دعوى خطأ القرآن في إخباره عن طور المضغة (*)
مضمون الشبهة:
يواصل المغرضون طعونهم وتشكيكاتهم حول مراحل خلق الجنين وأطوار تكوينه، فيدعون خطأ القرآن الكريم في الإخبار عن طور المضغة في خلق الجنين في قول الله تعالى: )يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم((الحج: ٥). زاعمين أن المعنى اللغوي لكلمة مضغة لا يدل بأي حال على الجنين في هذه المرحلة، فما هو بقطعة لحم، ولا يشبه اللحم في اللون ولا في الهيئة، ولا يوجد عليه ما يشبه الأسنان، ولا شيء مما يجعله شبيهًا بالمضغة، ولا حتى من حيث الحجم؛ إذ إن حجمه في هذه المرحلة حوالي 1 سم.
وإنما جاء القرآن بهذا المصطلح تقريبًا لمفهوم هذه المرحلة لأذهان العرب في وقت نزوله؛ لأن المشاهد بالعيان أن المرأة إذا سقط حملها في هذه المرحلة يكون كقطعة اللحم الممضوغة، وهذا ما لا إعجاز علمي فيه، ولا حقيقة علمية ظاهرة.
وهم يخلصون بهذا إلى نفي إعجاز القرآن الكريم في الإخبار عن مرحلة المضغة في خلق الجنين، بل يثبتون خطأ القرآن وقصوره عن حقيقة هذه المرحلة.
وجه إبطال الشبهة:
أكدت الأبحاث العلمية الحديثة أن الجنين في مرحلة المضغة يأخذ في النمو والتطور؛ حيث يظهر عليه عدد من الفلقات تعرف باسم الكتل البدنية (Somites)، والتي تبدأ بفلقة واحدة ثم تتزايد حتى تصل إلى ما بين 40 و 45 فلقة في تمام الأسبوع الرابع وبدايات الأسبوع الخامس من عمر الجنين، ونظرا لهذه الفلقات المتعددة من الكتل البدنية فإن الجنين يبدو كأنه قطعة صغيرة من اللحم الممضوغ، بقيت عليها طبعات أسنان الماضغ، ومع استمرار نمو المضغة تتغير هذه الفلقات بشكل مستمر في أشكالها وأحجامها ومواضعها، ويصحب ذلك التغير شيء من الانتفاخ والتغضُّن والتثني، تمامًا كما يحدث مع قطعة العلك الممضوغة مع تكرار مضغها؛ وعلى هذا فإن هذه التسمية تفي تمامًا بحقيقة وهيئة هذه المرحلة من خلق الجنين، فكلمة المضغة تعني قطعة اللحم الممضوغة، أو صغار الأمور، وبهذا تتضح دقة القرآن الكريم المنتاهية في وصف هذه المرحلة، وهذا لا شك إعجاز علمي، فلم الطعن والتشكيك إذًا؟!
التفصيل:
1) الحقائق العلمية:
أثبت علماء الأجنة والوراثة في العصر الحديث أن الجنين بعد أن يتعلق بالرحم وينغرس فيه ـ يأخذ في التطور السريع والنمو المتلاحق عبر مجموعة من الأطوار والمراحل تتميز عن بعضها، وأهم ما يميز الجنين بعد مرحلة التعلق أو الانغراس بداية ظهور الكتل البدنية أو الفلقات على الجنين، وهي التي يتكون منها أعضاء الجنين وعضلاته وعظامه، وذلك منذ بداية الأسبوع الرابع، وتأخذ هذه الفلقات في التزايد والكثرة؛ مما يجعل الجنين كأنه قطعة من اللحم الممضوغ.
"وتعتبر الفترة من اليوم العشرين إلى الخامس والعشرين من لحظة الإخصاب مرحلة انتقالية بين طوري العلقة والمضغة لبدء تكون الكتل البدنية فيها، وتستمر مرحلة المضغة من اليوم السادس والعشرين إلى الثاني والأربعين من عمر الجنين، وبنهاية الأسبوع الثالث يبدأ الشريط الأوّلي([1]) في الانحسار التدريجي حتى يختفي في نهاية الأسبوع الرابع تقريبًا بعد أن كان في ذروة نشاطه طوال الأسبوع الثالث من عمر الجنين ـ بين اليوم الخامس عشر والحادي والعشرين ـ حينما تبدأ الكتل البدنية في التخلق...
