دعوى رد أحاديث التشهد )*(
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن صيغ التشهد مضطربة ومتناقضة، وهذا يستلزم ردها، واستبدال آية من القرآن بها، ولتكن آية الكرسي أو سورة الفاتحة مثلا. مستدلين على هذا الاضطراب بكثرة الروايات المختلفة الواردة فيها، بما يدل على زيادة بعض الرواة فيها، أو وضعهم لها. هادفين من وراء ذلك إلى إثارة الشبهات حول السنة النبوية، وزعزعة ثقة المسلمين فيها.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن اختلاف الصحابة في صيغ التشهد يعد من اختلاف التنوع، وليس من اختلاف التضاد، وهو الأمر الذي يعد رحمة بالأمة؛ إذ إن اجتماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة.
2) إن التشهد ركن في الصلاة لا يصح الاستغناء عنه، أو استبدال شيء آخر به، وما روي عن الصحابة من تعدد صيغ التشهد محمول على سماعها من النبي صلى الله عليه وسلمـ؛ إذ إن أقوال وأفعال الصلاة كلها توقيفية، وما صح إسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقوال وأفعال يجب الأخذ به.
التفصيل:
أولا. اختلاف الصحابة في صيغ التشهد اختلاف تنوع لا يضر، وليس اختلاف تضاد:
لا يظن ظان أن وجود الاختلاف يوجب الشك؛ فإن الاختلاف إذا كان من باب التنوع، عرف وجهه، أما إذا كان الاختلاف ليس من باب التنوع، فهذا مرجعه إلى المجتهدين من العلماء في الشرع لا إلى الشرع، فهولا يوجب شكا ولا ريبا في الشرع؛ لأن اختلاف التناقض والتضاد منتف عنه.
وعن أنواع الاختلاف يقول شيخ الإسلام مزيلا لهذا الإبهام:
"وأما أنواعه - أي: الاختلاف - فهو في الأصل قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد. واختلاف التنوع على وجوه؛ منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، حتى زجرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم:«كلاكما محسن»[1]... ومثله اختلاف صيغ الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة، إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان قد يقال: إن بعضه أفضل... ومنه ما يكون كل من القولين هو في الواقع في معنى القول الآخر، لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود والتعريفات، وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات، وتقسيم الأحكام، ثم الجهل والظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى، ومنه ما يكون المعنيان غيرين (متغايرين)، ولكن لا يتنافيان، فهذا قول صحيح، وذاك قول صحيح، وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا كثير في المنازعات جدا، ومنه ما يكون طريقتين مشروعتين، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسن في الدين، ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم أحدهما، أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا علم، أو بلا نية.
وأما اختلاف التضاد، فهو القولان المتنافيان، إما في الأصول، وإما في الفروع عند جمهور الذين يقولون: إن المصيب واحد، ومن قال: "كل مجتهد مصيب" عنده: هو من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد"[2].
ومن ثم "فاختلاف الصحابة - رضي الله عنهم - ومن شاركهم في الاجتهاد؛ كالمجتهدين المعتد بهم من علماء الدين الذين ليسوا بمبتدعين، وكون ذلك رحمة لضعفاء الأمة، ومن ليس في درجتهم ما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، ولا يتنازع فيه اثنان، فليفهم"[3]. وفي هذا المعنى يقول العلامة ابن خلدون: واعتقد أن اختلاف الصحابة رحمة لمن بعدهم من الأمة، ليقتدي كل واحد بمن يختاره منهم، ويجعله إمامه وهاديه ودليله، فافهم ذلك وتبين حكمة الله في خلقه وأكوانه[4].
وكان عمر بن عبد العزيز يقول: "والله ما أود أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا؛ لأنه لو لم يختلفوا لكان أمرا واحدا، ولا يسعنا خلافه، ولكن لما اختلفوا نستطيع أن نأخذ برأي هذا أو برأي ذلك، وفي كل سعة"[5].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة"[6].
وهكذا تبين أن اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- في صيغة التشهد وغيرها ما هو إلا رحمة واسعة للأمة؛ لأن وقوع الاختلاف أمر ضروري بين الناس؛ لتفاوت أفهامهم، وقوى إدراكهم، وهذا النوع من الاختلاف هو في الحقيقة وفاق، وما وقع من العلماء في ذلك هو اختلاف في اختيار الأولى، بعد الاتفاق على جواز الجميع.
