دعوى أن آدم ليس أبا البشر(*)
مضمون الشبهة:
يتوهَّم بعض المفكرين أن آدم عليه السلام ليس أبًا للبشر، ولم يكن أول بشر خلقه الله سبحانه وتعالى على هذه الأرض، ولا هو أوَّل مخلوق عاقل من غير الملائكة والجن، وإنما هو أبو الإنسان، وأن الله سبحانه وتعالى خلق قبله من جنسه خلائق كثيرين عاشوا قبل آدم هذا ملايين السنين، وكانوا في تلك الأزمان خاضعين للتصرف الإلهي من التسوية والتعديل والتهذيب ثم انقرضوا جميعًا بعد أن انتخب الله آدم من أب وأم منهم، كما انتخب ـ حواء زوجة آدم ـ من أب وأم كذلك من آخر أجيال البشر الأولين، وأن آدم وحواء وحدهما هما اللذان بقيا ليكونا أبوين لنوع جديد من ذلك الجنس الذي انقرض.
ويستدلون على ذلك بقول الله سبحانه وتعالى على لسان الملائكة:)أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء( (البقرة: ٣٠)، فالملائكة لا يعلمون الغيب، فكيف عرفوا أن أولاد آدم سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، لو لم يروا ذلك من قبل آدم من جنسه. كما يستدلون على زعمهم هذا ببعض الحفريات القديمة التي ترجع إلى أكثر من مليون عام، الأمر الذي يدل على وجود بشر قبل الإنسان الذي لا يتجاوز عمره على الأرض أربعين ألف سنة.
ويحاولون التفريق بين لفظي بشر وإنسان في القرآن الكريم؛ لإثبات هذه الفكرة، فالبشر هو السابق على خلق الإنسان الذي جاء من آدم عليه السلام والبشر قوم أقلُّ إدراكًا وعلمًا وعقلًا وتكليفًا؛ وتم انتخاب آدم وحواء منهما بعد انقراضهم، وجاء الإنسان من آدم وحواء أكثر علمًا وإدراكًا.
ويخلصون من هذا إلى إثبات أن آدم ليس أبًا للبشر، وليس أوَّل مخلوق منهم على وجه الأرض.
وجوه إبطال الشبهة:
1) على الرغم من أن قضية خلق الإنسان تُعدُّ من أكثر القضايا غموضًا وخفاء في سبيل البحث العلمي؛ حيث تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، إن لم تخرج من دائرة الوعي التاريخي ذاته، ويُعتمد في تحديدها على مجموعة من الفرضيات العلمية التي تفتقد الدليل القاطع على صدقها ـ إلا أنها جاءت واضحة في القرآن الكريم، وقريبة من الفهم المنطقي والقانون العقلي لها؛ حيث تُعرض القضية واضحة؛ إذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم من طين، ثم سوَّاه ونفخ فيه من روحه وخلق منه حواء، وأنزلهما إلى الأرض ومنهما تكاثر الخلق، وازداد النسل بصورته الطبيعية بين الذكر والأنثى، وهذه بداية الخلق، ولم يكن هناك قبله بشري على الأرض.
أما عن قول الملائكة لله سبحانه وتعالى: ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء( (البقرة: ٣٠)؛ فإنه لا يصح دليلًا على وجود بشر قبل آدم عليه السلام؛ فقد يكون قياس الملائكة على خلق آخر سكن الأرض قبل الإنسان وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء مثل الجن، أو أن الله سبحانه وتعالى أخبر الملائكة بفساد هذا الخلق الذي يخلقه. ومن ثم؛ قالوا ذلك، أو أنهم فهموا من لفظ خليفة أن هذا يقع فيهم؛ لأن الخليفة هو الذي يأمر بالإصلاح.
2) إن الحفريات القديمة قريبة الشبه بالإنسان، التي تعود لأكثر من مليون سنة لا تدلُّ بحال على وجود بشر على الأرض قبل آدم عليه السلام؛ لأنها لا تميز بصدقٍ الأصلَ الوراثي لهذه الحفرية؛ فقد تكون لمخلوق قريب الشبه بالإنسان مثل بعض القرود، فلا يمكن للحفرية أن تثبت أن هذا المخلوق هو الإنسان، وبذلك فإنها لا تصحُّ دليلًا قاطعًا في هذا الصدد.
3) إن قضية التفريق بين لفظي بشر وإنسان من ناحية مدلولهما على الخلق، وإثبات أن هناك بشرًا عاش على الأرض قبل آدم عليه السلام ـ قضية ضعيفة تفتقد الدليل المنطقي على إثباتها؛ فلفظا بشر وإنسان مدلولهما واحد ولا فرق بينهما في المعنى، وقد استخدم القرآن الكريم اللفظين في دلالة واحدة، وعبَّر بالصفات نفسها فيهما من الخلق من الطين والإدراك والفهم والتكليف، وبهذا لا تصح هذه التفرقة بين لفظي البشر والإنسان لإثبات وجود بشر قبل آدم عليه السلام.