وطور المضغة يتميز بتزايد عدد الكتل البدنية حتى يصل إلى أكثر من (20) كتلة على كل جانب، ويبلغ عدد الكتل البدنية عند اكتمالها ما بين (42)، (45) على كل جانب من جوانب المضغة من مقدمتها إلى مؤخرتها، ولا يكاد عددها يكتمل حتى تبدأ هذه الكتل في التمايز من القمة في اتجاه المؤخرة إلى قطاع عظمي، وقطاع عضلي، وقطاع جلدي، وهذه الكتل البدنية هي أبرز ما يميز الجنين في هذه المرحلة، ويمكن التعرف عليها من النظر إلى السطح الخارجي للجنين، ويمكن تحديد عمر الجنين عن طريق عدد هذه الكتل البدنية الظاهرة على سطحه، وهي تبدأ في الظهور من نهاية الأسبوع الثالث إلى نهاية الأسبوع الخامس، وتتحول إلى العظام والعضلات في الأسبوع السادس والسابع، وإن كان الهيكل العظمي لا يكتمل إلا في نهاية الأسبوع السابع، والهيكل العضلي لا يكتمل إلا بنهاية الأسبوع الثامن"([2]).
صورة حقيقية لجنين بشري في نصف أسبوعه الرابع، وقد ظهرت عليه الفلقات التي جعلته يبدو وكأنه قطعة صغيرة ممضوغة من اللحم عليها طبعات أسنان ماضغها
وعلى هذا فإن الجنين يتطور تطورًا كبيرا في هذه المرحلة عن مرحلة الانغراس رغم قصر المدة الزمنية بينهما؛ حيث يأخذ الجنين في هذه المرحلة في تكوين الكتل البدنية التي تمثل الجهاز الهيكلي للجنين فيما بعد.
وهكذا "يبدأ تخلق الجهاز الهيكلي في جنين الإنسان في الشهر الثاني من العمر الجنيني، وينشأ هذا الجهاز من الأديم المتوسط Mesoderm، وحصرًا من الكتل البدنية (جسيدات)Somites التي يبدأ ظهورها في الأسبوع الثالث من العمر الجنيني والتي يتراوح عددها ما بين 40 ـ 60 كتلة بدنية؛ حيث يكتمل تخلقها عند الإنسان في اليوم الـ 40 من العمر الجنيني؛ أي بمعدل وسطي ثلاث كتل بدنية يوميًّا.
وتنشأ الكتل البدنية من الخلايا الإنسية المنفصلة عن كتلة الخلايا الجانبية التي تنشأ أساسًا من الخيط الأوّلي (البدائي) Primotive Streak؛ حيث تشكل هذه الكتل الخلوية شريطين يمتدان على جانبي الأنبوب العصبي Neural Tube، ثم يبدأ هذان الشريطان بالانقسام؛ حيث يشكل كل شريط سلسلة متتالية من الكتل التي تسمى الكتل البدنية (جسيدات) والتي تتوزع على النحو الآتي: 4 كتل بدنية قفوية، 8كتل رقبية، 12 ـ 18 كتلة صدرية، 5 ـ 7 كتل قطنية، 3 ـ 5 كتل عجزية، وتبدأ هذه الكتل بالانقسام في نهاية الشهر الأول من العمر الجنيني؛ حيث تنقسم كل كتلة بدنية إلى جزئين:
أ- جزء ظهري (وحشي) يشكل الكتل (القسيمات) العضلية Myotomesالتي تتطور عن بعضها الكتل العضلية المتموضعة وحشيًّا، والعضلات فوق المحورية، وأدمة الجلد Dermis، بينما تتطور عن الكتل العضلية الأخرى الأرومات العضلية Myoblasts.
ب-جزء بطني(إنسي) يشكل الكتل الصلبة (بضع الصلبة) Sclerotomesالتي تتطور لتعطي أجزاء من الهيكل المحوري، وتساهم في تشكيل العمود الفقري والغضاريف، والأرومات العظمية وخلايا النسيج الضام.
