1) لم يقل القرآن الكريم إن الرعد ملك، وما جاء في السنة ينبغي أن يفهم على أن للرعد ملكًا، وليس أنه ملك، وتوكيل الله تعالى بعض الملائكة ببعض الأمور أظهر من أن يبرهن عليه. أما تساؤل الطاعن عن كيفية تسبيح الرعد بحمد الله سبحانه وتعالى، فنجيب عنه بتساؤل مفاده: ولماذا جاء في التوراة والإنجيل أن كل شيء في السماوات والأرض يسبح باسم الرب؛ ففي سفر الزبور: [تسبحه السماوات والأرض والبحار وكل ما يدب فيها]. فالرعد ظاهرة طبيعية، وفي الوقت نفسه واحدة من جند الله، يسبح بحمده. وأخيرًا: لا مجال للقول بأن ثمة تناقضًا بين ما أثبته العلم الحديث وبين آي القرآن فيما يتعلق بظاهرة الرعد والبرق، دليلنا على ذلك قوله سبحانه وتعالى: )ألم تر أن الله يزجي سحابًا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركامًا فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43)((النور).
2) أثبت العلم الحديث أن البرق يشكل خطرًا على حياة الإنسان، وذلك عند حدوث التفريغ الكهربي بين الشحنات الموجبة لنقاط الأمطار، كما أثبت أن للبرق والرعد دورًا مهمًّا في القضاء على الآفات التي تصيب المزارع، وأن البرق وسيلة مهمة لحصول الأرض على النيتروجين، الذي لولاه لانعدم نمو النبات، وكل هذا يتطابق مع قوله تعالى: )هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا((الرعد:12)؛ أي: خوف من عقابه وطمع في رحمته؛ ومن ثم فإن الطاعن قد أخطأ حينما خطأ القرآن وتساءل مم التخويف وهي ظاهرة طبيعية؟!
التفصيل:
أولا. المفهوم الصحيح للآيات والأحاديث المتعلقة بالرعد والبرق:
1) الحقائق العلمية:
إذا ما سمع الرعد من أية عاصفة جوية يمكن أن تسمى هذه العواصف بعواصف الرعد، وقد يحدث الرعد في حالة تكوين الزوابع أو العواصف المدارية، إلا أن تعبير "عواصف الرعد والبرق" بمعناه الخاص يدل على العواصف التي تنشأ بفعل التيارات الهوائية الصاعدة خلال فترة وقتية قصيرة، وتتخذ عواصف الرعد والبرق مراحل أدوارها في السحب الركامية([1]) التي تبدو أعاليها على شكل السندان، وتسقط بسببها أمطار غزيرة جدًّا خلال وقت قصير([2]).
أهم العوامل التي تؤدي إلى نشأة عواصف الرعد والبرق:
1. تعرض الهواء الملامس لسطح الأرض للحرارة الشديدة([3])، فيصعد الهواء الانقلابي الساخن الرطب إلى أعلى مؤديًا إلى حدوث ما يسمى بعواصف الرعد والبرق الحرارية.
2. تعرض الهواء الملامس لسطح الأرض للحرارة الشديدة الناتجة عن حدوث الحرائق في الغابات، وفي المصانع وصعود الهواء الساخن إلى أعلى وتكوين ما يسمى بعواصف الرعد والبرق الحرارية الصناعية.
3. تعرض الهواء الملامس لسطح الأرض للحرارة الشديدة الناتجة عن نشاط الثورانات البركانية المختلفة، وهذا يؤدي إلى تكوين عواصف الرعد والبرق المحلية البركانية.
4. تعرض الهواء الساخن الصاعد لكتل هوائية باردة في الطبقات العليا من الجو، وقد يؤدي ذلك إلى حدوث عواصف الرعد والبرق الباردة.
5. قد تحدث عواصف الرعد والبرق على طول نطاق الجبهات الباردة النشيطة في العروض المعتدلة، وتعرف باسم عواصف الرعد والبرق على أسطح الجبهات.
6. قد تحدث عواصف الرعد والبرق عند صعود الهواء الساخن فوق السفوح الجبلية، وتعرف في هذه الحالة باسم عواصف الرعد والبرق التضاريسية.
7. قد تحدث عواصف الرعد والبرق كذلك عند تقابل كتل هوائية مختلفة الخصائص الطبيعية.
أسباب حدوث الرعد والبرق من وجهة النظر العلمية:
يرى العلم الحديث أن البرق عبارة عن وميض الضوء الذي يحدث نتيجة عمليات الشحن الكهربي في الغلاف الجوي، أما الرعد فهو عبارة عن الصوت الذي يحدث نتيجة للتمدد الفجائي للهواء بفعل الحرارة الشديدة الفجائية الناجمة عن حدوث البرق.
البرق هو النور اللامع الذي يسطع من خلال السحب، والرعد هو حدوث الصوت الشديد الذي يسمع من السحاب في أعقاب البرق
وقد أكدت الدراسات الحديثة أن السحب الركامية عبارة عن مولد كهربي ثابت لها القدرة على بناء ملايين من وحدات الجهد الكهربي خلال وقت قصير؛ فعند انقسام ذرات مياه الأمطار تكتسب الذرات المنفصلة عن الذرات المائية الأصلية شحنات موجبة، في حين تبقى الذرات المائية الأصلية بشحناتها السالبة، والتي تتساوى في مقدارها مع الشحنات الموجبة.
ومن ثم تتمثل معظم الشحنات الموجبة في القسم الأسفل من سحب المزن الركامي، أما في القسم الأعلى منها وعند مستوى نقطة الندى، فإن تساقط حبات الثلج يكسب البلورات الثلجية شحنات سالبة، ويشحن الهواء المحيط بها بشحنات سالبة، وعند صعود الهواء الساخن إلى أعلى فإنه يحمل معه الشحنات الموجبة إلى أعالي المزن الركامي، ونتيجة لاصطدام الشحنات الموجبة مع الهواء الصاعد بالشحنات السالبة المتمثلة عند أعالي السحابة يحدث التفريغ الهوائي داخل هذه السحب، ويتكون البرق والرعد.
