دعوى تعارض السنة مع القرآن في شأن مباشرة الحائض(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن السنة النبوية تتعارض مع القرآن الكريم في شأن مباشرة المرأة أثناء حيضها.
ويستدلون على ذلك بأن القرآن الكريم قد أمر باعتزال النساء في المحيض، وألا يقربهن الرجال حتى يطهرن؛ فقال تعالى: )ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن( (البقرة: ٢٢٢).
ثم جاءت السنة فعارضت ذلك، وأخبرت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يباشر نساءه في المحيض، ولا يعتزلهن كما أمر القرآن؛ فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «كان -صلى الله عليه وسلم- يأمرني فأتزر وأنا حائض، ثم يباشرني»، وروى أيضا عن ميمونة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض».
ويتساءلون: أليس في ذلك مخالفة من النبي -صلى الله عليه وسلم- للقرآن الكريم؟ رامين من وراء ذلك إلى إسقاط هذه الأحاديث الصحيحة.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن أحاديث مباشرة النبي - صلى الله عليه وسلم- أزواجه فترة حيضهن صحيحة في أعلى درجات الصحة، ولا تعارض بينها وبين الآية؛ إذ إن المقصود من الاعتزال في الآية هو اعتزال الجماع فقط، وعدم القرب منهن كناية عن عدم مجامعتهن، وجاءت السنة مؤكدة ذلك؛ فبينت أنه يجوز للرجل من المرأة أثناء حيضها كل شيء إلا الجماع، فيجوز له الاستمتاع بها فيما دون الفرج، بعد شد الإزار مخافة الأذى، وأباحت مؤاكلتها ومجالستها والاضطجاع معها، فكان ذلك غاية التكريم لها، على عكس معاملة اليهود والنصارى للمرأة أثناء حيضها.
2) إن الأضرار التي تلحق بالزوج والزوجة، والتي أثبتها الطب الحديث إنما تكون بسبب الجماع أثناء الحيض، لا بما دونه من علاقات، كالتقبيل والملامسة وغير ذلك؛ ولهذا حرم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- الجماع، وبين النبي أن غيره مباح، فلماذا نحرم حلالا ليس له ضرر، بل له أطيب الأثر في استمرار المودة بين الزوجين؟!.
التفصيل:
أولا: أحاديث مباشرة الحائض صحيحة ثابتة، ولا تعارض بينها وبين القرآن الكريم.
لقد كتب الله -عز وجل- الحيض على بنات حواء طهرة لهم، وجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ليفصل أحكام العلاقة الجنسية والمعيشية بين الرجل والمرأة فترة حيضتها؛ فهو -صلى الله عليه وسلم- المأمور بذلك في قوله تعالى: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم( (النحل: ٤٤).
فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعدة أساسية لابد من وضعها نصب الأعين في تلك الفترة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اصنعوا كل شيء إلا النكاح»[1].
فكل شيء مباح للرجل من امرأته إلا الجماع، وعلى ذلك جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تؤكد تلك القاعدة وترسخ لها؛ فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كانت إحدانا إذا كانت حائضا، فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يباشرها، أمرها أن تتزر[2] في فور حيضتها، ثم يباشرها. قالت: وأيكم يملك إربه كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يملك إربه»[3].
وفي رواية عنها - رضي الله عنها - قالت:«وكان يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض»[4]. وهذه رواية صحيحة أخرجها البخاري في صحيحه، وغيره.
وكذلك روي عن ميمونة - رضي الله عنها - زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه، أمرها فاتزرت وهي حائض»[5].
ولا تعارض بين ما أفادته تلك الأحاديث، وما جاء في قوله تعالى: )ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن( (البقرة: ٢٢٢)؛ إذ إن جمهور المفسرين على أن المراد من الاعتزال في الآية هو الجماع ليس إلا، وهذا عين ما جاءت به السنة وأمرت.
يتضح ذلك ببيان سبب نزول هذه الآية الكريمة؛ فقد روى مسلم في صحيحه... عن أنس رضي الله عنه: «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت[6]، فسأل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى: )ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض( (البقرة: ٢٢٢)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ظننا أن قد وجد[7] عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما»[8].
