دعوى نسخ أحاديث النهي عن الاحتكار(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن الأحاديث الواردة في النهي عن الاحتكار منسوخة، والتي منها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من طريق محمد بن عجلان،عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن المسيب، عن معمر بن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يحتكر إلا خاطئ».
ويستدلون على زعمهم هذا بأن معمر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب راويي الحديث كانا يحتكران، مما يدل على نسخ هذه الرواية التي روياها؛ إذ لا يمكن أن يخالفا مقتضى الرواية إلا بعلمهما أنها منسوخة؛ فقد «قيل لسعيد بن المسيب: فإنك تحتكر؟! قال سعيد: إن معمرا الذي يحدث هذا الحديث كان يحتكر».
هادفين من وراء ذلك إلى تعطيل نصوص السنة الثابتة والأحكام الشرعية المقررة، فضلا عن إثارة الشكوك والشبهات حولها.
وجها إبطال الشبهة:
1) الحديث الوارد في النهي عن الاحتكار صحيح ثابت، ولا نسخ لحكمه؛ إذ لا يلزم من مخالفة الراوي للحديث الذي يرويه نسخ ذلك الحديث، ما لم يأت الناسخ صريحا، لاحتمال نسيان الراوي للحديث، أو تأويله له بوجه من الوجوه، فصحة الحديث، ووضوح دلالته حجة على الأمة ما لم يتبين النسخ.
2) إن احتكار معمر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب لم يكن بالصورة المحرمة التي دل عليها الحديث؛ فالعلة من تحريم الاحتكار هي التضييق على الناس واستغلالهم، فإن انتفت العلة فلا وجه لتحريم الصورة التي تحبس بها الأشياء عن الناس، وقد حصر بعض العلماء الاحتكار في الأقوات فقط، فخرج من ذلك فعل معمر وسعيد حيث كانا يحتكران الزيت([1])، ولم يقترفا من الاحتكار إلا معناه اللغوي.
التفصيل:
أولا. الحديث الوارد في النهي عن الاحتكار صحيح ثابت، وإذا صح الحديث ووضحت دلالته دون وجود ناسخ فهو حجة على الأمة دون اعتبار مخالفة الراوي لمقتضى روايته:
الأحاديث النبوية الواردة في النهي عن الاحتكار صحيحة ثابتة غير منسوخة، فقد رواها أصحاب السنن والمسانيد بروايات صحيحة متصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، قال: «كان سعيد بن المسيب يحدث أن معمرا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من احتكر فهو خاطئ»([2]).
وروي - أيضا - من طريق محمد بن عجلان عن محمد بن عمرو بن عطاء، «عن سعيد بن المسيب، عن معمر بن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: لا يحتكر إلا خاطئ»([3]).
وهذا الحديث أخرجه - أيضا - الإمام أحمد في مسنده([4]) وأبو داود([5]) والترمذي([6]) وابن ماجه([7]) في سننهم بهذا اللفظ، وبطرق صحيحة متصلة عن سعيد عن معمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الحديث جاء صريحا واضحا في هذا الباب نهيا عن الاحتكار وتحريما له، ولم ينسخ هذا الحديث، ولم نطلع على ناسخ له. فهو حديث ثابت معمول بحكمه ولا نسخ فيه.
أما عن مخالفة الراوي لمقتضى روايته، فهذا لا يطعن بحال في ثبوت الحديث أو صحته.
إذ لا يلزم من مخالفة الصحابي للحديث الذي يرويه نسخ ذلك الحديث ما لم يوجد ناسخ. وهذا ما عليه جمهور الفقهاء والأصوليين.
ثم إن المقتضي للحكم هو ظاهر اللفظ في الخبر، وهو قائم، وما عارضه من فعل الراوي لا يصلح أن يكون معارضا، وذلك لاحتمال نسيان الصحابي للحديث، أو تأويله له بوجه من الوجوه.
وقول الصحابي لا يقاوم الوقوف بوجه النص، لا سيما إذا كان النص لا يحتمل التأويل، وإنما يعد هذا من اجتهادات ذلك الصحابي، والأمة ملزمة بالعمل بالنص، وغير ملزمة بالعمل باجتهادات الصحابة إذا تعارضت مع نص صريح من القرآن والسنة([8]).
قال الإمام الشافعي: "وإذا ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الشيء، فهو اللازم لجميع من عرفه، لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره، بل الفرض الذي على الناس اتباعه، ولم يجعل الله لأحد معه أمرا يخالف أمره"([9])، وقال - أيضا -: "إن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده"([10]).
والحديث إذا صح سنده واتضحت دلالته؛ فهو حجة على الأمة، ولا يؤثر على العمل به بعد ذلك أن يكون الراوي قد خالف ما روى أو لم يخالف، وذلك لاحتمال أن يكون الراوي قد أفتى قبل أن يعلم بالحديث النبوي، ثم إن قول الصحابي في مقابلة النص إنما يعد من اجتهاده، ونحن غير ملزمين باجتهاده إذا صح لدينا الحديث بخلافه، فالحجة تكون بما روى الصحابي لا بما رأى.
