دعوى تعارض أحاديث سجود السهو قبل التسليم وبعده (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض الواهمين وجود تعارض وتناقض في أحاديث سجود السهو، وقال بعضهم: إن فيها أحاديث نسخت أخرى. ويستدلون على هذه الدعوى بأن هناك أحاديث دلت على أن سجود السهو يكون قبل التسليم، في حين دلت أحاديث أخرى على أنه يكون بعد التسليم، مما اضطر بعضهم إلى القول بوجود نسخ في بعض هذه الأحاديث؛ هروبا من هذه الدعوى، وحلا لإشكال التعارض المتوهم. رامين من جراء هذا الفهم الخاطئ إلى خلخلة بنيان ما صح من السنة، وإثارة الشكوك حوله.
وجه إبطال الشبهة:
· إن دعوى التعارض بين أحاديث سجود السهو دعوى عارية من الصحة تفتقد إنعام النظر، والوقوف على ما تقتضيه أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم-وأفعاله من السجود قبل التسليم أو بعده، وما لم تقيده كان المكلف مخيرا بين السجود قبل التسليم وبعده من غير فرق بين زيادة أو نقصان، ثم إن دعوى النسخ تفتقد إلى دليل صحيح مقاوم متراخ؛ فالنسخ لا يثبت بالاحتمال، ولابد أن تقوم به قرينة إن لم ينص عليه.
التفصيل:
إن سجود السهو من باب إضافة الشيء إلى سببه، والشيء قد يضاف إلى زمنه، وقد يضاف إلى مكانه، وقد يضاف إلى نوعه.
"والسهو لغة: نسيان الشيء والغفلة عنه، والمراد هنا الغفلة عن شيء في الصلاة، وإنما يسن (عند ترك مأمور به) من الصلاة، أو (فعل منهي عنه) فيها، ولو بالشك، فيما لو شك هل صلى ثلاثا أو أربعا، وغير ذلك؛ فسقط بذلك ما قيل: إنه لا يسن السجود لكل ترك مأمور به، ولا لكل فعل منهي عنه" [1].
وحتى تتضح الصورة ليرفع اللبس عمن اختلط عليه الأمر، وظن خطأ وقوع تباين واختلاف في النصوص الواردة في هذه السنة؛ لابد من ذكر الأحاديث التي تدور عليها مسألة سجود السهو.
الأحاديث الواردة في سجود السهو:
وهي ستة أحاديث عليها يدور باب سجود السهو:
1. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا نودي بالأذان أدبر الشيطان له ضراط[2]؛ حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي الأذان أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى، فإذا لم يدر أحدكم كم صلى فليسجد سجدتين وهو جالس» [3]. وفي رواية لأبي داود: «وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم»[4].
2. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إحدى صلاتي العشي - إما الظهر وإما العصر - فسلم في ركعتين، ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليها مغضبا، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يتكلما، وخرج سرعان الناس، قصرت الصلاة، فقام ذو اليدين فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- يمينا وشمالا، فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق، لم تصل إلا ركعتين، فصلى ركعتين وسلم، ثم كبر، ثم سجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر ورفع، قال: وأخبرت عن عمران بن حصين أنه قال: وسلم»[5].
3. عن عمران بن حصين رضي الله عنه«أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له الخرباق - وكان في يديه طول - فقال: يا رسول الله، فذكر له صنيعه، وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال: أصدق هذا؟ قالوا: نعم، فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم» [6].
4. عن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر في كل سجدة، وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس»[7].
5. عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال إبراهيم: زاد أو نقص - فلما سلم قيل له: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، قال: فثنى رجليه، واستقبل القبلة، فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين»[8]، وفي رواية:«ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين»[9]، وفي بعض الروايات: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر خمسا» [10].
6. عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى، أثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان»[11].
وبعد عرض الأحاديث التي تدور عليها مسألة سجود السهو، نذكر عدة مسائل مستفادة منها، تتعلق بفقه المسألة الموصل لرفع اللبس ودفع إيهام الاضطراب والتعارض، وهي دراسة مستفيضة قام بها الشيخ عادل العزازي في كتابه "تمام المنة"؛ حيث قال: ويتعلق بذلك أمور:
المسألة الأولى: إذا ترك بعض الركعات وسلم، ثم تيقن بعد الصلاة أنه ترك ركعة أو ركعتين أو ثلاثا سهوا أتى بهذه الركعات التي تركها إذا لم يطل الفصل، وسواء في ذلك تكلم بعد السلام، أو خرج من المسجد واستدبر القبلة ونحو ذلك، ويكون سجود السهو في هذه الحالة بعد السلام، لما تقدم من الأحاديث عن أبي هريرة وعمران - رضي الله عنهما.