وسبب السؤال والباعث عليه فيما قال قتادة وغيره: "أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها؛ فنزلت هذه الآية"[9].
وكان اليهود يتباعدون ويفرطون في الابتعاد من نسائهم إذا كن حيضا «حوائض»، وذلك بحكم التوراة التي معهم؛ ففي الإصحاح الخامس عشر من سفر اللاويين "وإذا كانت امرأة لها سيل، وكان سيلها دما في لحمها فسبعة أيام تكون في طمثها، وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء، وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسا، وكل ما تجلس عليه يكون نجسا، وكل من مس فراشها يغسل ثيابه، ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء، وكل من مس متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه، ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء، وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام، وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا" (اللاويين 15: 19 - 24).
هذا هو حال المرأة الحائض عند اليهود، وكذلك كان حالها عند قبائل العرب في الجاهلية؛ إذ كانت مبغوضة ممقوتة أثناء الحيض؛ فقد كان بنو سليح - أهل بلد الحضر، وهم من قضاعة نصارى - إن حاضت المرأة أخرجوها من المدينة إلى الربض حتى تطهر، وفعلوا ذلك بنصرة ابنة الضيزن ملك الحضر، فكانت الحال مظنة حيرة المسلمين في هذا الأمر تبعث على السؤال عنه[10]؛ لذلك سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت الإجابة من الله تعالى بقوله: )فاعتزلوا النساء في المحيض( (البقرة: ٢٢٢) أي: في زمن الحيض، إن حملت المحيض على «المصدر» أو في محل الحيض إن حملته على الاسم، ومقصود هذا النهي ترك المجامعة[11] فدل هذا التفسير على أن المحرم في الآية هو الجماع نفسه، أما ما دونه، أو ما فوق الإزار فهو غير داخل في هذا النهي.
وقد جاء الحديث - حديث أنس السابق ذكره - صريحا في بيان سبب النزول، كما دلت عليه الأخبار الأخرى، والتي بينت وأوضحت كيف كان اليهود يتعاملون مع الحوائض، فلا يأكلون ولا يشربون ولا يجتمعون معهن في بيت واحد، وبهذا استن بعض العرب؛ فكان حثيثا أن ينزل التشريع الإسلامي بالوحي الإلهي بما يخالف هذه الأباطيل اليهودية؛ هداية منه - عز وجل- إلى ما فيه خير المسلمين.
فليس المقصود بالاعتزال الذي جاء في الآية مثل ما هو معروف عند اليهود من إهمالها، واعتبارها نجسة، فلا يأكل ولا يشرب معها، ولا يسكن معها في بيت واحد.
ومما يؤكد أن الاعتزال في الآية غير الذي عند اليهود، بل مخالف له - تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- وبيانه حين قال: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، فاقتصر الاعتزال على الجماع فقط، أما ما دونه فكان مباحا؛ لدلالة قوله -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وبذلك يكون قد أباح ما قد حرمه اليهود من مأكل ومشرب وملامسة، وليس الجماع مثل المباشرة، فالأول وطء في الفرج، أما الثانية فهي ملامسة للاستمتاع بما هو دون الوطء في الفرج، فهذا غير ذاك.
وقد أجمع المفسرون على أن المراد بالاعتزال في الآية هو اعتزال الجماع فقط، وليس الاعتزال الكلي لهن، والأمر بعدم القرب هو عدم قرب الجماع.
قال أبو جعفر الطبري: "يعني تعالى ذكره بقوله: )فاعتزلوا النساء في المحيض( (البقرة: ٢٢٢) فاعتزلوا جماع النساء ونكاحهن في محيضهن"[12].
وجاء في "زاد المسير" لابن الجوزي: "المراد به اعتزال الوطء في الفرج؛ لأن المحيض نفس الدم، أو نفس الفرج، ولا تقربوهن أي: لا تقربوا جماعهن"[13].
