دعوى خطأ القرآن في تقسيمه أنواع الحجارة (*)
مضمون الشبهة:
يدعي المغالطون أن القرآن أخطأ في تقسيمه أنواع الحجارة الواردة في قوله تعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)((البقرة)، ذاهبين إلى أن الآية قد قسمت الحجارة إلى ثلاثة أنواع:
1. حجارة نهرية تأتي بالأنهار.
2. حجارة آبارية تأتي بالعيون والآبار.
3. حجارة خاشعة تهوي من خشية الله.
وهذا التقسيم ـ في زعمهم ـ يخالف ما توصل إليه علماء الجيولوجيا من أن أنواع الحجارة هي:
1. حجارة نارية.
2. حجارة رسوبية.
3. حجارة متحولة.
وعليه فالقرآن يناقض العلم في هذا الأمر ويخالفه.
وجه إبطال الشبهة:
إن تقسيم العلم الحديث للحجارة لا يخالف ولا يناقض بأية حال من الأحوال ما أشار إليه القرآن الكريم من تقسيمه الحجارة من حيث القسوة، بل يؤكد صحة ما جاء به القرآن، ذاك أن العلم الحديث قسم الحجارة على أساس كيفية الوجودmode of occurance ، فقسمها إلى صخور نارية، وصخور رسوبية، وصخور متحولة، أما القرآن الكريم فقد قسمها من حيث خواصها الكيميائية والمعدنية، والتي كشف عنها العلم الحديث في الآونةالأخيرة؛ لذا لا يوجد أدنى تعارض بين تقسيم القرآن الكريم للحجارة وبين تقسيم العلم الحديث لها.
التفصيل:
1) الحقائق العلمية:
لقد كانت قسوة الحجارة إحدى الظواهر الكونية التي اكتشفها الإنسان مبكرًا فاستخدمها في بناء مسكنه وحفر بئره وطحن حبه وغيرها من الاستخدامات البدائية، لكن الإنسان لم يعلم أن هذه الظاهرة يمكن حسابها كميًّا، وبالتالي الاستفادة منها بشكل أكبر وأفضل ـ إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
وتعتبر قسوة الحجارة (stiffnessof stones)من أهم خصائصها الميكانيكية، وتعتمد على نشأة الحجر، وتركيبه الكيميائي والمعدني، وبنيته ونسيجه، كما تعتمد على تاريخه في الأرض، والتغيرات البعدية التي تعرض لها, ويؤثر ذلك كله في شدة تماسك مكوناته, وقدرته على مقاومة العديد من العمليات الأرضية، من مثل الانضغاط (Compressibility or Compaction)، والإجهاد القصي (Tenacity orResistance to Shear Stress or Stress Stain)، وهي أبعاد لا بد من قياسها عند تقييم درجة متانة الحجر, وقدرته على تحمل المنشآت علىه, أو الحفر فيه للتعدين أو شق الترع والخنادق وغيرها.
وانضغاطية الحجر أو قابليته للانضغاط (Compaction) تعني قابليته للهبوط تحت تأثير الأحمال الواقعة عليه, ويعتمد ذلك ـ فيما يعتمد من عوامل عديدة ـ على مسامية الحجر([1]), وقدرته على إنفاذ الموائع (نفاذيته)([2]), وتركيبه البنيوي, ووزن الأحمال المسلطة عليه، وفي ذلك تقسم الأحجار إلى قليلة, ومتوسطة, وشديدة الانضغاط.
وبالنسبة لمتانة الأحجار، أو قدرتها على مقاومة الإجهاد القصي، أو الاستجابة له مما يؤدي إلى إعادة توزيع القوى الداخلية للحجارة ـ فإنها تقاس بمعاملي القدرة على مقاومة الاحتكاك, وشدة تلاصق المكونات, وكلاهما يعتمد كذلك على نشأة الحجر, وتركيبه المعدني والحبيبي (الميكانيكي), والروابط بين مكوناته, ودرجة الرطوبة فيه.
وتتعرض الحجارة في الأرض لأنواع مختلفة من الإجهاد الخارجي والداخلي, ويتم ذلك في الحالة الأولى؛ نتيجة للضغط الخارجي عليها بواسطة وزن كتلة الصخور التي تعلوها أو بواسطة الضغوط الجانبية الناتجة عن تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض في اتجاه التصادم والتضاغط, أو في اتجاه الشد والتباعد, مما ينتج عنه العديد من البنيات الأرضية من مثل خطوط التصدع, والفواصل والتشققات الأرضية التي تؤدي إلى تفجر الماء المخزون تحت سطح الأرض، وفي حالة الضغوط الداخلية فإن ذلك يتم بواسطة الموائع المختزنة في الحجارة، من مثل: الماء, أو النفط, أو الغاز .
