الشبهة الثانية
دعوى تناقض القرآن مع الواقع بشأن حركة الدواب (*)
مضمون الشبهة:
يدَّعي المشككون في صحة القرآن الكريم أن قوله سبحانه وتعالى:) والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي علىٰ بطنه ومنهم من يمشي علىٰ رجلين ومنهم من يمشي علىٰ أربع((النور/٤٥) يتناقض مع الحقائق الثابتة؛ إذ حصرت الآية حركة الدواب في المشي على البطن وعلى رِجْلين وعلى أربع، ولم تخبر أن من الحشرات ما يمشي على أكثر من ذلك، في حين أن 70 % من المملكة الحيوانية يسير على ست أرجل أو أكثر.
وجه إبطال الشبهة:
إن الآية الكريمة لم تحصر حركة الدواب في المشي على البطن وعلى الرِّجْلين وعلى الأرجل الأربع- كما توهم المدعون- وإنما جعلت ذلك أمثلة للحركة؛ لذلك جاءت "من" التبعيضية قبل كل نوع من أنواع الحركة للإخبار أن ذلك للبعض وليس للكل، ثم ذكر قوله: )يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير(45)( (النور) للدلالة على أن هناك أنماطًا أخرى غير ذلك، ولو عدَّد الله سبحانه وتعالى كل الأنواع لبعدت هذه الآية كل البعد عن بلاغة العرب وفصاحتهم، ولأصبحت ثقيلة من كثرة الأنماط الحركية المكررة دون أية فائدة.
التفصيل:
لم تحصر الآية الكريمة حركة الدواب في المشي على البطن وعلى رجلين وعلى أربع- كما توهم المدعون- وإنما ذكرت بعض أنواع الحركة فقط باعتبارها أمثلة لحركات الدواب؛ والدليل الصريح على ذلك أن "من" المذكورة في كل نوع من أنواع الحركة تبعيضية؛ أي: هي للبعض وليس للكل.
يقول الله سبحانه وتعالى: )والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي علىٰ بطنه ومنهم من يمشي علىٰ رجلين ومنهم من يمشي علىٰ أربع( (النور/٤٥) ؛ أي: بعض هذه الدواب يمشي على بطنه، وبعضها يمشي على رجلين، وبعضها يمشي على أربع أرجل، فحرف "من" الذي استُعمل للتبعيض ذُكر ثلاث مرات في الآية؛ وذلك للإخبار أن هذا إنما هو للبعض وليس للكل؛ إذًا فلم يحصر الله الحركة في تلك الأنماط الثلاثة فقط، وإنما ذكرها كمثال، وزاد على ذلك بأن ذكر )يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير (45)((النور)في نهاية الآية؛ مما يفيد أن هناك أنماطًا أخرى، والذي خلق المشي دون أرجل، ثم المشي على اثنين، ثم أربع- قادر على خلق المشي على مضاعفات هذه الأرقام (6- 8 ... إلخ)، فتكرار الأرقام لا يفيد كثيرًا في السياق، ولو قال الله سبحانه وتعالى: من يمشي على بطنه، ومن يمشي على رجلين، ومن يمشي على أربع، ومن يمشي على ست، ومن يمشي على ثمان، ومن يمشي على أربع وأربعين، ومن يمشي على ألف... إلخ- لو قال الله ذلك لبعد كل البعد عن بلاغة العرب وفصاحتهم، ولكن استعاض الله عن كل هذا بالبلاغة القرآنية التي صيغت بها الآية، وهذا هو جمال اللفظ القرآني وإعجازه الذي لولاه لظهرت تلك الآية لائحة ثقيلة الظل مكررة من كثرة الأنماط الحركية عديمة الفائدة ([1]).
وقد وضحت ذلك كتب التفسير، وذكرت أن "من" هنا للتبعيض، ومن هذه التفاسير ما ذكره القرطبي فقال: "ليس في الكتاب ما يمنع من المشي على أكثر من أربع، وقيل: فيه إضمار، ومنهم من يمشي على أكثر من أربع، كما وقع في مصحف أبي"([2]) ([3]).
