الطعن في حديث التداوي بالحبة السوداء(*)
مضمون الشبهة:
يطعن أعداء السنة النبوية في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا السام»؛ أي: الموت. ويستدلون على ذلك بأن العلم يرفض أن يكون لتلك الحبة السوداء الشفاء من جميع الأمراض في قوله: «شفاء من كل داء»، كما أن ذلك - أيضا - يناقض الواقع المشاهد الذي أثبت أن الحبة السوداء لم تتمكن من شفاء بعض المرضى الذين تداووا بها. متسائلين: كيف ينسب هذا الحديث الذي يخالف العلم والواقع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! رامين من وراء ذلك إلى إنكار هذا الحديث، وتشكيك المسلمين في السنة النبوية.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فضل الحبة السوداء حديث صحيح في أعلى درجات الصحة، ومتفق عليه عند الشيخين في صحيحيهما، كما أن قوله صلى الله عليه وسلم: «شفاء من كل داء» ليس من العموم المطلق، ولكنه من باب العموم المخصوص بقرينة الواقع المشاهد في عالم الطب.
2) لقد أكد علماء الطب قديما وحديثا أن للحبة السوداء اليد الطولى في شفاء كثير من الأمراض المتنوعة؛ لأنها تقوي وتنشط الجهاز المناعي، الذي بدوره يزيد من قدرة الجسم على مقاومة جميع أنواع الجراثيم والفيروسات التي تفتك به.
التفصيل:
أولا. حديث الحبة السوداء صحيح، بل في أعلى درجات الصحة:
لقد وردت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة أحاديث في فضل الحبة السوداء، وفضل التداوي بها، منها:
· ما اتفق على صحته الشيخان البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «في الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا السام»[1].
· وفي رواية أخرى، قال صلى الله عليه وسلم: «ما من داء إلا في الحبة السوداء منه شفاء إلا السام»[2].
· وقد روى الترمذي في سننه بسنده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «عليكم بهذه الحبة السوداء؛ فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام»[3].
فالحديث إذن في أعلى درجات الصحة؛ حيث اتفق عليه البخاري ومسلم في صحيحهما وأخرجه الترمذي في سننه، كما أخرجه أيضا ابن ماجه في سننه وأحمد في مسنده، والطبراني في معجمه الكبير والأوسط وغيرهم.
وروي عن خالد بن سعد قال: «خرجنا ومعنا غالب بن أبجر، فمرض في الطريق، فقدمنا المدينة وهو مريض، فعاده ابن أبي عتيق فقال لنا: عليكم بهذه الحبيبة السوداء فخذوا منها خمسا أو سبعا فاسحقوها، ثم اقطروها في أنفه بقطرات زيت في هذا الجانب وفي هذا الجانب، فإن عائشة حدثتني أنها سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن هذه الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا من السام، قلت: وما السام؟ قال: الموت»[4].
وقد علق ابن بطال على هذا الحديث بقوله: "هذا الحديث يدل على عموم الانتفاع بالحبة السوداء في كل داء غير داء الموت كما قال -صلى الله عليه وسلم- إلا أن أمر ابن عتيق بتقطير الحبة السوداء بالزيت في أنف المريض لا يدل أن هكذا سبيل التداوي بها في كل مرض؛ فقد يكون من الأمراض ما يصلح للمريض أيضا، ويكون منها ما يصلح خلطها ببعض الأدوية فيعم الانتفاع بها منفردة ومجموعة مع غيرها[5].
قال ابن القيم: "الحبة السوداء: هي الشونيز في لغة الفرس، وهي الكمون الأسود وتسمى الكمون الهندي، قال الحربي، عن الحسن: إنها الخردل، وحكى الهروي: أنها الحبة الخضراء ثمرة البطم وكلاهما وهم، والصواب أنها الشونيز، وهي كثيرة المنافع جدا[6].
قال النووي في شرح صحيح مسلم: "وقد ذكر الخطابي في الكلام على السنن أن هذا من العام المراد به الخصوص؛ إذ لا يجتمع في طبيعة نبات واحد يجمع القوى التي تتقاوم الطبائع فيها من معالجة الأدواء على اختلافها وتقابل طبائعها، وإنما أراد أنه شفاء من كل داء يحدث من كل البرودة والرطوبة والبلغم[7].
الحديث ليس على عمومه المطلق:
إن الأدواء عند العرب كانت محدودة، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الحبة السوداء شفاء من كل داء»؛ أي: من أكثر الأدواء المعروفة عندهم، ولفظ "كل" لا يفيد العموم المطلق كما يتوهم كثير من الناس.