وقال البغوي في "معالم التنزيل": "أراد بالاعتزال: ترك الوطء )ولا تقربوهن( (البقرة: ٢٢٢) أي: لا تجامعوهن، أما الملامسة والمضاجعة معها فجائزة"[14].
وقال ابن كثير في تفسيره: )فاعتزلوا النساء في المحيض( (البقرة: ٢٢٢) يعني في الفرج...، ولهذا ذهب كثير من العلماء، أو أكثرهم إلى أنه تجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج"[15].
وكذا قال الألوسي في "روح المعاني": "والمراد من اعتزال النساء: اجتناب مجامعتهن، كما يفهمه آخر الآية"[16].
وقال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور عن قوله تعالى: )فاعتزلوا النساء في المحيض( (البقرة: ٢٢٢) كناية عن ترك مجامعتهن"، وقال في قوله تعالى: )ولا تقربوهن حتى يطهرن( (البقرة: ٢٢٢): "جاء النهي عن قربانهن تأكيدا للأمر باعتزالهن وتبيينا للمراد من الاعتزال، وأنه ليس التباعد عن الأزواج بالأبدان كما كان عند اليهود، بل هو عدم القربان، فكان مقتضى الظاهر أن تكون جملة "ولا تقربوهن" مفصولة بدون عطف؛ لأنها مؤكدة لمضمون جملة "فاعتزلوا النساء في المحيض" ومبينة للاعتزال.... ويكنى عن الجماع بالقربان"[17].
وهذا محمد رشيد رضا يقول في "تفسير المنار": " والمراد من النهي عن القرب النهي عن لازمه الذي يقصد منه، وهو الوقاع، والمعنى أنه يجب على الرجال ترك غشيان نسائهم زمن المحيض؛ لأن غشيانهن سبب للأذى والضرر والأذى، والضرر يكون من الجماع لا من غيره.
وقد رد محمد رشيد رضا على من توهم أن الاعتزال في الآية اعتزال في كل شيء؛ فقال: "وكان يظن بعض الناس أن الاعتزال وترك القرب حقيقة لا كناية، وأنه يجب الابتعاد عن النساء في المحيض، وعدم القرب منهن بالمرة، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم- بين أن المحرم إنما هو الوقاع [18].
وإذا كانت الآية الكريمة قد نهت عن الجماع وحده، وأمرت باعتزاله طوال مدة الحيض، فقد جاءت السنة النبوية مؤكدة هذا الأمر باعتزال الجماع، ووضحت أن ما دونه مباح؛ فهي في ذلك مبينة للقرآن لا تخالفه في شيء، وقد جاء هذا البيان عمليا وقوليا؛ فكان أول بيان منه - صلى الله عليه وسلم- قوله «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، وكان ذلك منه - صلى الله عليه وسلم- مخالفة لليهود وتنكيلا بهم، وكان هذا واضحا في رد فعلهم عندما بلغهم ذلك؛ فقالوا: «ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه».
ومن هذا البيان العملي بيانه - صلى الله عليه وسلم- طهارة جسد المرأة الحائض، وجواز النوم معها في ثيابها والاضطجاع معها في لحاف واحد، وهذا ما دل عليه حديث أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: «بينما أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم- مضطجعة في خميصة إذ حضت، فانسللت فأخذت ثياب حيضتي. قال: «أنفست؟»، قلت: نعم، فدعاني، فاضطجعت معه في الخميلة»[19].
ومن ذلك - أيضا - قول عائشة رضي الله عنها: «كنت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- نبيت في الشعار[20] الواحد وأنا حائض طامث، فإن أصابه مني شئ غسل مكانه ولم يعده، وإن أصاب - تعني ثوبه - منه شئ غسل مكانه ولم يعده، وصلى فيه»[21].
وفي هذا الحديث الأخير زيادة على حديثي أم سلمة وميمونة - رضي الله عنهما - وتلك الزيادة هي بيان الحكم للرجل إذا أصاب ثوبه شيء من حيض زوجته وهي نائمة معه في لحاف واحد، فما عليه إلا غسل مكان ما أصابه من دم حيض فقط، ولا يتجاوزه، وإذا صلى مع ذلك صحت صلاته.