وكل نوع من هذين النوعين من إجهاد الأحجار قد يكون قويًّا أو ضعيفًا, وقد يكون سريعًا أو بطيئًا, وقد يكون في اتجاه واحد أو في أكثر من اتجاه, والنتيجة النهائية تعتمد على شدة ذلك الإجهاد, وعلى نوع الحجارة, وعلى الظروف المحيطة بها من الضغط ودرجة الحرارة, وتتمثل في استجابة الحجارة للإجهاد بتغيرات ملحوظة في الحجم والهيئة قد تنتهي بتقليل قسوتها وتكييفها بتصدعها, أو بتشققها وتكسرها, وحيئنذٍ يفيض الماء منها. وكل من الجبال والمرتفعات الناتجة عن العمليات الأرضية المختلفة يتم بريها بواسطة عمليات التعرية المختلفة، ومنها النحر الرأسي للمجاري المائية, وتكوين المساقط والشرف النهرية والقنوات العميقة التي تعين على تفجير الماء المخزون تحت سطح الأرض.
· الخصائص المائية للحجارة ودورها في تليين قسوتها:
ينزل على الأرض سنويا ما مجموعه 380,000 كم3 من ماء المطر, الذي يتبخر أصلًا من بحارها ومحيطاتها, ومن المسطحات والمجاري المائية على الىابسة, ومن الأنشطة الحياتية المختلفة كنتح النباتات، وتنفس وإخراج كل من الإنسان والحيوان.
ويتسرب جزء من ماء المطر إلى ما تحت سطح الأرض عن طريق كل من التربة, والطبقات المسامية, والحجارة والصخور الممزقة المنفذة للماء.
ويتحرك الماء المتجه إلى ما تحت سطح الأرض أولًا في الاتجاه الرأسي بفعل الجاذبية حتى يصل إلى المخزون المائي, ثم يتبع ميل الطبقات المنفذة الحاملة للماء إذا كانت مائلة حتى يظهر الماء على سطح الأرض مرة أخرى على هيئة تدفق مائي بشكل من الأشكال التي منها العيون والينابيع, والمجاري المائية المختلفة, والبرك, والبحيرات, والرطوبة الأرضية.
ويعتمد ذلك أساسًا على معدل سقوط الأمطار أو انصهار الجليد في المناطق المكسوة بالجليد, وعلى نوعية كل من التربة والصخور السطحية, وعلى حجم الكساء الخضري في المنطقة, وعلى معدلات البخر, وعلى غير ذلك من عوامل.
وذلك لأن أكثر من ثلث ماء المطر النازل على مناطق الكساء الخضري يقع على أوراق الأشجار فيتعرض للبخر قبل أن يصل إلى سطح الأرض, ويصل نحو الربع إلى سطح الأرض ولكنه إما يتبخر, أو يحتبس على هيئة بحيرة داخلية أو سمك من الجليد, أو يتحرك على هيئة مجرى مائي يفيض في النهاية إلى البحار والمحيطات, وباقي ماء المطر يتسرب إلى ما تحت سطح الأرض إذا كانت نوعية كل من التربة والحجارة المكونة لسطح الأرض تسمح بذلك, وتلعب جذور النباتات دورًا مهمًّا في المساعدة على تشقق كل من التربة والحجارة السطحية, وبالتالي تزيد من قدرتها على خزن الماء.
كذلك تلعب تضاريس سطح الأرض دورًا مهمًّا في خزن الماء تحته, فكلما كانت التضاريس لطيفة الانحدار سمح ذلك ببقاء ماء المطر لفترة أطول فوق سطح أرض المنطقة؛ مما يساعد على تشبع كل من التربة وأحجار سطح الأرض بماء المطر, وعلى العكس من ذلك، فإنه كلما زاد انحدار سطح الأرض قلت الفرص لتحقيق ذلك.
