إنكار النسخ في تحويل القبلة(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض الواهمين أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام (الكعبة) ليس من قبيل النسخ، وإنما هو تشريع على الابتداء، وليس رفعا لحكم سابق. واستدلوا على دعواهم بأنه ليس هناك نص شرعي يفيد استقبال بيت المقدس، وأن هذا ما هو إلا اجتهاد من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يؤخذ منه حكم شرعي إلا بعد نزول الوحي، كما نفى المدعون أن يكون أهل قباء تركوا القبلة إلى بيت المقدس، وتوجهوا إلى الكعبة بخبر الواحد الذي أخبرهم؛ إذ إن هذا مظنون، لا يترك اليقين من أجله. رامين وراء هذا الادعاء إلى إثارة الشكوك حول ما استقرت عليه جماعة المسلمين، أئمة وعامة حول نسخ تحويل القبلة.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن جل المتقدمين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين من بعدهم، ثم أهل العلم العدول على أن قوله عز وجل: )قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون (144)( (البقرة). نسخ استقبال بيت المقدس بالصلاة، واستقبال النبي - صلى الله عليه وسلم - بيت المقدس ابتداء لم يكن باجتهاد منه، وإنما كان بوحي من الله عز وجل.
2) إن نسخ القرآن والسنة المتواترة بأخبار الآحاد الصحيحة جائز من ناحية العقل، غير ممتنع من ناحية الشرع، دل على ذلك حادثتا أهل قباء وتحريم الخمر والعديد من القرائن، فالأولى أن الآحاد حجة بنفسه، وإثباته لحكم جديد يدل على صحة رفعه لحكم سابق.
التفصيل:
أولا. جمهور الصحابة وعلماء الأمة على نسخ تحويل القبلة:
جرت الحكمة الإلهية على أن يؤتي كل أهل ملة وجهة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اتجه بالصلاة - عقب الهجرة - إلى بيت المقدس - قبلة اليهود ومصلاهم - فاتخذ اليهود من هذا التوجه حجة على أن دينهم هو الدين، وقبلتهم هي القبلة؛ مما جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرغب ولا يصرح في التحول عن بيت المقدس إلى الكعبة، بيت الله المحرم.
وظلت هذه الرغبة تعتمل في نفسه حتى استجاب له ربه، فوجهه إلى القبلة التي يرضاها، ونظرا لما يحمله هذا التحول من دحض لحجة بني إسرائيل، فقد عز عليهم أن يفقدوا مثل هذه الحجة، فشنوها حملة دعاية ماكرة في وسط المسلمين، بالتشكيك في مصدر الأوامر التي يكلفهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي صحة تلقيه عن الوحي؛ أي إنهم وجهوا المعول إلى أساس العقيدة في نفوس المسلمين، ثم قالوا لهم: إن كان التوجه إلى بيت المقدس باطلا، فقد ضاعت صلاتكم وعبادتكم طوال هذه الفترة، وإن كان صحيحا؛ ففيم التحول عنه؟! وهم بذلك قد وجهوا المعول إلى أساس الثقة في نفوس المسلمين برصيدهم من ثواب الله، وقبل كل شيء في حكمة القيادة النبوية[1].
وقد سطرت لنا كتب التفاسير ملابسات تحويل القبلة، كيف بدأت؟ وأين استقر الأمر؟ وذلك في إطار نصوص الكتاب الحكيم، فينقل لنا إمام المفسرين ابن جرير الطبري ملابسات هذا الحدث الجلل بأسانيده فيقول: "عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة - وكان أهلها اليهود - أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر شهرا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل: )قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها(إلى قوله: )فولوا وجوهكم شطره( (البقرة: 150)، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: )ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها( (البقرة: ١٤٢)؟ فأنزل الله: )قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (142)( (البقرة)، وقال: )فأينما تولوا فثم وجه الله( (البقرة: ١١٥)[2].
وقال أيضا: عن قتادة: قوله عز وجل: )ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه(، ثم نسخ ذلك بعد هذا، فقال الله: )ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون (149) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون (150)( (البقرة).
وعن قتادة في قوله: )فأينما تولوا فثم وجه الله( قال: هي القبلة، ثم نسختها القبلة إلى المسجد الحرام[3].
ونقل القرطبي اختلاف العلماء في كيفية استقبال النبي - صلى الله عليه وسلم - بيت المقدس ابتداء على ثلاثة أقوال؛ فقال الحسن: كان ذلك منه عن رأي واجتهاد، وقاله عكرمة وأبو العالية، والثاني: أنه كان مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختار القدس طمعا في إيمان اليهود واستمالتهم - قاله الطبري، وقال الزجاج: امتحانا للمشركين؛ لأنهم ألفوا الكعبة، والثالث: وهو الذي عليه الجمهور: ابن عباس وغيره: وجب عليه استقباله بأمر الله تعالى ووحيه لا محالة، ثم نسخ الله ذلك، وأمره الله أن يستقبل بصلاته الكعبة، واستدلوا بقوله تعالى: )وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه( (البقرة: ١٤٣)[4].
