إنكار حديث النهي عن خروج المرأة من بيتها متعطرة(*)
مضمون الشبهة:
يطعن بعض المغرضين في صحة حديث النهي عن خروج المرأة من بيتها متعطرة والذي رواه أبو موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم-قال: «كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس، فهي كذا وكذا، يعني زانية».
مستدلين على ذلك بأن الحديث مداره على راو واحد لا شاهد عليه، وأن متنه يناقض القرآن الكريم صراحة، إذ كيف توصف المتعطرة بالزانية، والزنا حرام شرعا، والترمذي نفسه حينما أورد الحديث، بوب لهذا الأمر بقوله: "ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة" فهل تساوى الحرام والمكروه أم ماذا؟
وما معنى قول الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة؟! مع أن حديث أبي هريرة مختلف تماما، ويتحدث في موضوع آخر ونصه: «طيب الرجال ما ظهر ريحه، وخفي لونه وطيب النساء، ما ظهر لونه وخفي ريحه»، وهو حديث ضعيف فيه: "عن رجل"، وهذا يعني أن في إسناده رجل مبهم مجهول، وبذلك فالسند منقطع.
رامين من وراء ذلك إلى إسقاط الأحاديث التي نهت المرأة عن الخروج من بيتها متعطرة.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن الأحاديث التي نهت عن خروج المرأة من بيتها متعطرة أحاديث صحيحة ثابتة رواها العديد من أصحاب السنن، وصححها الإمام الترمذي، والحاكم، والذهبي، والألباني، والأرنؤوط، وحسين سليم أسد، وغيرهم، وعضدتها أحاديث أخر عديدة.
2) إن وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- المرأة المتعطرة بالزنا هو من باب التشبيه؛ إذ هي بخروجها كذلك هيجت شهوة الرجال، وحملتهم على النظر إليها، ومن نظر إليها فقد زنى بعينه، فهي سبب زنا العين فهي زانية مثله، أما حديث أبي هريرة فهو يبين نوع العطر الذي تضعه إذا أرادت الخروج، وهذا يبين حاجة الباب إليه.
التفصيل:
أولا. حديث النهي عن خروج المرأة من بيتها متعطرة حديث صحيح:
لقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن خروج المرأة متعطرة من بيتها، واعتبر أن المرأة إذا خرجت كذلك كانت زانية، والأحاديث الدالة على ذلك متعددة صحيحة ثابتة رواها العدول عن العدول حتى دونت في دواوين السنة.
ومن ذلك ما رواه الترمذي في سننه عن محمد بن بشار قال: أخبرنا يحيى بن سعيد القطان، عن ثابت عن عمارة الحنفي، عن غنيم بن قيس، عن أبي موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس، فهي كذا وكذا، يعني زانية"[1].
وروى أبو داود في سننه قال: "حدثنا مسدد، أخبرنا يحيى، أنبأنا ثابت بن عمارة قال: حدثني غنيم بن قيس، عن أبي موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا»، وقال قولا شديدا[2].
وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي موسى الأشعري قال: «إذا استعطرت المرأة فخرجت على قوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا..» [3].
وروى الحاكم عن أبي موسى الأشعري أيضا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية»[4].
ورواه النسائي في سننه[5]، والدارمي[6]، وابن حبان في صحيحه[7]، وصحيح ابن خزيمة[8].
هذه بعض روايات الحديث، وهناك غيرها صحيح لكن نكتفي بما ذكرناه لاشتماله على تصحيح علماء أجلاء من علماء الحديث له، فتبين أن الحديث صحيح، ولم يضعفه أحد من علماء الحديث المعتد بهم، المعول على تصحيحهم وتضعيفهم، ومنهم: الإمام الترمذي، وأبو داود، والنسائي، والحاكم، والذهبي، ومن نقاد العصر الحديث: الألباني، والأرنؤوط، وحسين سليم أسد.
أما القول بأن هذا الحديث مداره على راو واحد؛ قاصدين بذلك أنه لم يروه من الصحابة غير أبي موسى الأشعري، فهذا لا يضعف الحديث أبدا؛ إذ إن انفراد الصحابي بالحديث لا يؤثر في صحة الحديث، وجماهير علماء الأمة لا يشترطون تعدد رواة الحديث للقول بصحته، وفي هذا المعنى يقول السيوطي في ألفيته:
وليس شرطا عدد، ومن شرط
رواية اثنين فصاعدا غلط
أي: ليس تعدد الرواة شرطا في صحة الحديث[9].
وقال الحافظ أبو محمد بن حزم: "إذا روى العدل عن مثله خبرا حتى يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم- فقد وجب الأخذ به، ولزمته طاعته، والقطع به، سواء روي من طريق أخرى أم لم يرو إلا من تلك الطريق"[10].
وقال الإمام ابن القيم: "ولا ترد أحاديث الصحابة، وأحاديث الأئمة الثقات بالتفرد، فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة، ولم يروه غيره، وقبلته الأمة كلها ولا نعلم أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع، ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء، وقد تفرد الزهري بنحو تسعين حديثا لم يروها غيره، وعملت بها الأمة، ولم يردوها بتفرده"[11].