كما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم- - عمليا - صحة الصلاة في المكان الذي توجد فيه المرأة الحائض؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي من الليل، وأنا إلى جنبه، وأنا حائض، وعلي مرط[22]، وعليه بعضه إلى جنبه»[23].
وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى وعليه مرط، وعلى بعضه أزواجه منه، وهي حائض، وهو يصلي وهو عليه»[24].
وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جواز مؤاكلة الحائض والشرب من فضلها؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم- فيضع فاه على موضع في، وأتعرق العرق وأنا حائض، ثم أناوله النبي -صلى الله عليه وسلم- فيضع فاه على موضع في»[25].
وبين - صلى الله عليه وسلم- - أيضا - جواز ترجيل الحائض رأس زوجها؛ فقالت عائشة - رضي الله عنها -: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يدني إلي رأسه وأنا في حجرتي، فأرجل رأسه وأنا حائض»[26].
وكذلك بين طهارة ذات المرأة الحائض؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: «بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في المسجد فقال: يا عائشة، ناوليني الثوب، فقالت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك؛ فناولته»[27].
وكذا عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يتكئ في حجري وأنا حائض، فيقرأ القرآن»[28].
فهذه الآثار دالة دلالة صريحة وواضحة على جواز ملامسة الحائض، وأن ثيابها على طهارة مالم يلحق بها نجاسة، كما فيها أيضا جواز الصلاة بقربها، والأكل والشرب من فضلها، وتناول الأشياء من يدها، بل والتعبد في حجرها بقراءة القرآن مالم يلحق بثوبها أذى من المحيض[29].
وإن دلت هذه الأخبار إنما تدل على حسن المعاشرة للمرأة، واحترامها وتقديرها في جميع أحوالها، وما ينتابها ويطرأ عليها من تغييرات لطبيعتها الخاصة، فجاءت السنة النبوية تؤكد على احترامها في تلك الظروف، وتقديرها والتعامل معها بغير استنكار ولا احتقار، مع الوقوف على الحد الذي وضحه كل من القرآن والسنة، بخلاف اليهود الذين راحوا يحتقرون المرأة؛ فاعتزلوها في المأكل والمشرب والمسكن باعتبارها نجسة؛ فحرموا الاقتراب منها. فدلت الآية الكريمة على أن الاعتزال يكون عن القربان بالجماع وحده، واقتصرت على هذا الحد، ولم تتطرق إلى تحريم ما هو غير ذلك من أكل وشرب وملامسة ومباشرة، وهذا هو الذي وضحته السنة النبوية وأكدته، ثم وقفت على ما وقف عليه القرآن في ذلك، وهو الجماع، وأباحت ما هو دونه، فأنى التعارض بين السنة والقرآن في ذلك؟!
ثانيا. الأضرار الناتجة عن العلاقة بين الزوجين في الحيض لا تكون إلا بالجماع لا غيره؛ لذلك نهي عن الجماع وأبيح ما دونه:
لم يشرع الله سبحانه وتعالى شيئا إلا وفيه الخير والصلاح للإنسان، وكل ما حرمه عليه إنما هو لحكمة جليلة أرادها الله -عز وجل-، فلما حرم الله على عباده مجامعة النساء أثناء حيضهن كان ذلك لدفع الأذى والضرر الذي يصيب الرجل والمرأة من جراء ذلك، وهذا الضرر لا يتأتى إلا بالجماع وحده في تلك الفترة، وليس بأنواع المباشرة الأخرى؛ كالتقبيل والملامسة وكل ما دون الجماع، وقد أكد الطب قديما وحديثا أن الأذى يلحق بالجماع؛ لذلك نهى الله عنه في كتابه وشدد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- في سنته، ولم ينه عن شيء أثناء الحيض غير الجماع، لعدم لحوق الأذى من غيره، فكان ذلك دليلا على أن المنهي عنه هو الجماع فقط.