والجدير بالذكر أن الكتل البدنية تبدأ بالاختفاء عند الإنسان في نهاية الأسبوع السادس من العمر الجنيني؛ بسبب تمايز هذه الكتل إلى أنسجة أخرى أو هجرتها إلى أماكن أخرى"([3]).
"وبظهور الكتل البدنية تباعًا ينمو الجهاز العصبي للجنين من ميزاب (شق) عصبي NEURAL GROOVE إلى قناة عصبية تنمو في منطقة الرأس لتكون المخ بنتوءاته المختلفة: المخ المقدمي PROSEN CEPHALON، والمخ المتوسط MESENCEPHALON، والمخ المؤخريRHOMBEN CEPHALON.
كما تنمو بسرعة انحناءات الرأس وتظهر فتحة الفم البدائية قريبة من صفيحة القلب، وذلك في جنين عمره 23 يومًا (ذو عشر كتل بدنية)، وفي اليوم السادس والعشرين ـ جنين ذو عشرين كتلة بدنية ـ تكون فتحة الفم البدائية منفصلة عن القناة الهضمية الأمامية FOREGUT بواسطة الغشاء الفموي البلعومي BUCCO PHARYNGEALMEMBRANE.
وفي اليوم الثامن والعشرين تظهر حويصلة العين كامتداد من المخ المقدمي Forebrain، أما في اليوم الثلاثين ـ جنين ذو 28 كتلة بدنية ـ فتظهر حويصلة السمع OTIC VESICLE، كما يظهر في الفترة نفسها تقريبًا لوح قرص الشم OLFACTORY PLACODE، ويظهر في الفترة ذاتها الحبل السري وهو الذي كان في المرحلة السابقة (مرحلة العلقة) يعرف بالمعلاق CONNECTING STALK.
وفي هذه الفترة تكون الأوعية الدموية قد ظهرت بوضوح في الجنين، وفي خارج الجنين في الغشاء المشيمي CHORION والمعلاق CONNECTING STALK، ويتصل الأورطيان الظهريان في جهة صحيفة القلب الأولية التي تتحول إلى أنبوبة للقلب على شكل (S)، وسرعان ما تظهر الغرف المختلفة في القلب مكونة الأذينين ـ متصلتين دون فاصل ـ والبطينين ـ متصلين دون فاصل ـ وبصلة القلب BULBUS CORDIS وجيب القلب SINUS VENOSUS.
وفي نهاية هذا الأسبوع يتصل الأورطيان الظهريان ويكونان شريانًا واحدًا هو الأورطي الظهري، وتكون الدورة الدموية في الجنين تامة ومتصلة بالدورة المشيمية في رحم الأم، وبذلك يتمكن الجنين من أخذ غذائه من الأم.
وفي هذا الأسبوع يلتف الجنين حول محوره حتى يصبح عنق كيس المح ضيقًا، وبذلك تتحول القناة الهضمية إلى قسمين: أمامي FORGUT وخلفي HIND GUT، وتقع القناة الهضمية الأمامية تحت القلب مباشرة، ويفصل فتحة الفم عن القناة الهضمية الغشاء الفموي البلعومي، ثم يلي ذلك الفتحة التي تصل ما بين طبقة الأنتودرم وكيس المح وهي تشكل الفتق السري.
ثم يليها من الجهة المؤخرية القناة الهضمية المؤخرية والتي تنتهي عند غشاء المذرقCloacal Membraneفي مؤخرة الجنين الذي يكون في قمة نموه، ويظهر في القناة الهضمية برعمي البنكرياس والكبد.
وفي هذه الفترة أيضًا تظهر حويصلة الإبصارVESICLE OPTIC كامتداد من المخ المقدمي ويظهر في الوقت نفسه حويصلة السمع.
وفي هذه الفترة أيضًا تظهر بداية الجهاز التنفسي كميزاب من قاع البلعوم، ثم تظهر القصبة الهوائية وبرعما الرئة.