فقد جاء في القرآن الكريم عن الريح التي أرسلها الله على قوم عاد أنها دمرت كل شيء، مع أنها لم تدمر إلا الناس، اقرأ قوله تعالى في سورة "الأحقاف": )تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم( (الأحقاف: ٢٥)، ومعنى هذا أنها لم تدمر المساكن ولكنها دمرت الأشخاص، بدليل قوله تعالى في آية أخرى من سورة "القمر": )كأنهم أعجاز نخل خاوية (7)( (الحاقة)، وجاء عن بلقيس أنها أوتيت من كل شيء؛ أي: من كل ما تحتاج إليه، قال تعالى في سورة "النمل": )إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم (23)( (النمل) وأنت تقول لصديقك: الحمد لله، أنا عندي كل شيء. فهل تعني أن عندك كل موجود في الوجود؟! أو تعني أنك تملك الكثير مما تحتاج إليه، وتحمد الله عليه راضيا به؟
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «إلا السام»، فليس من باب الاستثناء المتصل؛ لأن السام ليس داء، بل هو قطع للأجل وإنهاء للحياة، ولكنه من باب الاستثناء المنقطع، فهو بمعنى (لكن)، كأنه قال: لكن الموت ليس له شفاء؛ بيانا لقوله تعالى: )فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (34)( (الأعراف).
إذن فقد ظهر من هذا البيان أن الحبة السوداء ليست شفاء لكل داء على وجه العموم، ولكنه من باب العموم المخصوص بقرينة الواقع المشاهد في عالم الطب، والواقع خير دليل على التخصيص، ولفظ (كل) لا يفيد العموم المطلق كما عرفنا، ولكنه يفيد الأكثرية، بخلاف لفظ (جميع)؛ فإنه يفيد العموم المطلق - غالبا - إذا لم يرد ما يخصصه[8].
وذهب ابن حجر في "الفتح" إلى أنه" يؤخذ من ذلك أن معنى كون الحبة شفاء من كل داء: أنها لا تستعمل في كل داء صرفا، بل ربما استعملت مفردة، وربما استعملت مركبة، وربما استعلمت مسحوقة وغير مسحوقة، وربما استعلمت أكلا وشربا وسعوطا وضمادا، وغير ذلك، وقيل: إن قوله «كل داء» تقديره يقبل العلاج بها؛ فإنها تنفع في الأمراض الباردة، أما الحارة فلا.
نعم قد تدخل في بعض الأمراض الحارة اليابسة بالعرض فتوصل قوى الأدوية الرطبة الباردة إليها بسرعة تنفيذها.
قال أبو بكر بن العربي: العسل عند الأطباء أقرب إلى أن يكون دواء من كل داء من الحبة السوداء، ومع ذلك فإن من الأمراض ما لو شرب صاحبه العسل لتأذى به، فإن كان المراد بقوله في العسل" فيه شفاء للناس" الأكثر الأغلب فحمل الحبة السوداء على ذلك أولى. وقال غيره: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصف الدواء بحسب ما يشاهده من حال المريض، فلعل قوله في الحبة السوداء وافق مرض من مزاجه بارد، فيكون معنى قوله «شفاء من كل داء»؛ أي: من هذا الجنس الذي وقع القول فيه، والتخصيص بالحيثية كثير وشائع"[9].
ومما سبق يتضح أن حديث الحبة السوداء حديث صحيح ثبتت نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصح كتب الحديث، وقد فسر العلماء قوله صلى الله عليه وسلم:«فيه شفاء من كل داء» أنه من العام الذي يراد به الخاص؛ أي: من هذا الجنس الذي وقع القول فيه، فضلا عن أنه غير مستنكر أو مستبعد أن يجمع الله دواء كل الأمراض في شيء واحد.
ليس من الله بمستنكر
|
|
أن يجمع العالم في واحد
|
ثانيا. تأكيد الطب قديما وحديثا على شفاء الحبة السوداء كثيرا من الأمراض:
لقد أكد أهل الطب قديما وحديثا أن في الحبة السوداء شفاء لكثير من الأمراض التي تصيب الإنسان؛ وهي تحمي الجهاز المناعي ليقوم بدوره في الحفاظ على الجسم من جميع الأمراض.