وإليك أيها القارئ العزيز بعضا من الأضرار البالغة التي يمكن أن تلحق بالزوج أو الزوجة إذا حدث الوطء في أثناء الحيض؛ لتعلم الحكمة من النهي عن الجماع في هذه المدة:
فلقد كشفت الدراسات والأبحاث الطبية الحديثة عن بعض الأضرار التي تلحق بالمرأة من جراء ذلك، نجملها فيما يلي:
· تبين أن الحيض والوطء أثناءه أهم الأسباب المهيئة لالتهاب المهبل، وهذا الالتهاب يحدث آلاما شديدة في الحوض مع الشعور بثقل فيه، وترتفع درجة حرارة الأعضاء التناسلية، ويحتقن الغشاء المخاطي، ويلتهب الجهاز التناسلي، وتزداد ضربات القلب.
· إن هذا الالتهاب المهبلي يتسبب في حدوث التهاب الغشاء المخاطي للمثانة، مما يشعر المرأة بالميل للتبول مع قلة ما ينزل منه، وفي بعض الحالات يكون مصحوبا بدماء.
· تبين أن الجماع من وسائل حمل البكتريا والجراثيم الفتاكة لداخل المهبل؛ مما قد يسبب مرضا يسمى (ميكونك فيجينيتس).
· تبين أن الحيض والوطء أثناءه من أهم الأسباب المهيئة لتعفن الرحم، فضلا عن أنه يسبب العقم، علاوة على ارتفاع في درجة الحرارة، ووجود آلام قاسية في الحوض لا تطاق، بالإضافة للمضاعفات الأخرى الخطرة التي تكون نتيجة ذلك التعفن، ولعل أهمها: إصابة ملحقات الرحم.
· أضف إلى ذلك كله أن مقاومة المرأة تتضاءل إلى حدها الأدنى أثناء المحيض، كما أنه من طبيعة العمل الجنسي أثناء الجماع أن يتقلص الرحم أثناء الرعشة الجنسية، ثم يسترخي مرتشفا محتويات المهبل من مني وإفرازات، وما تحتويه من جراثيم ممرضة تدخل إلى باطن الرحم المتسلخ أثناء الطمث، مؤديا إلى التهاب الرحم أيضا.
· هذا علاوة على أن مني الرجل يحتوي على مادة «البروستاجلاندين» وهي مادة إذا دخلت الدورة الدموية للأنثى أدت إلى إحداث نقص شديد في مناعتها، وقد تتعرض بذلك للهلاك عند إصابتها بأضعف الأمراض.
· كما أن الهرمونات النخامية للجريبين (وهو هرمون يفرزه المبيض، يقوم بوظائف دفاعية هامة لعضوية المرأة) تكون منخفضة جدا أو معدومة أثناء الحيض، ولا غنى عنها لإفراز المادة الشبقية في مهبل المرأة أثناء الجماع، وهذا ما يجعل المرأة بطبعها معرضة عن الجماع في فترة حيضها[30].
أما الأضرار التي تصيب الرجل من وطء المرأة الحائض؛ فمنها:
· أن المهبل أثناء المحيض عرضة لكل ما ذكر من الجراثيم المعدية التي تصيب الرجل، فتحدث التهابات مختلفة في أعضائه التناسلية؛ إذ تمتد الجراثيم إلى داخل القناة البولية، بل قد تصيب المثانة والحالبين، وقد يمتد الالتهاب حتى يصيب «غدة كوبر»، و «البروستاتا» و «الحويصلتين المنويتين» و «البربخ»، و «الخصيتين».
· وإصابة القناة البولية للرجل يحدث آلاما شديدة يتعذر معها التبول، ويصاحب ذلك إفراز مذي شديد، يلوث عند اشتداد الحالة بدماء.
· وعند إصابة البربخ والخصيتين يعاني المصاب آلاما متشعبة؛ إذ قد يصاب البربخ بالورم حتى يبلغ حجمه بيضة الدجاجة، وقد ينسد الحبل المنوي الذي قد يستمر انسداده مدى الحياة.
· أن الالتهاب البسيط في القناة البولية هو الذي يسبب كل هذه المضاعفات الخطيرة التي تم ذكرها، وليس ببعيد أن يمتد الالتهاب في الحالبين وقاعدة الكليتين، حيث يمتنع نزول البول في الحالة الأولى، فيترتب التسمم الدموي، أما في الحالة الثانية فالموت هو أقرب النتائج[31].
