وذلك بسبب التشوهات المرتبطة بالمرض، وفي العديد من المجتمعات يعامل مرضى الجذام معاملة المنبوذين، في حين أن تعاليم الإسلام تنهى عن ذلك.
ولأن علم أسباب الأمراض لم يكن معروفًا بشكل واضح ودقيق في العصور السابقة فقد احتار العلماء في الجمع بين الأمرين: العدوى واللاعدوى.
وذكر النووي أن بعض العلماء قد قالوا: إن حديثًا جاء فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا يورد مُمرض على مُصح» منسوخ بحديث: «لا عدوى»، ولكنه قد غلطهم فقال: وهذا غلط لوجهين؛ أحدهما: أن النسخ يُشترط فيه تعذر الجمع بين الحديثين، ولم يتعذر، بل قد جمعنا بينهما، والثاني: أنه يُشترط فيه معرفة التاريخ، وتأخر الناسخ، وليس ذلك موجودًا هنا، وقال آخرون: حديث: «لا عدوى» على ظاهره، وأما النهي عن إيراد الممرض على المصح فليس للعدوى، بل للتأذي بالرائحة الكريهة وقبح صورته وصورة المجذوم، والصواب ما سبق، والله أعلم([18]).
وبعدما كشفت لنا الأجهزة والآلات الحديثة النقاب عن الكائنات الحية الدقيقة، وعرف الإنسان حقيقة المرض غير المعدي والمرض المعدي، وأنه لا عدوى تحدث بمخالطة المريض، والعدوى تحدث بمخالطة الممرض، أو بانتقال مسببات المرض بوسائل أخرى- جاءت هذه الحقائق العلمية الحديثة منسجمة بشكل مذهل مع ما جاء به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ لتكشف عن إعجاز نبوي جديد من الإعجازات النبوية المتتابعة والمتجددة مع مرور الأزمنة.
وحتى تتضح صور الإعجاز العلمي في أحاديث "لا عدوى" وأحاديث "العدوى" بالأمراض المعدية، والأمراض الوبائية- ينبغي أن نتعرف أولاً على المعاني اللغوية والعلمية للألفاظ المعنية بالإعجاز في هذا البحث؛ كالمريض والممرض والعدوى والطاعون (الوباء)، ونعرف أيضًا كيف جاءت نتائج الدراسات والأبحاث العلمية الحديثة منسجمة بشكل بليغ مع ما ورد عنها في الأحاديث النبوية الشريفة.
المريض (الذي لا ينقل العدوى):
هو الإنسان الذي يعاني من مرض أو علة جسمية أو عقلية نتيجة إصابته بمسببات معينة، دون أن تنتقل مسببات هذا المرض إلى من يخالطهم ويآكلهم.
وأسباب الأمراض غير المعدية عديدة؛ بعضها تسببه مواد مؤذية أو مهيجة للجسم، وبعضها يحدث بسبب تناول أغذية غير متوازية، وبعضها يحدث نتيجة تناول الماء والأطعمة الملوثة بمعادن سامة لها تأثيرات على أجهزة الجسم المختلفة أو المخ، كما أن القلق والتوتر يمكن أن يؤديا إلى أمراض الصداع وارتفاع ضغط الدم والتقرحات وغيرها، وتدل نتائج الدراسات والأبحاث وملاحظات الأطباء والعلماء أن مخالطة المريض بالأمراض غير المعدية ومآكلته الناس لا تسبب العدوى أبدًا.
لا عدوى بمخالطة المريض:
سبق أن أشرنا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ميز بين المريض والممرض؛ فقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أنه لا عدوى تحدث بمخالطة المريض، منها ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح، الكلمة الحسنة»([19])، وروى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا غول ولا صفر»([20]).