وقد قرر المحققون من أهل العلم - كما ذكرنا - أن اختلاف صيغ التشهد الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو من اختلاف التنوع، وليس من اختلاف التضاد، فإن جاء المصلي بأية صيغة منها أجزأه ولا حرج عليه، طالما أنها صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيا. التشهد ركن لا تصح الصلاة بدونه، وما روي عن الصحابة من صيغ التشهد محمول على سماعها من النبي صلى الله عليه وسلم:
إن ما صح إسناده عن الصحابة في صيغ التشهد محمول على السماع من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أقوال الصلاة وأفعالها توقيفية[7]، والعلماء متفقون على جواز صيغ التشهد التي وردت عن الصحابة بأسانيد صحيحة على اختلافها.
وهذا ما تبينه المحاورة التي دارت بين الإمام الشافعي وبين أحد سائليه: قال الإمام الشافعي: قال لي قائل: قد اختلف في التشهد، فروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يعلمهم التشهد كما كان يعلمهم السورة من القرآن"، فقال في مبتداه ثلاث كلمات: "التحيات لله" فبأي التشهد أخذت؟ فقلت: أخبرنا مالك عن ابن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري، «أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد، يقول: قولوا: "التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله»[8].
قال الإمام الشافعي: فكان هذا الذي علمنا من سبقنا بالعلم من فقهائنا صغارا، ثم سمعناه بإسناد، وسمعنا ما خالفه، فلم نسمع إسنادا في التشهد - يخالفه ولا يوافقه - أثبت عندنا منه، وإن كان غيره ثابتا.
فكان الذي نذهب إليه أن عمر لا يعلم الناس على المنبر بين ظهراني أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا على ما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما انتهى إلينا من حديث أصحابنا حديث يثبته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرنا إليه، وكان أولى بنا. قال: وما هو؟ قلت: أخبرنا الثقة - وهو يحيى بن حسان - عن الليث بن سعد عن أبي الزبير المكي عن سعيد بن جبير وطاوس عن ابن عباس أنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا القرآن، فكان يقول: التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله»[9].
قال الشافعي: فقال: فأنى ترى الرواية اختلفت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فروى ابن مسعود خلاف هذا، وروى أبو موسى خلاف هذا، وجابر خلاف هذا، وكلها قد يخالف بعضها بعضا في شيء من لفظه، ثم علم عمر خلاف هذا كله في بعض لفظه، وكذلك تشهد عائشة، وكذلك تشهد ابن عمر، ليس فيها شيء إلا في لفظه شيء غير ما في لفظ صاحبه، وقد يزيد بعضها الشيء على بعض؟
فقلت له: الأمر في هذا بين. قال: فأبنه لي؟ قلت: كل كلام أريد به تعظيم الله، علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعله جعل يعلمه الرجل فيحفظه، والآخر فيحفظه، وما أخذ حفظا فأكثر ما يحترس فيه منه إحالة المعنى، فلم تكن فيه زيادة ولا نقص ولا اختلاف شيء من كلامه يحيل المعنى فلا تسع إحالته.
فلعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز لكل امرئ منهم كما حفظ؛ إذ كان لا معنى فيه يحيل شيئا عن حكمه، ولعل من اختلفت روايته واختلف تشهده إنما توسعوا فيه، فقالوا على ما حفظوا، وعلى ما حضرهم، وأجيز لهم.
قال: أفتجد شيئا يدل على إجازة ما وصفت؟ فقلت: نعم. قال: وما هو؟ قلت: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: «سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان النبي أقرأنيها، فكدت أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه[10]، فجئت به إلى النبي، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها! فقال له رسول الله: اقرأ، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله: هكذا أنزلت، ثم قال لي: اقرأ، فقرأت، فقال: هكذا أنزلت. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر»[11].
قال: فإذا كان الله لرأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف، معرفة منه بأن الحفظ قد يزل؛ ليحل لهم قراءته وإن اختلف اللفظ فيه، ما لم يكن في اختلافهم إحالة معنى، كان ما سوى كتاب الله أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يحل معناه، وكل ما لم يكن فيه حكم فاختلاف اللفظ فيه لا يحيل معناه.
وقد قال بعض التابعين: لقيت أناسا من أصحاب رسول الله فاجتمعوا في المعنى، واختلفوا علي في اللفظ، فقلت لبعضهم ذلك، فقال: لا بأس ما لم يحل المعنى.