· تقل الرغبة الجنسية لدى المرأة أثناء الحيض؛ لذلك يكون الانجذاب في هذه الحالة من طرف واحد وهو الزوج، وحيث إن الطرف الثاني وهو الزوجة ليس عندها رغبة جنسية في مثل حالتها، فيمكن أن يؤدي ذلك إلى إضعاف القدرة الجنسية عند الرجل، وربما يصل الأمر أخيرا إن تكرر اقترابه من زوجته في حالة حيضها كثيرا، ربما يصل به الحال إلى عجز جنسي، لا يستطيع معه الالتقاء الجنسي الصحيح حالة طهارة المرأة[32].
وبعد ذكر الأضرار التي أثبتها الطب الحديث يتبين أنها جميعا لا تتسبب إلا عن الجماع، ولا تكون هذه الأضرار من التقبيل أو الملامسة أو غير ذلك مما هو دون الجماع؛ لذلك كان نهي القرآن والسنة عن الجماع وإباحة غيره، بل إن السنة النبوية بينت تفاصيل ذلك بأن الأفضل من الرجل أن يقترب من زوجته أثناء حيضها؛ حتى يستأنس بها وتستأنس به.
ونتوجه في النهاية بسؤال إلى هؤلاء على لسان أستاذنا عماد السيد الشربيني: هل تعتزل زوجتك الحائض في تلك الفترة، فلا تؤاكلها، ولا تشاربها، ولا تساكنها في بيت واحد؛ مما قد يزيد الجفاء بينك وبين زوجتك، أم تمتثل لسنة المعصوم وسيرته - صلى الله عليه وسلم- مع أهل بيته في تلك الفترة التي تحيض فيها المرأة؛ فيكون لذلك أطيب الأثر في العلاقة بينك وبين أهل بيتك، واستدامة المودة والرحمة بين الأسرة؟!
إن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم- وسيرته في معاملة المرأة الحائض تمثل قمة التكريم للمرأة، كما تمثل عظمة أخلاقه، وعصمته - صلى الله عليه وسلم- في سلوكه مع أهل بيته إذا أصابهن - ما كتبه رب العزة على بنات آدم - الحيض[33].
الخلاصة:
· لا تعارض بين أحاديث مباشرة الحائض الصحيحة، وبين آية اعتزال النساء فترة حيضهن؛ إذ إن جمهور المفسرين على أن المراد من الاعتزال في الآية هو ترك الجماع، وعدم القرب منهن كناية عن عدم الاقتراب من موضع الدم الخارج (الفرج)، أما الأحاديث فقد اقتصرت على المباشرة دون الجماع.
· لقد كانت اليهود تجتنب الحائض، وتفرط في هذا الاجتناب، فلا يأكلون ولا يشربون ولا يجتمعون مع حائض في مسكن واحد، وقد كان هذا هو حال العرب في الجاهلية، فتساءل المسلمون عن هذا الأمر، وكيف يصنعون في تلك الحالة، ولجئوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- ليبين لهم حقيقة هذا الأمر، فكان الجواب من الله - عز وجل- في قوله تعالى: )ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن( (البقرة: ٢٢٢).
· فالباعث على نزول هذه الآية هو بيان كيفية التعامل مع المرأة في حيضتها، فاقتصر الجواب على النهي عن الجماع، مع بيان علته بأنه أذى، ولم تنه الآية عن أكثر من ذلك، وهذا مما دلت عليه ألفاظها.
· ثم جاءت السنة النبوية لتبين هذا المعنى فكان أول بيان منه - صلى الله عليه وسلم- أنه قال «افعلوا كل شيء إلا النكاح»، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عما نهت عنه الآية الكريمة، وكان من بعده - أيضا - البيان القولي والفعلي في جميع جوانب الحياة؛ فصلى واضطجع في المكان الذي فيه الحائض وأكل وشرب من نفس موضعها، وكذلك كان يقرأ القرآن في حجر عائشة - رضي الله عنها - وهي حائض، فكانت سنته - صلى الله عليه وسلم- في ذلك مبينة ومفسرة لما في القرآن. فلا تعارض بينهما في ذلك.