أما الجهاز البولي فيظهر في كل مقطع وكتلة أنابيب أولية للكلى، وتظهر مع ظهور الكتلة البدنية؛ أي من جهة الرأس والعنق حتى تصل إلى مؤخرة الجنين وتتصل هذه الأنابيب ببعضها.
وفي نهاية هذا الأسبوع تكون أنابيب الكلى المتوسطة قد ظهرت، وفي الوقت ذاته تندثر الأنابيب الأوليةMESONEPHROS، وفي الأسبوع التالي تظهر بداية الأنابيب الأخيرة التي تشكل الكلى الحقيقية.
وفي كل مقطع وعاء دموي وأنابيب كلوية وعضلات وفقرة عظمية.
ومما تقدم يظهر بوضوح أن مرحلة الكتل البدنية تجعل الجنين يبدو وكأنه مضغة، وخاصة عند ظهور الأقواس البلعومية"([4]).
وهكذا يتبين أن الجنين في هذه المرحلة تظهر عليه كثير من الفلقات والشقوق التي يتكون منها جهازه الهيكلي من العضلات والعظام والجلد، وهذه الفلقات والشقوق تجعل الجنين في مظهره كأنه قطعة من اللحم ممضوغة، تظهر عليها آثار فك الماضغ من النتوءات والثنايا التي تمثلها هذه الفلقات والكتل، هذا وإن لم يكن الجنين في حقيقته قطعة من اللحم في هذه المرحلة، إلا أنه يشبهها في الشكل والهيئة.
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
لقد شغلت قضية خلق الإنسان العقل البشري منذ بداية هذه الخليقة بحثًا عن مبدأ الإنسان ومعاده، وما وراء هذا الخلق من أسرار وحكم، وخالق بديع.
ولهذا جاء القرآن الكريم بتفصيل كبير لمسألة خلق الإنسان، وبين بداية هذا الخلق؛ لأن الله خلق آدم أبا البشر من طين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وخلق منه حواء زوجته، ثم خلق نسله من اجتماع ماء الرجل وبويضة المرأة، كما فصّل القرآن المراحل التي يمر بها هذا الخلق في أرحام الأمهات؛ حتى يكتمل الإنسان خلقًا تامًّا في شيء من الإعجاز والدقة.
ومن هذه المراحل التي ذكرها القرآن الكريم في حديثه عن خلق الجنين مرحلة المضغة، تلك المرحلة التي يبدأ فيها تكون الجنين وخلق أجهزته وأعضائه المختلفة، قال تعالى:)يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم( (الحج: ٥)، وقال تعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا( (المؤمنون).
وهكذا يتحدث القرآن الكريم عن هذه السلسلة المترابطة في خلق الجنين ونموه وتطوره في مراحل متعاقبة حتى يصير خلقًا تامًّا في إعجاز باهر؛ فهذا هو الإنسان المخلوق من طين ثم من نطفة لا قيمة لها، ثم يأخذ في النمو والتطور ويأخذ خلقه حتى يصير ذلك الكائن المثالي العاقل المفكر المبدع، في صورته البديعة وخلقه المتكامل.
هذه هي الحقائق الإعجازية البينة في خلق الإنسان، تنطق بذاتها، وتدل بحقيقتها على عظم الخالق وإبداعه، وهي في الوقت نفسه حقائق علمية واضحة، توافق ما جاء به العلم الحديث في التعبير عن هذه المراحل من خلق الجنين ودقة الدلالة عن هذه المراحل وحقائقها دون شك أو لبس، إلا أن الطاعنين يحاولون ـ رغم هذا ـ الغض من هذا الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، والنيل من هذه الحقائق البينة في خلق الإنسان، ولا يروق لهم هذا البيان المعجز للقرآن الكريم في حديثه عن الخلق وغيره من الحقائق العلمية، فيزعمون أن القرآن قد قصر عن التعبير بدقة عن مراحل خلق الجنين، وخالف فيها العلم الحديث وحقائقه، هادفين من وراء ذلك إلى نفي الإعجاز العلمي عن القرآن الكريم وإثبات قصوره عن حقائق العلم الحديث.
إلا أن هذا الزعم يذهب سدى مع التحقيق العلمي المنصف لمسائل خلق الجنين وغيرها، فلا يثبت لدينا أي خلاف بين العلم الحديث وما أشارت إليه آيات القرآن، بل يتبين الاتفاق التام بينهما.
