دعوى تناقض أحاديث نظر المرأة للرجل وتعارضها مع القرآن(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن الأحاديث الواردة بشأن نظر المرأة للرجل أحاديث متناقضة يناقض بعضها بعضا، وليس هذا فحسب، وإنما تعارض كذلك ما جاء في القرآن الكريم؛ حيث الأمر بغض البصر للرجال والنساء على السواء.
ويستدلون على ادعائهم هذا بما جاء عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: «كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم-وعند ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟!»، مدعين أن هذا الحديث الذي ينهى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-النساء عن النظر للرجال يناقض ما جاء في حديث فاطمة بنت قيس التي أمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاعتداد في بيت ابن أم مكتوم، قائلا لها: «اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني»، مما يدل على جواز نظر المرأة للرجل.
كما يزعمون أن ثمة تعارضا بين تلك الأحاديث التي فيها جواز نظر المرأة للرجل، ومنها أيضا حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم-يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا التي أسأم»، وبين أمر الله تعالى النساء بغض البصر في قوله تعالى: )وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها( (النور: ٣١).
ويتساءل هؤلاء الواهمون: كيف يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-بالاحتجاب في حديث نبهان، ثم يأتي عكس ذلك في حديث فاطمة بنت قيس؟!
وكيف يسمح النبي -صلى الله عليه وسلم-للسيدة عائشة - رضي الله عنها - بالنظر إلى الأحباش وهم يلعبون بحرابهم في المسجد، في حين أن الأمر صريح من الله تبارك وتعالى بغض البصر للرجال والنساء على السواء؟!
ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في السنة النبوية المطهرة، بما يدعونه من تعارض وتناقض بين الأحاديث بعضها البعض، وبينها وبين القرآن الكريم.
وجه إبطال الشبهة:
حديث نبهان عن أم سلمة الذي فيه النهي عن نظر المرأة للرجل حديث ضعيف؛ حيث ضعف إسناده غير واحد من أئمة الحديث، وعلى فرض صحة هذا الحديث بناء على ما ذهب إليه جماعة من علماء الحديث - فإنه يحمل على أن هذا خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وأما جواز نظر المرأة إلى الأجنبي في حديث فاطمة بنت قيس فعام، وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل ما ليس بعورة لغير حاجة، وبذلك تكون الأحاديث التي فيها جواز نظر المرأة للرجل تخصيصا لما جاء في القرآن الكريم من الأمر بغض البصر، وليس ثمة تعارض.
التفصيل:
إننا إذا ما عرضنا هذه الأحاديث المتوهم تعارضها نجد أن حديث نبهان عن أم سلمة فيه مقال واسع وجدل كبير بين أئمة علم الحديث؛ حيث ضعفه فريق من أئمة هذا الفن، وذهب غير واحد إلى القول بصحته.
ضعف كثير من أئمة علم الحديث حديث نبهان عن أم سلمة، الذي فيه أن أم سلمة قالت: «كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "احتجبا منه"، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟!»[1]، وإنما ضعف هذا الحديث؛ نظرا لضعف نبهان مولى أم سلمة وجهالته، وذهب غير واحد من علماء الحديث إلى صحة هذا الحديث وتوثيق راويه - نبهان المخزومي - عن أم سلمة: أما من ذهب إلى توثيق نبهان المخزومي مولى أم سلمة وقبول روايته، ومن ثم القول بصحة الحديث الذي رواه عن أم سلمة، فهم نفر قليل من أهل العلم لا يرد قولهم إلا إذا ثبت غيره - وسيتبين من خلال التفصيل الآتي أن ما ذهبوا إليه مردود من وجوه:
· قال الإمام الترمذي بعد أن أخرج هذا الحديث - حديث نبهان عن أم سلمة: "هذا حديث حسن صحيح"[2].