ولأن معلم البشرية الخير والصلاح يعلم أن مخالطة المريض- وليس الممرض- لا تصدر من جسمه العدوى، وهو صلى الله عليه وسلم يأبى أن يعرض أمته إلى عوامل الأذى والهلاك، وفي الوقت نفسه يأخذ بكل وسيلة توصل الناس إلى فعل الخير، فقد حث على زيارة المريض المسلم وغير المسلم، وأخبرنا بالأجر العظيم والثواب الجزيل لكل من يعود المريض، وأمرنا بتطييب نفس المريض ورفع معنوياته، وتذكيره أن المرض حاتٌّ لذنوبه وخطاياه.
وقد رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في زيارة المريض راويًا عن ربه عز وجل حديثًا قدسيًّا طويلاً رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده»([21])؟!
الممرض:
لفظة "الممرض" تعني الكائن الحي الذي يعاني من مرض أو علة جسمية نتيجة إصابته بمسببات هذا المرض، وتنتقل مسببات المرض منه إلى كل من يخالطهم ويآكلهم بوسائل مختلفة ومتنوعة، ويطلق العلماء على الكائنات الحية المسببة لهذا المرض "الكائنات الممرضة".
ولقد جاءت لفظة "الممرض" في أحاديث نبوية شريفة؛ إذ روى مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يورد الممرض على المصح»([22])، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يوردن ممرض على مصح»([23]).
والمتأمل في هذه الأحاديث يجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلنا على أن الممرض هو إنسان أو حيوان مريض بمرض معدٍ، وينتقل هذا المرض منه إلى غيره بالمخالطة، وقد دل النووي على أن المقصود بالممرض هو المجذوم، معللاً النهي عن إيراد الممرض- المجذوم- على المصح لأسباب سبق ذكرها.
وقد عرف ابن حجر لفظة "الممرض" فقال: الممرض: هو الذي له إبل مرضى، ثم ذكر أن أهل اللغة قد قالوا: إن الممرض هو اسم فاعل من أمرض الرجل: إذا أصاب ماشيته مرض، والمصح اسم فاعل من أصح: إذا أصاب ماشيته عاهة ثم ذهب عنها وصحت.
والأمراض التي يمكن أن تنتقل من الممرض إلى السليم إما أن تكون أمراضًا غير وبائية، تأثيراتها لا تسبب الهلاك والفناء على نطاق واسع، ومن أمثلة الأمراض المعدية غير الوبائية التي يمكن الوقاية منها بالبعد عن المريض مسافات معينة: الزكام والجذام.
والزكام هو واحد من أنواع كثيرة من العدوى التي تصيب الجهاز التنفسي العلوي، ويعد الزكام أكثر الأمراض انتشارًا وشيوعًا، وقطع العلماء شوطًا بعيدًا لتحديد أكثر من مئة فيروس يتسبب في هذا المرض، وينتقل المرض بواسطة العدوى الرذاذية، ويعتقد العلماء- إلى جانب ذلك- أن جراثيم الزكام يمكن أن تنتشر بالاحتكاك المباشر، وبخاصة من خلال الأيدي.
أما الجذام- ويُسمى أيضًا "مرض هانس"- وهو مرض مزمن مُعْدٍ يؤثر أساسًا على الجلد والأغشية المخاطية، وخاصة تلك التي في الفم، وهو ليس مرضًا قاتلاً في العادة، ولكن إهمال المرض أو عدم علاجه قد يؤدي إلى تشوهات ربما تشل اليدين والقدمين، ولا يعرف الباحثون كيفية انتقال البكتيريا المسببة للجذام، بينما أشارت تقارير إلى حدوث الإصابات عن طريق التلامس الجلدي.
وتدل نتائج الدراسات والأبحاث الطبية الحديثة على أنه يمكن تجنب انتقال مسببات المرض من الممرضين بالأمراض المعدية للأصحاء بعدم الاحتكاك المباشر بهم، وعدم ملامسة جلد المصاب بدون وقاية، ولعل جعل مسافة بين الممرض وبين من حوله يسهم كثيرًا في وقايتهم من الإصابة بمثل هذه الأمراض المعدية.