ويتحرك الماء المخزون تحت سطح الأرض بفعل الجاذبية من المناطق المرتفعة إلى المنخفضات من الأرض تمامًا كما يجري الماء في مختلف مجاريه السطحية, إلا أن الماء المخزون تحت سطح الأرض يتأثر بفروق الضغط الداخلي عليه من وزن كم الماء الذي يعلوه, ومن ضغوط الصخور المحيطة به, وبزيادة تلك الضغوط قد يتحرك هذا الماء ضد الجاذبية فيفيض مكونًا عددًا من العيون، أو الينابيع، أو البحيرات في مستويات عليا من الأرض, أو يتحرك ليغذي الأنهار. وعلى ذلك فإن تحرك الماء تحت سطح الأرض تحكمه قوانين الجاذبية بين نقطتين مختلفتين في المنسوب, وقوانين الأواني المستطرقة([3]) بين نقطتين بينهما فارق كبير في الضغط.
وفي صخور متوسطة النفاذية يتحرك الماء المخزون تحت سطح الأرض ببطء شديد يتراوح بين نصف السنتيمتر والسنتيمتر ونصف في اليوم الكامل, ويرتفع ذلك إلى مئة متر في اليوم وسط صخور عالية المسامية والنفاذية، من مثل الحصى والبازلت الممزق بالشروخ والشقوق, وقد تتدني حركة الماء وسط الصخور المتبلورة إلى عشرات قليلة من السنتيمترات في السنة, بينما تصل سرعة تحرك الماء الجاري على سطح الأرض إلى مترين في الثانية الواحدة, وذلك في أبطأ المجاري المائية المعروفة([4]).
· تباين الصفات المائية لتربةالأرض ولحجارتها وصخورها:
تتباين الصفات المائية لتربة الأرض ولحجارتها بتباين صفاتها الطبيعية, والكيميائية, والميكانيكية, ومنها المسامية والنفاذية, والصفات الشعرية([5]), وقدرة حبيباتها على الاحتفاظ بالماء حول كل حبة منها على هيئة أغشية تحيط بها, وقدرة كل منها على التوصيل الحراري, والكهربي, وعلى توصيل الموجات الصوتية, والاهتزازية, وعلى احتواء نسب معينة من الأملاح القابلة للذوبان في الماء أو التفاعل معه, ومنها درجة اللدونة أو المرونة (Plasticity)، والقدرة على الانتفاخ (Infiation Capacity), وعلى التشرب بالماء Capacity) (Soaking, وعلى الانكماش (Shrinkage Capacity), وعلىالهبوط (Sutbsidence Capacity).
فالحجارة الصلصالية على سبيل المثال يتغير شكلها بتغير كمية الماء الموجودة فيها؛ لأنها تتحول من صخور صلبة أو شبه صلبة إلى الحالة المائعة تمامًا بزيادة كمية الماء فيها, وبذلك يمكن الحكم على إمكان مقاومتها للأحمال الخارجية, وعلى قدرتها على الثبات فوق المنحدرات أو هبوطها منها.
وبتمدد المسام الدقيقة للحجر بعد تشربه بالماء يمكن أن ينتفخ حجمه ويتغير شكله, فإذا سحب منه الماء انكمش, وتُصاحب عملية الانكماش في الحجم عادة بتشقق الحجارة وانفلاقها فيخرج منها الماء إذا كانت خازنة له بكميات كبيرة، وتتباين تربة الأرض وحجارتها كذلك في قدرتها على الانتفاخ بالماء والانكماش بفقده تباينًا كبيرًا، كما تتباين في قابليتها للهبوط بتأثير وزنها الذاتي, ويزيد ذلك بصورة ملحوظة كلما دقت حبيبات الحجر أو التربة, وزادت فيها نسب تجانسها, ومساميتها, وخاصيتها الشعرية, والأملاح القابلة للذوبان في الماء، ويشاهد هبوط كل من التربة والحجارة المكونة لسطح الأرض بصفة خاصة في المناطق التي يضخ من مخزونها المائي تحت سطح أرض بكميات مبالغ فيها, كما هو الحال في حوض لندن الذي يهبط بمعدل يتراوح بين ربع ونصف المتر في السنة, وأرض المكسيك التي وصل الهبوط فيها إلى أكثر من عشرة أمتار خلال السنوات القليلة الماضية.