· وقال الحافظ المزي في التهذيب: "نبهان القرشي المخزومي، أبو يحيى المدني، مولى أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكاتبها، روى عن مولاته أم سلمة، وروى عنه محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وذكره ابن حبان في كتابه "الثقات"، وروى له الأربعة. وقال الطبراني: وحدثنا عبيد بن غنام، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قالا: حدثنا ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن نبهان، عن أم سلمة، قالت: «كنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجبا منه". فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟!»، أخرجه أبو داود والترمذي من حديث ابن المبارك، فوقع لنا بدلا عاليا، وقال الترمذي: حسن صحيح. وأخرجه النسائي من حديث ابن وهب عن يونس بن يزيد، ومن حديث عقيل، عن الزهري، فوقع لنا عاليا أيضا، وهذا جميع ماله عندهم"[3].
· وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": "نبهان المخزومي، أبو يحيى المدني، مكاتب أم سلمة، مقبول من الثالثة"[4].
وفي أثناء شرحه لحديث عائشة - رضي الله عنها - الذي فيه أنها قالت: «رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا التي أسأم. فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو»[5] قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر حديث نبهان عن أم سلمة: " حديث أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها، وإسناده قوي، وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان وليست بعلة قادحة؛ فإن من يعرفه الزهري، ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة، ولم يجرحه أحد لا ترد روايته"[6].
· وقال الإمام النووي عند شرحه لحديث عائشة السابق «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم- يسترني بردائه...»معلقا على حديث نبهان عن أم سلمة قال: وهو حديث حسن رواه الترمذي وغيره[7].
وأما من ذهب إلى تضعيف نبهان المخزومي مولى أم سلمة، وعدم قبول روايته لجهالته، ومن ثم القول بضعف الحديث الذي رواه عن أم سلمة؛ فهم جماعة كثر من أئمة علم الحديث ذوي اليد البيضاء في هذا الفن، وهذه أقوالهم وآراؤهم في هذا الحديث، وراويه نبهان المخزومي عن أم سلمة:
· قال البيهقي في معرض تعليقه على الحديثين اللذين رواهما نبهان المخزومي مولى أم سلمة: "ولم أر من رضيت من أهل العلم يثبت واحدا من هذين الحديثين[8]... كما أن صاحبي الصحيح - يقصد البخاري ومسلم - لم يخرجا عنه، وكأنه لم يثبت عدالته عندهما، أو لم يخرج من الجهالة برواية عدل عنه"[9].
· وقال أبو عبد الرحمن النسائي: ما نعلم أحدا روى عن نبهان غير الزهري[10].
وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد بعد أن ذكر هذا الحديث - حديث نبهان عن أم سلمة: إسناده ضعيف؛ لجهالة حال نبهان، وهو مولى أم سلمة[11].
· وقال الخراط في تحقيقه "سير أعلام النبلاء" للإمام الذهبي: "نبهان مولى أم سلمة لم يوثقه غير ابن حبان على عادته في توثيق المجاهيل" ورد الخراط كذلك قول الترمذي الذي صحح الحديث بقوله: والترمذي منسوب إلى التساهل في بعض ما يحسن ويضعف، فلا يعتد بقوله إذا تبين خلافه؛ وقد رد الذهبي قوله - أي قول الترمذي - في الميزان؛ حيث قال: فلا يغتر بتحسين الترمذي، فعند المحاققة غالبها ضعاف"[12].
· وقد ضعف إسناد هذا الحديث - أيضا - الشيخ الألباني، والشيخ أبو إسحاق الحويني؛ فقد قال الشيخ الألباني في الإرواء بعد أن ضعف حديث نبهان هذا: "ونبهان هذا أورده الذهبي في ذيل الضعفاء، وقال: قال ابن حزم: مجهول. وقد أشار البيهقي إلى جهالته عقب الحديث، وذكر عن الإمام الشافعي أنه قال: لم أر من رضيت من أهل العلم يثبت هذا الحديث. ومما يدل على ضعف هذا الحديث عمل أمهات المؤمنين على خلافه، وهن اللاتي خوطبن به فيما زعم راويه، وقد صح ذلك عن بعضهن - كما سيأتي بيانه"[13]، وقال أيضا: "ونبهان هذا مجهول"[14].