التفصيل:
أولا. آدم هو أبو البشر جميعًا:
لم تشغل قضية من القضايا فكر الإنسان منذ أن نشأ على هذه الأرض مثل شغله بقضية الخلق، وخلقه خاصة، كيف بدأت هذه العملية؟ وكيف كانت طبيعتها الأولى؟ وكيف تكاثر الخلق على هذا النحو؟ وإلى أي مدى يرجع هذا الخلق؟
تساؤلات عديدة تدور بخَلد الإنسان حول قضية خلقه، وتتضارب الآراء حينًا وتغوص في خيال العقل حينًا، وتفتقد الدقة والتحديد أحايين، ويبقى الدليل العلمي فيها قائمًا على بعض الترجيحات والتوقعات التي لا ترقى لدرجة اليقين العلمي، والقول الحاسم.
والمسألة بين أيدينا تقوم على جانبين؛ جانب نصي أخبر القرآن الكريم به، وجانب علمي بحثي، أخبرت به الحفريات والأبحاث العلمية الحديثة.
وأمر خلق البشر يرتدُّ في أذهاننا جميعًا إلى آدم عليه السلام الذي خلقه الله سبحانه وتعالى بيديه وكرمه، وخلق حواء من جنبه، وأنزلهما إلى الأرض، ومنهما تكاثرت البشرية، وجاء الخلق على هذا النحو، وأن آدم هو أول مخلوق بشري على وجه الأرض، ولم يسبقه بشر آخرون، وهذا ما ظهر واضحًا من خلال النصوص الشرعية في حديثها عن هذا الخلق؛ حيث تُرجع خلق البشر جميعًا إلى آدم عليه السلام الذي خلقه الله في الجنة، ثم أنزله الله إلى الأرض، وجعله فيها خليفة، وخلق منه حواء، ومنهما تكاثر الخلق وحدثت الزوجية.
ولم يأت في النصوص الشرعية ما يخالف ذلك، أو يبين أن هناك بشرًا خُلق قبل آدم عليه السلام، وهذا توضِّحه الآيات، قال سبحانه وتعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30)( (البقرة)، وقال سبحانه وتعالى: )وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (36)((البقرة)، وقال سبحانه وتعالى:)يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ( (النساء: ١)، وقال سبحانه وتعالى:)هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها( (الأعراف: ١٨٩)، وقال سبحانه وتعالى:)يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم( (الحج: 5)، وقال سبحانه وتعالى:)ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة( (المؤمنون).
آيات قرآنية كثيرة في هذا السياق تتحدَّث عن خلق الإنسان وتُرجع هذا الخلق إلى أصل واحد، ذلك الخلق الذي خلقه الله سبحانه وتعالى من طين وسواه ونفخ فيه من روحه، وخلق منه زوجه، وخلق ذريته من بعده على طريقة التناسل المعلومة من اجتماع الرجل والمرأة.
هذه هي الفكرة التي يعرضها القرآن الكريم على صفحاته عن بداية خلق الإنسان، ونزوله إلى الأرض وتكاثره؛ فقد خُلق من نفس واحدة وخلق منها زوجها، ومنهما خلق الناس رجالًا ونساء، وهي فكرة منطقية لا غبار عليها، ولا يعترض عليها العقل البشري في شيء.
وعلى هذا؛ فإن آدم هو أبو البشر جميعًا وهو أصلهم الذي يعودون إليه، هذا ما جاء به القرآن وما يتضح من خلال آياته الكثيرة في هذا الشأن.
ولكن يبقى السؤال: هل كان آدم أول إنسان ظهر على الأرض أم كان قبله بشر آخرون؟
لقد طرح بعض العلماء هذا السؤال وحاولوا الإجابة عنه، وبعضهم حاول أن يأتي بأدلة على أن آدم لم يكن أول بشر ظهر على هذه الأرض، بل كان قبله بشر آخر، وهذه الأقوال لا تخرج عن كونها مجازفة لا تجد الدليل العلمي على صحتها.
وقال بعض العلماء: إن الدليل على وجود بشر قبل خلق آدم عليه السلام أن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يخلق آدم وأخبر الملائكة بذلك، قالوا: ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء( (البقرة:30)، إنهم لا شك قاسوا ذلك على ما شاهدوه من بشر خلقهم الله قبل آدم، وكانوا من ذرية آدم آخر.