وفي معرض الحديث عن مذهب الجمهور قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الناسخ والمنسوخ": "أخبرنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة، قال تعالى: )ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه(، قال: فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق، ثم صرفه الله تبارك وتعالى إلى البيت العتيق، وقال: )إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه(، قال ابن عباس: يعني أهل اليقين من أهل الشك والريبة، وقال الله عز وجل: )وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله( (البقرة: 143)، قال: يعني تحويلها عن أهل الشك )إلا على الخاشعين (45)( (البقرة)، يعني الصادقين بما أنزل الله عز وجل"[5].
وقد ذهب إلى هذا ابن كثير فقال: "قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة"[6].
ومن ثم، فنزل القرآن يبين لهم أن نسخ بعض الأوامر والآيات يتبع حكمة الله -عز وجل- الذي يختار الأحسن لعباده؛ ويعلم ما يصلح لهم في كل موقف، وينبههم في الوقت ذاته إلى أن هدف اليهود هو ردهم كفارا بعد إيمانهم؛ حسدا من عند أنفسهم على اختيار الله لهم، واختصاصهم برحمته وفضله، بتنزيل الكتاب الأخير عليهم، وانتدابهم لهذا الأمر العظيم.
وسواء كانت المناسبة هي مناسبة تحويل القبلة، أم كانت مناسبة أخرى من تعديل بعض الأوامر والتشريعات والتكاليف، التي كانت تتابع نمو الجماعة المسلمة، وأحوالها المتطورة، أم كانت خاصة بتعديل بعض الأحكام التي وردت في التوراة مع تصديق القرآن في عمومه للتوراة... فإن القرآن يبين هنا بيانا حاسما في شأن النسخ والتعديل، وفي القضاء على تلك الشبهات التي أثارتها يهود، على عادتها وخطتها في محاربة هذه العقيدة بشتى الأساليب.
فالتعديل الجزئي وفق مقتضيات الأحوال - في فترة الرسالة - هو لصالح البشرية، ولتحقيق خير أكبر تقتضيه أطوار حياتها، والله خالق الناس، ومرسل الرسل، ومنزل الآيات، هو الذي يقدر هذا، فإذا نسخ آية ألقاها في عالم النسيان - سواء كانت آية مقروءة تشتمل حكما من الأحكام، أو آية بمعنى علامة وخارقة تجيء لمناسبة حاضرة، وتطوى كالمعجزات المادية التي جاء بها الرسل - فإنه يأتي بخير منها أو مثلها! ولا يعجزه شيء، وهو مالك كل شيء، وصاحب الأمر كله في السماوات وفي الأرض[7].
ومع هذا، فإن نسخ القبلة يظن بسببه ضعاف اليقين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس على يقين من أمره؛ حيث يستقبل يوما جهة، ويوما آخر جهة أخرى، كما قال عز وجل: )سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها( (البقرة: ١٤٢)، وقد صرح -عز وجل- بأن نسخ القبلة كبير على غير من هداه الله وقوى يقينه، فقال: )وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله([8].
فإن قيل: الصلاة إلى بيت المقدس ابتداء هل ثبتت بالسنة أم بالقرآن، أم كانت باجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم ـ؟
قلنا: قال النووي: اختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء - رحمهم الله - في أن استقبال بيت المقدس، هل كان ثابتا بالقرآن، أم باجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحكى الماوردي في "الحاوي" وجهين في ذلك لأصحابنا:
قال القاضي عياض - رحمه الله: الذي ذهب إليه أكثر العلماء أنه كان بسنة لا بقرآن، فعلى هذا يكون فيه دليل لقول من قال: إن القرآن ينسخ السنة، وهو قول أكثر الأصوليين المتأخرين، وهو أحد قولي الشافعي - رحمه الله، والقول الثاني له - وبه قال طائفة: لا يجوز؛ لأن السنة مبينة للكتاب، فكيف ينسخها؟ وهؤلاء يقولون لم يكن استقبال بيت المقدس بسنة، بل كان بوحي، قال الله عز وجل: )وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم (143)( (البقرة) [9].
والراجح في هذا أن استقباله -صلى الله عليه وسلم- للقبلة كان بوحي؛ وذلك لما رواه ابن جرير الطبري - كما ذكرنا - عن ابن عباس قال: لـما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة - وكان أكثر أهلها اليهود - أمره الله -عز وجل- أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعة عشر شهرا، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم -عليه السلام- وكان يدعو وهو ينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل: )قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره([10].