وأما إذا طال الفصل وتذكر بعد فترة أعادها عند الحنابلة، وورد نحو هذا عن مالك، وكذلك قال الشافعي: إن ذكر قريبا، وقال يحيى الأنصاري والليث والأوزاعي يبني - أي: يكمل صلاته - ما لم ينتقض وضوؤه[12].
هذا فيما إذا تيقن بعد السلام، وأما إذا شك في تركها بعد السلام، ففيه خلاف، ورجح النووي أنه لا أثر للشك بعد السلام[13].
المسألة الثانية: إذا ترك ركنا في الصلاة، كأن يسجد سجدة واحدة ويقوم للثانية، أو يترك ركوعا أو اعتدالا، ثم تذكر بعد قيامه للركعة التي تليها، فالذي نص عليه الإمام أحمد أنه إن شرع في القراءة، بطلت الركعة التي ترك ركنها، وصارت التي شرع فيها مكانها.
وأما إذا تذكر ولم يشرع في القراءة فإنه يرجع إلى الركن الذي تركه، ويبني عليه بقية صلاته، وفي المسألة خلاف عند الشافعية لما ذكرته.
المسألة الثالثة: إذا شك فلم يدر كم صلى، فله حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون عنده (غلبة ظن)، فإذا شك مثلا هل صلى ركعتين أم ثلاثا، فقد يغلب على ظنه أنهما اثنتان، وقد يغلب على ظنه أنهم ثلاثة، ففي هذه الحالة يتحرى الصواب؛ أي: ما غلب على ظنه هل هما اثنتان أو ثلاثة؟ ويعمل بما غلب على ظنه، ثم يسجد سجدتين بعد السلام.
الحالة الثانية: أن (يستوي عنده الشك) ولا يغلب على ظنه شيء، ففي هذه الحالة يبني على الأقل، فإذا شك هل صلى ركعتين أم ثلاثا؟ اعتبرهما اثنتين؛ لأن ذلك هو اليقين، ثم يسجد سجدتين قبل السلام؛ وذلك لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
المسألة الرابعة: إذا ترك واجبا من واجبات الصلاة لا يلزمه الإتيان به، لكنه يسجد للسهو[14].
المسألة الخامسة: أما إذا نسي سنة من سنن الصلاة لا شيء عليه، وليس عليه سجود سهو، ولا يجب عليه الرجوع للإتيان به، فإن عاد إليه، فقد قال النووي - رحمه الله: بطلت صلاته إن كان عامدا عالما بتحريمه، فإن كان ناسيا أو جاهلا لم تبطل.
المسألة السادسة: إذا سها الإنسان في غير هذه المواضع السابقة؛ كأن يقوم في موضع جلوس أو العكس، أو يجهر في موضع إسرار أو العكس، أو صلى خمسا، أو زاد عدد السجدات - فكل ذلك يسجد له للسهو، واختلفوا هل يسجد قبل السلام أم بعده، والأمر فيه واسع؛ لأنه لم يرد نص يحدد موضع سجود السهو في مثل هذه الأمور.
وبناء على هذا، فالذي ورد فيه السجود قبل السلام ما يلي:
· إذا شك فلم يدر كم صلى.
· إذا قام دون أن يجلس للتشهد الأوسط.
والتي ورد فيها السجود بعد السلام ما يلي:
· إذا سلم قبل أن يتم الصلاة وقد ترك بعض ركعاتها.
· إذا زاد ركعة في الصلاة (وفيها خلاف)[15].
· إذا تحرى في عدد الركعات وصلى على الغالب لظنه.
وأما عدا هذا فالمصلي مخير بين أن يسجد قبل أو بعد السلام؛ لأنه لم يرد فيه تقييد.