وظهر من المفكرين من قال: إنهم وجدوا الدليل على هذا من خلال ما اكتُشف من الأحافير القديمة، لعظام وجماجم بشرية، منها أحفورة إنسان سابيان وعمرها 130 ألف سنة، وأحفورة إنسان روديسيا وأحفورة إنسان هيدلبرج، واكتشفت أحفورة إنسان كينيا وقُدِّرَ عمره بنحو مليون وتسع مئة ألف سنة.
في عام 1972م نشر ريتشارد ليكي أحد علماء الأنثروبولوجي (علم الإنسان) أنه اكتشف في كينيا بقايا جمجمة، يرجع تاريخها إلى مليونين ونصف المليون من السنين، وهو أقدم أثر لبني البشر، وزعم تشارلز داروين في القرن التاسع عشر أن الإنسان الحالي انحدر من سلالة القردة وأنه كان يمشي على أربع منذ مليون سنة مضت، ثم انتصب على قدميه بعد ذلك، إلا أن نظرية ريتشارد ليكي عارضته بشدة، وأكَّدت أن الإنسان كان يمشي منتصب القامة منذ مليونين ونصف المليون من السنين، وندرك نحن من قراءة القرآن الكريم وقصص الأنبياء فيه أن آدم لا يتجاوز الثلاثين ألف سنة مضت.
وزعم قوم آخرون أن ما قالته الملائكة لربهم عند خلق آدم يدلُّ على أنهم شاهدوا آدم آخر من قبل، وشاهدوا نسله منتشرين في الأرض، يفسدون فيها ويسفكون الدماء، ويدعم هذا الرأي ـ في نظر بعض المفكرين ـ أن الأحافير القديمة مثل أحفورة جاوة أو أحفورة روديسيا وغير ذلك من الأحافير القديمة تشير إلى أكثر من آدم ظهر على هذه الأرض، قبل آدم الذي جاء ذكره في القرآن الكريم، وأن آدم الذي نعرفه ليس هو أول البشر([1]).
هذا نوع من الآراء والأدلة التي يعرضها بعض المفكرين في سبيل إثبات وجود بشر على الأرض قبل آدم عليه السلام.
وهذه أنأكثر من آدم ظهر علىهذه الأرأكثر من آدم ظهر على هذه الأرضالأقوال مردودة بما يأتي:
إن قول الله سبحانه وتعالى على لسان الملائكة: ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء((البقرة:30)،لا يلزم منه وجود بشر سابقين على آدم عليه السلام قاموا بالقتل والإفساد في الأرض، وعليه قال الملائكة قولهم، فلعل هذا القول يرجع إلى فعل الجن، وقياس الملائكة هذا المخلوق على فعل الجن من الإفساد في الأرض وسفك الدماء، أو أن الله سبحانه وتعالى قد أخبرهم عما سيفعله هذا المخلوق في الأرض من هذه الأفعال، أو يرجع لتوقُّع الملائكة معنى خليفة، وهذا ما ذهب إليه جُلُّ المفسرين عند تفسير الآية، ولم يذهب واحد منهم إلى أن ذلك راجع لخلقٍ من البشر قبل آدم سكنوا الأرض، وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقاس الملائكة المخلوق الجديد آدم على أفعالهم.
يقول ابن كثير: "فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صَلْصَال من حمإ مسنون، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردُّ عنهم المحارم والمآثم ـ قاله القرطبي ـ أو أنهم قاسوهم على من سبق، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك".
ويقصد ابن كثير بـ "من سبق" الجن؛ حيث إنه أورد أقوال المفسرين ورواياتهم في أن الجن لما أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء بعث الله إليهم إبليس فقتلهم ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، ثم خلق آدم فأسكنه الأرض؛ ولذلك قالت الملائكة: )أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء( (البقرة:30) ، قياسًا على الجن([2]).
وقال الإمام القرطبي عند تفسير هذه الآية: قد علمنا قطعًا أن الملائكة لا تعلم إلا ما أُعْلِمت ولا تَسْبق بالقول، وذلك عام في جميع الملائكة؛ لأن قوله: )لا يسبقونه بالقول( (الأنبياء:27) ،خرج على جهة المدح لهم، فكيف قالوا)أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء((البقرة:30)، فقيل: المعنى أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد؛ إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد، لكن عمَّموا الحكم على الجميع بالمعصية، فبيَّن الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد، فقال تطييبًا لقلوبهم: )قال إني أعلم( (البقرة: ٣٠)، وحقق ذلك بأن عَلَّم آدم الأسماء، وكشف لهم عن مكنون علمه.
وقيل: إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء؛ وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورءوس الجبال، فحينئذٍ دخلته العزة، فجاء قولهم: ) أتجعل فيها((البقرة:30)على جهة الاستفهام المحض: هل هذا الخليفة على طريقة من تقدَّم من الجن أم لا؟ قال أحمد بن يحيى ثعلب، وقال ابن زيد وغيره: إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا لذلك هذه المقالة([3]).