العدوى:
ذكر ابن منظور أن أصل العدوى من عدا ويعدو: إذا جاوز الحد، ومعنى أعدى: أي أجاز الجرب الذي به إلى غيره، أو أجاز جربًا بغيره إليه، وذكر أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث: «لا عدوى»: أي لا يعدي شيء شيئًا، وقد أشار إلى أن ذكر العدوى في الحديث قد تكرر، وأنه اسم الإعداء، والعدوى: أن يكون ببعير جرب مثلاً فتتقي مخالطته بإبل أخرى؛ حذرًا أن يتعدى ما به من الجرب إليها فيصيبها ما أصابه.
ويكشف لنا علم الطب وعلم الأحياء الدقيقة وعلم المناعة أن العدوى تحدث بما يعدي من كائنات حية طفيلية تنتقل من كائن حي مصاب بالمرض الذي تسببه، أو حامل لهذه الكائنات، إلى كائن حي آخر سليم، وتسبب له بإذن الله المرض المعدي أو المرض الوبائي الخطير، والأمراض المعدية هي أكثر الأمراض شيوعًا؛ حيث تستطيع أنواع عديدة من الكائنات الحية الدقيقة- كالبكتيريا والفيروسات والفطريات والطفيليات والحشرات وغيرها- أن تغزو جسم الإنسان وتسبب له الأمراض.
من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم:
سبق أن أشرنا إلى أن علماء هذا العصر لم يقفوا على حقيقة العدوى إلا بعد اختراع أجهزة الكشف والتحليل، وخاصة بعد اختراع المجاهر- الميكروسكوبات- فعملت هذه الأجهزة على إظهار الكائنات الحية الدقيقة- المجهرية- التي كانت تخفى تمامًا عن العيون لصغر حجمها، وأدرك العلماء كيفية غزو الكائنات المجهرية الممرضة جسم الإنسان أو الحيوان أو النبات، وكيفية انتشارها، وعرفوا أن العدوى تحدث بشكل رئيسي عن طريق مخالطة الممرض للكائنات الحية السليمة، فتنتقل إليها الكائنات المجهرية الممرضة فتمرضها.
ومن الإعجاز النبوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سبق علماء العصر الحديث في الدلالة على حدوث العدوى بالمخالطة وبغير المخالطة، ويدل على سبل الوقاية من العدوى؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال: فمن أعدى الأول؟»([24])
ومن هذا الحديث يظهر جليًّا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وافق الأعرابي على ملاحظته في أن العدوى تحدث بالمخالطة، لكنه قد بين له ولنا أن العدوى تحدث أيضًا بوسيلة أخرى غير المخالطة، فقوله صلى الله عليه وسلم: «فمن أعدى الأول»؟ فيه دلالة واضحة على أن الجمل الأول أصيب بالعدوى ولكن دون مخالطة، ولم يكتشف العالم حقيقة نقل العدوى دون مخالطة إلا في العصر الحديث؛ إذ كشفت لنا نتائج الدراسات والأبحاث الحديثة كيف تصل العدوى إلى الكائن الحي دون مخالطة؛ إذ من الممكن أن تسقط الطفيليات المسببة للمرض من ممرض ما على التربة، أو تتلوث بها المواد أو الأدوات والآنية التي يحتك بها الممرض، وقد تبقى الطفيليات الساقطة على الأرض زمنًا طويلاً لا يصل إليها أي كائن حي، أو تترك المواد أو الآنية أو الأدوات بعيدة عن متناول الأيدي زمنًا طويلاً، وبالرغم من هذا فإن الجراثيم تبقى حية، ولكنها في وضع سكون.