وقال الطاهر ابن عاشور: "ورتب ذكر الأجناس في حال المشي على ترتيب قوة دلالتها على عظم القدرة؛ لأن الماشي بلا آلة مشية متمكنة أعجب من الماشي على رجلين... وليس في الآية ما يقتضي حصر المشي في هذه الأحوال الثلاثة؛ لأن المقصود الاعتبار بالغالب المشاهد.
وجملة )يخلق الله ما يشاء((النور:45) زيادة في العبرة؛ أي: يتجدد خلق الله ما يشاء أن يخلقه مما علمتم وما لم تعلموا، فهي جملة مستأنفة"([4]).
وقال الشعراوي: "والمشي: هو انتقال الموصوف بالمشي من حيز مكاني إلى حيز مكاني آخر، والناس تفهم أن المشي ما كان بالقدمين، لكن يوضح لنا سبحانه وتعالى أن المشي أنواع: فمن الدواب من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع.
وربنا سبحانه وتعالى بسط لنا هذه المسألة بسطًا يتناسب وإعجاز القرآن وإيجازه، فلم يذكر مثلاً أن من الدواب من له أربع وأربعون مثلاً، وفي تنوع طرق المشي في الدواب عجائب تدلنا على قدرته سبحانه وتعالى وبديع خلقه؛ لذلك قال بعدها: )يخلق الله ما يشاء( (النور:45) ؛ لأن الآية لم تستقصِ كل ألوان المشي، إنما تعطينا نماذج، وتحت )يخلق الله ما يشاء( (النور:45) تندرج مثلاً (أم أربعة وأربعين) وغيرها من الدواب، والآية دليل على طلاقة قدرته سبحانه وتعالى"([5]).
وما ذكره أصحاب اللغة والنحو يثبت أن "من" هنا للتبعيض ولا يصح غير ذلك؛ يقول صاحب الجنى الداني في حروف المعاني: "من" حرف جر يكون زائدًا وغير زائد؛ فغير الزائد له أربعة عشر معنى، ومن هذه المعاني: التبعيض؛ نحو قوله سبحانه وتعالى: )منهم من كلم الله( (البقرة/253)، وعلامتها جواز الاستغناء عنها بـ "بعض"، ومجيئها للتبعيض كثير([6]).
وإذا نظرنا إلى الآية التي معنا وجدنا أن العلامة التي ذكرها تنطبق عليها؛ حيث يجوز حذفها ووضع "بعض" مكانها، فنقول: فبعضهم من يمشي على بطنه، وبعضهم من يمشي على رجلين، وبعضهم من يمشي على أربع.
وهذه الآية الكريمة تدور حول بيان قدرة الله سبحانه وتعالى في عملية الخلق؛ لذلك تقدم ذكر المخلوقات التي تدل على هذا الأمر أكثر من غيرها، وهي المخلوقات التي تمشي على البطن كالأفعى، تلتها المخلوقات التي تمشي على رجلين كالطير والإنسان؛ لأنها أدل على قدرة الله من تلك التي تمشي على أربع؛ وبهذا ترتبت المخلوقات بحسب قوة العلاقة المعنوية مع موضوع الحديث، وهو قدرة الله([7]).
زواحف تمشي على بطنها
رتبة القرود تمشي على اثنين وأربع
سلاحف تمشي على الأربع
يخلق ما يشاء
والغالبية العظمى من الحشرات بذوات "دورة الحياة الكاملة"؛ أي: بيضة ثم يرقة ثم عذراء ثم حشرة كاملة، واليرقة طور مهم يستهلك قدرًا كبيرًا من فترة حياة الحشرة، وهو ما نسميه بالدودة، وفيه تتحرك الحشرة على بطنها؛ أي: إن معظم ذوات الست أرجل لهن مرحلة طويلة يتحركن فيها على بطونهن كما جاء في الآية الكريمة([8]).
وقد وضحت هذه الآية الكريمة أن طرائق تحرك الدواب هي وسيلة من وسائل تصنيفها الجيدة، وحركة الدابة هي انتقالها من مكان إلى آخر سعيًا وراء طلب الطعام والشراب، أو للهرب من الأعداء، أو للارتحال عند التغيرات البيئية إلى مكان أنسب، والطريقة الأولى التي حددتها الآية الكريمة في حركة الدواب، هي المشي على البطن، كما هو شائع في الديدان وفي العديد من طائفة الزواحف.