فلقد أجمع علماء الطب القدامى والمحدثون على أن للحبة السوداء منافع طبية عظيمة، تجعل لها قدرة هائلة على شفاء الإنسان من أمراض كثيرة ومتنوعة:
§ أما علماء الطب قديما، فقد أكدوا ذلك، وبينوه بما أتيح لديهم حينئذ من معارف ومعلومات طبية؛ فإن ابن القيم يرى أنها: "أي: الحبة السوداء - نافعة من جميع الأمراض الباردة، وتدخل في الأمراض الحارة اليابسة بالعرض، فتوصل قوى الأدوية الرطبة إليها بسرعة تنفيذها إذا أخذ يسيرها... والشونيز حار يابس، مذهب للنفخ، مخرج لحب القرع، نافع من البرص وحمى الربع[10] والبلغمية مفتح للسدد، ومحلل للرياح، مجفف لبلة المعدة ورطوبتها. وإن دق وعجن بالعسل، وشرب بالماء الحار، أذاب الحصاة التي تكون في الكليتين والمثانة. ويدر البول والحيض واللبن إذا أديم شربه أياما، وإن سخن بالخل، وطلي على البطن قتل حب القرع، فإن عجن بماء الحنظل الرطب، أو المطبوخ كان فعله في إخراج الدود أقوى، ويجلو ويقطع، يحلل ويشفي من الزكام البارد إذا دق وصير في خرقة، واشتم دائما أذهبه.
كما أن دهنه نافع لداء الحية، ومن الثآليل[11] والخيلان[12]، وإذا شرب منه مثقال بماء نفع من البهر وضيق النفس، والضماد به ينفع من الصداع البارد، وإذا نقع منه سبع حبات عددا في لبن امرأة وسعط به صاحب اليرقان[13] نفعه نفعا بليغا.
وإذا طبخ بخل وتمضمض به نفع من وجع الأسنان عن برد، وإذا استعط به مسحوقا نفع من ابتداء الماء العارض في العين، وإن ضمد به مع الخل قلع البثور والجرب المتقرح، وحلل الأورام البلغمية المزمنة، والأورام الصلبة... وإن قلي ثم دق ناعما ثم نقع في زيت وقطر في الأنف ثلاث قطرات أو أربع نفع من الزكام العارض معه عطاس كثير.
وإذا أحرق وخلط بشمع مذاب بدهن السوسن أو دهن الحناء وطلي به القروح الخارجة من الساقين بعد غسلها بالخل نفعها وأزال القروح، وإذا سحق بخل وطلي به البرص والبهق الأسود والحزاز الغليظ نفعها وأبرأها، وإذا سحق ناعما واستف منه كل يوم درهمين بماء بارد من عضه كلب كلب قبل أن يفرغ من الماء نفعه نفعا بليغا، وأمن على نفسه من الهلاك، وإذا استعط بدهنه نفع من الفالج والكزاز[14] وقطع موادهما، وإذا دخن به طرد الهوام، وإذا أذيب الأنزروت[15] بماء ولطخ على داخل الحلقة ثم ذر عليها الشونيز كان من الذرورات الجيدة العجيبة النفع من البواسير، ومنافعه أضعاف ما ذكرنا[16].
بهذا أدرك أهل الطب قديما ما للحبة السوداء من منافع كثيرة وعظيمة في علاج كثير من الأمراض التي تصيب الإنسان، وبينوا طريقة تناولها، حسب كل مرض أو داء.
§ أما أهل الطب الحديث بما لديهم من مخترعات ومعامل ونظريات، فقد أقروا وأكدوا ما ذكره علماء الإسلام قديما من الفوائد الجمة للحبة السوداء في المجال الطبي.
فهم يقرون أن الحبة السوداء لها أثر عظيم في الشفاء من أمراض كثيرة، كما أنهم يعترفون أن لها عناصر مفيدة، وبخاصة في تقوية الجهاز المناعي للإنسان، هذا الجهاز الذي إذا سلم في جسم الإنسان حصنه ضد الأمراض؛ فهو الجهاز المخلوق لدرء المخاطر عن جسم الإنسان.
فقد أجرى عدد من الباحثين تجارب على الحبة السوداء، مستخدمين حيوانات التجارب، والإنسان أيضا، لمعرفة الخواص الدوائية لها، وقد جاءت نتائج الأبحاث والتجارب في منتهى الأهمية:
· إذ ثبت للباحثين أن الحبة السوداء لها أثر فعال في علاج أمراض الصدر، والكلى، والمعدة، والأمعاء، وأمراض الدم، واتضح أثرها الطيب في السيطرة على الأحياء الدقيقة، وأنها مقوية للجهاز المناعي.