· أما الشيخ أبو إسحاق الحويني، فقد ضعف حديث نبهان عن أم سلمة، مستنكرا على الإمام الترمذي ما ذهب إليه من تصحيحه الحديث، فقال الحويني: "وهذا مما يتعجب منه! فإن نبهان هذا مجهول كما قال ابن حزم، ونقله عنه الذهبي في ذيل الضعفاء وأقره، ولم يرو عنه سوى الزهري، وأما رواية محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عنه، فقد شكك فيها البيهقي في سننه فقال: إن كان محفوظا! وتوثيق ابن حبان له لا ينفعه لما علم عنه من التساهل في التوثيق. وقال الحافظ في الفتح: حديث مختلف في صحته. وقال في التلخيص: ليس في إسناده سوى نبهان مولى أم سلمة شيخ الزهري، وقد وثق. قلت (أي الشيخ الحويني): فكأنما يقويه، وأذكر أنه ذكر ذلك صراحة في الفتح مع أنه قال في نبهان هذا: مقبول. يعني حيث يتابع، ولم يتابع فيما نعلم، بل لحديثه معارض، وهو ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد، وغيرهم من حديث فاطمة بنت قيس «أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله مالك علينا من شيء. فجاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له فقال: ليس لك عليه نفقة، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني»[15].
وقال ابن عبد البر: حديث فاطمة بنت قيس يدل على جواز نظر المرأة إلى الأعمى، وهو أصح من هذا - يعني من حديث أم سلمة - وكذا حديث عائشة عنها أنها كانت تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد بحرابهم، وقد جمع أبو داود بين الحديثين فقال عقب تخريجه لحديث أم سلمة: هذا لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة، ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة بنت قيس: «اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني»، قال الحافظ في التلخيص: هذا جمع حسن، وبه جمع المنذري في حواشيه واستحسنه شيخنا. قلت (أي الحويني): وهذا الجمع - إن صح - يرفع عن الحديث النكارة، أما الضعف فلا"[16].
وقد قال الإمام الألباني أيضا في "الرد المفحم" بعد أن أورد حديث نبهان هذا: "وخلاصة التحقيق الوارد في ذلك:
أولا: الحديث تفرد به نبهان وعنه الزهري، كما قال النسائي والبيهقي وابن عبد البر وغيرهم.
ثانيا: نبهان مجهول العين، كما أفاده البيهقي، وابن عبد البر، وقريب منه قول الحافظ في "التقريب": إنه مقبول؛ فإنه يعني أنه غير مقبول إلا عند المتابعة كما نص عليه في مقدمة التقريب، وأن قوله في الفتح: "إسناده قوي" غير قوي؛ وذلك لمخالفته لقوله في التقريب وكذا القواعد الحديثية، على أن قوله "مقبول" وإن كان مؤيدا لضعف الحديث، فهو غير مقبول؛ لأن حقه أن يقول مكانه "مجهول" لما تقدم من تفرد الزهري عنه، وما في تهذيبه أنه روى عنه أيضا محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، فهو غير محفوظ كما حققه البيهقي... ولذلك لم يسع الحافظ - يقصد الحافظ ابن حجر - إلا أن يصرح في مكان آخر من الفتح بقوله "وهو حديث مختلف في صحته"... وقد قال الإمام أبو محمد بن قدامة المقدسي في المغني، وأبو الفرج بن قدامة المقدسي في الشرح الكبير، والشيخ منصور بن يونس البهوتي في كتابه "شرح منتهي الإرادات"، وغيرهم من كبار علماء الحنابلة ما مؤداه: ويباح للمرأة النظر من الرجل إلى غير عورة لقوله -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة بنت قيس: «اعتدي في بيت ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فلا يراك»، وقول عائشة: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد»، ولأنهن لو منعن النظر لوجب على الرجال الحجاب كما وجب على النساء لئلا ينظرن إليهم، فأما حديث نبهان عن أم سلمة، فقد قال الإمام أحمد: نبهان روى حديثين عجيبين: هذا الحديث - يقصد حديثه عن أم سلمة مناط الدراسة - والآخر: «إذا كان لإحداكن مكاتب فلتحتجب منه». وكأنه أشار إلى ضعف حديثه؛ إذ لم يرو إلا هذين الحديثين المخالفين للأصول.
وقال ابن عبد البر: نبهان مجهول لا يعرف إلا برواية الزهري عنه هذا الحديث، وحديث فاطمة صحيح، فالحجة لازمة، ثم يحتمل أن حديث نبهان خاص بأزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبذلك قال أحمد وأبو داود.