وجدير بالذكر أن البرق والرعد يحدثان في وقت واحد تقريبًا بفعل التفريغ الكهربي داخل سحب المزن الركامي، ولكن لما كانت سرعة الضوء 300 ألف كم/ث، وسرعة الصوت في الهواء 330م/ث، وأن سرعة سقوط المطر دون ذلك بكثير ـ فإن المشاهد لهذا النوع من العواصف يرى البرق أولًا، ثم يسمع الرعد ثانيًا، وبعدها بقليل يستقبل هطول المطر.
البرق والرعد يحدثان في وقت واحد تقريبًا بفعل التفريغ الكهربي داخل سحب المزن الركامي، ويصل البرق أولًا؛ لأن سرعة الضوء أسرع من سرعة الصوت
ويرى البروفيسور "هواردكريتشفيلد"ـ عالم طبيعة إنجليزي له اهتمامات بآلية الرعد والبرق، وقدم عدة دراسات حول هذا الموضوع ـ أن الرعد يحدث في الجو بعد حدوث البرق مباشرة، وبفعل التمدد الفجائي للهواء الذي ارتفعت حرارته بدرجة كبيرة وبصورة فجائية بفعل البرق، ولا يقتصر حدوث التفريغ الكهربي داخل سحب المزن الركامي لعواصف الرعد والبرق فقط، بل قد يحدث ذلك أيضًا داخل نطاق السحب المجاورة لهذه العواصف، وفي هذه الحالة يكون البرق خطرًا على حياة الإنسان والحيوان، بخاصة عند حدوث التفريغ الكهربي بين الشحنات الموجبة لنطاق الأمطار داخل سحب المزن الركامي، وبين الشحنات السالبة على سطح الأرض([4]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما أشارت إليه الآية الكريمة:
الرعد من الظواهر الطبيعية التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، قال تعالى: )ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته((الرعد: 13)، وقد اعترض الطاعنون على هذه الآية، زاعمين أنها تخالف الحقائق العلمية المتعلقة بالرعد، وسنورد فيما يأتي بيانًا لهذه الطعون مع الرد عليها.
·فأول ما يقابلنا مما قاله هؤلاء هو تساؤلهم: هل الرعد ملك من الملائكة؟!
نقول: ليس هناك ما يؤكد أن الرعد ملك، فليس في القرآن ما يدل على أنه ملك، كما أن الأحاديث النبوية تذكر أن للرعد ملكًا، وليس أن الرعد ملك، والفرق واضح([5]).
وتوكيل الله تعالى لبعض الملائكة ببعض الأمور في الكون أمر مشهور، أظهر من أن يبرهن عليه، كتوكيل ملك بقبض الأرواح، وآخر بالرياح والمطر، وآخر بالجنة، وآخر بالنار، وملائكة بحمل العرش، وقد تضافرت آيات القرآن الكريم بإثبات ذلك لله تعالى، قال تعالى: )والنازعات غرقًا (1) والناشطات نشطًا (2) والسابحات سبحًا (3) فالسابقات سبقًا (4) فالمدبرات أمرًا(5)((النازعات)، وقال تعالى: ) والذاريات ذروًا (1) فالحاملات وقرًا (2) فالجاريات يسرًا (3) فالمقسمات أمرًا (4)((الذاريات). وهذه الآيات الكريمات يراد بها الملائكة([6]).
وإذا كان بعض المفسرين قد ذكر أن الرعد ملك من الملائكة، فإن هذا لا يتعارض مع ما جاء عند علماء الطبيعة؛ فأقوالهم عن الرعد والبرق مناسبة لعصرهم، وأفكارهم مبدئية، والتفسير العلمي الذي جاء به العلماء حديثًا لهذه الظواهر إنما يكمل ما بدأه المفسرون القدامى.
وحتى إذا ما افترضنا صحة القول بأن الرعد ملك من الملائكة، فإن التوفيق بين هذا القول والحقيقة العلمية لايزال ممكنًا؛ فالله تعالى هو المؤثر في الحقيقة ـ كما هو صريح عقيدة المسلمين ـ ولكنه تعالى ربط الأسباب بالمسببات كما هو معروف مشهور، فهذا التعليل العلمي هو للأسباب العادية، ولكن التأثير الحقيقي لله عز وجل.
يقول الإمام الألوسي رحمه الله : "وقال بعض المحققين: لا يبعد أن يكون في تكون ما ذكر أسباب عادية كما في الكثير من أفعاله تعالى، وذلك لا ينافي نسبته إلى المحدث الحكيم القادر جل شأنه، ومن أنصف لم يسعه إنكار الأسباب بالكلية فإن بعضها كالمعلوم بالضرورة، وبهذا أنا أقول"([7]).
ويقول الشيخ سعيد حوى: "إن بعض الأسباب الحسية ربطها الله بأسباب غيبية كالموت سببه الحسي المرض، وسببه الغيبي سحب الروح من قبل الملك، والجميع بأمر الله وقدرته، فعندما يثبت بالدليل الشرعي أن سببًا حسيًّا مرتبط بسبب غيبي فقد وجب الإيمان في هذه الحالة بكل من السببين: الغيبي والحسي، ولا يجوز نفي أحدهما بحال، ولا يمتنع أن يكلف الله تعالى ملكًا من الملائكة بمباشرة هذه الأمور.