فالحديث إذا ثبت وصح سنده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فخلاف الصحابي له، وتركه العمل به لا يوجب رده؛ لأن الحديث حجة على الأمة كافة والصحابة من ضمنها([11]).
وفي هذا المعنى يقول ابن قيم الجوزية: "والذي ندين الله به، ولا يسعنا غيره، وهو القصد في هذا الباب - أن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه، وترك كل ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان، لا راويه ولا غيره، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، أو لا يحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا، يقوم في ظنه ما يعارضه، ولا يكون معارضا في نفس الأمر"([12]).
ومما سبق يتضح أن عمل الراوي بخلاف روايته لا يقدح فيها، والعمل في ذلك على روايته لا على عمله وفتواه، والقول بالنسخ يحتاج نصا شرعيا يرفع العمل بالنص المتقدم، ولا يثبت بما دون ذلك من فتاوى الصحابة والتابعين واجتهاداتهم.
ثانيا. العلة في تحريم الاحتكار التضييق على الناس في الأقوات، واحتكار سعيد بن المسيب ومن قبله معمر لم يكن بالمعنى المحرم للاحتكار:
الاحتكار: هو مصدر من احتكرت الشيء إذا جمعته وحبسته، وصاحبه محتكر، والحكرة بالضم اسم من الاحتكار، وهي: حبس الطعام انتظارا لغلائه"([13]).
وقد عرف عند الفقهاء بتعريفات متقاربة في المعاني والألفاظ؛ فهو عند جمهور الحنفية: "حبس الأقوات تربصا للغلاء".
وعند المالكية: "الادخار للمبيع وطلب الربح بتقلب الأسواق".
أما الشافعية: فقد عرفوا الاحتكار عندهم، بأنه: إمساك ما اشتراه في الغلاء، لا الرخص، من الأقوات ليبيعه بأغلى منه عند الحاجة".
وأما الحنابلة فقد عرفوه بأنه: "شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام، وحبسه عنهم بقصد إغلائه عليهم"([14]).
"والذي يلاحظ في هذه التعاريف ما يلي:
· أنها حصرت الاحتكار في مجال الأقوات فقط.
· أنها بينت أن الاحتكار هو حبس السلعة تربصا للغلاء، وهذا يعني أن إمساك السلعة بغير هذا القصد لا يعد من الاحتكار.
· أنها حصرت الاحتكار في حالة الشراء في الأزمات"([15]).
وأيضا فإنه "يظهر من تعاريف الفقهاء للاحتكار أنهم اتفقوا على أن الاحتكار يكون في حال الضيق والضرورة لا في وقت السعة، وفي البلد الصغير عادة، ومن طريق الشراء والامتناع عن البيع مما يضر بالناس؛ لأن في الحبس ضررا بالمسلمين.
ولا يكون محتكرا بحبس غلة أرضه بلا خلاف؛ لأنه خالص حقه، ولا ما جلبه من بلد آخر؛ لأن حق الناس بالموجود في البلد، والمختار عند الحنفية قول محمد؛ وهو إن كان يجلب منه عادة كره تحريما حبسه؛ لأن حق الناس تعلق به.
واتفق الفقهاء أيضا على أن الاحتكار حرام في كل وقت في الأقوات أو طعام الإنسان"([16]).
"قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله (أحمد بن حنبل) يسأل: عن أي شيء الاحتكار؟ قال: إذا كان من قوت الناس فهو الذي يكره. وهذا قول عبد الله بن عمرو. وكان سعيد بن المسيب - وهو راوي حديث الاحتكار - يحتكر الزيت.
قال أبو داود: كان يحتكر النوى، والخيط، والبزر؛ لأن هذه الأشياء لا تعم الحاجة إليها، فأشبهت الثياب والحيوانات"([17]).
وعمدة التحريم في الاحتكار ومنعه هو حديث سعيد بن المسيب أنه كان يحدث أن معمرا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من احتكر فهو خاطئ، فقيل لسعيد: فإنك تحتكر؟ قال سعيد: إن معمرا الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر»([18]).
"وإنما روي عن سعيد بن المسيب أنه كان يحتكر الزيت (زيت المصابيح) والخبط([19]) ونحو هذا... حديث معمر حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم. كرهوا احتكار الطعام، ورخص بعضهم في الاحتكار في غير الطعام، وقال ابن المبارك: لا بأس بالاحتكار في القطن والسختيان ([20]) ونحو ذلك([21]).
"قال ابن عبد البر وآخرون: إنما كانا يحتكران الزيت - يعني سعيدا ومعمرا - وحمل الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه والغلاء، وكذا حمله الشافعي وأبو حنيفة وآخرون، وهو الصحيح"([22]).