فعلى سبيل المثال تستطيع أنواع من البكتيريا أن تنتج تركيبًا خاصًّا يُسمى "الجرثومة الداخلية"، والجراثيم الداخلية تستطيع مقاومة الظروف البيئية القاسية غير الملائمة لنمو هذه البكتيريا وتكاثرها، فبعضها يقاوم درجات الحرارة العالية التي تتعرض لها والتي تصل إلى 120 م ولمدة ثلاث ساعات، وتعتبر الجراثيم الداخلية مرحلة ساكنة للخلية الأم، وهي تستطيع أن تعيش لعشرات السنين في غياب مصدر غذائي خارجي يتاح لها، ولكن عندما يأذن الله سبحانه وتعالى لهذه الجراثيم الممرضة الساكنة أن تصيب الإنسان أو الكائن الحي الآخر بالمرض، فإن المصدر الملوث بها- التربة أو المواد أو الآنية أو الأدوات- يجد طريقه ميسرًا إلى جسم الكائن الحي الذي قدر الله سبحانه وتعالى له إصابته بالعدوى، فتجد هذه الجراثيم في جسمه الوسط الغذائي المناسب لتكاثرها ونموها، فتتكاثر وتنمو، وتسبب له العدوى دون أي مخالطة لممرض.
ومن هنا يظهر بشكل واضح أن ذهاب المرض المعدي من أرض قد انتشر فيها لا يعني غيابه عن هذه الأرض أبدًا؛ إذ أشرنا إلى أن شيئًا من مسببات هذا المرض قد يبقى ساكنًا لمدة طويلة في أي مكان يُترك فيه، وعندما يقدر الله سبحانه وتعالى- مسبب الأسباب- ظهور هذا المرض من جديد تصل هذه الجراثيم إلى جسم كائن حي وتسبب له العدوى، وينتشر المرض من جديد، وقد أخبرنا بهذا الأمر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ روى البخاري من حديث أسامة بن زيد رضى الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع- الطاعون- فقال: رجز- أو عذاب- عذّب به بعض الأمم، ثم بقي منه بقية، فيذهب المرة ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه، ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارًا منه»([25]).
ومن الإعجاز النبوي العجيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينفي العدوى وفي الوقت نفسه يقر بها في حديث واحد؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفِرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد»([26]).
الطاعون (الوباء):
ذكر الجوهري أن الطاعون هو الموت الوَحِيُّ من الوباء؛ أي: الموت السريع الذي ينتج من الوباء، وزاد ابن منظور في تعريف الطاعون فذكر أنه هو المرض العام والوباء الذي يفسد له الهواء، فتفسد به الأمزجة والأبدان، كما يذكر علماء اللغة أن الوباء هو الطاعون وهو كل مرض عام، ويقال: الوبأ والوبا والوباء بالقصر والمد والهمز.
ومما تقدم ذكره ندرك أن معنى الطاعون في اللغة لا ينحصر في مرض معين، وإنما يشمل أي مرض يعم الناس وينتشر في البقاع بسرعة عظيمة ويسبب الموت السريع، ولقد جاء العلم الحديث موافقًا للتعريف اللغوي للوباء أو الطاعون؛ إذ يُعرف الوباء علميًّا بأنه: ازدياد مفاجئ لمرض معد- تفجرات وبائية- ينتشر بشكل واسع وسرعة كبيرة بين الناس، وفي وقت واحد وفي أي منطقة.
ومن أمثلة الأمراض الوبائية: الطاعون الدبلي- الموت الأسود- والطاعون البقري، والطاعون الكبير، والكوليرا، والأنفلونزا، وأنفلونزا الطيور، وأمراض الكبد الوبائي، والحمى الصفراء، وحمى الوادي المتصدع، وغيرها كثير.
ولقد تسببت الأمراض الوبائية في هلاك ملايين البشر والحيوانات في فترة زمنية وجيزة، بل وأدت إلى فناء أمم في مواطنها، وفي القرن الرابع عشر تسبب نوع من الطاعون الدبلي عُرف بـ "الموت الأسود" في هلاك ربع سكان أوربا، كما اجتاحت الأوبئة الخطيرة منذ أقدم العصور كلاًّ من أوربا وآسيا وأفريقيا.