· تباين زاوية الانحدار للتربة أو للحجارة:
تعتبر قيمة زاوية الانحدار الطبيعي للتربة أو للحجارة المكونة لسطح الأرض عاملًا أساسيًّا لثباتها فوق المنحدرات, ولكل نوع منها زاوية انحدار قصوى إذا تعدتها فإنها تنهار فورًا, وتعتمد قيمة هذه الزاوية على نوع التربة أو الحجارة, وعلى تركيبها الكيميائي والمعدني والميكانيكي, وعلى درجة تشبعها بالماء، وتقل قيمة هذه الزاوية بزيادة كل من الرطوبة, وكمية الماء المخزون، وإذا وصل أي جزء من التربة أو الحجر إلى زاوية انحداره فإنه ينهار في الحال هابطًا من أعلى مناسيب سفوح الجبال إلى أخفض مستوياتها، ويلعب الماء المخزون في تربة وحجارة وصخور الأرض دورًا مهمًّا في انهيارها وهبوطها بالكامل.
وهذه الحقائق كلها لم يتوصل إليها العلماء إلا في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ولم تكتمل معرفة الإنسان بها إلا في العقود المتأخرة في القرن العشرين([6]).
· تقسيم الحجارة من حيث زاوية الإجهاد:
يقسم العلماء الحجارة من الناحية الميكانيكية من زاوية الإجهاد باستجابة الحجارة إلى نوعين مثاليين تتدرجالأنواع الأخرى للحجارة بينهما:
النوع الأول: تكون فيه علاقة الإجهاد باستجابةالحجارة علاقة طردية، بحيث كلما زاد الإجهاد زادت استجابة الحجر بتغير حجمه وهيئته، ومع زوال الإجهاد يزول التغير في حجم الحجر وهيئته، وهذا النوع تنتهي علاقة الإجهاد فيه باستجابة الحجر بالتشقق أو التكسر عندما تصل التغيرات فيه إلى نسبة 3: 5% من الحجم والهيئة الأصليين، ويسمى هذا النوع بـ "الحجر التكسري" ( .(Brittle Rock
أماالنوع الثاني: فتكون فيه علاقة الإجهاد باستجابة الحجر ابتداء علاقة طردية كالنوع الأول، إلى أن يصل إلى حد المرونة (Elastic Limit)، فتأخذ علاقة الإجهادباستجابة الحجر نمطًا آخر يتميز بزيادة استجابة الحجر للإجهاد، بحيث تظهر تغيرات كبيرة في حجم الحجر وهيئته مع أية زيادة طفيفة للإجهاد، ويتميز كذلك بعدم زوالالتغيرات في حجم الحجر وهيئته بزوال الإجهاد. وهذا النوع لا ينتهي فيه الحجر بالتشقق أو التكسر إلا عندما تصل فيه التغيـرات إلى نسبـة 5: 10% من الحجم والهيئة الأصليين للحجر، ويسمى هذا النوع بـ "الحجـر اللدن" (Ductile Rock).
يقول أحد العلماء: إن إحدى النتائج الأساسية لاختبار قوة الحجارة أن قياسات قوة الحجارة لا تعني شيئًا البتة ما لم تكن الظروف التي حصلت فيها استجابة الحجارة معروفة، وكذلك فإنالاصطلاحات على تقسيم الحجارة إلى صخور تكسرية Brittle Rock وصخور لدائنيةDuctile Rock لا تكون ذات معنى كبير ما لم تكن الظروف التي تم إجهاد الحجارة فيها معروفة، ومع التغيرات في هذه الظروف مجتمعة فإن هناك مجالًا واسعًا من درجات استجابة الحجارة للإجهاد الواقع عليها، ويكون بالتالي تحديد هذه الاستجابة صعبًا، إلا أنه عندما يتمالتركيز على ظرف واحد من هذه الظروف فإن عملية معرفة استجابة أي صخر للإجهاد كانت تراعي التغيير في طرف واحد فقط، مثل درجة الحرارة أو ضغط السوائل داخل الحجارة، فتأتي نتائج كل تجربة لتصف استجابة الحجارة للإجهاد مع التغير في ذلك الظرف فقط دونالتركيز على الظروف الأخرى([7]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما جاءت به الآية الكريمة:
لقد أراد الطاعن أن ينفي الإعجاز العلمي عن قوله سبحانه وتعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)((البقرة)، وذلك بقوله: إن القرآن الكريم خالف العلم الحديث في تقسيم الحجارة، معتمدًا على مقارنة عقدها بين تقسيم القرآن الكريم للحجارة وبين تقسيم العلم الحديث لها.
والحق أن المقارنة التي عقدها الطاعن بين التقسيمين غير مستقيمة؛ ذلك أنه من المستحيل عقلًا أن تعقد مقارنة بين شيئين لا وجه للمقارنة بينهما، نعني بذلك اختلاف زاوية النظر التي قام التقسيم على أساسها؛ فالقرآن الكريم قد اعتمد في تقسيمه للحجارة على الخواص الكيميائية والمعدنية لها، بينما العلم الحديث قد قسمها عل أساس كيفية الوجود modeofoccurnce))، إذًا فالمقارنة التي عقدها الطاعن خاطئة من أساسها.