هذا ما ذهب إليه المفسرون في تفسير هذه الآية، وتوضيح معنى قول الملائكة:) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء((البقرة:30)، ولم يقل أحد منهم إن الملائكة رأوا ذلك من بشر كانوا قبل آدم عليه السلام؛ فقالوا ذلك عن الخلق الجديد.
وعلى هذا؛ فالآية لا تدل بمضمونها على ضرورة وجود بشر قبل آدم أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء. ومن ثم؛ قال الملائكة عن آدم وذريته أنهم سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وقاسوا على هذا البشر المتقدم؛ فقد عاين الملائكة هذا من الجن في الأرض قبل البشر، وربما فهموا ذلك من معنى لفظ خليفة، وربما أخبرهم الله سبحانه وتعالى أن هذا الخلق سيكون منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، وليس شرطًا أن يكونوا رأوا ذلك من بشر آخرين قبل آدم؛ بل هي من الأدلة على أن آدم أوَّل البشر على الأرض.
ثانيًا. الأحافير القديمة لا تدل على وجود بشر قبل آدم عليه السلام:
إن بعض المفكرين الذين ذهبوا إلى وجود بشر على الأرض قبل آدم عليه السلام، مثبتين ذلك بوجود بعض الأحافير القديمة التي يرجع عمرها لأكثر من مليون ونصف المليون سنة ـ أيضًا يعوزهم اليقين العلمي في إثبات هذا الأمر، ويظل رأيهم حول هذه المسألة حبيس النظر أو الخيال العلمي الذي لايخرج إلى حيز الواقع أو الإثبات العلمي؛ وذلك لأن الأحفورة لا تثبت يقينًا ـ بحال من الأحوال ـ أنها لبشر كان قبل آدم على الأرض، فربما ترجع هذه الأحفورة لحيوان آخر أو لنوع من القرود وليس بالضرورة لإنسان.
فالأحافير القديمة لا تدل على وجود آدم آخر قبل آدم الذي نعرفه؛ لأن الأحافير هي أشكال صخرية أو معدنية لمخلوقات طُمرت في الأرض زمنًا طويلًا، فاستُبْدِل السيلكون أو أملاح معدنية أخرى في الصخور بالمواد العضوية في الجسم المطمور. ومن ثم؛ لا يمكن أن نقطع برأي علمي عن الأصل الوراثي للأحفورة، إن كانت لإنسان أو لنوع من القرود قريب الشبه بالإنسان.
ويتعرف العلماء على نوع الأحفورة من شكلها الخارجي فقط، ولكن هذا التعرف ليس مؤكَّدًا علميًّا؛ إذ يستحيل على العلم أن يتعرَّف على جنس المخلوق ونوعه إلا بفحص شفرته الوراثية الموجودة في نواة خلية من خلاياه، ولما كانت الخلايا قد تحلَّلت تمامًا واختفت، وحلَّ محلها عناصر من صخور الأرض؛ فإن العثور على أحفورة وفحصها لا يعيننا أبدًا على التعرف على خلقها علميًّا أو تحديد نوعها وراثيًّا.
ومن هنا تبدو حقيقة لا أدري لماذا خفيت على كثير من الباحثين؛ وهي أن العثور على أحفورة تشبه جسم الإنسان لا يمكن أن نثبت علميًّا أنها لإنسان أو لقرد أو لمخلوق آخر يمشي على أقدامه؛ لذلك ينبغي أن يدرك أي عالم من العلماء أن الأحافير التي اكتشفها العلماء، ومنهم "كوينجسفالد" سنة 1941م عن اكتشافه لقطعة من الفك السفلي لمخلوق إنساني عملاق ـ هو اكتشاف لأحفورة، لا يمكن أن نقطع علميًّا بأنها لإنسان؛ إذ يستحيل علينا أن نفحص الحامض النووي فيها، وقال العالم "جوهانز هورذلر" سنة 1856م أنه عثر على فك إنسان يرجع تاريخه إلى عشرة ملايين سنة، ومن أين عرف أنه إنسان؟
وفي سنة 1972م اكتشف "ريتشارد ليكي" ـ أحد علماء الأنثروبولوجي (علم الإنسان) في كينيا بقايا جمجمة يرجع تاريخها إلى مليونين ونصف المليون عام، وقال إنها أقدم أثر من نوعه للإنسان الأول.