ومما يثبت صحة هذا الحديث أن هناك أحاديث عديدة صحيحة تنهى عن خروج المرأة متعطرة من بيتها، من ذلك ما روي عن زينب امرأة عبد الله قالت: قال لنا رسول صلى الله عليه وسلم: «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا»[12].
وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة»[13].
والحكمة من نهيه -صلى الله عليه وسلم- المرأة أن تخرج متطيبة هي عدم جذب انتباه الرجال إليها، وذلك معتبر في الخروج كله سواء إلى المسجد أو غيره.
نخلص من هذا إلى أن حديث أبي موسى الأشعري في النهي عن خروج المرأة من بيتها متعطرة حديث صحيح، رواه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد، وصححه أئمة الحديث وصيارفته، وكون مداره على راو واحد، لا يضره في شيء باتفاق العلماء، وقد أكد صحته أن هناك العديد من الأحاديث التي رواها آخرون تبين عظم ذنب المرأة إذا خرجت من بيتها متعطرة.
ثانيا. وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- المرأة المتعطرة بالزنا وصف صحيح:
إن وصف المرأة إذا خرجت متعطرة بالزنا هو وصف صحيح، بل هو أدق وصف لمثل هذه المرأة؛ لأن خروجها متعطرة مدعاة لفتنة الرجال بها، وتحريك شهوتهم تجاهها، وفي ذلك فتنة ما بعدها فتنة، والسبب في وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه المرأة بالزنا؛ "لأنها هيجت شهوة الرجال بعطرها، وحملتهم على النظر إليها، ومن نظر إليها فقد زنى بعينه، فهي سبب زنا العين فهي آثمة لذلك"[14].
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن العين زانية وزناها النظر، ومرور المرأة أمام الرجال متعطرة تحملهم على النظر إليها، وبنظرهم قد زنوا بأعينهم، فكانت هي زانية؛ لأنها السبب في زناهم لذلك سميت "زانية".
جاء في فيض القدير (كل عين زانية)، يعني: كل عين نظرت إلى أجنبية عن شهوة فهي زانية، أي أكثر العيون لا تنفك من نظر مستحسن لغير محرم، وذلك زناها، أي فليحذر من النظر ولا يدع أحد العصمة من هذا الخطر، فقد قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لعلي - مع جلالته -: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة»[15]، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فقد هيجت شهوة الرجال بعطرها وحملتهم على النظر إليها، فكل من ينظر إليها فقد زنى بعينه ويحصل لها إثم لأنها حملته على النظر إليها وشوشت قلبه، فإذن هي سبب زناه بالعين، فهي أيضا زانية، وفي رواية فهي كذا وكذا يعني زانية[16].
ويقول الإمام الطحاوي مبينا سبب إطلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها الزنى: "وكان في هذا الحديث إطلاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليها الزنا، وكان منها السبب الذي يكون عنه الزنا، فمثل ذلك - والله أعلم - كان إطلاقه -صلى الله عليه وسلم- الزنا على من أطلقه عليه في الآثار الأول، لفعله ما يكون سببا للزنا الذي أطلقه عليه"[17].
قال المناوي: استعطرت، أي: الطيب، يعني ما يظهر ريحه منه، ثم خرجت من بيتها، فمرت على قوم من الأجانب ليجدوا ريحها بقصد ذلك، فهي كالزانية في حصول الإثم، وإن تفاوت؛ لأن فاعل السبب كفاعل المسبب، قال الطيبي شبه خروجها من بيتها متطيبة مهيجة لشهوات الرجال التي هي بمنزلة رائد الزنا بالزنا مبالغة وتهديدا وتشديدا عليها[18].
ويلاحظ من هذه الأحاديث التي نهت عن خروج المرأة متعطرة أن الحكم على المتعطرة بأنها زانية مرهون بقصد المرأة من جذب انتباه الرجال إليها؛ فهي متعمدة لذلك، وهذا دليل على أنها سهلة الانزلاق، سريعة التلبية لمن يعجبون بها، والشارع في الشيء أو الممهد له يعطى حكمه[19]، فهي زانية من باب أنها شرعت في هذه الجريمة بجذب انتباه الرجال إليها.
وخلاصة ذلك أن المقصود من وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- هنا هو التشبيه بالزانية فقط؛ لأنها بفعلها ذلك تدعو إلى الزنا، وبذلك لا تأخذ المتعطرة إذا خرجت من بيتها حكم الزانية من الجلد أو الرجم، وإنما هو زنا دون الزنا الحقيقي.
أما قولهم: إنه لا معنى لقول الترمذي: "وفي الباب عن أبي هريرة؛ لأنه حديث مختلف تماما عن حديث الباب الذي عليه الإشكال - فهو قول مردود؛ إذ إن الحديثين مرتبطان تمام الارتباط، بل حديث أبي هريرة مبين لحديث أبي موسى الأشعري، وهذا الحديث رواه الترمذي قائلا: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود الجفري، عن سفيان عن الجريري، عن أبي نضرة عن رجل، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه[20]، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه[21]»[22].