· كما ثبت لديهم أن الحبة السوداء لها أثر في توسيع الشعب الهوائية، وعلاج الربو، والنزلات الشعبية، وأنها مفيدة في علاج المغص الكلوي، لما لها من أثر مرخ للعضلات.
· وفي جانب أمراض الجهاز الهضمي: ثبت أن لها تأثيرا جيدا في معالجة إسهالات الأطفال، والسيطرة على عدد من الجراثيم، ومعالجة الانتفاخات، والحموضة، والتهاب القولون، والاستسقاء، والالتهاب الكبدي، والتهاب المرارة، والتهاب الطحال، والقرحة المعدية، كما تستعمل لفتح الشهية للطعام.
· وفيما يتعلق بأمراض القلب والدم: فقد ثبت أنها تخفض من مستوى ضغط الدم المرتفع، وكذلك نسبة الكولسترول في الدم، وتخفيض سكر الدم المرتفع، دون تأثير في مستوى الأنسولين.
· كما تبين أنها تفيد في علاج مرض النقرس عن طريق الزيادة في طرح حمض البول، وتزيد من إدرار العصارة الكبدية الصفراء، مما يساعد في علاج حالات كسل الكبد.
· كما ثبت أنها تفيد في علاج: حب الشباب، والقراع، والثعلبة، والقوباء، والثآليل (السنط)، والبرص، والبهاق، وتساقط الشعر، وقمل الرأس.
· وفي حالة أمراض الأنف والأذن والحنجرة: فقد ثبت أنها تفيد في علاج آلام الأذن والدوخة، والتهاب اللوزتين، وضعف السمع، وأمراض العيون بدهن ما جاور العينين بزيت الحبة السوداء كل يوم حتى يتم الشفاء بإذن الله.
· وفيما يتعلق بأمراض النساء والتوليد: فقد ثبت أنها تفيد بعد غليها وتحليتها بعسل النحل في تسهيل عملية الولادة، كما يستعمل مغلي الحبة السوداء بعد تصفيته كدش مهبلي ينفع الكثير من أمراض النساء.
· كما ثبت أن للحبة السوداء دورا فعالا في تخفيف التهابات الروماتيزم، لما فيها من مادة فعالة مضادة للأورام، وعلاوة على ما ثبت - أيضا - من كونها مدرة لحليب المرضعات، وهذه الخاصية الأخيرة يمكن أن تكون مفيدة في علاج السرطان والإيدز، وبعض الظروف المرضية الأخرى المرتبطة بحالات نقص المناعة.
· كما ثبت أن الحبة السوداء تفيد في علاج الضعف العام، وعلاج الخمول، وتنشيط الذاكرة، وعلاج السرطان والحمى الشوكية[17].
وجدير بالذكر أن علماء كثيرين قد أكدوا على أن الحبة السوداء تقوي جهاز المناعة، وبالتالي تزيد من قدرة الجسم على مقاومة الجراثيم والفيروسات التي تفتك به، كما تزيد قدرة الجسم على مقاومة السرطان، فأكد ذلك ما ذهب إليه بعض فقهاء الأمة قديما، أن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم"شفاء من كل داء" إطلاق العموم، وليس الخصوص كما ذهب بعضهم الآخر.
وقد علق الدكتور زغلول النجار على الأحاديث الواردة في الحبة السوداء بقوله: "ولكن عالما مسلما من أبناء مصر المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأستاذ الدكتور أحمد القاضي، نظر في هذه الأحاديث المتعلقة بالحبة السوداء نظرة طبية فاحصة، فقال: حبة فيها شفاء من كل داء إلا الموت، لابد أن تكون لها علاقة مباشرة بجهاز المناعة في جسم الإنسان الذي سخره ربنا -سبحانه وتعالى- للدفاع عن هذا الجسم، وقام بدراسة تلك العلاقة على عدد من المرضى المصابين بنقص المناعة المكتسبة، وأثبت زيادة واضحة في عدد خلايا الدفاع عن الجسم المسماة باسم خلايا ت4 ت8 (t4 - t8 - call) بعد التناول المنتظم لجرعات مناسبة من الحبة السوداء، وقام بالفعل بتصنيع كبسولات تحوي كلا من الحبة السوداء، والثوم، وعسل النحل بكميات محسوبة بدقة شديدة سماها باسم الحروف الأولى من اسمي الحبة السوداء والثوم (conigar = combined Nigella Sativa and Garlic)، ووافقت الأجهزة الرسمية في الولايات المتحدة الأمريكية على التصريح بإنتاج هذا العقار؛ لثبات أثره الفعال في علاج أمراض نقص المناعة المكتسبة (الخلقية والعارضة)، وهي لا توافق عادة على العلاج بالمواد الطبيعية إلا بصعوبة شديدة، وفي أضيق الحدود الممكنة...