ولكن من أدراه أنها جمجمة إنسان؟! لا يقطع بذلك إلا علم الوراثة، وعلم الوراثة لا دخل له مطلقًا في تحديد جنس الأحافير، لذلك يمكننا القول بأن تلك الجمجمة هي لمخلوق يشبه الإنسان في الشكل الخارجي، ولم يكن إنسانًا؛ إذ لا يمكننا أن نصدق أن آدم عاش قبل عشرة ملايين سنة أو حتى مليونين من السنين([4]).
وعلى هذا؛ فإن الأحافير العلمية لا تثبت بيقين وجود بشر قبل آدم عليه السلام، ولا تفي بدليل قاطع على ذلك، وأن الأحفورات التي تم اكتشافها، وترجع إلى ملايين السنين ليس بالضرورة أن تكون أحفورات بشرية، كانت موجودة في هذا الزمن البعيد، فربما تكون لمخلوقات أخرى أو لجنس من الحيوانات الشبيهة بالإنسان كأنواع القرود والشمبانزي، فلا تدل بيقين على وجود بشر على الأرض قبل آدم عليه السلام.
ثالثًا. البشر هو الإنسان:
إن بعض المفكرين حاولوا التفرقة بين لفظي بشر وإنسان، وحاولوا إثبات أن آدم أبو الإنسان، وهو مصطفًى من البشر الذين عاشوا على الأرض من قبله، وهو لأب وأم منهم، وحاولوا إثبات الفروق بين البشر والإنسان، وأن الإنسان أكثر إدراكًا وعلمًا من البشر؛ فقد جاء بعد مرحلة من التسوية والتهذيب والتعديل لهؤلاء البشر على الأرض، ثم انقرض هذا الجنس البشري، وبقي آدم وحواء ومنهما جاء الإنسان وتكاثر إلى هذه الساعة.
وأهم الفروق عندهم بين البشر والإنسان هي:
1. البشر قوم همجيون لا سمع ولا بصر لهم ولا عقل؟!
2. الإنسان هو النوع المنتخب المهذَّب الراقي، له سمع وبصر وعقل.
3. البشر لم يرسل الله فيهم رسولًا، ولم يكونوا من أهل التكليف الإلهي، فلا إيمان بالله، ولا أوامر ولا نواه كلَّفهم الله بها؛ لأنهم بمثابة مشروع إلهي تحت التنشئة، ينتقلون بصنع الله من طور إلى طور آخذين في الصعود نحو الرقي والكمال، وهذا هو ما قاله دعاة نظرية النشوء والارتقاء أو الانتخاب الطبيعي من قبل، وأن البقاء للأصلح.
4. البشر مخلوقون من تراب أو طين.
5. الإنسان مخلوق من ماء أو من علق أو من نطفة([5]).
هذه دعوى أخرى قال بها بعض المفكرين، وهي دعوى غريبة وتحتاج إلى أدلة قاطعة عليها، وإلا عُدَّت وهمًا من الأوهام، والأدلة في هذا المجال لا ثبوت لها، لأنه مجال الغيب، وخارج عن ذاكرة الوعي التاريخي، وهو أشد الأمور الغيبية غموضًا، وكل حديث عنه يخوض فيه الباحثون، إنما هو رجم من الغيب، وضرب من الظنون والأوهام التي لا تغني عن الحق شيئًا.
إن قوام هذه الفكرة يعود إلى تطور خلق الإنسان؛ فكان في بداية الأمر عبارة عن بشر مخلوق من تراب ثم انقرض تمامًا إلى إنسان مخلوق من ماء، وهو الذي أسجد الله له الملائكة، وكلَّفه بعبادته وأرسل إليه رسله.
وقد حاول هؤلاء الباحثون الرجوع إلى آيات القرآن الكريم واستنطاقها، لإثبات هذه الفكرة على نحو ما دارت بعقولهم.
ونجيب عن هذه الفكرة بما يأتي:
أولًا: خلق البشر من طين والإنسان من ماء:
تمثَّلت هذه الفكرة عند أصحابها في أن البشر خلقهم الله قبل خلق الإنسان، وأن البشر همج لا سمع لهم ولا بصر ولا عقل .
أما الإنسان فإن الله أوجده عن طريق الانتخاب أو البقاء للأصلح بعد أن محا وجود البشر من على ظهر الأرض، وأن البشر مخلوق حيواني بحتٌ من تراب، أما الإنسان فهو نوع مهذب من الخلق، وأبوهم آدم المولود من أب وأم من آخر سلالة البشر قبل انقراضهم، فآدم أبو الإنسان ليس مخلوقًا من تراب؛ بل المخلوق من تراب هو أبو البشر الذين انقرضوا.
ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) ( (ص) ([6]).
إن التفرقة بين البشر والإنسان على هذا النحو تفرقة غير منطقية ولا دليل عليها؛ فلفظ البشر والإنسان لهما مدلول واحد هو ذلك الخلق الذي خلقه الله سبحانه وتعالى بيده، وهو آدم عليه السلام، فهو أوَّل بشر وأوَّل إنسان على السواء، ولا فرق بينهما.