ومن أكبر مجموعات الحياة الحيوانية ما يُجمع تحت شعبة خاصة تُعرف باسم "شعبة مفصليات الأقدام"، التي تضم أكبر عدد من أفراد الحيوانات البحرية والأرضية وأنواعها؛ حيث يصل عدد أنواع هذه الشعبة إلى مليون وأكثر من المليون نوع، وتتميز الأفراد في شعبة مفصليات الأقدام بأقسامها المقسمة إلى عدد من الحلقات المرتبطة ببعضها البعض بمفاصل تسمح لكل منها بالحركة، وبهياكلها الكيتينية، وبأطرافها المقسمة والمفصلية والموجودة في هيئة زوجية على كل حلقة من حلقات الجسم، وهنا تتعدد الأرجل إلى العشرات بل المئات حتى الآلاف؛ ولذلك خُتمت الآية الكريمة التي نحن بصددها بقول الحق سبحانه وتعالى: )يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير(45)((النور)، تأكيدًا على طلاقة القدرة الإلهية في الخلق، وقدرته سبحانه وتعالى على البعث، وتأكيدًا على وحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه الذين خلقهم جميعًا في الأصل من الماء، وجعل حياتهم قائمة عليه بعلمه وحكمته وإرادته، حتى يكون في تنوع الخلق من منشأ واحد، وفي زوجية كاملة ما يشهد له بالوحدانية الكاملة فوق جميع خلقه([9]).
إن هذه الحقائق التي مؤداها أن الله سبحانه وتعالىخلق كل دابة من ماء، وأنه يمكن تقسيم دواب الأرض على أساس من طرائق حركتها، ووسائل تلك الحركة لم تكن معروفة في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعده، وورودها في هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها كافٍ للشهادة للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية، وحفظه حفظًا كاملاً في لغة وحيه نفسها- اللغة العربية- على مدى أربعة عشر قرنًا أو يزيد، وتعهَّد سبحانه وتعالى بهذا اللفظ إلى ما شاء الله، حتى يبقى القرآن الكريم شاهدًا على جميع الخلق إلى قيام الساعة([10]).
الخلاصة:
تتنوع حركة الدواب بين المشي على البطن، والمشي على رجلين، والمشي على أربع، والمشي على أكثر من ذلك، وقد صنَّف القرآن الكريم الدواب بناء على حركتها، وساق ذلك في أسلوب علمي بليغ، يجمع بين الوضوح والإيجاز، فذكر من أمثلة الحركة الأنواع الثلاثة التي ذكرناها باعتبارها أمثلة، ثم أعقبها بقوله سبحانه وتعالى: )يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير(45)((النور) للدلالة على طلاقة قدرته في تنويع خلقه، وجاءت "من" في قوله سبحانه وتعالى: )فمنهم(تبعيضية؛ للدلالة على عدم حصر أنواع الحركة في هذه الثلاثة.
(*) مملكة الحيوان: دعوة مفتوحة إلى حدائق الإيمان، يوسف نوفل، مكتبة الإيمان، مصر، ط1.
[1]. المرجع السابق، ص477 بتصرف.
[2]. هو الصحابي الجليل أبيُّ بن كعب.
[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج12، ص292.
[4]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، مج5، ج9، ص264.
[5]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج17، ص10300.
[6]. الجنى الداني في حروف المعاني، الحسن بن قاسم المرادي، تحقيق: د. فخر الدين قباوة ومحمد نبيل فاضل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413هـ/ 1992م، ص309.
[7]. قال سبحانه وتعالى: )وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ((النور:45) ، عزام محمد ذيب الشريدة، مقال منشور بشبكة: الفصيح لعلوم العربية www.alfaseeh.com.
[8]. مملكة الحيوان: دعوة مفتوحة إلى حدائق الإيمان، يوسف نوفل، مرجع سابق، ص477.
[9]. انظر: تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط2، 1431هـ/ 2010م، ج2، ص310: 316.
[10]. من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1428هـ/ 2007م، ص340.
read
go want my wife to cheat
go
link how long for viagra to work