المسألة السابعة: إذا أتى بشيء من المنهيات:
· فإن كانت المنهيات مما لا يبطل بعمدها الصلاة؛ كالخطوة والخطوتين على الأصح، والإقعاء في الجلوس، ووضع اليد على الفم والخاصرة، والفكر في الصلاة، والنظر إلى ما يلهي، ورفع البصر إلى السماء، وكفت الثوب والشعر، ومسح الحصى والتثاؤب، والعبث بلحيته وأنفه... ونحو هذا - فلا يجب عليه شيء إن فعل من ذلك شيئا سهوا.
· ما كان من المنهيات وتبطل بعمده الصلاة؛ كالكلام والركوع والسجود الزائد، فإن فعل من ذلك شيئا سهوا سجد للسهو[16].
المسألة الثامنة: في التشهد الأوسط:
· إذا ترك التشهد الأول، وقام حتى انتصب تماما فلا يجوز له العود إلى القعود، وأما إذا تذكر أثناء تحركه وقبل يستتم قيامه، فإنه يعود إلى جلوسه للتشهد؛ وذلك لحديث المغيرة بن شعبة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا قام أحدكم من الركعتين، فلم يستتم قائما فليجلس، فإذا استتم قائما فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو»[17]. وعلى هذا فلو عاد بعد قيامه كاملا بطلت صلاته، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء.
· إذا علم المأمومون بتركه التشهد الأول بعد قيامه، وجب عليهم أن يتابعوه؛ لما تقدم من حديث ابن بحينة بأنه -صلى الله عليه وسلم- أشار إليهم بالقيام عندما سبحوا به.
· ولا يجوز للمأموم أن يتخلف عن إمامه للتشهد، فإن فعل بطلت صلاته. ولو انتصب مع الإمام فعاد الإمام للتشهد، لم يجز للمأموم العود، بل ينوي مفارقته، فلو عاد مع الإمام عالما بتحريمه بطلت صلاته، وإن عاد ناسيا أو جاهلا لم تبطل.
· ولو قعد المأموم فانتصب الإمام ثم عاد، لزم المأموم القيام؛ لأنه توجبه عليه - يعني القيام - بانتصاب الإمام[18].
· هذا كله ما إذا انتصب الإمام، وأما إذا لم ينتصب قال ابن قدامة - رحمه الله: "فأما إن سبحوا به قبل قيامه ولم يرجع، تشهدوا لأنفسهم ولم يتبعوه في تركه؛ لأنه ترك واجبا تعين فعله عليه"[19].
يقول الإمام النووي: "وقد اختلف العلماء في كيفية الأخذ بهذه الأحاديث، فقال داود: لا يقاس عليها، بل تستعمل في مواضعها على ما جاءت، وقال أحمد - رحمه الله - بقول داود في هذه الصلوات خاصة، وخالفه في غيرها، وقال يسجد فيما سواها قبل السلام لكل سهو"[20].
وقد اختلف في صفة وقوع السهو، زيادة ونقصا، كما اختلف في موضع السجود هل هو قبل السلام أو بعده، فكان لابد من تسليط الضوء على موضع الإشكال لبيان اختلاف الروايات في كون السجود للسهو قبل التسليم أو بعده، وهذا ما نجم عنه اختلاف في مذاهب أهل العلم في هذا إلى ثمانية أقوال.
الأول: أن سجود السهو كله محله بعد السلام، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة، وهم: علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وعمران بن حصين، وأنس بن مالك، والمغيرة بن شعبة، وأبو هريرة. وروى الترمذي عنه خلاف ذلك كما سيأتي. روي أيضا عن ابن عباس، ومعاوية، وعبد الله بن الزبير على خلاف في ذلك عنهم.
ومن التابعين: أبو سلمة بن عبد الرحمن، والحسن البصري، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والسائب القاري. وروى الترمذي عنه خلاف ذلك، وهو قول: الثوري، وأبي حنيفة وأصحابه، وحكى عن الشافعي قولا له[21]. ورواه الترمذي عن أهل الكوفة، وذهب إليه من أهل البيت الهادي، والقاسم، وزيد بن علي، والمؤيد بالله. واستدلوا بحديث الباب وبسائر الأحاديث التي ذكر فيها السجود بعد السلام.
القول الثاني: إن سجود السهو كله قبل السلام. وقد ذهب إلى ذلك من الصحابة: أبو سعيد الخدري. روي أيضا عن ابن عباس، ومعاوية، وعبد الله بن الزبير على خلاف في ذلك.