فكلمة بشر مرادفة لكلمة إنسان بشكل لا لبس فيه، ويتبيَّن هذا من معاجم اللغة، وهو معلوم من اللغة بالضرورة.
كما أن الدليل الذي حاولوا أن يثبتوا به هذه الفكرة لا يدل بحال من الأحوال على هذه التفرقة، بل يدل على عكس ذلك؛ فالحديث بين الله والملائكة هنا بصيغة المستقبل؛ فالآية تدل على الحال أو الاستقبال أو هما معًا، والدليل على هذا أن اسم الفاعل "خالق" عَمِل عمل فعله المضارع ونصب المفعول بعده وهو بشرًا، فمعناه في الآية: يخلق، أما إذا كان بمعنى الفعل الماضي فلا يعمل بل يضاف إلى مفعوله ويُجرُّ مفعوله بالإضافة([7]).
وعلى هذا فدلالة المعنى أن الله لم يخلق البشر بعد، وأن جواب الملائكة بقولهم:)أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء((البقرة:30)، لا يعود على البشر قبل آدم، بل يعود على الجن أو غيره كما سبق أن ذكرنا.
كما أن الأدلة من القرآن واضحة على أن آدم خلق من تراب أو طين، وليست تفرقة هنا بين البشر وآدم عليه السلام في مادة الخلق؛ فقد قال الله سبحانه وتعالى:(آل عمران).
فهذا يدلُّ بوضوح على أن الله خلق آدم خلقًا مباشرًا من الطين وهو أبو الإنسان على حدِّ زعمهم، فأين الفرق بين البشر والإنسان في هذا الخلق، كما قال الله عز وجل:)خلق الإنسان من صلصال كالفخار (14) ((الرحمن).
وهي آية صريحة في النص على أن الإنسان خُلق من صلصال كالفخار، وهو الطين اللزج له صوت رنين، وعلى هذا فالبشر هو الإنسان لا فرق، وكلاهما خلق من طين.
وكلمة "بشر" فيالقرآن الكريم استعملت في المعاني الآتية:
أ-بمعنى رجل: ومن الشواهد على هذاالمعنى ما ورد في قوله سبحانه وتعالى:)قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر( (آل عمران: 47)، وهو المعنى الذي نجده في الآيات:
1. )وقلن حاش لله ما هذا بشرا( (يوسف: ٣١).
2. )ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103)( (النحل).
3. )فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) ( (مريم).
4. )قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20) ( (مريم).
5. )فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26)((مريم)، ونلاحظ هنا كلمتي "البشر" و "إنسيا"، فهما يدلان على شيء واحد ولا فرق بينهما.
فهذه الآيات دلَّت على أن لفظ البشر يطلق على الإنسان بل على معنى الرجل، فكيف تصح التفرقة بين اللفظين هنا، كما أن هذه الآيات تدل على أن البشر على درجة من التطور والتأهيل لتلقي العلم والتفكير والتذكُّر وغيرها من طرق الإدراك العقلي والعلمي؛ الأمر الذي يكذِّب أيَّة تفرقة بين البشر والإنسان في الخلق.
فلفظ "البشر" يرد في مجال التكليف كقوله سبحانه وتعالى:)وما هي إلا ذكرى للبشر (31)((المدثر)، وقوله: )نذيرا للبشر (36)((المدثر)، فهذا يدل على أن البشر "يُنذَرون" و"يُذكَّرون"، وهو مما يدل على اكتمال مؤهلاتهم العقلية واللغوية أيضًا، وأنهم وصلوا إلى مرحلة التكليف التي تدل على مستوى "الإنسان" في اعتقاد هؤلاء المفكرين. لذلك؛ فإن تمييزهم بين الكلمتين باطل عاطل لا معنى له.
بل إن كلمة "بشر" لا يمكن أن تفهم في بعضالآيات إلا على أنها تدلُّ على "الرجل"، وذلك في مثل قوله سبحانه وتعالى: )قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20) ((مريم)، فمنالواضح أن مريم عليها السلام تستغرب أن تلد غلامًا من غير أنيمسَّها رجل؛ إذ لا يمكن أن تخاف من أن تمسها امرأة في هذا السياق.
يضاف إلى ذلك أنهذه الآية تصوِّر حدثًا وقع في زمن يدخل فيما يطلق عليه "زمن التكليف"؛ أي إنه وقع في طور "الإنسان"، لا طور "البشر"، إذا استعملنا مصطلحاتهم. فاستخدام كلمة "بشر" في هذه الآية ينفي المعاني التي يراها المفكرون لهذه الكلمة؛ وهي بذلك دليل ضد فرضيتهم التي تحصر مفهوم كلمة "بشر" على الطور الذي سبق الإنسان المكلف. كما أن الآيات الكريمات الأخرى تدل دلالةأكيدة على أن المقصود إنما هو الإنسان الذَّكر؛ أي الرجل.