ومع اعترافنا بعدم وجود وجه للمقارنة بين التقسيمين إلا أن ذلك لا يؤدي إلى القول بتناقضهما؛ ذلك أن كلا التقسيمين يكمل الآخر.
ومن جهة أخرى فإن تقسيم القرآن الكريم للحجارة قد أثبته العلم الحديث وبرهن عليه، كما ذكرنا في الحقائق العلمية آنفا.
ولعله من المفيد أن نعرج على الدلالات اللغوية لبعض الألفاظ الواردة في الآية الكريمة.
· الدلالات اللغوية لبعض ألفاظ الآية الكريمة:
يتفجر:يقال: فجر الماء فانفجر؛ أي: بجسه فانبجس([8])، وتفجر الماء ونحوه: انفجر، والفجرة: مكان تفجر الماء([9]). وقال الراغب الأصفهاني: "الفجر: شق الشيء شقًّا واسعًا، ويقال: فجرته فانفجر، وفجرته فتفجر، وقيل للصبح فجر لكونه فجر الليل"([10]).
يشّقّق: أصله يتشقق، أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارًا، أو عن الحجارة التي تشقق وإن لم يجر ماء منفسح([11]).
· من أقوال المفسرين في الآية الكريمة:
أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت في بني إسرائيل، قال ابن كثير: "يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى، وإحيائه الموتى:)ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة((البقرة:74) التي لا تلين أبدا... فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات، فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة"([12]).
وقد أورد أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط المعنى الشامل لقوله تعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)( (البقرة) قائلا: "والمعنى: إن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يندفق منها الماء الكثير الغمر...)وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء( (البقرة:74)، التشقق: التصدع بطول أو بعرض، فينبع منه الماء بقلة حتى لا يكون نهرًا"([13]).
أما قوله تعالى: )وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)((البقرة)؛ فقد لـخص أبو حيان في البحر المحيط ما ورد فيها عن المفسرين فقال: "واختلف المفسرون في هذه الآية، فقال قوم: إن قوله: )وإن من الحجارة((البقرة:74) إلى آخره، هو على سبيل المثل؛ بمعنى أنه لو كان الحجر ممن يعقل لسقط من خشية الله تعالى، وتشقق من هيبته، وأنتم قد جعل الله فيكم العقل الذي به إدراك الأمور، والنظر في عواقب الأشياء، ومع ذلك فقلوبكم أشد قسوة، وأبعد عن الخير.
وقال قوم: ليس ذلك على جهة المثل: بل أخبر عن الحجارة بعينها، وقسمها لهذه الأقسام، وتبين بهذا التقسيم كون قلوبهم أشد قسوة من الحجارة"([14]).
وقد علق الفخر الرازي في تفسيره تعليقًا علميًّا على هذه الآية من ناحية ما تضمنته من ظواهر طبيعية فقال: "قالت الحكماء: إن الأنهار إنما تتولد عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض، فإن كان ظاهر الأرض رخوًا انشقت تلك الأبخرة وانفصلت، وإن كان ظاهر الأرض صلبًا حجريًّا اجتمعت تلك الأبخرة، ولا يزال يتصل تواليها بسوابقها حتى تكثر كثرة عظيمة فيعرض حينئذٍ من كثرتها وتواتر مدها أن تنشق الأرض وتسيل تلك المياه أودية وأنهارًا،)وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء((البقرة:74)؛ أي: إن من الحجارة لما ينصدع فيخرج منه الماء فيكون عينًا لا نهرًا جاريًا؛ أي: من الحجارة قد تندى بالماء الكثير وبالماء القليل، وفي ذلك دليل تفاوت الرطوبة فيها، وأنها قد تكثر في حال حتى يخرج منها ما يجري منه الأنهار، وقد تقل"([15]).
ويشتمل هذا التعليق على تصنيف علمي للحجارة من حيث قسوتها مستنبطًا من هذه الآية الكريمة؛ حيث يقول عن النوع الأول: "فإن كان ظاهر الأرض رخوًا"، ويقول عن النوع الثاني من الحجارة: "وإن كان ظاهر الأرض صلبًا حجريًّا"، وقد يكون هذا التعليق من الإمام الرازي من أوائل الاستنباطات العلمية من هذه الآية.