فلقد ذكر القرآن الكريم المضغة باعتبارها مرحلة يمر بها الجنين في طريق خلقه وتكوينه، وتأتي هذه المرحلة حسب الترتيب القرآني بعد مرحلة العلقة التي يعلق فيها الجنين أو الكيسة الأريمية برحم الأم، ويتغذى من دمائها ويتصل بها اتصالًا مباشرًا، ثم يتحول الجنين من هذه الخلايا المتعددة إلى ظهور الكتل البدنية والتي تمثل أجهزة الجنين وعضلاته وجلده ويتكون منها الجهاز الهيكلي والعضلي، وهي نقلة سريعة بين المرحلتين، كما تظهر على الجنين في هذه المرحلة مجموعة من الشقوق من جهة الرأس وفي الأقواس البلعومية، وتتعدد الكتل البدنية وتتوالى في الظهور على كل جانب من محور الجنين، ويبلغ عددها عند اكتمالها من 42 إلى 45 كتلة على كل جانب من القمة إلى المؤخرة، وهذه الكتل والشقوق والأقواس تجعل الجنين على هيئة المضغة، أو المادة التي لاكتها الأسنان، وظهرت عليها طبعات فم الماضغ، وهذا المصطلح يعبر بدقة عن هيئة الجنين في هذه المرحلة وحقيقته، ولعل هذا المصطلح في وصف هذه المرحلة هو أنسب المصطلحات وأفضلها للتعبير عن الجنين وحقيقة خلقه وهيئته.
وهذا ما تبينه الدلالات اللغوية لهذا اللفظ، وتفسير الآيات القرآنية التي تدل على هذه المرحلة.
· من الدلالات اللغوية وأقوال المفسرين في الآية الكريمة:
جاء لفظ مضغة في المعاجم العربية دالًّا على المادة التي لاكتها الأسنان، وكذلك على صغار الأشياء؛ فقد جاء في لسان العرب: "مضغ: مَضَغَيَمْضَغويَمْضُغمضغًا: لاك... والمضغ: جمع مضغة، وهي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ... ومُضُغ الأمور: صغارها"([5]).
وكذلك جاء هذا المعنى عند المفسرين؛ حيث ذكروا أن المضغة قطعة من اللحم قدر ما يمضغ، لا شكل فيها ولا تخطيط؛ فقد جاء في تفسير ابن كثير عن المضغة: "هي قطعة كالبضعة من اللحم لاشكل فيها ولا تخطيط"([6]).
وجاء في تفسير القرطبي: "وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ"([7]).
وهكذا تتفق المعاني اللغوية والتفسيرية لكلمة "مضغة" في الدلالة على القطعة الصغيرة من اللحم الممضوغ، والتي لا شكل لها ولا هيئة سوى دلالة مظهرها وهيئتها على المضغ، وهذا ما أوضحته الدلالات العلمية، بأن الجنين في مرحلة المضغة هو عبارة عن قطعة صغيرة جدا تظهر كالمادة التي طبعت عليها آثار المضغ.
فالجنين بعد تحوله من مرحلة العلقة مباشرة يأخذ شكله في التغير إلى مرحلة جديدة يظهر عليها علامات عديدة من التثني والنتوء؛ نتيجة الكتل البدنية والأقواس البلعومية، فيظهر كأنه قطعة ممضوغة.
وقد رأينا في مرحلة العلقة أن الجنين أصبح يشبه العلقة في مظهره من جراء تطاوله، وتثلمه، وظهور بعض الفلقات فيه، وخط طولي في وسطه، ولكن سرعان ما يفقد هذا المظهر بعد أن ينحني رأسه وذيله اتجاه بطنه في اليومين الرابع والعشرين والخامس والعشرين، وبعد أن ينطوي جانبا الجنين على نفسيهما؛ فيفقد الجنين مظهر العلقة.