وقد ذكر عند الإمام أحمد: حديث نبهان لأزواجه -صلى الله عليه وسلم- وحديث فاطمة لسائر الناس؟ فقال الإمام أحمد: "نعم". وقد زاد ابنا قدامة المقدسيين: وإن قدر التعارض فتقديم الأحاديث الصحيحة أولى من الأخذ بحديث مفرد في إسناده مقال[17].
وبعد، فقد تبين لنا من خلال عرض أقوال العلماء في حديث نبهان عن أم سلمة الذي فيه نهي المرأة عن النظر للرجل أن الحديث مختلف في صحته؛ وذلك لاختلاف العلماء في رواية نبهان المخزومي مولى أم سلمة؛ فمنهم من وثقه، ومنهم ـوهم الأكثرية - من ضعفه وقال بجهالته، وقد اتضح لنا أيضا من خلال العرض السابق رجحان قول من قال بتضعيفه وجهالته.
وعلى فرض صحة حديث نبهان هذا - بناء على ما ذهب إليه بعض العلماء - فإنه يحمل على أنه خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأن حديث فاطمة بنت قيس لسائر الناس كما قال الإمام أحمد[18]، ويؤيد هذا الجمع قول الله تعالى: )يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن( (الأحزاب: ٣٢).
وهذا ما ذهب إليه أبو داود في سننه؛ حيث قال: هذا لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة، ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة بنت قيس: «اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده»[19].
قال الشافعي: وقد يجوز أن يكون أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم سلمة إن كان أمرها بالحجاب من مكاتبته إذا كان عنده ما يؤدي على ما عظم الله به أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين رحمهن الله وخصصهن به، وفرق بينهن وبين النساء إن اتقين، ثم تلا الآيات في اختصاصهن بأن جعل عليهن الحجاب من المؤمنين وهن أمهات المؤمنين، ولم يجعل على امرأة سواهن أن تحتجب ممن يحرم عليه نكاحها، وكان في قوله -صلى الله عليه وسلم- إن كان قاله إذا كان لإحداكن؛ يعني أزواجه ثم ساق الكلام إلى أن قال: ومع هذا إن احتجاب المرأة ممن له أن يراها واسع لها، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- يعني سودة أن تحتجب من رجل قضى أنه أخوها وذلك يشبه أن يكون للاحتياط، وأن الاحتجاب ممن له أن يراها مباح[20].
وقد استحسن الحافظ ابن حجر هذا الجمع وأقره فقال: "وهذا جمع حسن، وبه جمع المنذري في حواشيه، واستحسنه شيخنا[21]"، ويؤيد ذلك ظاهر الترجمة التي ترجم بها البخاري لهذا الباب؛ حيث قال: "باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة"[22]؛ ففيه جواز نظر المرأة إلى الأجنبي.
· الجمع بين حديث نبهان عن أم سلمة وحديث نظر عائشة إلى لعب الأحباش:
وقد جمع ابن حجر بين الحديثين - حديث نبهان عن أم سلمة وحديث عائشة الذي فيه جواز نظر المرأة إلى الأجنبي - فقال: "والجمع بين الحديثين بأنه يحتمل تقدم الواقعة - يقصد تقدم واقعة نظر عائشة - رضي الله عنها - إلى الأحباش على نزول الأمر بالحجاب - أو أن يكون في قصة الحديث الذي ذكره نبهان شيء يمنع النساء من رؤيته لكون ابن أم مكتوم كان أعمى، فلعله كان منه شيء ينكشف ولا يشعر به، ويقوي الجواز - يقصد جواز نظر المرأة إلى الأجنبي - استمرار العلم على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب لئلا يراهم النساء، فدل على تغاير الحكم بين الطائفتين، وبهذا احتج الغزالي على الجواز فقال: لسنا نقول إن وجه الرجل في حقها عورة كوجه المرأة في حقه، بل هو كوجه الأمرد في حق الرجل فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط، وإن لم تكن فتنة فلا؛ إذ لم تزل الرجال على مر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، فلو استووا لأمر الرجال بالتنقب أو منعن من الخروج"[23].