هذا وقد أورد الطاهر ابن عاشور عند تفسيره لهذه الآية كلامًا علميًّا أيضًا يحسن بنا ذكره في هذا الموضع، يقول: "وقد أشارت الآية إلى أن انفجار الماء من الأرض من الصخور منحصر في هذين الحالين، وذلك هو ما تقرر في علم الجغرافيا الطبيعية أن الماء النازل على الأرض يخرق الأرض بالتدريج؛ لأن طبع الماء النزول إلى الأسفل جريًا على قاعدة الجاذبية، فإذا ضغط عليه بثقل نفسه من تكاثره أو بضاغط آخر من أهوية الأرض تطلب الخروج، حتى إذا بلغ طبقة صخرية أو صلصالية طفا هناك؛ فالحجر الرملي يشرب الماء والصخور والصلصال لا يخرقها الماء إلا إذا كانت الصخور مركبة من مواد كلسية، وكان الماء قد حمل في جريته أجزاء من معدن الحامض الفحمي، فإن له قوة على تحليل الكلس فيحدث ثقبًا في الصخور الكلسية حتى يخرقها فيخرج منها نابعًا كالعيون. وإذا اجتمعت العيون في موضع نشأت عنها الأنهار كالنيل النابع من جبال القمر.
وأما الصخور غير الكلسية فلا يفتتها الماء ولكن قد يعرض لها انشقاق بالزلازل أو بفلق الآلات فيخرج منها الماء إما إلى ظاهر الأرض كما نرى في الآبار، وقد يخرج منها الماء إلى طبقة تحتها فيختزن تحتها حتى يخرج بحالة من الأحوال السابقة. وقد يجد الماء في سيره قبل الدخول تحت الصخر أو بعده منفذًا إلى أرض ترابية فيخرج طافيًا من سطح الصخور التي جرى فوقها، وقد يجد الماء في سيره منخفضات في داخل الأرض فيستقر فيها ثم إذا انضمت إليه كميات أخرى تطلب الخروج بطريق من الطرق المتقدمة؛ ولذلك يكثر أن تنفجر الأنهار عقب الزلازل"([16]).
ويعلق صاحب الظلال على الآية تعليقًا فريدًا يحسن بنا ذكره، قال: "والحجارة التي يقيس قلوبهم إليها، فإذا قلوبهم منها أجدب وأقسى... هي حجارة لهم بها سابق عهد؛ فقد رأوا الحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عينًا، ورأوا الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقا! ولكن قلوبهم لا تلين ولا تندى، ولا تنبض بخشية ولا تقوى... قلوب قاسية جاسية مجدبة كافرة"([17]).
إن الله عز وجل عندما ذكر في الآية الكريمة قسوة قلوب بني إسرائيل شبهها بإحدى الأشياء المحسوسة لدى البشر وهي الحجارة، ثم في إشارة لكون قلوبهم أقسى من الحجارة ذكر أن الحجارة تتفاوت في قسوتها؛ ليعلم أن قلوبهم أقسى من أقسى الحجارة.
ثم برزت بعض النواحي الإعجازية عند الحديث عن هذه الأشياء المحسوسة؛ لتكون ذات دلالة على السبق القرآني لهذه الظاهرة العلمية لمن يتفكر ويبحث فيها من المتقدمين والمتأخرين، وقد أتت هذهالنواحي الإعجازية مجملة غير مفصلة لتبقي مجال التفكير مفتوحًا وفرص اكتشاف الحقيقة متساوية لجميع من أنزل إليهم هذا القرآن.
الناحية الإعجازية الأولى: تتمثل في أنه عند ذكر قسوة الحجارة ذكر معها أحد الظروف التي لها تأثير كبير على التغير في هذه القسوة، وهو وجود الماء والمقدار النسبي لضغطه داخل الحجارة ونفاذية الحجر. وهذه الحقيقة التي درست وحققت في المختبرات قد أثبتها القرآن الكريم ملخصة في قوله تعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار((البقرة: 74)؛ ففي لفظة "يتفجر" إشارة إلى أمرين: الأول هو وجود الماء تحت ضغط عالٍ داخل الحجر، والثاني هو تعرض الحجر للتكسر وليس للتشقق، وذلك بسبب هذا الضغط العالي؛ حيث إن كلمة التفجر بالنسبة للتحجر تعني التفكك القوي المفاجئ، أمـا لفظة "الأنهار" فتدل على غزارة المياه التي تخرج من هذا النوع من الحجر، ومن ثم إلى النفاذية الكبيرة لذلك الحجر.