والمقصود بـ «طيب النساء» الطيب الذي تستخدمه المرأة أثناء خروجها من بيتها، فإن ظهرت رائحته فهو محرم كما بينا؛ لحدوث الفتنة، أما إذا لم يخرج ريحه فلا حرمة فيه لانتفاء العلة، وهي حدوث الفتنة، فالحديث بين صفة العطر الذي نهي عن وضعه للمرأة أثناء خروجها من بيتها. قال سعيد: أراه حملوا قوله:«وطيب النساء» إذا أرادت أن تخرج، فأما إذا كانت عند زوجها، فلتطيب بما شاءت"[23].
وقد علق المباركفوري على حديث "طيب الرجال.. " فقال: ويؤيده حديث أبي موسى المذكور في الباب المتقدم[24] مما يؤكد قول الترمذي الذي يطعن فيه المشككون، زاعمين أنه لا علاقة بين الحديثين.
وأما تضعيف الحديث لجهالة رجل في الإسناد، واعتبار سنده منقطع، فهذا قول مردود.
قال المباركفوري: "قال ميرك: حسنه الترمذي، وإن كان فيه مجهول؛ لأنه تابعي والراوي عنه ثقة، فجهالته تنتفي من هذه الجهة، قال القاري: أو بالنظر إلى تعدد أسانيده فيكون حسنا لغيره. قلت تحسين الترمذي لشواهده، وأما انتفاء جهالة التابعي المجهول الرواية الثقة عنه كما قال ميرك فممنوع، والحديث أخرجه الطبراني والضياء عن أنس. قال المناوي: إسناده صحيح"[25].
وذكر الشيخ العجلوني في "كشف الخفاء" - أيضا - أن الحديث أخرجه الطبراني والضياء عن أنس رضي الله عنه [26]. وكذلك قال الشيخ الألباني[27] إذا فالقول بضعف الحديث لوجود رجل مجهول ليس بمفض لرده؛ وذلك لوجود شواهد أخرى تعضده، وكذلك تعدد أسانيده، فيكون صحيح لغيره.
وخلاصة القول أن وصف المرأة المتعطرة خارج بيتها بالزنا لا يتعارض مع القرآن الكريم في شيء، وإنما وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك؛ لأنها السبب المؤدي إلى وقوع جريمة زنا العين، وطيب النساء ما ظهر لونه، وخفي ريحه محمول على ما إذا أرادت المرأة أن تضع عطرا وهي خارجة من بيتها، وبذلك يتبين الحاجة إلى ذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في هذا الباب.
الخلاصة:
· لقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى المرأة أن تخرج من بيتها متعطرة، والأحاديث الواردة في ذلك صحيحة ثابتة رواها العدول عن أمثالهم في كل طبقة حتى دونت في دواوين السنة المعتبرة.
· من هذه الأحاديث ما رواه الترمذي وأبو داود وابن حبان والنسائي والدارمي وابن خزيمة، وصححها الترمذي، والحاكم، والذهبي، والألباني، وشعيب الأرنؤوط، وحسين سليم أسد.
· إن القول بضعف الحديث لأن مداره على راو واحد هو الصحابي أبو موسى الأشعري قول مردود؛ لأن الصحابة كلهم عدول مقبول حديثهم، وجماهير العلماء لا يشترطون تعدد رواة الحديث للقول بصحته، فطالما أن رواته عدول فلا يضره تفرد الراوي به.
· إن لهذه الرواية أحاديث عديدة تعضدها، منها نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن خروج المرأة إلى المسجد متعطرة، وأمر من أصابت بخورا ألا تقرب المسجد، والحكمة من ذلك عدم جذب انتباه الرجال إليها، وعدم الافتتان بها.
· إن السبب في وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- المرأة التي تخرج من بيتها متعطرة بالزنا هو أنها بعطرها سبب في تحريك شهوة الرجال، وحملهم على النظر إليها، ومن نظر إليها فقد زنى بعينه، فهي سبب زنا العين فهي آثمة لذلك مثله، وكذلك الحكم على المتعطرة بأنها زانية مرهون بقصد المرأة من جذب انتباه الرجال إليها، فهي متعمدة لذلك، وهذا دليل على أنها سهلة الانزلاق، سريعة التلبية لمن يعجبون بها، والشارع في الشيء أو الممهد له يعطى حكمه، فالقصد من هذا الوصف هو التشبيه.
· أما القول باختلاف حديث أبي هريرة مع حديث أبي موسى، وأنه لا علاقة به قول مردود؛ إذ إن قوله صلى الله عليه وسلم: «طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه» محمول على ما إذا أرادت المرأة أن تخرج من بيتها متطيبة، أما إذا كانت داخل بيتها فلتفعل ما تشاء؛ فهو مبين لنوع العطر المنهي عنه، والعطر المسموح به خارج البيت.
(*) دور السنة في إعادة بناء الأمة، جواد موسى محمد عفانة، جمعية عمال المطابع التعاونية، الأردن، ط1، 1419هـ / 1999م.