ب- بمعنى "نبي" أو "أنبياء": حيث تأتي كلمة "بشر" كذلك في سياق الحديث عن الأنبياء عليهم السلام؛ وذلكفي وصف الله سبحانه وتعالى للأنبياء بأنهم من جنس الإنسان. كما تأتي في وصفالأنبياء لأنفسهم بأنهم من بني الإنسان وإنما فُضِّلوا على غيرهم بالاختصاص بالرسالة. وتأتي كذلك في الدلالة على استنكار أقوام الأنبياء أن يرسل الله سبحانه وتعالى رجالًا منهم أنبياء. وقد حدث كل ذلك في الفترة التي يمكن أن تُسمَّى بفترة طور "الإنسان"، وذلك كما في قوله سبحانه وتعالى:)ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79)( (آل عمران).
ج- وهذا هو المعنى الذي نجده كذلك في الآيات الآتية:
1. ) وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون (91)((الأنعام)، فموسى هنا من جنس البشر.
2. )قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين (10)( (إبراهيم).
3. )قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11) ( (إبراهيم).
4. )قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)((الكهف) .
5. )لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون (3) ( (الأنبياء).
6. )وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون (34)( (الأنبياء).
7. )فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (24) ( (المؤمنون).
8. )ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون (34) ( (المؤمنون).
9. )ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين (154) ( (الشعراء).
10. )وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين (186) ( (الشعراء).
11. )قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون (15)( (يس).
12. )قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين (6)( (فصلت).
13. )وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51) ( (الشورى).
14. )ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد (6)((التغابن).
15. )فقالالملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين (27) ( (هود).
16. )أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93) ( (الإسراء).
17. )وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94) ( (الإسراء).
18. )ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون (34) ( (المؤمنون).
19. )فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون (47) ( (المؤمنون).
20. )فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر (24) ( (القمر).
د- وتأتي كلمة "البشر" في الدلالة على آدم؛ أو على عموم أفراد بني الإنسان، فيما يتصل بالخلق، كما في قوله سبحانه وتعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون (28) ( (الحجر)، وهو المعنى الذي في الآيات:
1. )قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون (33) ( (الحجر).
2. )إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) ( (ص).
3. )وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا (54) ((الفرقان).
4. )ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20)( (الروم).
ه- وتأتي في الدلالة على بني الإنسان عمومًا فيما لا يتصل بالخلق، كما في قوله سبحانه وتعالى:)وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير (18) ((المائدة)، وهو المعنى الذي في الآيات:
1. )إن هذا إلا قول البشر (25)( (المدثر) .
2. )وما هي إلا ذكرى للبشر (31)( (المدثر) .
3. )نذيرا للبشر (36)( (المدثر) .
ومن الواضح أن كلمة "بشر" منكَّرة ومعرَّفة، في هذه الآيات الكريمات إنما تنصرف إما إلى "الرجل" أو إلى أفراد من جنس الإنسان في الطور الذي يمكن أن يُسمَّى بطور التكليف.
هذه الكلمة في بعض الآيات لا تدل إلا على "الإنسان" في الفترة التاريخية لبني الإنسان، ومن أوضح الآيات دلالة في هذا المعنى الآية التيوردت في سورة مريم، وهي قوله سبحانه وتعالى:) فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26) ((مريم).
وكما هو واضح في هذه الآية؛ فإن مريم عليها السلام تستطيع رؤية"البشر"، وهو ما يعني أنهم الذين كانوا يعيشون في تلك الفترة التاريخية، ثم إنه لما لم يكن لكلمة "البشر" مفرد من لفظها؛ فقد استعمل القرآن الكريم وصفًا من المادة اللغوية التي جاء منها لفظ "الإنسان" وهو "إنسي"، وما دام أن كلمة "إنسي" استخدمت وصفًا لـ "البشر"؛ فإن هذا يدل دلالة أكيدة على أن "البشر" مرادف لـ "الإنسان"، وأنفرضية المؤلف التي تقوم على التمييز بينهما في الدلالة لا تصح.
ويدَّعي هؤلاء المفكرون أن الإنسان "تطور" عن البشر، ونقول: إن لفظ "الإنسان" وردفي حديث القرآن عن قصة الخلق مسبوقًا وملحوقًا بالكلمات نفسها التي وردت مع اللفظ "بشر"، وذلك في مثل قوله سبحانه وتعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (26)( (الحجر), )وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون (28) ( (الحجر).