الناحية الإعجازية الثانية: وتتمثل في الوصف الدقيق للنوع الثاني من الحجارة في قوله سبحانه وتعالى:)وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء((البقرة:74)، هذا الوصف مبني على أن تفاوت الحجارة في قسوتها إنما هو مرتبط بعوامل أخرى غير التركيب الكيميائي للحجارة، وفي هذه الحالة هناك ربط لقسوة الحجارة بالضغط القليل للماء الموجود في المسامات بين الحبيبات المكونة للحجارة.
وهذا الوصف العلمي لقسوة الحجارة وعلاقتها بالمقادير النسبية لضغط الماء ومعدل تدفقه من الحجارة ـ قد أورده الله تعالى بشكل دقيق في بضع كلمات في قوله تعالى:)وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء((البقرة:74)، فيبدأ بقوله (وإن منها)؛ أي: وإن من الحجارة نوعًا آخر في قسوته غير النوع الذي ذكر في الجزء الأول من الآية، (لما يشقق)؛ أي: لما يتصدع أو يتكون فيه شقوق، وصيغة "يشقق" هنا فيها دلالة على المطاوعة؛ أي إن الحجارة شققت بسبب ضغط الماء، فتشقق استجابة لهذا الضغط، (فيخرج)؛ أي يسيل ويتدفق من غير اندفاع؛ لأن كلمة "يخرج" في هذا الجزء من الآية ذكرت في مقابلة "يتفجر" في الجزء السابق من الآية، والتي تدل على الاندفاع بقوة، ثم قوله: (الماء) للدلالة على أن الماء الذي يخرج من هذا النوع من الصخر إنما يكون بكميات قليلة، وهذا يأتي من كونكلمة "الماء" أتت في مقابلة كلمة "الأنهار" في الجزء السابق من الآية.
الناحية الإعجازية الثالثة: وهي ناحية علمية وفيها لمحة إعجازية لغوية في الوقت نفسه، وتتجلى هذه الناحية الإعجازية فيقوله: (وإن من الحجارة)، وفي قوله: (وإن منها)؛ حيث يدل اللفظ في هذين المقطعين من الآية على التبعيض؛ أي إن هذين النوعين من الحجارة هما على سبيل المثال لا الحصر،ومن ذلك يمكن الاستنباط أن الحجارة قد تكون أنواعًا كثيرة من حيث قسوتها، باعتبارالظروف المختلفة التي تكون فيها الحجارة عندما تتعرض للإجهاد([18]).
إذًا تقسيم القرآن الكريم للحجارة لا يخالف ولا يناقض تصنيف العلم الحديث لها؛ ذلك أن الأخير اعتمد في تصنيفه للحجارة علىأساس كيفية الوجود Modeofoccurrance؛ حيث تقسم الصخور على هذا الأساس إلى ثلاثة أنواع، هي:
· صخور نارية Igneous Rocks:
تكونت نتيجة لتبريد وتصلب المادة الصخرية المصهورة في جوف الأرض والتي يطلق عليها الصهيرMagma ، ومن أشهر الصخورالنارية الجرانيت Granite والبازلت Basalt.
توضح هذه الصورة عينة من صخور الجرانيت النارية
صخور متحولةMetamorphic Rocks:
وهي صخور تكونت من صخور سابقة التكوين سواء نارية كانت أم رسوبية، وهي ناتجة من فعل تأثير الحرارة أو الضغط، أو الحرارة والضغط معًا، ومن أشهر الصخور المتحولة الرخامMarble والإردواز.Slate
شكل يوضح الصخور المتحولة
صخور رسوبية Sedimentary Rocks:
وهي صخور تكونت من صخور سابقة ظهرت نتيجة لعمليات طبيعية شتى مثل التجوية Weathering([19]) بنوعيها، الميكانيكية، والكيميائية، والنقل والترسيب، ومن أشهر الصخور الرسوبية: الأحجار الجيرية، والصخور الطينية، وعلى الرغم من أن هذا التقسيم هو من أكثر تقسيمات الصخور شهرة وتداولًا في مراجع علوم الجيولوجيا، إلا أنه ليس بالتقسيم الوحيد للصخور، فهنالك أكثر من تقسيم للصخور، غير أن الأساس العلمي الذي يستند إليه هذا التقسيم أو ذاك يختلف عن الآخر في وجه من الوجوه([20]).