وبه قال: الزهري، ومكحول، وابن أبي ذئب، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي في "الجديد" وأصحابه. ورواه الترمذي عن أكثر فقهاء المدينة، وعن أبي هريرة. واستدلوا على ذلك بالأحاديث التي ذكر فيها السجود قبل السلام، وسيأتي بعضها.
القول الثالث: التفرقة بين الزيادة والنقص، فيسجد للزيادة بعد السلام، وللنقص قبله. وإلى ذلك ذهب: مالك. وأصحابه، والمزني، وأبو ثور، وهو قول للشافعي، وإليه ذهب: الصادق، والناصر من أهل البيت[22].
قال ابن عبد البر: وبه يصح استعمال الخبرين جميعا قال: واستعمال الأخبار على وجهها أولى من ادعاء النسخ. ومن جهة النظر الفرق بين الزيادة والنقصان بين في ذلك؛ لأن السجود في النقصان إصلاح وجبر، ومحال أن يكون الإصلاح والجبر بعد الخروج من الصلاة.
وأما السجود في الزيادة فإنما هو ترغيم للشيطان، وذلك ينبغي أن يكون بعد الفراغ، قال ابن العربي: مالك أسعد قيلا وأهدى سبيلا.
ويدل على هذه التفرقة ما رواه الطبراني من حديث عائشة في آخر حديث لها، وفيه قال: «من سها قبل التمام فليسجد سجدتي السهو قبل أن يسلم، وإذا سها بعد التمام سجد سجدتي السهو بعد أن يسلم»[23].
ولكن في إسناده عيسى بن ميمون المدني المعروف بـ "الواسطي"، وهو وإن وثقه حماد بن سلمة، وقال فيه ابن معين مرة: لا بأس به؛ فقد قال فيه مرة: ليس بشيء، وضعفه الجمهور.
القول الرابع: أنه يستعمل كل حديث كما ورد، وما لم يرد فيه شيء سجد قبل السلام. وإلى ذلك ذهب: أحمد بن حنبل[24]، كما حكاه الترمذي عنه، وبه قال سليمان بن داود الهاشمي من أصحاب الشافعي، وأبو خيثمة. قال ابن دقيق العيد: هذا المذهب مع مذهب مالك متفقان في طلب الجمع وعدم سلوك طريق الترجيح، لكنهما اختلفا في وجه الجمع.
القول الخامس: أنه يستعمل كل حديث كما ورد، وما لم يرد فيه شيء فما كان نقصا سجد له قبل السلام، وما كان زيادة فبعد السلام. وإلى ذلك ذهب: إسحاق بن راهويه، كما حكاه عنه الترمذي.
القول السادس: أن الباني على الأقل في صلاته عند شكه يسجد قبل السلام؛ على حديث أبي سعيد، والمتحري في الصلاة عند شكه يسجد بعد السلام؛ على حديث ابن مسعود. وإلى ذلك ذهب أبو حاتم ابن حبان قال: وقد يتوهم من لم يحكم صناعة الأخبار ولا تفقه في صحيح الآثار أن التحري في الصلاة، والبناء على اليقين واحد، وليس كذلك؛ لأن التحري هو أن يشك المرء في صلاته فلا يدري ما صلى، فإذا كان كذلك فعليه أن يتحرى الصواب، وليبن على الأغلب عنده، ويسجد سجدتي السهو بعد السلام؛ على خبر ابن مسعود، والبناء على اليقين هو أن يشك في الثنتين والثلاث، أو الثلاث والأربع، فإذا كان كذلك فعليه أن يبني على اليقين - وهو الأقل - وليتم صلاته، ثم يسجد سجدتي السهو قبل السلام؛ على خبر عبد الرحمن بن عوف، وأبي سعيد، وما اختاره من التفرقة بين التحري والبناء على اليقين، قاله أحمد بن حنبل فيما ذكره ابن عبد البر في "التمهيد"، وقال الشافعي وداود وابن حزم أن التحري هو: البناء على اليقين، وحكاه النووي عن الجمهور.
القول السابع: أنه يتخير الساهي بين السجود قبل السلام وبعده، سواء كان لزيادة أو نقص. حكاه ابن أبي شيبة في المصنف عن: علي -عليه السلام-، وحكاه الرافعي قولا للشافعي، ورواه المهدي في "البحر" عن الطبري، ودليلهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صح عنه السجود قبل السلام وبعده، فكان الكل سنة.