قال الشافعي: فقال: ما في التشهد إلا تعظيم الله، وإني لأرجو أن يكون كل هذا فيه واسعا، وألا يكون الاختلاف فيه إلا من حيث ذكرت[12].
فكما يظهر أن وجهة نظر الإمام الشافعي أن منشأ هذا الخلاف راجع إلى اللفظ فقط بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما جعلنا في سعة من الأمر، وهكذا كان يرى الإمام مالك فيما نقله حافظ الأندلس ابن عبد البر عنه، قال: "ولـما علم مالك أن التشهد لا يكون إلا توقيفا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختار تشهد عمر؛ لأنه كان يعلمه للناس وهو على المنبر، من غير نكير عليه من أحد من الصحابة، وكانوا متوافرين في زمانه، وأنه كان يعلم من لم يعلمه من التابعين، وسائر من حضره من الداخلين في الدين، ولم يأت عن أحد حضره من الصحابة أنه قال: ليس كما وصفت، وفي تسليمهم له ذلك - مع اختلاف رواياتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك - دليل على الإباحة والتوسعة فيما جاء عنه من ذلك، مع أنه متقارب، كله قريب في المعنى بعضه من بعض، إنما فيه كلمة زائدة في ذلك المعنى أو ناقصة"[13].
ومن خلال ما قدمنا يتبين أن هناك أمورا في الشرع يعلمها من تبصر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ليست من باب التناقض والاختلاف بقدر ما هي من باب التوسعة على الناس؛ ولذلك كانوا يقولون عن السنة: إنها سعة الناس، يعني من علم السنة، وعلم وجوه الاختلاف الواردة في الشرع الذي أقره الشارع، كان في ذلك توسعة على الناس.
علما بأن كل ما ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم - في صيغ التشهد هو في حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مادام قد صحت الأسانيد إليهم في ذلك، والعلماء متفقون على جوازها؛ لأن أفعال الصلاة وأقوالها - كما قررنا - توقيفية، والصحابة كانوا أشد الناس حرصا على التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل أقواله وأفعاله، فكيف بالصلاة التي هي أعظم أركان الدين؟ فكانوا لا يفعلون شيئا فيها إلا اقتداء به صلى الله عليه وسلم.
وقد رجح العلماء بعض صيغ التشهد على بعض، وهذا يعد نوعا من اختيار الأصح أو الأفضل على الصحيح، مع القول بإجزاء غيره، وإن كان مفضولا، ولم يقل أحد من أهل العلم باستبدال التشهد.
وقد فصل ذلك الحافظ أبو عمر ابن عبد البر فقال: "وتشهد عبد الله بن مسعود ثابت أيضا من جهة النقل عند جميع أهل الحديث، مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو: «التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله»[14]. وبه قال الثوري والكوفيون، وأكثر أهل الحديث، وكان أحمد بن خالد بالأندلس يختاره ويميل إليه ويتشهد به.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور: أحب التشهد إلينا تشهد ابن مسعود الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول أحمد وإسحاق وداود.
وأما الشافعي وأصحابه والليث بن سعد فذهبوا إلى تشهد ابن عباس الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي: وهو أحب التشهد إلي. رواه الليث بن سعد عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير، وعن طاوس عن ابن عباس أنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد، كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله»[15].
والذي أقول به أن الاختلاف في التشهد والأذان والإقامة وعدد التكبير على الجنائز، وما يقرأ ويدعى به فيها، وعدد التكبيرات في العيدين، ورفع الأيدي في ركوع الصلاة، وفي التكبير على الجنائز، وفي السلام من الصلاة واحدة أو اثنين، وفي وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة وسدل اليدين، وفي القنوت وتركه، وما كان مثل هذا كله اختلاف في مباح، كالوضوء واحد واثنين وثلاثا، وكل ما وصفت لك قد نقلته الكافة من الخلف عن السلف، ونقله التابعون بإحسان عن السابقين نقلا لا يدخله غلط ولا نسيان؛ لأنها أشياء ظاهرة معمول بها في بلدان الإسلام زمنا بعد زمن، ولا يختلف في ذلك علماؤهم وعوامهم، من عهد نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وهلم جرا، فدل على أنه مباح كله إباحة توسعة ورحمة، والحمد لله" [16].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلامه عن الخلاف الواقع في صفات العبادات: "والقسم الثالث ما قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أنه سن الأمرين، لكن بعض أهل العلم حرم أحد النوعين أو كرهه لكونه لم يبلغه، أو تأول الحديث تأويلا ضعيفا، والصواب في مثل هذا أن كل ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته فهو مسنون لا ينهى عن شيء منه، وإن كان بعضه أفضل من ذلك، فمن ذلك أنواع التشهدات، فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تشهد ابن مسعود، وثبت عنه في صحيح مسلم تشهد أبي موسى، وألفاظه قريبة من ألفاظه، وثبت عنه في صحيح مسلم تشهد ابن عباس، وفي السنن تشهد ابن عمر وعائشة وجابر، وثبت في الموطأ وغيره أن عمر بن الخطاب علم المسلمين تشهدا على منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عمر ليعلمهم تشهدا يقرونه عليه إلا وهو مشروع؛ فلهذا كان الصواب عند الأئمة المحققين أن التشهد بكل من هذه الصيغ جائز لا كراهية فيه، ومن قال: إن الإتيان بألفاظ تشهد ابن مسعود واجب فقد أخطأ"[17].