وفي أثناء شرحه لحديث عائشة - رضي الله عنها - «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يسترني بردائه» قال الإمام النووي: "وفيه جواز نظر النساء على لعب الرجال من غير نظر إلى نفس البدن، وأما نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبي، فإن كان بشهوة فحرام بالاتفاق... وعلى هذا أجابوا عن حديث عائشة بجوابين، أقواهما: أنه ليس فيه أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم، وإنما نظرت إلى لعبهم وحرابهم، ولا يلزم من ذلك تعمد النظر إلى البدن، وإن وقع النظر بلا قصد صرفته في الحال. والثاني: لعل هذا كان قبل نزول الآية في تحريم النظر، وأنها كانت صغيرة قبل بلوغها فلم تكن مكلفة على قول من يقول: إن للصغير المراهق النظر"[24].
وقال المباركفوري معلقا على حديث نبهان عن أم سلمة: "قيل فيه تحريم نظر المرأة إلى الأجنبي مطلقا، وبعض خصه بحال خوف الفتنة عليها؛ جمعا بينه وبين حديث عائشة: "كنت أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم في المسجد، ومن أطلق التحريم قال ذلك قبل آية الحجاب، والأصح أنه يجوز نظر المرأة إلى الرجل فيما فوق السرة وتحت الركبة بلا شهوة، وهذا الحديث - يقصد حديث نبهان - محمول على الورع والتقوى.
قال السيوطي - رحمه الله: كان النظر إلى الحبشة عام قدومهم سنة سبع، ولعائشة يومئذ ست عشرة سنة، وذلك بعد الحجاب، فيستدل به على جواز نظر المرأة إلى الرجل. وبدليل أنهن كن يحضرن الصلاة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، ولابد أن يقع نظرهن إلى الرجال، فلو لم يجز لم يؤمرن بحضور المسجد والمصلى، ولأن النساء أمرت بالحجاب عن الرجال، ولم يؤمر الرجال بالحجاب"[25].
وهذا جمع حسن كما قال الحافظ ابن حجر في تلخيصه، وعليه فلا تناقض ألبتة بين حديث نبهان عن أم سلمة الذي فيه نهي المرأة عن النظر للرجل، وبين حديثي عائشة وفاطمة بنت قيس، وغيرهما من الأحاديث التي تجيز للمرأة النظر للرجال.
كما أنه لا تعارض بين تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تجيز للمرأة النظر من الرجل إلى ما ليس بعورة دون شهوة عند أمن الفتنة، وبين قوله تعالى في سورة النور: )وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن( (النور: ٣١)؛ فالله تعالى لم يذكر ما يغض البصر منه ويحفظ الفرج عنه، غير أن ذلك معلوم بالعادة، فالمراد منه المحرم دون المحلل. وقيل: (من) في الآية للتبعيض؛ لأن من النظر ما يباح، وذلك للرجال وللنساء، فالمرأة يجوز لها أن تطلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطلع من المرأة، كالرأس ومعلق القرط[26]، وأما العورة فلا، وقد استدل القائلون بذلك بحديث فاطمة بنت قيس الصحيح الثابت، كما استدل من ذهب إلى أن من النظر ما يباح، وذلك للرجال والنساء، بحديث جرير بن عبد الله قال: «سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نظرة الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري»[27]. وعلى هذا تكون الأحاديث التي فيها جواز نظر المرأة إلى الرجل مخصصة لعموم قوله تعالى: )وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن( (النور: ٣١)، ومن ثم ينتفي التعارض المتوهم[28].
الخلاصة:
· حديث نبهان المخزومي مولى أم سلمة حديث فيه مقال واسع، وجدل كبير بين أئمة الحديث قديما وحديثا، وأكثر أهل العلم على رده وعدم قبوله؛ وذلك لضعف نبهان المخزومي وجهالته.
· على فرض صحة حديث نبهان عن أم سلمة - بناء على ما ذهب إليه جماعة من علماء الحديث - فإنه يحمل على أنه خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأن حديث فاطمة بنت قيس لسائر الناس، وهذا ما ذهب إليه فريق من العلماء، منهم: الإمام أحمد بن حنبل، وأبو داود، والشافعي، واستحسنه الحافظ ابن حجر، ويؤيد هذا قول الله تعالى: )يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن( (الأحزاب: 32).