ومن الإعجاز النبوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن المرض الوبائي قد يسبب فناء أمة بأسرها؛ إذ روى أحمد بن حنبل عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تفنى أمتي إلا بالطعن والطاعون»([27])، كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة الصحية السليمة للوقاية من انتشار الأمراض الوبائية الخطيرة وحصرها في مكانها للحيلولة دون انتشارها.
الإعجاز النبوي في مكافحة الأمراض المعدية:
لو تمعنا في تعاليم الإسلام المتعلقة بمكافحة الأمراض المعدية لرأينا أن هذه التعليمات قد شملت المرضى والأصحاء، ولرأينا أيضًا أن الرسول الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم قد وضح لنا الوسائل المثلى للتعامل معهم؛ ابتعادًا عن احتمالية نقل الإصابة بهذا المرض منهم إلى الأصحاء، ولوضح لنا أيضًا كيف عملت تعاليمه صلى الله عليه وسلم على السيطرة على الأمراض المعدية وحصرها في مكانها والحيلولة دون انتشارها، ولظهر لنا كذلك كيف خص رسولنا الرءوف الرحيم الممرضين بكل ما يسهم في رفع معنوياتهم وعدم عزلهم عن مجتمعاتهم.
وقد سبق أن أشرنا إلى أن العلوم الحديثة قد أثبتت أن الوقاية من الأمراض المعدية غير الوبائية يمكن أن تتم عن طريق عدم ملامسة جلد الممرض بشكل مباشر، وجعل مسافة تحول دون وصول ما يخرج من جسمه من رذاذ ونحوه، وطرق التعامل الصحية هذه لم تكن جديدة على المسلمين، فقد وجه إليها ودل عليها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فَلْنَرَ الآن كيف دلنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم على هذه الوسائل:
1 ـ الوقاية من نقل العدوى بالنخامة أو البصاق:
تنتقل كثير من الأمراض المعدية عن طريق بصاق الممرض، وقد يكون المرء حاملاً لمسببات الأمراض المعدية دون أن تظهر عليه أعراض المرض، ويبدو ظاهريًّا أنه يتمتع بصحة جيدة، فإذا ما أصاب البصاق جلد الإنسان فإن ذلك قد يسبب له العدوى ويؤذيه، ومن أهم الوسائل التي توصل إليها العلم الحديث والتي تسهم في الوقاية من هذه الأمراض وعدم انتشارها ألا يبصق الإنسان على الأرض في الساحات العامة وغيرها من الأماكن، وأن يغيبها في منديل يُرمى بعد ذلك في سلة المهملات التي تُعالج غالبًا بالحرق أو بالوسائل الصحية الأخرى.
وقد وجَّه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى فعل هذا الأمر قبل أن يوجه إليه المهتمون بالصحة العامة في هذا العصر؛ فقد روى أحمد عن سعد رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تنخَّم أحدكم في المسجد فليغيِّبْ نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه»([28]).
ومن أمثلة الأمراض المعدية التي تسبب العدوى عن طريق استنشاق الرذاذ الخارج من فم الممرض والمحمَّل بالجراثيم المسببة للأمراض: مرض السل الرئوي؛ حيث يُطلق على هذا النوع اسم "العدوى الرذاذية"، ومن أجل الوقاية من الأمراض التي تنتقل عن طريق الرذاذ فقد علمنا معلمنا وقدوتنا الكيفية المثلى لكفِّ أذانا عن الآخرين، فالرسول صلى الله عليه وسلم الطاهر المطهر كان يضع يده أو ثوبه على فِيهِ عندما يعطس؛ فقد روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فِيهِ، وخفض أو غض بها صوته»([29]).
2 ـ الحجر الصحي:
الحجر الصحي: هو عزل أشخاص بعينهم أو أماكن أو حيوانات قد تحمل خطر العدوى، وتتوقف مدة الحجر الصحي على الوقت الضروري لتوفير الحماية من مواجهة الأمراض الوبائية.
ولقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم الأسس السليمة الصحية في كيفية احتواء انتشار الأمراض الوبائية؛ ففي الوقت الذي سمح به صلى الله عليه وسلم بالتكلم من بُعْد مع المصاب بالأمراض المعدية غير الوبائية، نجده هنا ينهى صلى الله عليه وسلم تمامًا عن دخول الأرض التي يقع بها مرض وبائي، بل وينهى أيضًا عن الخروج منها، وقد وردت أحاديث عديدة في هذا الموضوع؛ منها ما رواه البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها»([30])، وروى مسلم عن أسامة بن زيد رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون آية الرجز، ابتلى الله عز وجل به ناسًا من عباده، فإذا سمعتم به فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تفروا منه»([31]).
وقد يثار في النفس سؤال أو استفسار حول الحجر الصحي في الإسلام، فمنع الدخول إلى الأرض التي يقع فيها الطاعون هو حماية من العدوى، ولكن لماذا لا تُترك الفرصة لخروج مَنْ هم فيها فرارًا من هذا الوباء القاتل؟
ونجيب عن هذا السؤال ونقول: إن من يخرج من الأرض التي يقع بها الوباء فهو إما أن تكون الجراثيم الممرضة قد غزت جسمه، ولكن فترة حضانة هذه الجراثيم تأخذ فترة معينة حتى تظهر عليه أعراض المرض، فخروجه من الأرض الموبوءة التي كان بها يعني أنه قد عمل على نقل المرض إلى أماكن أخرى بعيدة؛ فيؤذي الآخرين ويتسبب بذلك في مرضهم أو هلاكهم، وهو في كلتا الحالتين- بقائه في المكان الموبوء أو خروجه منه- لن يفر من الموت إن قدَّر الله له ذلك، ففراره لن ينفعه، بل ربما يجعله آثمًا إن تسبب في انتشار المرض، والمولى سبحانه وتعالى الرءوف الرحيم الذي ابتلاه بهذا الوباء قد أنعم عليه بأجر الشهيد، وإن قدر الله له أن يعيش فلن يضره شيء إن صبر على مكوثه وسيحصل أيضًا على أجر الشهيد؛ إذ لا يقتضي الأمر أن يكون الموت مصير كل من أصابته العدوى بمرض وبائي فتاك، فقد يخلق الله سبحانه وتعالى في جسمه الأجسام المضادة التي تحارب وتقضي على الجراثيم الممرضة، وتكون في جسمه كجهاز مناعي يحميه بعد ذلك من هذا المرض الفتاك.
وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها : «أنها سألت رسول صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان عذابًا يبعثه الله على مَنْ يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس مِنْ عبد يقع الطاعون في بلده فيمكث صابرًا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد»([32]) ([33]).
وبهذا يتبين أنه لا تناقض بين تلك الأحاديث الشريفة السابقة، وأن المسالك التي سلكها أهل العلم للتوفيق بين الأحاديث المثبِتة للعدوى والأخرى النافية لها كانت مسالك صحيحة، وقد أيدتها نتائج الأبحاث العلمية الحديثة.
الخلاصة:
· ليس هناك تعارض أو تناقض بين أحاديث العدوى، لا سيما وأن لكل حديث حالة معينة وسببًا خاصًّا، وأجمع العلماء على الجمع بين الأحاديث؛ فحديث: «لا عدوى ولا طيرة» المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده من أن المرض والعاهة تُعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، وأما حديث: «لا يورد ممرض على مصح» فأرشد إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره.
· لقد ذهب فريق من العلماء إلى أن الأمر باجتناب المجذوم والفرار منه محمول على الاستحباب والاحتياط لا الوجوب، وأما الأكل معه ففعله النبي صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز.
· لقد ميز الرسول صلى الله عليه وسلم بين المريض الذي لا يسبب العدوى عن الممرض الذي تنتقل العدوى منه إلى الآخرين قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا، وقبل أن يكتشف هذه الحقيقة علماء العصر الحديث.