القول الثامن: أن محله كله بعد السلام إلا في موضعين فإن الساهي فيهما مخير. أحدهما: من قام من ركعتين ولم يجلس ولم يتشهد. والثاني: أن لا يدري أصلى ركعة أم ثلاثا أم أربعا، فيبني على الأقل، ويـخير في السجود. وإلى ذلك ذهب أهل الظاهر، وبه قال ابن حزم، وروى النووي في "شرح مسلم" عن داود أنه قال: تستعمل الأحاديث في مواضعها كما جاءت. قال القاضي عياض وجماعة من أصحاب الشافعي: ولا خلاف بين هؤلاء المختلفين وغيرهم من العلماء أنه لو سجد قبل السلام أو بعده لزيادة أو لنقص أنه يجزئه، ولا تفسد صلاته، وإنما اختلافهم في الأفضل. قال النووي: وأقوى المذاهب هنا مذهب مالك، ثم الشافعي.
وقال ابن حزم في مذهب مالك: إنه رأي لا برهان على صحته، قال: وهو أيضا مخالف للثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أمره بسجود السهو قبل السلام، من شك فلم يدر كم صلى، وهو سهو زيادة، ثم قال: ليت شعري من أين لهم أن جبر الشيء لا يكون إلا بائنا عنه، وهم مجمعون على أن الهدي والصيام يكونان جبرا لما نقص من الحج، وهما بعد الخروج عنه، وأن عتق الرقبة والصدقة، أو صيام الشهرين جبرا لنقص وطء التعمد في نهار رمضان، وفعل ذلك لا يجوز إلا بعد تمامه.
وأحسن ما يقال في المقام: إنه يعمل على ما تقتضيه أقواله وأفعاله -صلى الله عليه وسلم- من السجود قبل السلام وبعده، فما كان من أسباب السجود مقيدا بقبل السلام سجد له قبله، وما كان مقيدا ببعد السلام سجد له بعده، وما لم يرد تقييده بأحدهما كان مخيرا بين السجود قبل السلام وبعده، من غير فرق بين الزيادة والنقص[25].
وهذا الذي ذهب إليه غير واحد من أهل العلم، كما قال القاضي عياض - رحمه الله.
"وقال الحنابلة: لا خلاف في جواز السجود قبل السلام، وبعده، وإنما الخلاف عندهم في الأفضل والأولى، والأفضل أن يكون قبل السلام؛ لأنه إتمام للصلاة، فكان فيها كسجود صلبها إلا في حالتين:
إحداهما: أن يسجد لنقص ركعة فأكثر، وكان قد سلم قبل إتمام صلاته؛ لحديث عمران بن حصين، وأبي هريرة في قصة ذي اليدين، ففي حديث عمران: فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم". هل أصحابه أصحابه
الثانية: أن يشك الإمام في شيء من صلاته، ثم يبني على غالب ظنه، فإنه يسجد للسهو بعد السلام ندبا لا نصا؛ لحديث علي وابن مسعود مرفوعا: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم ما عليه، ثم ليسجد سجدتين»، وفي البخاري "بعد التسليم"[26].
ويقول الشيخ السيد سابق: "والأفضل متابعة الوارد في ذلك، فيسجد قبل التسليم، فيما جاء فيه السجود قبله، ويسجد بعد التسليم، فيما ورد فيه السجود بعده، ويخير فيما عدا ذلك"[27].
وقال ابن عبد البر: وبه يصح استعمال الخبرين جميعا، واستعمال الأخبار على وجهها أولى من ادعاء النسخ فيها، ومن جهة الفرق بين الزيادة والنقص بين في ذلك؛ لأن السجود في النقصان إصلاح وجبر، ومحال أن يكون الإصلاح والجبر بعد الخروج من الصلاة، وأما السجود في الزيادة فإنما هو ترغيم للشيطان، وذلك ينبغي أن يكون بعد الفراغ[28].
الحكمة من سجود السهو:
وقد تقدم في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- ما يبين الحكمة من سجود السهو أنه إذا كانت صلاته في حقيقة الأمر خمسا كانت السجدتان بمقام ركعة فتشفع صلاته؛ أي: يكون مجموع ركعاته شفعا (أي: عددا زوجيا)، وإن كانت صلاته في حقيقة الأمر تامة وليس فيها شيء زائد، كانت السجدتان ترغيما للشيطان؛ وذلك لأن الشيطان إنما يقصد من وسوسته إبعاد المرء عن السجود لله، فلما كان السهو بسببه كان السجود إغاظة له، وإمعانا في مخالفة مقصوده، فلا يزيده ذلك إلا بؤسا[29].