إن للرعد سببًا حسيًّا وللبرق سببًا حسيًّا هو ما يتكلم عنه علماء الطبيعة، ولتصريف السحاب أسباب غيبية، الله أعلم بها؛ فعلماء المسلمين يذكرون أن المكلف بأمر الأرزاق ميكائيل، فإذا ورد حديث صحيح حول موضوع الرعد والبرق وصلة الملائكة به، فإنه محمول على ذكر السبب الغيبي الذي لا ينفي السبب الحسي، فإذا أدركت هذا الموضوع عرفت قاعدة مهمة تستطيع أن تفهم بها كثيرًا من النصوص"([8]).
والطاعن لا يقف عند حد تساؤله: هل الرعد ملك من الملائكة؟ بل يطرح تساؤلا آخر مؤداه: كيف يسبح الرعد بحمد الله؟ وهل هو مخلوق حي يتحرك ويتكلم ويسبح الله بلسانه؟
وقد رجع الطاعن إلى تفسير البيضاوي ونقل عنه ما يأتي: "قال البيضاوي: عن ابن عباس «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد فقال: هو ملك موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب». والملائكة من خيفته، من خوف الله وإجلاله، وقيل: الضمير للرعد. وأخرج الترمذي عن ابن عباس: «أقبلت اليهود إلى محمد فقالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: ملك من الملائكة موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار، يسوقه بها حيث يشاء. قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: زجره السحاب حتى تنتهي حيث أمرت. قالوا: صدقت». ونحن نسأل: إذا كان الرعد هو الكهرباء الناشئة عن تصادم السحاب، فلماذا يقول: إن الرعد هو أحد الملائكة"([9]).
وردا على ذلك نقول: على فرض أن الطاعن قد طرح هذا التساؤل الأخير ـ هل الرعد ملك؟ والذي سبقت مناقشته ـ بحسن نية، فإنه لايمكن افتراض الشيء نفسه فيما نقله عن البيضاوي؛ ذاك أنه لم يكن أمينًا في النقل عنه؛ إذ أسقط من كلامه قسمًا مهمًّا، وأبقى قسمًا يوافق هدفه في تخطئة القرآن، فلم ينقل الطاعن الخلاف الذي نص عليه الإمام البيضاوي؛ حيث قال :: "ويسبح الرعد"؛ أي: يسبح سامعوه. "بحمده": ملتبسين به، فيضجون بسبحان الله والحمد لله، أو يدل الرعد بنفسه على وحدانية الله وكمال قدرته، ملتبسًا بالدلالة على فضله ونزول رحمته([10]).
هذا هو رأي البيضاوي في معنى تسبيح الرعد بحمد الله، فإما أن يكون المعنى أن الناس الذين يسمعون الرعد يسبحون الله، ويكون تسبيحهم ملتبسًا ومقرونًا بحمد الله، فيقولون: سبحان الله والحمد لله، وإما أن يكون صوت الرعد دالًا على وحدانية الله وكمال قدرته، ملتبسًا بالدلالة على فضل الله ونزول رحمته.
وهذا هو التفسير الصواب لتسبيح الرعد بحمد الله، وهو الذي يقول به البيضاوي. وبعد ما قرر البيضاوي التفسير الصواب أراد أن يذكر قولًا آخر هو عنده مرجوح، فأورد رواية عن ابن عباس رفعها للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها أن الرعد أحد الملائكة، يسوق السحاب وهو يذكر الله ويسبحه.
ونسب الطاعن إلى البيضاوي رواية لم يوردها في تفسيره، وهي التي أخرجها الترمذي في سننه، والتي فيها جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لسؤال اليهود عن أن الرعد أحد الملائكة، وصوت الرعد هو صوت الملك يزجر به السحاب. هذه الرواية لم تذكر في تفسير البيضاوي، وكان الطاعن مفتريًا عندما زعم وجودها في تفسيره([11]).
ولا حاجة هنا لأن نعيد ما سبق أن ذكرناه من أن الذي ينبغي أن يفهم من هذه الأحاديث ـ على الرغم من اختلاف العلماء فيها؛ فمنهم من صححها ومنهم من ضعفها ـ هو أن للرعد ملكًا، وليس أنه ملك، وذلك على حد تعبير فضيلة الدكتور علي جمعة.
ومن ثم يمكن القول: إنه لا شبهة على الآية أصلًا ـ من ناحية كون الرعد ملكًا ـ لأن القرآن لم يقل ذلك. فقط إن كان ثمة شبهة؛ فهي في الأحاديث، وقد تم توجيهها.
ونعود إلى استئناف مناقشة ما بدأناه حول تساؤل الطاعن: كيف يسبح الرعد بحمد الله؟ وفي اعتقادنا أن الرد على ذلك هين؛ خاصة إذا علمنا أنه ورد في التوراة والإنجيل أن كل شيء خلقه الله، فهو يسبحه.
ففي التوراة عن التسابيح لله: "شعب سوف يخلق، يسبح الرب"؛ يقصد شعب محمد صلى الله عليه وسلم (مزمور 102: 18)، وفي سفر الزبور: "تسبحه السماوات والأرض والبحار وكل ما يدب فيها" (مزمور 69: 34)، وفي سفر الزبور: "سبحوا الرب من السماوات، سبحوه في الأعالي، سبحوه يا جميع ملائكته، سبحوه يا كل جنوده، سبحيه يا أيتها الشمس والقمر، سبحيه يا جميع كواكب النور، سبحيه يا سماء السماوات، ويا أيتها المياه التي فوق السماوات، لتسبح اسم الرب؛ لأنه أمر فخلقت، وثبتها إلى الدهر والأبد، وضع لها حدًّا فلن تتعداه.
سبحي الرب من الأرض يا أيتها التنانين وكل اللجج، النار والبرد، الثلج والضباب، الريح العاصفة كلمته، الجبال وكل الآكام، الشجر المثمر وكل الأرز، الوحوش وكل البهائم، الدبابات والطيور ذوات الأجنحة، ملوك الأرض وكل الشعوب، الرؤساء وكل قضاة الأرض، الأحداث والعذارى، أيضًا الشيوخ مع الفتيان، ليسبحوا اسم الرب؛ لأنه قد تعالى اسمه وحده، مجده فوق الأرض والسماوات" (مزمور 148).