ومن خلال ما سبق يتضح أن الاحتكار ليس هو مطلق الجنس، وإنما هو حبس السلعة تربصا للغلاء، مما يعني أن إمساك السلعة بغير هذا القصد لا يعد احتكارا؛ لأنه لا يعد تضييقا على الناس، ولا يقصد به إلحاق الضرر بهم، وخصه العلماء في الأقوات دون غيرها، مما يخرج ما كان يصنعه معمر وسعيد من مفهوم الاحتكار بمعناه الاصطلاحي في الحرام، لاحتكارهم الزيت والبزر ونحوه مما لا يعد من أقوات الناس التي يحتاج إليها، ويؤكد هذا قول ابن حجر: "الاحتكار إنما يمنع في حالة مخصوصة بشروط مخصوصة"([23])، فدل على أن مطلق الحبس لا يعد احتكارا.
الخلاصة:
· الأحاديث الواردة في النهي عن الاحتكار أحاديث صحيحة ثابتة غير منسوخة، فقد رواها الإمام مسلم في صحيحه، كما رواها أصحاب السنن والمسانيد بطرق صحيحة متصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يوجد ناسخ صريح لها.
· لا يلزم من مخالفة الصحابي للحديث الذي يرويه نسخ ذلك الحديث ما لم يثبت هذا الناسخ.
· النص لا يعارض بفعل الصحابة والتابعين، وإنما يعارض بنص مثله حتى يصار إلى النسخ أو الترجيح، أما أفعال الصحابة فهي اجتهاد في فهم النص غير حاكمة عليه.
· صحة سند الحديث ووضوح دلالته حجة على الأمة دون اعتبار مخالفة الراوي مقتضى روايته.
· الاحتكار محرم في حالة مخصوصة بشروط مخصوصة، وهي حالة التضييق على الناس وإلحاق الضرر بهم، ويكون في الأقوات التي يحتاج الناس إليها.
· احتكار معمر بن عبد الله وسعيد بن المسيب - راويي حديث النهي عن الاحتكار - لم يكن بمعناه الاصطلاحي المحرم؛ فلم يكن مضرا بالناس وحوائجهم، فضلا عن كونه بعيدا عن حبس أقوات الناس؛ لأنه كان في الزيت الذي يضاء به المصابيح والبزر ونحو ذلك.
(*) لا نسخ في السنة، عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1415هـ / 1995م.
[1]. الزيت: المقصود به ما كان يوقد به المصباح.
[2]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم الاحتكار في الأقوات، (6/ 2492)، رقم (4045).
[3]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم الاحتكار في الأقوات، (6/ 2492)، رقم (4046).
[4]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكيين، حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه، رقم (15796). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[5]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الإجارة، باب: في النهي عن الحكرة، (9/ 225)، رقم (3443). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3447).
[6]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في الاحتكار، (4/ 404)، رقم (1285). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1267).
[7]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: التجارات، باب: الحكرة والجلب، (2/ 728)، رقم (2154). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (2154).
[8]. انظر: أثر اختلاف الأسانيد والمتون في اختلاف الفقهاء، د. ماهر ياسين الفحل، دار المحدثين، القاهرة، ط1، 1429هـ / 2008م، ص238.
[9]. الرسالة، الإمام الشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، المكتبة العلمية، بيروت، ص330.
[10]. الرسالة، الإمام الشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، المكتبة العلمية، بيروت، ص424.
[11]. أثر علل الحديث في اختلاف الفقهاء، د. ماهر ياسين الفحل، دار المحدثين، القاهرة، ط1، 1429هـ / 2008م، ص188.
[12]. أعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، تحقيق: د. طه عبد الرءوف، دار الجيل، بيروت، د.ت، (3/ 40).
[13]. لسان العرب، ابن منظور، مادة: حكر.
[14]. بحوث فقهية في قضايا اقتصادية معاصرة، مجموعة علماء، والبحث للدكتور. ماجد أبو رخية، دار النفائس، الأردن، 1418هـ / 1998م، (2/ 462).
[15]. بحوث فقهية في قضايا اقتصادية معاصرة، مجموعة علماء، والبحث للدكتور. ماجد أبو رخية، دار النفائس، الأردن، 1418هـ / 1998م، (2/ 462).
[16]. الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1417هـ/ 1996م، (3/ 585).
[17]. المغني، ابن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر، القاهرة، 1412هـ/ 1992م، (6/ 317).
[18]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم الاحتكار في الأقوات، (6/ 2492)، رقم (4045).
[19]. الخبط: هو الورق الساقط؛ أي: علف الدواب.
[20]. السختيان: جلد الماعز إذا دبغ.
[21]. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (4/ 404، 405).
[22]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (6/ 2492).
[23]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (4/ 408).
click
read dating site for married people