وبناء عليه، فإن تعدد الصيغ ليس اعتباطا ولا عشوائيا، وإنما أورده الشارع لمقاصد وحكم تشريعية، فلا يصح القول بالتعارض بين السنن الفعلية أو القولية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن باب أولى لا يصح القول بالنسخ ما دام الجمع والتوجيه ممكنا؛ فإن الجمع بين الدليلين أولى من إهمال أحدهما.
الخلاصة:
· إن سجود السهو مشروع لجبر نقص حل في الصلاة، سواء بالزيادة أو النقصان، ولما كان النقص يستوجب الجبر كانت الزيادة ترغيما للشيطان وغيظا له؛ لأن الشيطان إنما يقصد من وسوسته إبعاد المرء من السجود لله عز وجل.
· إن الحكم على الآثار والسنن بالتعارض أو الاضطراب دون الإلمام التام بها وبمعانيها، والحكم والمقاصد التشريعية المنوطة بهذه السنن - يعد ضربا من التخبط، ومجانبة لسبيل أهل العلم في فهم نصوص التشريع.
· باب سجود السهو مداره على ستة أحاديث صحيحة غاية الصحة، مفادها أن السجود يكون في المنصوص - قبل التسليم - في حالتين:
o إذا شك فلم يدر كم صلى.
o إذا قام دون أن يجلس للتشهد الأوسط.
وأن السجود بعد التسليم يكون في حالتين - فيما نص عليه:
o إذا سلم قبل أن يتم صلاته وقد ترك بعض ركعاتها.
o إذا زاد ركعة في الصلاة (على خلاف بين العلماء).
رأى بعض العلماء أن يعمل بالمنصوص عليه دون قياس عليه، على أن يسجد فيما سوى المنصوص عليه قبل التسليم.
ونقل القاضي عياض اتفاق الشافعية على أن المصلي لو سجد قبل التسليم، أو بعده، للزيادة أو النقص، فإن ذلك يجزئه، ولا تفسد صلاته، ومدار اختلافهم في الأفضل والأولى.
والحنابلة على جواز السجود قبل السلام وبعده؛ لكونه إتمام للصلاة.
· إذن العمل في سجود السهو - كما قال الشوكاني - على ما تقتضيه أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله من السجود قبل السلام وبعده، فما كان من أسباب السجود مقيدا بقبل السلام سجد له قبله، وما كان مقيدا ببعد السلام سجد له بعده، وما لم يرد تقييده بأحدهما كان مخيرا بين السجود قبل السلام وبعده من غير فرق بين الزيادة والنقص.
· فالمكلف متابع لما جاء به الشارع، يسجد قبل التسليم، فيما جاء فيه السجود قبله، ويسجد بعد التسليم فيما ورد فيه السجود بعده، ثم يـخير فيما عدا ذلك.
· إن صحة استعمال الخبرين - أو الأمرين عموما - تستوجب حملهما على وجههما، وذلك أولى من ادعاء النسخ في أحدهما.
· إن الزعم بوجود تعارض بين أحاديث سجود السهو مع إمكانية الجمع والتوفيق بين النصوص - ضرب من التخبط، واجتناب غير سبيل المنصفين، كما أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فلا بد للقول بالنسخ من قرينة، ككون الدليل معارضا، متراخيا، بعد التأكد من صحته، وهذا غير موجود هنا، فانتفى القول بالنسخ.
(*)لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1415هـ/ 1995م.
[1]. مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، الخطيب الشربيني، (3/ 61).
[2] . ضراط: ريح خارجة من الشرج مع صوت.
[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: السهو، باب: إذا لم يدركم صلى ثلاثا أو أربعا سجد سجدتين وهو جالس، (3/ 124)، رقم (2131). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: السهو في الصلاة والسجود له، (3/ 1134)، رقم (1244).
[4]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الصلاة، باب: إذا شك في الثنتين والثلاث من قال: يلقي الشك، (3/ 233)، رقم (1022). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (1026).
[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصلاة، باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، (1/ 674)، رقم (482). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: السهو في الصلاة والسجود له، (3/ 1138)، رقم (1265).