ومما يساهم في ذلك أيضًا هو أن الساق الموصلة (CONNECTINGSTALK) التي كانت تميز الجنين على أنه علقة تتحول إلى حبل سري؛ فهذه الساق التي كانت تلتصق بالجنين وكيس المح عند ذيل الجنين، ما تلبث أن تهاجر وتلتحق بالمعي الأوسط الذي تخلق من جهة بطن الجنين، فتنتفي صورة الساق الموصلة، ويفقد الجنين بذلك آخر عامل يربطه بصورة "العلقة".
وبعد، تتكاثر الفلقات التي تتكون في مرحلة العلقة حتى يبلغ عددها نهاية الأمر 42: 44 فلقة، يظهر بينها فراغات وأخاديد، وتكون بذلك أبرز علامات هذه الفترة، وتظهر أولى هذه الكتل من جهة الرأس، ثم يتوالى ظهورها تباعًا من الرأس إلى مؤخرة الجنين وفق جدول زمني دقيق للغاية، حتى إنه يمكن معرفة عمر الجنين بمعرفة عدد الكتل البدنية كالآتي:
العمر بالأيام |
عدد الكتل البدنية |
20 - 21 |
1-3 |
22-23 |
4-12 |
24-25 |
13-20 |
26-27 |
21-29 |
28-30 |
30-35 |
31-35 |
36-42 (أو 44) |
نرى في الصورة جنينا في أسبوعه الرابع والنصف، وقد بدت عليه "الفلقات" (Somites)، وهي تبدو وكأنها وجبة أسنان مضفية على الجنين مظهر المضغة كما تشير إليه الآية)فخلقنا العلقة مضغة(
(المؤمنون: 14)
نرى في الصورة كيف أن الأقواس البلعومية ظهرت في جنين عمره 28 يومًا مؤكدة مظهر المضغة
وليست الكتل البدنية وحدها السبب في تسمية هذه المرحلة بالمضغة، فهناك تفاصيل أخرى ـ وإن كانت دقيقة ـ تجعل تسمية المضغة ملائمة للجنين؛ فبالإضافة إلى الكتل الخارجية الظاهرة للعين، هناك أيضًا كتل داخلية تعرف باسم: القطع البدنية (METAMERES)، يتكون بداخلها أنابيب بدائية للكلى (PRONEPHROS)، تظهر مع ظهور الكتل البدنية في جهة الرأس والعنق، وتمتد إلى مؤخرة الجنين (CAUDAL PORTION)، في خط مواز للكتل الخارجية، وكأن هذه الكتل تولدت تحت وطأة مضغ الأسنان للجهة الخارجية، فأصبح لدينا إلى جانب آثار الطبع الخارجية آثار طبع داخلية مرادفة لها، هذه الكتل، إلى جانب التفاصيل الأخرى التي ذكرناها سابقًا، تجعل وصف المضغة دقيقًا كل الدقة، بارعًا كل البراعة في وصف تلك المرحلة.
ومن الجدير بالذكر أن وصف الله سبحانه وتعالى للجنين بأنه مضغة في هذه الفترة يشير إلى أن الجنين طريًّا بالغ الطراوة؛ فالقطعة التي يلوكها الفم طرية، وخصوصًا بعد مضغها، وإذا ألقينا نظرة إلى المادة التي يتألف منها الجنين في فترة المضغة، نرى أنها مؤلفة من أنسجة تسمى: أنسجة ميزانكيمية (MESENCHYMAL TISSUES)، وهي كما يصفها العلماء "أنسجة منتظمة برخاوة"، وهذه الطراوة مهمة حتى ينطوي الجنين على نفسه في مختلف النواحي، وهذا يشير إلى معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الفترة تتطلب رخاوة لدى أنسجة الجنين حتى يستطيع أن يتشكل، وخصوصًا أن النصين القرآنيين: )ألم يك نطفة من مني يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38)( (القيامة)، و)ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا( (المؤمنون) يشيران إلى أن الجنين يستقيم في المرحلة التي تلي مرحلة المضغة من جراء تصلبه؛ مما يدل على أنه كان رخوا قبل ذلك.