ولكن لم يكن أحد في القديم يتصور أن للحبة السوادء أدنى صلة بالجهاز المناعي في جسم الإنسان، كما أوضحت ذلك أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله الشريف أن فيها شفاء من كل داء إلا الموت.
ولذلك فقد عاش الناس قرونا طويلة يستخدمون الحبة السوداء كمحسن لطعم المأكولات فقط فأضافوها إلى مختلف أنواع الفطائر، والمخللات، إلا أن الاتجاه الحديث يميل إلى استخدامها كعلاج ناجح في العديد من الأمراض المستعصية، وثبت مؤخرا أن بذور الحبة السوداء تحتوي على زيوت ثابته بنسبة 33%، وعلى زيوت طيارة بنسبة 1٬5%، وقد وجد في زيوتها مادة فعالة في تقوية جهاز المناعة سميت بالاسم العلمي لحبة البركة (Nigella Sativa) ولذلك أطلقوا عليها اسم (نيجللون = Nigellone)، وثبت بالتجارب العديدة أن لمادة (النيجللون) دورا فعالا في رفع القدرة الدفاعية لجهاز المناعة في جسم الإنسان، وهي حقيقة لم تعرفها العلوم المكتسبة إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين، وسبق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالإشارة إليها بهذا الوضوح، وهذه الدقة العلمية لا يمكن أن يكون لها مصدر إلا وحي السماء، مما يؤكد على نبوته ورسالته -صلى الله عليه وسلم- وعلى صلته الدائمة بالوحي، وصدق الله العظيم إذ يقول فيه: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى (5)( (النجم)"[18].
وهو ما أكده الأستاذ الدكتور عبد المهدي عبد القادر في بيان منافع الحبة السوداء، فيقول: "إن نباتا يذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دواء، فتستعمله الأمة مئات السنين، تتداوى به، ثم يأتي زمن البحث العلمي، فيجد في هذا النبات كثيرا من المواد النافعة، ويستخلص منه الكثير من الأدوية، إن ذلك من أدلة نبوته -صلى الله عليه وسلم- وأنه لا ينطق عن الهوى؛ وإنما ينطق بوحي من الله -سبحانه وتعالى- إليه، صلوات الله وسلامه عليه"[19].
يؤخذ مما سبق أن الحبة السوداء لها تأثير كبير في شفاء كثير من الأمراض، ولكن ليس بالضرورة أن يكون استعمالها مفردة في كل الأحوال؛ حيث إنها تركب أحيانا مع مواد أخرى؛ لتعطي أفضل النتائج في علاج الأمراض بإذن الله.
على أن العلم الحديث قد أكد ما أشار إليه ابن حجر في الفتح بقوله: "يؤخذ من ذلك أن معنى كون الحبة شفاء من كل داء: أنها لا تستعمل في كل داء صرفا؛ بل ربما استعملت مفردة، وربما استعملت مركبة، وربما استعملت مسحوقة وغير مسحوقة، وربما استعملت أكلا وشربا... وغير ذلك"[20].
وبعد، فلنا أن نتساءل: ما وجه اعتراض هؤلاء المغرضين على حديث الحبة السوداء؟ هل جربوا الحبة السوداء فلم يجدوا فيها شفاء؟ هل أثبتت البحوث والدراسات أنه لا شفاء فيها؟!
لا، بل جهلوا ما عرفه العامة والخاصة من فائدة الحبة السوداء، المشهورة باسم حبة البركة، وجهلوا ما قاله الأطباء قديما عن الحبة السوداء، ومالها من فائدة هائلة، وكذلك ما توصل إليه البحث العلمي من فوائد عجيبة للحبة السوداء حديثا.