· ومن خلال هذا الجمع، فليس ثمة مجال ألبتة للقول بالتناقض بين حديث نبهان عن أم سلمة الذي فيه نهي المرأة عن النظر للرجل، وبين حديث عائشة، وفاطمة بنت قيس وغيرهما من الأحاديث التي تجيز للمرأة النظر للرجل.
· كما أنه لا تعارض بين تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تجيز للمرأة النظر من الرجل إلى ما ليس بعورة دون شهوة عند أمن الفتنة، وبين قوله تعالى: )وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن( (النور: ٣١)؛ وذلك لأن (من) في الآية للتبعيض، كما أن من النظر ما يباح، وذلك للرجال والنساء، فالمرأة يجوز لها أن تطلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطلع من المرأة، كالرأس ومعلق القرط، وأما العورة فلا. وعلى هذا تكون الأحاديث التي فيها جواز نظر المرأة إلى الرجل تخصيصا لعموم قوله تعالى: )وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن( (النور: ٣١)، ومن ثم ينتفي التعارض المتوهم.
(*) مختلف الحديث عند الإمام أحمد، عبد الله بن فوزان بن صالح الفوزان، مكتبة المنهاج، الرياض، ط1، 1428هـ. تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، تحقيق: سعيد محمد السناري، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1427هـ / 2006م. مختلف الحديث وأثره في أحكام الحدود والعقوبات، طارق بن محمد الطواري، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1428هـ / 2007م.
[1]. ضعيف: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: اللباس، باب: في قوله تعالى: ) وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن (،(11/ 114)، رقم (4106). وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4112).
[2]. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (8/ 51).
[3]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (29/ 311: 314).
[4]. تقريب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: أبي الأشبال صغير أحمد الباكستاني، دار العاصمة، الرياض، ط1، 1416هـ، ص997.
[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: النكاح، باب: نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة، (9/ 248)، رقم (5236). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صلاة العيدين، باب: الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد، (4/ 1480)، رقم (2030).
[6]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (9/ 248).
[7]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1488).
[8]. يقصد البيهقي حديث نبهان عن أم سلمة مناط الدراسة، وحديثه الآخر الذي رواه عنه الزهري عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده ما يؤدي فتحتجب منه" (ضعيف: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: العتق، باب: في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت، (10/ 309، 310)، رقم (3921). وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3928).
[9]. السنن الكبرى، البيهقي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مكتبة دار الباز، مكة المكرمة، 1414هـ/ 1994م، (10/ 327).
[10]. السنن الكبرى، أبو عبد الرحمن النسائي، تحقيق: عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ / 1991م، (5/ 393)، رقم (9241).
[11]. المسند، الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة قرطبة، القاهرة، (6/ 296)، رقم (26579).
[12]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ / 1990م، هامش (9/ 455).
[13]. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، (6/ 183).
[14]. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، (6/ 211).
[15]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثا لا نفقة لها، (6/ 2318)، رقم (3631).
[16]. النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة، أبو إسحاق الحويني، (1/ 39).
[17]. الرد المفحم على من خالف العلماء وتشدد وتعصب وألزم المرأة أن تستر وجهها وكفيها، الألباني، المكتبة الإسلامية، الأردن، ط1، 1421هـ، (1/ 62 : 67).
[18]. انظر: مختلف الحديث عند الإمام أحمد، عبد الله الفوزان، مكتبة المنهاج، الرياض، ط1، 1428هـ، (2/ 1053).
[19]. عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1415هـ، (11/ 114، 115).
[20]. التبويب الموضوعي للأحاديث، (1/ 9025).
[21]. التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: أبي عاصم حسن بن عباس، مؤسسة قرطبة، القاهرة، ط2، 1426هـ/ 2006م، (3/ 313).
[22]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (9/ 248).
[23]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (9/ 248).
[24]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1488، 1489).
[25]. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (8/ 51).
[26]. القرط: ما يعلق في شحمة الأذن للزينة من حلي ونحوه.
[27]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الآداب، باب: نظر الفجأة، (8/ 3279)، رقم (5540).
[28]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (12/ 227، 228) بتصرف.