وفي الأناجيل الأربعة: "يسبحون الله بصوت عظيم" (لوقا 19: 37)، "وهم يمجدون الله ويسبحونه" (لوقا 2: 20)، "وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة" (لوقا 2: 13)، وكان عيسى عليه السلام يسبح الله تعالى مع الحواريين؛ ففي مرقس: "ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون" (مزمور 14: 26)، وفي متى: "ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون" (متى 26: 30)، ومن يسبح الله كيف يكون هو الله أو إله مع الله؟ وفي الزبور: "سبحوا اسم الرب. سبحوا يا عبيد الرب" إلى أن قال: "كل ما شاء الرب صنع في السماوات والأرض. في البحار وفي كل اللجج، المصعد السحاب من أقاصي الأرض. الصانع بروقًا للمطر. المخرج الريح من خزائنه..." (مزمور 135) ([12]).
ومن ثم فإن القرآن ليس بدعًا من الكتب السماوية في ذلك الأمر، وقد أسند القرآن إلى الرعد التسبيح، على طريقة القرآن المعجزة في التعبير، وهي التصوير، يعرض فيها الأفكار والمعاني بطريقة مصورة، كان القارئ يرى أمامه صورًا حية متحركة، وليس مجرد كلمات وعبارات([13]).
فلم يخطئ القرآن ـ وهو ليس في حاجة إلى ذلك النفي ـ عندما تكلم عن الرعد بهذه الطريق المعجزة، وعرضه في هذه الصورة الحسية المتحركة، لكن الطاعن لا يعرف ـ أو تجاهل ذلك عمدًا ـ طريقة القرآن في التعبير، ولا يستمتع بما فيه من روائع التصوير.
"فالتصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسوسة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية؛ ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية، فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل"([14]).
فقوله تعالى:)ويسبح الرعد بحمده((الرعد:13)؛ أي: يظهر قدرته تعالى وجبروته وتسخيره لجميع ظواهر هذا الكون، كقوله تعالى:)وإن من شيء إلا يسبح بحمده((الإسراء: ٤٤).
يقول الدكتور عبد الله شحاتة: "والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة، وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان، وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس حتى اليوم، وعند الذين يعرفون الكثير عن طبيعتها، والسورة تذكر هذه الظواهر متتابعة وتضيف إليها الملائكة والتسبيح والسجود والخوف والطمع لتصوير سلطان الله المتفرد بالقهر والنفع والضر"([15]).
ويقول في كتابه (آيات الله في الكون): "والرعد ذلك الصوت المدوي، وهو أثر من آثار الناموس الكوني الذي صنعه الله، أيًّا كانت طبيعته وأسبابه، فهو رجع صنع الله في هذا الكون، وهو يحمد ويسبح بلسان الحال للقدرة التي صاغت هذا النظام، كما أن كل مصنوع جميل متقن يسبح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه بما يحمله من جمال وإتقان.
وقد اختار الله سبحانه وتعالى أن يجعل صوت الرعد تسبيحًا للحمد؛ اتباعًا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق، وخلق سمات الحياة وحركتها على مشاهد الكون الصامتة؛ لتشارك في المشهد كله، وقد انضم إلى تسبيح الرعد بحمد الله تسبيح الملائكة"([16]).
فتسبيح الرعد لله تعالى تسبيح فطرة([17])، فطر الله الرعد عليها، ولا يخرج عن فطرة خلقه قط، منصاعًا إلى أمر ربه جل جلاله، وذلك عين السجود والتسبيح، وتسبيح وسجود الفطرة حال وصفة في كل خلق في السماوات السبع والأرضين السبع، وليس مقصورًا على الرعد والسحاب([18]).
وصفوة القول: إن الرعد ظاهرة كونية طبيعية، واحدة من جند الله، يسبح بحمد ربه، وطريقة تسبيحه هذه لا يعلمها إلا الله خالقه، خاضعًا لأوامره، ضارعًا له مداومًا على ذكره، يشكره اعترافًا لجلاله بالألوهية والربوبية والوحدانية.
وأخيرا: لكي نثبت أن القرآن الكريم ـ ومثله في ذلك الحديث الشريف ـ لايمكنه أن يخالف حقائق العلم البتة؛ بل دائمًا ما تأتي الحقائق العلمية مطابقة للآيات القرآنية، مبرهنة على صدق الكتاب الذي ضم هذه الآيات بين دفتيه ـ دعونا نتوقف قليلا لنتأمل هذا المشهد الكوني الذي يعرضه الخالق سبحانه وتعالى في الآية رقم 43 من سورة النور.
هذا المشهد الذي يمر عليه الناس غافلين، فيه متعة للنظر وغيرة للقلب ومجال للتأمل في صنع الله وآياته، تقول الآية: )ألم تر أن الله يزجي سحابًا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركامًا فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43)((النور).
إن الله القادر على كل شيء يسوق السحاب بقدرته من مكان إلى مكان، ثم يؤلف بينه ويجمعه بعد تفرقه، فإذا هو ركام بعضه فوق بعض.
فترى الودق ـ أي المطر ـ يخرج من خلاله إذا ثقل، وهذه السحب الركامية تكون على هيئة جبال ضخمة كثيفة، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة.
ومشهد السحب التي تكون كالجبال يكون جليًّا لراكب الطائرة، وهي تعلو فوق السحب وتسير بينها، فهي جبال حقا ضخمة بارتفاعاتها وانخفاضاتها، إنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الإنسان إلا بعد أن يعلو في السماء بالطائرة وغيرها.