وقال ابن قدامة المقدسي: وبأي تشهد تشهد مما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاز، نص عليه أحمد، فقال: تشهد عبد الله أحب إلي، وإن تشهد بغيره فهو جائز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لـما علمه الصحابة مختلفا دل على جواز الجميع، كالقراءات المختلفة التي اشتمل عليها المصحف[18].
وقال الإمام أبو زكريا النووي: "فهذه الأحاديث الواردة في التشهد كلها صحيحة، وأشدها صحة باتفاق الـمحدثين حديث ابن مسعود، ثم حديث ابن عباس، قال الشافعي والأصحاب: وبأيها تشهد أجزأه، لكن تشهد ابن عباس أفضل، وهذا معنى قول المصنف: وأفضل التشهد أن يقول... إلى آخره، فقوله: أفضل التشهد دليل على جواز غيره، وقد أجمع العلماء على جواز غيره، وقد أجمع العلماء على جواز كل واحد منها" [19].
ويؤكد الشوكاني ما سبق فيقول: "ومما ينبغي أن يعلم أن التشهد وألفاظ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها مجزئة إذا وردت من وجه معتبر، وتخصيص بعضها دون بعض... قصور باع، وتحكم محض، وأما اختيار الأصح منها وإيثاره مع القول بإجزاء غيره فهو من اختيار الأفضل من المتفاضلات، وهو من صنيع المهرة بعلم الاستدلال والأدلة" [20].
ومن ثم، فلم يقل أحد من أهل العلم باستبدال التشهد لاضطرابه؛ وذلك لأن التشهد من أركان الصلاة التي لا تصح إلا به، والأدلة على وجوبه مستفيضة ظاهرة؛ منها:
· ما رواه البخاري عن عبد الله قال: «كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فالتفت إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الله هو السلام، فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين - فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض - أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» [21].
· ما رواه مسلم عن عبد الله قال: «كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على الله، السلام على فلان، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم: إن الله هو السلام، فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات...» الحديث[22].
· ما رواه ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فإذا جلستم فقولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات...» الحديث[23].
· حديث أبي موسى الأشعري عند مسلم وفيه: «... وإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم: التحيات الطيبات الصلوات لله...»الحديث[24].
وبهذا يتبين أن التشهد ركن في الصلاة لا يصح الاستغناء عنه؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفعله وأمر به، على تفصيل بين التشهد الأول والتشهد الأخير، فقال الشافعي - رحمه الله - وطائفة: التشهد الأول سنة، والأخير واجب، وقال جمهور المحدثين: هما واجبان، وقال أحمد: الأول واجب والثاني فرض[25].
أما التشهد الأخير فهو واجب عند الأكثرية، قال ابن قدامة: وهذا التشهد والجلوس له من أركان الصلاة... ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به فقال: «قولوا: التحيات لله»، وأمره يقتضي الوجوب، وفعله وداوم عليه"[26].
فكيف يصح بعد هذا أن يقول قائل: نستبدل بالتشهد غيره، كآية الكرسي أو سورة الفاتحة مثلا؟ أليس هذا من رد نصوص الشرع بالهوى؟! فمعلوم أن أفعال الصلاة وأقوالها توقيفية؛ أي: لا يجوز لنا أن نتعدى ما جاءنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» [27].