شكل للصخور الرسوبية
ومن ثم فإن تقسيم العلم الحديث للحجارة لا يخالف ولا يناقض بأي حال من الأحوال ما أشار إليه القرآن الكريم من تقسيمه للحجارة من حيث القسوة؛ بل يؤكد على صحة ما جاء به، وأن هذا القرآن كلام الله عز وجل أنزله على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة أمين الوحي جبريلعليه السلام.
3) وجه الإعجاز:
إن معرفة الخواص الكيميائية والمعدنية للحجارة لم يعرفها الإنسان إلا في العصر الحديث، هذه الخواص قد أشار إليها القرآن منذ أكثر من 1400 عام في تقسيمه للحجارة من حيث القسوة؛ حيث ذكر أن هناك أنواعًا من الحجارة يتفجر منها الأنهار، وأنواعًا أخرى تشقق فيخرج منها الماء، وأنواعًا ثالثة تهبط من خشية الله، قال الله تعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)((البقرة) ، وكل هذا يشهد بعظمة القرآن وبكونه منزّلًا من عند الله سبحانه وتعالى على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
[1]. المسامية: مجموعة الفجوات ـ متصلة أو غير متصلة ـ في صخر أو في مادة أخرى يمكن أن يحوي مائعًا (سائلًا أو غازًا)، وهي أيضًا القيمة العددية التي تعبر عن هذه الفجوات.
[2]. النفاذية: قدرة الصخر على السماح بمرور السوائل بداخله، أو هي مقدرة الصخر على توصيل أو تصريف السوائل تحت ضغط الميل الهيدروليكي، وهذه المقدرة لتوصيل السوائل يفترض أنها محكومة بقانون داركسي.
[3]. تنص قوانين الأواني المستطرقة على أننا إذا ما وضعنا سائلًا في مجموعة أوانٍ متصلة ببعضها، فإن المستوى العلوي للسائل سيكون متساويًا في الأواني كلها، على الرغم من اختلافها في الشكل والحجم.
[4]. وبطء حركة الماء المخزون تحت سطح الأرض يمثل صورة من صور الحكمة الإلهية في إبداع الخلق؛ وذلك لكي يبقى هذا الماء المخزون لأطول مدة ممكنة في المنطقة التي خُزن فيها (تصل إلى عشرات الآلاف من السنين)؛ لأنه خُزن في وقت كان المطر فيه غزيرًا, وكانت المجاري المائية السطحية كافية لسدِّ حاجات السكان, وبعد تغير المناخ وندرة المطر يبقى المخزون من الماء تحت سطح الأرض هو مصدر الماء الرئيسي لساكني المنطقة, وبتغير المناطق المناخية يبقى المخزون المائي تحت سطح الأرض شاهدًا لله سبحانه وتعالى بتدبير أمر الكون بعلمه وحكمته وقدرته.
[5]. الصفات الشعرية: خاصية فيزيائية يتم بواسطتها انتقال السائل من الأسفل إلى الأعلى، كانتقال الماء من أسفل الشجرة (الجذور) إلى أعلاها (الورق).
[6]. الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزى دلالتها العلمية، د. زغلول النجار، بحث منشور بموقع: www.islamicmedicine.org.
[7]. الحجارة بين الوصف القرآني والتصنيف الميكانيكي، محمد جابر المحمود، بحث منشور بموقع: www.almaktabah.net.
[8]. لسان العرب، مادة: فجر.
[9]. المعجم الوسيط، مادة: فجر.
[10]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص373.
[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج1، ص464.
[12]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج13، ص113.
[13]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، عند تفسيره لهذه الآية.
[15]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، مرجع سابق، عند تفسيره لهذه الآية.
[16]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج1، ج1، ص565.
[17]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج1، ص80.
[18]. الحجارة بين الوصف القرآني والتصنيف الميكانيكي، محمد جابر المحمود، بحث منشور بموقع: www.almaktabah.net.
[19]. التجوية: عملية تفتيت وتحلل الصخور والتربة والمعادن المكونة لها في موقع تلك الصخور نفسه بواسطة التأثير الفيزيائي والكيميائي والحيوي للرياح أو المياه أو تغير الطقس ودرجات الحرارة التي تتعرض لها.
[20]. تصنيف الصخور في القرآن الكريم، الهاشمي، بحث منشور بموقع: www.dahsha.com.
read
go want my wife to cheat
generic viagra softabs po box delivery
viagra 50 mg buy viagra generic