وهذه الجبال مسخرة بأمر الله وفق ناموسه الذي يحكم الكون، ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر، والبرد من يشاء، سواء كان رحمة لهم أو نقمة عليهم، ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم أو ليؤخر عنهم الغيث.
وإذا أمعنا النظر في كلمات هذه الآية العظيمة لرأينا تفصيلًا دقيقًا لظاهرة تكون السحب الركامية، فتوضح أن السحب تتكون ضعيفة في بدايتها، عبر عنها الحق تعالى بكلمة "الإزجاء"، ثم يؤلف بينها ويجمعها، ثم يجعلها متراكبة، ومن المعروف علميًّا أن السحب تتكون بداية من قطيرات صغيرة من الماء...
ويختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية بظاهرة البرق: ) يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43)((النور)، وتشير هذه النهاية إلى الحقيقة الكهربية التي اكتشفها العلم حديثًا، ودور البرد في توليد الشحنات الكهربية.
فقد ثبت علميًّا أن حركة البرد ترفع من كمية الكهرباء المتولدة على السحب المتراكمة إلى درجة تؤدي إلى حدوث تفريغ كهربي هائل قد تصل شرارته إلى ثلاثة أميال في طولها .
فمن علّم محمدًا ـ النبي الأمي قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا ـ التفاصيل الدقيقة لحقائق علمية لم تكتشف إلا في العقود الأخيرة؟! أليس هذا دليلا قاطعًا على أن القرآن كلام الله، وأن هذه الحقائق الكونية التي يكتشفها العلماء على فترات متباعدة هي في علم الله، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وهو علام الغيوب([19]).
ثانيا. البرق خوف وطمع:
1) الحقائق العلمية:
البرق، وما يتلوه من رعد يثير الخوف والرعب في نفس الإنسان؛ لما قد يحدثه من صواعق مـخربة في بعض الأحيان، ولكنه في الوقت نفسه يجعل الإنسان يطمع منه بأمطار غزيرة، فالبرق والرعد ـ كما هو معروف ـ ينشئ سحابًا كثيفًا يؤدي إلى هطول أمطار غزيرة مصحوبة عادة بالبرد، وقد تحدث فيضانات وسيول عارمة تملأ الأودية والشعاب، وتسبب في بعض الأحيان الدمار والخراب في المزروعات والممتلكات([20]).
صورة لعاصفة رعدية تضرب إحدى المدن
لقد درس العلماء البرق لمدة طويلة ووجدوا أن الغيمة دائمًا ما تكون مشحونة كهربيًّا، وتكون في أسفلها سالبة الشحنة وفي أعلاها موجبة الشحنة، أما الأرض فتكون غالبًا موجبة الشحنة، وعند انطلاق شعاع البرق من أسفل الغيمة وتكون شحنته سالبة باتجاه الأرض ذات الشحنة الموجبة ـ تلتقي الشحنات المتعاكسة ويحدث الصدام وينطلق شعاع البرق ليسير بسرعة تصل إلى أكثر من مئة ألف كيلو في الثانية الواحدة.
ونتيجة للشحنة الكهربية الهائلة التي تشق طريقها في الهواء، فإنه يسخن فجأة في أجزاء قليلة من الثانية لتبلغ درجة حرارته حوالي 20 ألف إلى 30 ألف درجة مئوية؛ وهي درجة حرارة هائلة تزيد على حوالي ثلاث إلى خمس مرات قدر حرارة سطح الشمس([21])، والتسخين الفجائي للهواء لدرجة الحرارة الهائلة تلك يولد موجة صدمية فوق صوتية (Supersonicshockwave) تسمع كأصوات عاتية مرعبة متتابعة بهيئة دمدمة وقعقعة تسمى الرعد (Thunder).
صورة لشجرة أثناء تعرضها لصاعقة
وليست ضربات البرق خطرًا يمكن تجاهله؛ حيث يحدث البرق حوالي 100مرة كل ثانية، وفي اللحظة الواحدة تحدث حوالي 2000 عاصفة رعدية، وفي العام حوالي 6 مليون عاصفة برقية (Lightingstorms)، ويقوم البرق بتفريغ تيار يبلغ أكثر من مئة مليون فولت على الأقل في كل مرة، وقد يصل إلى ألف مليون فولت، فنحن إذًا أمام قوة رهيبة تدخل في صلب العمليات المقدرة لتوزيع المطر على سطح الكوكب، وفي الوقت ذاته قد تكون تلك القوة الرهيبة مصدرًا لدمار لا يدفعه احتياط([22]).
صورة مخيفة لإحدى الصواعق
يقول العلماء: "إن الموجة الكهرطيسية الناتجة عن البرق قد تشوش أو تعطل عمل الآلات الإلكترونية والشبكات الكهربية في دائرة قطرها كيلو متر من مصدر البرق، فخلال البرق وفي فترة زمنية لا تزيد عن جزء من المليون من الثانية تتعرض الشبكات الكهربية إلى ارتفاع في التوتر الكهربي يزيد عن مئة فولت"([23]).
وفي إحصائيات تقريبية تقتل الصواعق الناتجة عن البرق مئتي شخص تقريبًا في الولايات المتحدة([24]).
وتقول لنا الإحصائيات كذلك: تحدث في الولايات المتحدة الأمريكية خسارات بمئات الملايين من الدولارات سنويًّا بسبب ما يحدثه البرق من أخطار، كتكسير السيارات والزجاج وأضرار بالناس؛ بل إن هناك بعض الناس يقتلون بسبب هذه الحبات من البرد.