الخلاصة:
· معلوم عند العامة والخاصة أن هناك خلافا أقره الشرع، فمثلا: الشارع عدد صيغ دعاء الاستفتاح، وعدد صيغ التشهد، وأذكار الركوع والسجود، كل هذا من باب اختلاف التنوع، وليس من باب اختلاف التضاد، وإنما هي توسعة للناس، وهذه أمور في الشرع يعلمها كل من تبصر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
· إن ما ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم - في صيغ التشهد - طالما أنه صح إسناده عنهم - فهو في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء متفقون على جواز كل صيغ التشهد التي وردت عن الصحابة؛ إذ كلها - إن صح الإسناد - محمولة على سماعها من النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن أفعال الصلاة وأقوالها توقيفية، وما ورد عن الصحابة في ذلك داخل في هذه القاعدة، وليس من الإحداث في الدين، فمعلوم أن الصحابة كانوا أشد الناس حرصا على التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في كل أقواله وأفعاله، فكيف بالصلاة التي هي أعظم أركان الدين؟ فكانوا لا يفعلون شيئا فيها إلا اقتداء به صلى الله عليه وسلم.
· أما عن ترجيح العلماء لبعض الصيغ فإنما هو من قبيل اختيار الأفضل في الثناء، أو في جودة الإسناد الذي صح عند كل واحد منهم، وكلهم متفقون على أن جميع الصيغ يجزئ المصلي بأيها صلى، وقولهم: "أفضل التشهد" دليل على جواز غيره.
· لم نسمع أحدا من أهل العلم المعتبرة أقوالهم أشار مجرد إشارة إلى جواز الاستغناء عن التشهد، وكيف ذاك والتشهد والجلوس له ركن من أركان الصلاة؟ فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر به، ونقل ذلك الكافة من الخلف عن السلف، ونقله التابعون بإحسان عن السابقين نقلا لا يدخله غلط ولا نسيان؛ لأنها أشياء ظاهرة، لا يختلف في ذلك علماء المسلمين وعوامهم.
)*( دفاع عن الحديث النبوي، د. أحمد عمر هاشم، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2000م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الخصومات، باب: ما يذكر في الإشخاص والملازمة والخصومة بين المسلم واليهودي، (5/ 85)، رقم (2410).
[2]. اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، تحقيق: محمد حامد الفقي، مكتبة المعارف، الرباط، 1419هـ، ص38 وما بعدها.
[3]. روح المعاني في تفسير القرآن، الألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (4/ 25).
[4]. مقدمة ابن خلدون، ابن خلدون، دار القلم، بيروت، ط6، 1406هـ/ 1986م، ص 218 بتصرف.
[5]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (30/ 80).
[6]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (30/ 80).
[7]. التوقيف: نص الشارع المتعلق ببعض الأمور غير قابلة للتصرف أو الاجتهاد.
[8]. أخرجه مالك في الموطأ، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، رقم (146).
[9]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، (3/ 977)، رقم (877).
1. لببته بردائه: أخذت بمجامع ردائه في عنقه وجررته به.
[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الخصومات، باب: كلام الخصوم بعضهم في بعض، (5/ 89)، رقم (2419). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، (4/ 1403)، رقم (1868).
[12]. الرسالة، الإمام الشافعي، تحقيق: أحمد شاكر، المكتبة العلمية، بيروت، ص267: 275. بتصرف.
[13]. الاستذكار، ابن عبد البر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ/ 200م، ص483.
[14]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في التشهد، (1/ 290)، رقم (899). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (899).
[15]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، (3/ 977)، رقم (877).
[16]. الاستذكار، ابن عبد البر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ/ 200م، (1/ 486).
[17]. الفتاوى الكبرى، ابن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1408هـ/ 1987م، (2/ 129).
[18]. المغني، ابن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر، القاهرة، 1412هـ/ 1992م، (2/ 222) بتصرف.
[19]. المجموع شرح المهذب، النووي، دار الفكر، بيروت، د. ت، (3/ 457).
[20]. الروضة الندية بشرح الدرر البهية، صديق حسن خان، دار المعرفة، بيروت، ط1، ص90.
[21]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: التشهد في الآخرة، (2/ 363)، رقم (831).
[22]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، (3/ 976)، رقم (872).
[23]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في التشهد، (1/ 290)، رقم (899). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (899).
[24]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، (3/ 977، 978)، رقم (879).
[25]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (3/ 979) بتصرف.
[26]. المغني، ابن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر، القاهرة، 1412هـ/ 1992م، (2/ 226).
[27]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، (2/ 131، 132)، رقم (631).
read
go want my wife to cheat
why do men have affairs
redirect why men cheat on beautiful women
click
website dating site for married people
My girlfriend cheated on me
find an affair signs of unfaithful husband