· كما ندب الرسول صلى الله عليه وسلم زيارة المريض، وأخبرنا بالأجر العظيم والثواب الجزيل لكل من يعود المريض ويطيب نفسه، ونهى في الوقت نفسه عن إيراد الممرض على المصح، وأمر بالفرار منه والبعد عنه.
· كما ميز نبي الهدى صلى الله عليه وسلم بين الممرض بمرض معدٍ والممرض بمرض وبائي، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد وضع أسس التعامل مع هؤلاء الممرضين؛ حيث سبق علماء العصر الحديث في هذا الأمر.
(*) وهم الإعجاز العلمي، د. خالد منتصر، مرجع سابق.
[1]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، (8/ 3352)، رقم (5687).
[2]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، (8/ 3352)، رقم (5684).
[3]. شرح صحيح مسلم، النووي، مرجع سابق، ج8، ص3353.
[4]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: اجتناب المجذوم ونحوه، (8/ 3364)، رقم (5714).
[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: الجذام، (10/ 167)، رقم (5707).
[6]. ضعيف: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الكهانة والتطيُّر، باب: في الطيرة، (10/ 300)، رقم (3918). وضعَّفه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3925).
[7]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنَّفه، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل مع المجذوم، (5/ 568)، رقم (30/ 9).
[8]. شرح صحيح مسلم، النووي، مرجع سابق، ج8، ص3364.
[9]. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط2، 1420هـ/ 2000م، ج3، ص281.
[10]. حسن صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الطب، باب: الجذام، (2/ 1172)، رقم (3543). وقال عنه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (1064): حديث حسن صحيح.
[11]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، مرجع سابق، ج10، ص169.
[12]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأنبياء، باب: رقم (54)، (6/ 592)، رقم (3473).
[13]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، مرجع سابق، ج10، ص169: 171 بتصرف.
[14]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث الشريد بن سويد، رقم (19486). وقال عنه شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
[15]. السلسلة الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 1422هـ/ 2002م، ج4، ص614.
[16]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: لا صَفَرَ وهو داء يأخذ البطن، (10/ 180، 181)، رقم (5717).
[17]. الجمع بين حديث: «لا عدوى ولا طيرة» و «فِرَّ من المجذوم»، أبو إسحاق الحويني، درس صوتي بموقع: فضيلة الشيخ أبي إسحاق الحويني www.alheweny.org.
[18]. شرح صحيح مسلم، النووي، مرجع سابق، ص216.
[19].صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: الفأل، (10/ 225)، رقم (5756).
[20].صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، (8/ 3352)، رقم (5688).
[21].صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: البر، باب: فضل عيادة المريض، (9/ 3698)، رقم (6434).
[22].صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، (8/ 3352)، رقم (5684).
[23].صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: لا هامة، (10/ 251)، رقم (5771).
[24]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: لا صفر وهو داء يأخذ البطن، (10/ 180، 181)، رقم (5717).
[25].صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحيل، باب: ما يكره من الحيل في الفرار من الطاعون، (12/ 360)، رقم (6974).
[26].صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: الجذام، (10/ 167)، رقم (5707).
[27]. إسناده جيد: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث عائشة رضي الله عنها، رقم (25062). وقال عنه شعيب الأرنؤوط: إسناده جيد.
[28]. إسناده حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، رقم (1543). وقال عنه شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
[29]. حسن صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الأدب، باب: في العطاس، (13/ 252)، رقم (5019). وقال عنه الألباني: حسن صحيح.
[30].صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: ما يُذكر في الطاعون، (10/ 189)، رقم (5728).
[31].صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، (8/ 3343)، رقم (5666).
[32].صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: أجر الصابر في الطاعون، (10/ 203)، رقم (5734).
[33]. الإعجاز العلمي في لفظي المريض والممرض، د. عبد البديع حمزة زللي، بحث منشور بمجلة الإعجاز العلمي، مرجع سابق، العدد (35)، محرم 1431هـ، ص18: 25.
why do men have affairs
redirect why men cheat on beautiful women
husband cheat
online online affair