هذه صورة لأكبر حبة برد رصدها العلماء في عام 1970م في الولايات المتحدة، وكان وزنها ثلاثة أرباع الكيلو جرام (750 جراما)، وقطر هذه الحبة في حدود 15سم، وهذه الحبة لو وقعت على إنسان لمات على الفور([25])
وقد يصحب البرق ما يسمى بعواصف التورنادو الرعدية، التي تبدو بهيئة إعصار فيه نار، وقد استشكل أن تصاحب العواصف والأعاصير أية ظواهر نارية، باعتبار أنها دومات مكونة أساسًا من ماء مثلج وبرد؛ إذ لم يعرف إلا حديثًا جدًّا أن الدور الأساسي في تكوين الشرارة النارية وصدور البرق يرجع إلى البرد.
صورة لبرج إيفيل في فرنسا أثناء تعرضه لصاعقة في عام 1902م
وتصيب الصواعق المنشآت العمرانية المرتفعة بدرجة أشد منها بالنسبة للمباني المنخفضة القريبة من سطح الأرض؛ فيتعرض مبنى الأمبيرستيت في نيويورك لعشرات من الصواعق في السنة الواحدة؛ وخاصة عند حدوث عواصف الرعد والبرق، ولحماية المبنى من أخطار الصواعق زود بعمود يعمل على امتصاص الشحنات الكهربية السالبة الهابطة أثناء حدوث البرق وسريانها إلى الأرض مباشرة([26])، ومع ذلك كثيرًا ما يشاهد الناس الصواعق حول جوانب المبنى([27]).
وإذا كان البرق مدمرًّا للممتلكات قاتلًا للأنفس، فإنه في الوقت نفسه مبشرًا بنزول المطر والخيرات من السماء؛ حيث ترسل كتل الغيم العظيمة حبات المطر من بين ثناياها، لكنها ليست بالكبيرة جدًّا فتتلف الزروع والأراضي، ولا بالصغيرة جدًّا فتضيع في الفضاء ولا تصل إلى الأرض، ثم تحط هذه الحبات على الأرض برفق وهدوء وتنفذ في ترابها شيئًا فشيئًا فتنبت البذور والحبات، وتبدل الأرض المحترقة بالجفاف، والتي أشبه شيء بمقبرة مظلمة وساكنة وهامدة إلى مركز فعال نابض بالحياة والحركة، وتنشأ الجنائن الخضراء الغنية بالأزاهير والنبات([28]).
ويقول العلم الحديث: "إن للبرق والرعد تمام العلاقة في القضاء على الآفات التي تصيب المزارع، وإن السنة التي يقل فيها الرعد والبرق تكثر فيها الآفات الزراعية؛ وأكثر من هذا: إن في الرعد والبرق أسمدة كيماوية تصل إلى عشرات الملايين من الأطنان"([29]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما أشارت إليه الآيات الكريمة:
قال عز وجل: )وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43)((النور)، وقال عز وجل: )هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا وينشئ السحاب الثقال (12)((الرعد)، وقال عز وجل:)أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19)( (البقرة)، وقال عز وجل: )يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير (20)((البقرة).
وهنا يتساءل الطاعن مستنكرًا: مم التخويف وهي ظاهرة طبيعية؟!
نقول: ليس من شك في أن كلا من البرق والرعد ظاهرة طبيعية، ولكن كونها ظاهرة طبيعية جعل الله لها أسبابًا تعرف بها، لا يمنع من كونها تخويفًا وتحذيرًا منه عز وجل، قال تعالى:)وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا (59)((الإسراء)، وهذا من حكمة الله تعالى كي يراجع الناس دينهم إذا طغوا وبغوا قبل أن يحل بهم عذاب ربهم.
يقول الإمام ابن دقيق العيد: "لله أفعال على حسب العادة، وأفعال خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء، إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها"([30]).
كما أن الضرر حادث لما يقترن بهذه الظاهرة ـ في الغالب ـ بما يخاف الناس منه مما يضرهم؛ فقد "حدث أن سقط البرد في نبراسكا في يوليو 1928م، وسقط في كانساس في سبتمبر 1970م، وكانت حبات البرد حين تسقط تسبب خسائر اقتصادية خطيرة أحيانًا، فلقد خسرت الولايات المتحدة في إحدى الفترات ما قيمته 300 مليون دولار بسبب سقوط البرد على البلاد، كما ثبت أن النظر إلى البرق [قد] يصيب الإنسان بالعمى المؤقت؛ لشدة ضوء البرق"([31]).
ولذلك قال تعالى: )يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43)((النور) ، فشعاع البرق يسبب العمى المؤقت، ونادرًا ما يذهب بالبصر بشكل كامل، وهذا يتفق مع إشارة القرآن الكريم بلفظ (يكاد)؛ أي: يقرب، ولم يقل: (يكاد البرق يذهب) لأن البرق إذا أصاب الإنسان مباشرة فإنه يحترق على الفور؛ حيث نجد أن الإنسان الذي أصابه شعاع البرق مباشرة سوف ترتفع درجة حرارته بشكل مفاجئ من 37 درجة مئوية إلى 30000 درجة مئوية، فتصوروا هذا الرقم([32])!
يقول د. أحمد شوقي إبراهيم: "ويصاحب البرق الذي يكاد يخطف الأبصار رعد يصم الآذان، ولو شاء الله تعالى لاستمر البرق وقتًا أطول، وأتلف خلايا شبكية العين، وخطف البصر، ولاشتد الرعد قوة وعنفًا ولأصاب الأذن بضرر كبير يذهب بقوة السمع، فذلك قوله تعالى:)ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم( (البقرة:20)، وهذه كناية عن سمع الكفار وأبصارهم التي لا يرون بها إلا ظلمات الجهل والكفر والضلال.