وخلاصة القول في كل ما ذكرنا: أن علماء الطب قديما وحديثا أجمعوا على أن للحبة السوداء منافع جمة، لا ينكرها إلا من ذهب عقله، وهي تستعمل مفردة أو مركبة مع مواد أخرى، بحسب الداء الذي تعالجه، وأن لها قدرة عظيمة على شفاء كثير من الأمراض المختلفة، علاوة على قدرتها على تقوية الجهاز المناعي للإنسان، الجهاز الذي يتعامل مع كل مسببات الأمراض، ويملك تقديم الشفاء الكامل أو بعضه لكل الأمراض، كما أنه يحمي جسم الإنسان من جميع أنواع الميكروبات والفيروسات المسببة لجميع أنواع الأمراض المتنوعة.
وهكذا تجلت الحقيقة العلمية في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «في الحبة السوداء شفاء من كل داء» والتي ما كان لأحد من البشر أن يدركها فضلا عن أن يقولها ويحدث الناس بها منذ أربعة عشر قرنا إلا نبي مرسل من الله، وصدق الله القائل: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم).
الخلاصة:
· أن حديث التداوي بالحبة السوداء حديث صحيح، بل في أعلى درجات الصحة؛ إذ اتفق على صحته الشيخان: البخاري ومسلم، كما ورد في كثير من كتب السنة كمسند ابن ماجة، وسنن الترمذي، ومسند الإمام أحمد وغير ذلك.
· إن قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحبة السوداء أنها: «شفاء من كل داء»ليس على وجه العموم، ولكنه من قبيل العموم المخصوص بقرينة الواقع المشاهد في عالم الطب، والواقع خير دليل على التخصيص، فلفظ "كل" في الحديث لا يفيد العموم المطلق، ولكنه يفيد الأكثرية، بخلاف لفظ "جميع" الذي يفيد العموم المطلق غالبا إذا لم يرد ما يخصصه.
· لقد أقر أهل الطب الحديث - بما لديهم من مخترعات ومعامل ونظريات، وأكدوا ما ذكره علماء الإسلام قديما من الفوائد الجمة للحبة السوداء في المجال الطبي.
· اكتشف العلماء أن في زيوت الحبة السوداء مادة فعالة في تقوية جهاز المناعة؛ ولذلك أطلقوا عليها اسم نيجلون، وثبت بالتجارب أن لهذه المادة دورا فعالا في رفع القدرة الدفاعية لجهاز المناعة في جسم الإنسان، وهي حقيقة لم تعرفها العلوم المكتسبة إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين.
· وفي النهاية فقد اتفق علماء الطب قديما وحديثا على تأثير الحبة السوداء في الشفاء من معظم الأمراض المتنوعة، وأنها تقوي جهاز المناعة المسئول الأول عن حماية الجسم من الفيروسات والجراثيم المسببة للأمراض المتنوعة داخل جسم الإنسان، والذي يملك الشفاء الكامل أو بعضه لكل الأمراض.
(*) دفع الشبهات عن السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م. ضلالات منكري السنة، د. طه الدسوقي حبيشي، مكتبة رشوان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: الحبة السوداء، (10/ 150)، رقم (5688). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: التداوي بالحبة السوداء، (8/ 3337) رقم (5660).
[2]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: التداوي بالحبة السوداء، (8/ 3337)، رقم (5661).
[3]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الطب، باب: ما جاء في الحبة السوداء، (6/ 162)، رقم (2113). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2041).
[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: الحبة السوداء، (10/ 150)، رقم (5687).
[5]. شرح صحيح البخاري، ابن بطال، (17/ 496).
[6]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، (4/ 297).
[7]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (8/ 3336).
[8]. المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام، علي نايف الشحود، (10/ 309).
[9]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (10/ 152).
[10]. حمى الربع: هي التي تنوب كل رابع يوم.
[11] . الثآليل: جمع ثؤلول، وهو هذه الحبة التي تظهر في الجلد كالحمصة فما دونها.
[12]. الخيلان: جمع (خال)، وهو شامة في البدن، بثرة سوداء ينبت حولها الشعر غالبا، ويغلب على شامة الخد.
[13]. اليرقان: داء الصفراء.
[14]. الكزاز: داء من شدة البرد، أو الرعدة منها.
[15]. الأنزروت: صمغ يؤتى به من فارس، فيه مرارة منه أبيض وأحمر.
[16]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، (4/ 298: 300).
[17]. موسوعة الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي، حمدي عبد الله الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، مصر، ط1، 2007م، ص661، 662.
[18]. الإعجاز العلمي في السنة النبوية، د. زغلول النجار، نهضة مصر، القاهرة، ط5، 2004م، (1/ 140: 142).
[19]. دفع الشبهات عن السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م، ص258.
[20]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (10/ 152).