[6]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: السهو في الصلاة والسجود له، (3/ 1139)، رقم (1270).
[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: السهو، باب: ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة، (3/ 111)، رقم (1225). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له، (3/ 1135)، رقم (1247).
[8]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: السهو في الصلاة والسجود له، (3/ 1135، 1136)، رقم (1251).
[9]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصلاة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان، (1/ 600)، رقم (401).
[10]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: السهو، باب: إذا صلى خمسا، (1/ 113)، رقم (1226). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: السهو في الصلاة والسجود له، (3/ 1136، 1137)، رقم (1258).
[11]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: السهو في الصلاة والسجود له، (3/ 1135)، رقم (1249).
[12]. المغني، ابن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر، القاهرة، 1412هـ/ 1992م، (2/ 405).
[13]. المجموع شرح المهذب، النووي، دار الفكر، بيروت، د. ت، (4/ 116).
[14]. المجموع شرح المهذب، النووي، دار الفكر، بيروت، د. ت، (4/ 123).
[15]. ومنشأ الخلاف ما تقدم من حديث ابن مسعود: أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى الظهر خمسا، فلما قضى صلاته قيل له: أحدث في الصلاة شيء... الحديث، وفيه: فسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سجدتين، ثم سلم. لكنه لا يدل على أن السجود في هذا الوضع يكون دائما بعد السلام؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يعلم بالزيادة إلا بعد السلام.
[16]. انظر: المجموع شرح المهذب، النووي، دار الفكر، بيروت، د. ت، (4/ 126).
[17]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن قام من اثنتين ساهيا، (1/ 381)، رقم (1208). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (1208).
[18]. انظر: المجموع شرح المهذب، النووي، دار الفكر، بيروت، د. ت، (4/ 131).
[19]. المغني، ابن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر، القاهرة، 1412هـ/ 1992م، (2/ 422).
[20]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (3/ 1140).
[21]. ونسب هذا القول أيضا للرواية عن الإمام أحمد، وهذه النسبة خطأ كما نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى.
[22]. وهي رواية عن الإمام أحمد، حكاها أبو الخطاب. وما كان من زيادة سجد له بعد السلام لحديث ذي اليدين، وحديث ابن مسعود حين صلى خمسا. انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (23/ 19).
2. ضعيف: أخرجه الطبراني في الأوسط، (7/ 312)، رقم (7539)، وفيه عيسى بن ميمون، واختلف في الاحتجاج به، وضعفه الأكثر.
2. قال ابن تيمية في "المجموع" (23/ 18): قال أحمد في رواية الأثرم: أنا أقول كل سهو جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه سجد فيه بعد السلام، وسائر السجود يسجد فيه قبل السلام هو أصح في المعنى، وذلك أنه من شأن الصلاة فيقضيه قبل أن يسلم. ثم قال: فسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثلاثة مواضع بعد السلام، وفي غيرها قبل السلام.
قلت: اشرح المواضع الثلاثة التي بعد السلام.
قال: سلم من ركعتين فسجد بعد السلام، هذا حديث ذي اليدين. وسلم من ثلاث فسجد بعد السلام، هذا حديث عمران بن حصين. وحديث ابن مسعود في التحري سجد بعد السلام.
قال أبو محمد: قال القاضي: لا يختلف قول أحمد في هذين الموضعين أنه يسجد لهما بعد السلام. قال: واختلف قوله فيمن سهى فصلى خمسا هل يسجد قبل السلام، أو بعده؟ على روايتين. وما عدا هذه المواضع الثلاثة يسجد لها قبل السلام، رواية واحدة. وبهذا قال سليمان بن داود، وأبو خيثمة، وابن المنذر.
2. نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، الشوكاني، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفي الباز، مكة المكرمة، ط1، 1421هــ/ 2001م، (4/ 1640: 1643) بتصرف.
2. الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1417هـ/ 1996م، (2/ 105: 108).
2. فقه السنة، السيد سابق، دار الفتح للإعلام العربي، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1999م، (1/ 268).
[28]. الاستذكار، ابن عبد البر، تحقيق: سالم محمد عطا ومحمد علي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ/ 2000م، (1/ 516).
[29]. تمام المنة في فقه الكتاب وصحيح السنة، عادل العزازي، دار العقيدة، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، (1/ 427) بتصرف.
click
website dating site for married people
read here
website why women cheat on men