وتصور الآية الكريمة أحوال الكفار تصويرًا بلاغيًّا عجيبًا، فتشبه ما هم فيه من حيرة وخوف وقلق بمشاهد كونية محسوسة، فبعد أن صورت الآية السابقة عليها مشهدًا حافلًا بالحركة السريعة المضطربة المشوبة بعدم الاستقرار، في قوله تعالى:) أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق((البقرة:19)، بعد ذلك صورت الآية الكريمة مشهدًا آخر في قول الله عز وجل: ) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم((البقرة:20)، فضربت بالبرق مثلًا بخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم توقفوا وهم في خوف وحيرة )ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم((البقرة:20)، فالكفار لو اطلعوا على نور الهداية الإسلامية، لوضح لهم الطريق الصحيح ولمشوا فيه منبهرين، وإذا رجعوا إلى كفرهم وضلالهم، رجعوا إلى الظلمات التي لا يقدرون فيها على الحركة، والتي لا يرون فيها شيئًا.
وبذلك شبهت الآية الكريمة أحوال الكفار غير المحسوسة، بمشهد كوني واقع محسوس، ومشاهد للعيان، وهذا أسلوب قرآني عجيب في التصوير الفني للآيات القرآنية، التي تتحدث عن أحوال الناس؛ ليزداد قارئ الآية فهما لأحوالهم، وكأنه يراهم أمامه رأي العين"([33]).
ومن ثم فلا مسوغ للطاعن إذ استنكر على القرآن قوله بأن الرعد والبرق يحدثان تخويفًا منه عز وجل؛ لأن ـ من ناحية أولى ـ هذه الظاهرة تلحق أضرارًا بالناس، كما أن القرآن ـ من ناحية ثانية ـ لم يقصر هذه الظاهرة على كونها تخويفًا؛ ولكنه جعل البرق خوفًا وطمعًا، قال تعالى: )هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا وينشئ السحاب الثقال (12)( (الرعد)، فالناس عندما يرون البرق يتعاورهم شعوران، شعور الخوف من البرق وما يحمله من الصواعق والبرد الذي قد يؤذي ويتلف ويدمر، وشعور الطمع بهطول المطر؛ لأن المطر يهطل بعد البرق.
ويقرر العلم الحديث حاجة التربة إلى مادة تعرف بالنيتروجين([34])(الآزوت)، وأن انعدام هذه المادة يؤدي إلى عدم نمو النباتات، وإحدى الوسائل في حصول الأرض على النيتروجين هو البرق([35])، ويتوزع النيتروجين على المناطق حسب حاجتها له، فمن الذي دبر ذلك؟! إنه الله.
فلولا البرق لانعدمت الحياة؛ لأن انعدام البرق يعني انعدام تكون أكاسيد الآزوت في الهواء، ومن ثم انعدام النباتات التي لا تستطيع الحياة دون وجود هذه الأكاسيد في تربتها؛ ومن ثم انعدام الحيوان؛لأنه يعيش على النبات، وأخيرًا انعدام الإنسان لأنه يعيش على الحيوان والنبات([36]).
3) وجه الإعجاز:
ومضات البرق ودمدمة الرعد رسائل لا يغيب مغزاها عن الفطين، تشهد بتقدير مسبق وتدبير واحد، لا تصنعه إلا مشيئة واحدة عليا، وقدرة إذا شاءت جعلت النعمة نقمة، وهي ظاهرة محيرة لم يعرف الإنسان تفسيرها إلا مؤخرًا في عصر العلم، ولكن القرآن قد كشف عنها في قوله تعالى:) هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا وينشئ السحاب الثقال (12) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال (13)( (الرعد)؛ ففي الآية تصريح بالتلازم كما نعرفه اليوم بين البرق وسحاب الركام المعبر عنهبالسحاب الثقال، وهو تعبير وصفي دقيق يلتقي مع المعرفة الحديثة بأن السحاب ثقيل الوزن ترفعه تيارات الحمل من أسفل، وأن سحاب الركام خاصة هو أثقل أنواع السحب، والبرق يلتقطه البصر كومضات خاطفة، فهو إذًا ظاهرة ضوئية مرئية، ناسبها التعبير بالرؤية: (يريكم البرق)، وقد يتحول البرق إلى صواعق تحرق أي شيء تطال من معالم سطح الأرض وتصعق الأحياء؛ نتيجة الشحنة الكهربائية الهائلة([37]).
(*) منتدى: الملحدين العرب www.el7ad.com. هل القرآن معصوم؟ عبد الله الفادي، ط1، 1994م.
[1]. قام لوك هوارد بوضع تقسيم للسحب يتضمن ثلاثة أنواع:
السحب العالية: يتراوح ارتفاعها بين 8: 14كم؛ حيث الجو شديد البرودة، ويُسمَّى السحاب الموجود على هذه الارتفاعات "سمحاق"(Cirrus)؛ أي: ريشية الشكل، كذيول الخيل، ويعقبه حدوث تقلبات جوية وأعاصير، ومنه سمحاق طبقي، وسمحاق ركامي.
السحب المتوسطة: يتراوح ارتفاعها بين 2: 5 كم، وتُسمَّى "السحب الركامية" (Cumulus)، ويبدأ تكوُّن هذه السحب في فترة الضحى أو قبيل العصر، ويزداد نموها رأسيًّا مع اقتراب المساء، وترتفع حتى يصل سمكها إلى 5 كم، ويصحب هذه السحب حدوث عواصف واضطرابات جوية، كالرعد والبرق، وخصوصًا مع بداية هطول المطر منها، وقد يصحب هذا المطر سقوط برد.
السحب المنخفضة: لا يزيد ارتفاعها على 600م فوق سطح الأرض، وتُسمَّى "السحب الطبقية" أو "السحب البساطية" (Stratifom Clouds)، تتكوَّن هذه السحب في الجو المستقر، ولا يصاحبها حدوث عواصف رعدية، أو سقوط برد. (إعجاز الكتاب في وصف السحاب، د. كارم غنيم، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net).
[2]. قد يسقط خلال العاصفة الواحدة نحو ثلث مليون طن من مياه الأمطار.