وهذا يدل بوضوح على اتفاق كلمتي البشر والإنسان على مدلول واحد؛ ولا يصح بحال من الأحوال التفرقة بينهما، وليس في اختلاف اللفظين دليل على وجود خلق قبل آدم عليه السلام([8]).
وعلى هذا تبقى قضية خلق الإنسان المتمثلة في صورتها المنطقية الموضحة في القرآن الكريم من أن الله خلق آدم بيده من طين، وخلق منه حواء، وأهبطهما إلى الأرض، ومنهما تكاثر الخلق، وانتشرت البشرية ـ هي المقبولة عقلًا وشرعًا وتبقى الفرضيات الفكرية خارج هذه الحقيقة ضربًا من الظنون والأوهام التي تفتقد الدليل المنطقي عليها، ولا تثبتها حجة مقنعة.
الخلاصة:
· ليس هناك أدلة قاطعة على وجود بشر على الأرض قبل آدم عليه السلام، وقول الله سبحانه وتعالى على لسان الملائكة: )أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء((البقرة: 30) لا يلزم منه وجود بشر سابقين على خلق آدم؛ فلعل الإفساد وسفك الدماء يرجع إلى فعل الجن على الأرض قبل وجود الإنسان؛ ومن ثم قاس الملائكة فعلهم على ذلك المخلوق الجديد، وربما أخبرهم الله بما سيكون من هذا الخلق، أو لفهمهم من لفظ خليفة أنه الذي يفصل في المنازعات والإصلاح وترك الإفساد.
· كما أن الأحافير القديمة لا تدل على وجود خلق بشري قبل آدم عليه السلام؛ لأن الأحافير العلمية لا تثبت بيقين حقيقة الأصل الوراثي لها؛ فقد تكون لنوع من القرود قريبة الشبه بالإنسان، فليست بالضرورة أن ترجع للإنسان في هذا الزمن، وإنما يتعرَّف العلماء على الأحفورة من خلال شكلها الخارجي فقط، فهذا التعريف ليس مؤكدًا علميًّا؛ إذ يستحيل على العلم أن يتعرف على جنس المخلوق ونوعه إلا بفحص شفرته الوراثية الموجودة في نواة خلية من خلاياه، وهذا ما لا يوجد على الإطلاق في الأحافير. ومن ثم؛ لا يمكن بحال الوصول إلى يقين في تحديد جنس الأحفورة ونوعها وراثيًّا، وهكذا لا تصح الأحفورة دليلًا علميًّا على وجود بشر قبل آدم عليه السلام؛ فقد تكون هذه الأحافير راجعة إلى حيوانات شبيهة الشكل بالإنسان كبعض أنواع القرود.
· وكذلك؛ فإن محاولة التفرقة بين لفظي بشر وإنسان لإثبات وجود خلق بشري قبل آدم عليه السلام، كان أقل إدراكًا وعقلًا ثم انقرض هذا الخلق واصطفى الله منه آدم وحواء ومنهما جاء الإنسان المدرك الواعي ـ هي محاولة ضعيفة تفتقد الحجة والدليل المنطقي؛ حيث إن لفظي البشر والإنسان كلاهما يدلَّان على شيء واحد هو المخلوق البشري، ولا تصح التفرقة بينهما في هذه الدلالة؛ فقد ذكر القرآن الكريم كثيرًا من الصفات والميزات التي اشترك فيها لفظا البشر والإنسان على السواء، فكلاهما مخلوق من طين صلصال كالفخار، واستعملت كلمة بشر في معنى رجل وفي معنى النبي، وقد دلَّت أيضًا على آدم نفسه، ودلت على بني الإنسان عمومًا؛ فهذا يدل بوضوح على أن مفهوم اللفظين واحد، ولا فرق في هذه الدلالة على خلق من البشر دون خلق.
(*) الكون والقرآن، محمد علي حسن الحلي، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 2010م. أبي آدم: قصة الخليقة بين الخيال الجامح والتأويل المرفوض، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1419هـ/1999م.
[1]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج2، ص31- 32.
[2]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج1، ص69.
[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج1، ص274.
[4]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج2، ص32- 33.
[5]. أبي آدم: قصة الخليقة بين الخيال الجامح والتأويل المرفوض، د. عبد العظيم المطعني، مرجع سابق، ص8.
[7]. المرجع السابق، ص24 بتصرف.
[8]. الرد على الدكتور عبد الصبور شاهين، الزيف الاشتقاقي ونظرية داروين والقرآن الكريم، يحيى رضا جاد أبو المجد، مقال منشور بمنتدى: التوحيد، قسم الحوار عن المذاهب الفكرية www.eltawhed.com.
husband cheat
online online affair