· إن نهي الله - سبحانه وتعالى- ورسوله - صلى الله عليه وسلم- عن فعل شيء يكون لمصلحة ضرورية، وتفاديا لأضرار عظيمة قد تحدث إذا خالف الإنسان ربه في هذا النهي، والنهي عن إتيان النساء في الحيض من أعظم الأوجه الإعجازية في القرآن والسنة، بل دليل كاف على أن هذا كلام رب البشر العليم بحالهم.
· لقد أثبت الطب الحديث أن الجماع في فترة الحيض يؤدي إلى أضرار خطيرة للرجل والمرأة على السواء، ولا يحدث ذلك إلا بالجماع، وليس بغيره من علاقات جسدية كالتقبيل والملامسة، وهذا يدل على أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم- وحي من عند الله عز وجل؛ إذ قد نهى عن الجماع الذي هو سبب الأذى، وأباح غيره مما لا يسبب ضررا.
(*) دفاعا عن رسول الله، محمد يوسف، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2008م. مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين، د. نافذ حسين حماد، دار النوادر، بيروت، ط1، 1428هـ/ 2007م. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ / 2003م.
[1]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله...، (2/ 846)، رقم (680).
[2]. تتزر: تلبس الإزار.
[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحيض، باب: مباشرة الحائض، (1/ 481)، رقم (302). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحيض، باب: مباشرة الحائض فوق الإزار، (2/ 838)، رقم (666).
[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحيض، باب: مباشرة الحائض، (1/ 481)، رقم (300).
[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحيض، باب: مباشرة الحائض، (1/ 483)، رقم (303). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحيض، باب: مباشرة الحائض فوق الإزار، (2/ 838)، رقم (667).
[6]. لم يجامعوهن في البيوت: لم يساكنوهن في بيت واحد.
[7]. وجد: غضب.
[8]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها، وترجيله...، (2/ 846)، رقم (680).
[9]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (3/ 80، 81).
[10]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (2/364، 365).
[11].الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (3/ 86).
[12]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (4/ 375).
[13]. زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط3، 1404هـ، (1/ 248).
[14]. معالم التنزيل، البغوي، تحقيق: محمد عبد الله النمر وآخرين، دار طيبة، السعودية، ط4، 1417هـ/ 1997م، (1/ 257).
[15]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1400هـ/ 1980م، (1/ 258).
[16]. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت، (2/ 121).
[17]. التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (2/ 366) بتصرف.
[18]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، (2/ 359، 360) بتصرف.
. [19] صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحيض، باب: من سمى النفاس حيضا، (1/ 480)، رقم (298). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، (2/ 842)، رقم (669).
[20]. الشعار: ما ولي جسد الإنسان دون ما سواه من الثياب.
[21]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: النكاح: باب: في إتيان الحائض ومباشرتها، (6/ 147)، رقم (2166). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (2166).
[22]. المرط: كساء من صوف وغيره يلتحف به.
[23]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: الاعتراض بين يدي المصلي، (3/ 1078)، رقم (1127).
[24]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في باب الصلاة في شعر النساء، (2/ 22) رقم (365). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (365).
([25]) صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، (2/ 845)، رقم (678).
([26]) صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، (2/ 845)، رقم (673).
([27]) صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، (2/ 844)، رقم (677).
([28])صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، (2/ 846)، رقم (679).
[29]. انظر: رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ / 2003م، ص 498: 501.
[30]. انظر: موسوعة الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي، حمدي عبد الله الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، مصر، ط1، 2007م، ص 468. الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية، د. أحمد مصطفى متولي، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 1426هـ / 2005م، ص 531، 532.
[31]. موسوعة الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي، حمدي عبد الله الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، مصر، ط1، 2007م، ص 469، 470 بتصرف.
[32]. انظر: الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية، د. أحمد مصطفى متولي، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص532.
[33]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ / 2003م، ص502.
husband cheat
online online affair