[3]. خاصة في المناطق القارية هائلة الاتساع خلال فصل الصيف.
[4]. انظر: الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في الرياح والمطر والأعاصير والبراكين والزلازل، د. ماهر أحمد الصوفي، المكتبة العصرية، بيروت، 1429هـ/ 2008م، ج13، ص111: 118.
[5]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، إشراف: محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1427هـ/ 2006م، ص455.
[6]. رد الشبهة حول قوله تعالى: )وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ( (الرعد:13) ، مقال منشور بمنتديات: الجزيرة توك www.aljazeeratalk.net .
[7]. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي، مرجع سابق، ج13، ص120.
[8]. الأساس في التفسير، سعيد حوى، دار السلام، القاهرة، 1999م، ج5، ص2747.
[9]. هل القرآن معصوم؟ عبد الله الفادي، مرجع سابق، ص23.
[10]. تفسير البيضاوي المسمَّى "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، البيضاوي، دار الجيل، بيروت، 1329هـ/ 1912م، عند تفسير هذه الآية.
[11]. انظر: القرآن ونقض مطاعن الرهبان، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، دار القلم، دمشق، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص44.
[12]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، إشراف: د. محمود حمدي زقزوق، مرجع سابق، ص455، 456.
[13]. القرآن ونقض مطاعن الرهبان، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، مرجع سابق، ص45.
[14]. التصوير الفني في القرآن الكريم، سيد قطب، مرجع سابق، ص36.
[15]. أهداف كل سورة ومقاصدها في القرآن، د. عبد الله شحاتة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ج1، ص269.
[16]. آيات الله في الكون، د. عبد الله شحاتة، نهضة مصر، القاهرة، ط6، 2009م، ص90.
[17]. التسبيح على نوعين رئيسيين: تسبيح إرادي "اختياري" للمكلفين من الأحياء، وتسبيح فطري "تسخيري" لغير المكلفين من الأحياء وكل الجمادات ومختلف صور الطاقة المصاحبة لها والناتجة عنها، ومختلف الظواهر والسنن الكونية المحيطة بها والحاكمة لها.
[18]. تسبيح الكون، د. أحمد شوقي إبراهيم، نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2003م، ص109. وللمزيد انظر: صور من تسبيح الكائنات لله، د. زغلول النجار، نهضة مصر، القاهرة، ط7، 2004م.
[19]. الإعجاز العلمي في أسرار القرآن الكريم والسنة النبوية، محمد حسني يوسف، دار الكتاب العربي، دمشق، ط1، 2005م، ج2، ص82: 84.
[20]. الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في الرياح والمطر والأعاصير والبراكين والزلازل، د. ماهر أحمد الصوفي، مرجع سابق، ج13، ص137.
[21]. تُقدَّر حرارة سطح الشمس بحوالي 6 آلاف درجة مئوية.
[22]. البرق بشير ونذير، د. محمد دودح، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
[23]. الآيات العلمية في القرآن الكريم، علي محمد علي دخيل، دار الهادي، بيروت، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص89.
[24]. المرجع السابق، ص89.
[25]. معجزة تشكل البرد، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[26]. ولما كانت المباني التي تقع على جوانب الأودية العالية أكثر عرضة لتأثيرات الصواعق وأخطارها من تلك التي تقع في بطون الأودية، فإن معظم المنازل يثبت في أعاليها موانع للصواعق وعند مدِّ خطوط كهرباء الضغط العالي وتثبيت الأعمدة الكهربائية لربط الأسلاك الكهربائية فيها وتوصيلها من عمود إلى آخر، فإن أعالي هذه الأعمدة مُزوَّد بأسلاك أرضية لامتصاص الشحنات الكهربائية السالبة عند حدوث الصواعق وإرسالها إلى الأرض مباشرة.
[27]. الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في الرياح والمطر والأعاصير والبراكين والزلازل، د. ماهر أحمد الصوفي، مرجع سابق، ج13، ص122.
[28]. الآيات العلمية في القرآن الكريم، علي محمد علي دخيل، مرجع سابق، ص84، 85.
[29]. المرجع السابق، ص85.
[30]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، مرجع سابق، ج2، ص624، 625.
[31]. إعجاز الكتاب في وصف السحاب، د. كارم غنيم، بحث منشور بموقع: الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
[32]. معجزة تشكل البرد، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[33]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2005م، ص78.
[34]. يتكوَّن الهواء من الأكسجين بنسبة 21%، ومن النيتروجين بنسبة 78%، وغازات مختلفة بنسبة 1%، والأرض تحتاج إلى النيتروجين كسماد لها وكعامل مخصِّب، وبدونه لا يمكن أن ينبت أي نبات على وجه الأرض.
[35]. فالتفريغ الكهربائي الناتج عن البرق يؤدي إلى تكوُّن أكاسيد النيتروجين التي يهبط بها المطر والثلج إلى التربة ويستفيد منها النبات، وتُقدَّر كمية النيتروجين التي تحصل عليها التربة بهذه الطريقة في صورة نترات بما يقرب من خمسة أرطال للفدان الواحد سنويًّا، وهو ما يعادل ثلاثين رطلًا من نترات الصوديوم، وهذه كمية تكفي لبدء نمو النباتات، ويلاحظ أن نسبة النيتروجين الناتجة عن البرق تكون في المناطق الاستوائية أكثر منها في المناطق المعتدلة الرطبة، وهذه بدورها تزيد عن الكمية التي تتكون في المناطق الجافة الصحراوية.
[36]. آيات طبيعية في القرآن، د. كمال المويل، دار الفارابي للمعارف، دمشق، ط2، 1423هـ/ 2002م، ص47، 48.
[37]. البرق بشير ونذير، د. محمد دودح، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.com.
go
online how long for viagra to work
husband cheat
online online affair