ومن العوارض التي تظهر عند الجنين في هذه الفترة، والتي تجعل تسمية "المضغة" تنطبق عليه:
1. تبدو فلقات الجنين وكأنها تتغير باستمرار مثلما تتغير آثار طبع الأسنان في شكل مادة تمضغ حين لوكها ـ وذلك للتغير السريع في شكل الجنين ـ ولكن آثار الطبع أو المضغ تستمر ملازمة؛ فالجنين يتغير شكله الكلي، ولكن التركيبات المتكونة من الفلقات تبقى.
وكما أن المادة التي تلوكها الأسنان يحدث فيها تغضُّن وانتفاخات وتثنيات فإن ذلك يحدث للجنين تمامًا.
2. تتغير أوضاع الجنين نتيجة تحولات في مركز ثقله مع تكون أنسجة جديدة، ويشبه ذلك التغير وضع المادة وشكلها حينما تلوكها الأسنان، فيدور الجنين ويتقلب في جوف الرحم كما تدور القطعة الممضوغة في جوف الفم([8]).
وأيضا ينطبق معنى الشيء الصغير للفظ المضغة على حجم الجنين في هذه المرحلة؛ حيث إن طول الجنين في نهاية هذه المرحلة يبلغ حوالي 1سم، وهو حجم صغير جدًّا كما يشير إليه معنى كلمة "مضغة".
وعلى هذا فإن إطلاق مصطلح المضغة على الجنين في هذه المرحلة يفي تمامًا ويعبر بدقة عن طبيعة هذه المرحلة في خلق الإنسان، وهذا من الإعجاز البيِّن للقرآن الكريم في وصف خلق الجنين، وهذا ما وضحه العلم الحديث وكشف عن أسراره.
3) وجه الإعجاز:
لقد عبر القرآن الكريم بدقة متناهية وإعجاز بليغ عن مرحلة "المضغة"، وهي المرحلة التي يبدأ فيها الجنين في التكون والتطور، وتظهر عليه الكتل البدنية التي تمثل أعضاءه وعضلاته وعظامه، وهذا المصطلح يدل على هذه المرحلة دلالة واضحة بيِّنة، ويفي بالدلالة عليها بدقة؛ فلفظ المضغة يدل على المادة الممضوغة التي لاكتها الأسنان.
وهذا ما أكده العلم الحديث وبينه بوضوح؛ حيث أكد العلماء على أن الجنين في هذه المرحلة يمر سريعًا بمجموعة من التطورات في الهيئة والمظهر؛ حيث تظهر على الجنين مجموعة من الكتل البدنية والتي يبلغ عددها عند اكتمالها ما بين 42، 44 كتلة، وينحني رأس الجنين وتتميز الأقواس البلعومية؛ مما يجعل مظهره في حالة من التثني والتغضُّن والانتفاخ، وهي الهيئة نفسها التي تأخذها صورة المادة الممضوغة، والتي طبعت عليها أسنان الماضغ، وأيضًا فالجنين في هذه المرحلة لا يزيد حجمه عن 1 سم؛ مما يجعل لفظ المضغة يدل دلالة واضحة ومعجزة عليه في هذه المرحلة، بما لايقوم به لفظ آخر، وهذا إعجاز علمي بيِّن للقرآن الكريم في وصف هذه المرحلة.
[1]. في حوالي اليوم الخامس عشر من عمر النطفة الأمشاج تبدأ حزمة من خلايا الطبقة العليا للقرص الجنيني في الترتيب على هيئة خط طولي يُعرف باسم الشريط الابتدائي أو الأولي (the primary or prelimitivestreak)، وباستطالة هذا الشريط الابتدائي بإضافة خلايا جديدة عند نهايته الخلفية، تتضخم نهايته الأمامية على هيئة ما تُعرف باسم العقدة الابتدائية، وفي الوقت نفسه يتكوَّن على الشريط الأولي انخفاض أولي ضيق يستمر إلى حفرة ضئيلة في العقدة الابتدائية تعرف باسم الحفرة الابتدائية.
[2]. خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص322، 323.
[3]. علم الجنين، د. موفق شريف جنيد، مرجع سابق، ص211، 212.
[4]. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، مرجع سابق، ص253: 255.
[5]. لسان العرب، مادة: مضغ.
[6]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص240.
[7]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج12، ص6.
[8]. إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، مرجع سابق، ص290: 294.