وهذا ما عليه الجمهور، كما ذكر القرطبي والنووي وغيرهما.
وأيا ما كان النسخ بالقرآن أو بالسنة، فكلاهما جائز عند جمهور أهل السنة، وإن ما يهمنا هو ثبوت النسخ في هذه الواقعة، كما دلت على ذلك أقوال المفسرين التي نقلوا فيها أقوال الصحابة الأعلام، وكما دلت شرائط النسخ المتحققة في هذه المسألة كما قرر الأصوليون.
فمن شروط النسخ التي تحققت في هذه المسألة:
· اقتضاء اللفظ بذلك، كأن يكون فيه ما يدل على تقدم أحدهما وتأخر الآخر، قال الماوردي: المراد بالتقدم التقدم في النزول، لا في التلاوة، فإن العدة بأربعة شهور وعشر سابقة على العدة بالحول في التلاوة، مع أنها ناسخة لها، ومن ذلك التصريح في اللفظ بما يدل على النسخ، كقوله تعالى: )الآن خفف الله عنكم( (الأنفال: ٦٦)، فإنه يقتضي نسخه لثبات الواحد للعشرة، ومثل قوله: )أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات( (المجادلة: ١٣).
· أن يعرف ذلك من فعله - صلى الله عليه وسلم - كرجمه لماعز، ولم يجلده، فإنه يفيد نسخ قوله: «الثيب بالثيب... جلد مائة والرجم»[11].
· إجماع الصحابة على أن هذا ناسخ وهذا منسوخ، وقد ذهب الجمهور إلى أن إجماع الصحابة من أدلة بيان الناسخ والمنسوخ، قال القاضي: يستدل بالإجماع على أن معه خبرا وقع به النسخ؛ لأن الإجماع لا ينسخ به.
· نقل الصحابي لتقدم أحد الحكمين وتأخر الآخر؛ إذ لا مدخل للاجتهاد فيه، قال ابن السمعاني: وهو واضح إذا كان الخبران غير متواترين، أما إذا قال في المتواتر أنه كان قبل الآحاد ففي ذلك خلاف، وقال القاضي عبد الجبار يقبل، وشرط ابن السمعاني كون الراوي لهما واحدا[12].
فهذه بعض الطرق المعرفة إلى كون الناسخ ناسخا، وقد تحققت في مسألة تحويل القبلة؛ فقد تبين أن الأحاديث الواردة في تحويل القبلة - بالإضافة إلى الآيات السابقة - إنما هي دلالة واضحة على وقوع النسخ لحكم متقدم بالصلاة إلى بيت المقدس، سيان في ذلك ثبت هذا الحكم بالقرآن أو بالسنة، ومن هذه الأحاديث:
o حديث البراء بن عازب رضي الله عنه «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده - أو قال أخواله - من الأنصار، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مكة، فداروا - كما هم - قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم؛ إذ كان يصلي قبل بيت المقدس، وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك»[13].
o حديث البراء -رضي الله عنه- قال: «صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، ثم صرفنا نحو الكعبة»[14].
وغير ذلك من الأحاديث التي دلت على أن المسلمين صلوا إلى بيت المقدس زمنا، ثم انصرفوا في الصلاة إلى بيت الله الحرام، ومن ثم لا يستقيم قول من يقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى ابتداء إلى القدس باجتهاده؛ لأن هذا القول يحتاج إلى دليل، فما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعبد نفسه ومن معه باجتهاد منه ليس فيه وحي، ثم إن فعله -صلى الله عليه وسلم- في أمور العبادات لا يكون إلا بوحي.
لذلك صار قول من قال بأن تحويل القبلة لم يكن نسخا، وإنما كان بيانا على الابتداء - قولا عاريا عن الصحة، يفتقر إلى الدليل، وأنى لهم ذلك، ولن يستطيعوا أن يصلوا إليه، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، فبطل ما كانوا يزعمون، والحمد لله رب العالمين.
ثانيا. نسخ القرآن والمتواتر من السنة بالآحاد جائز عقلا غير ممتنع شرعا:
إن نسخ القرآن أو المتواتر من السنة بالآحاد قد وقع الخلاف فيه في الجواز والوقوع، أما الجواز عقلا فقال به الأكثرون، وحكاه سليم الرازي عن الأشعرية والمعتزلة، ونقل ابن برهان في "الأوسط" الاتفاق عليه، فقال: لا يستحيل عقلا نسخ الكتاب بخبر الواحد بلا خلاف، وإنما الخلاف في جوازه شرعا[15].
وقد جاءت السنة الصحيحة المشهورة بقبول خبر الواحد العدل في إثبات النسخ[16]، ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»[17].
يقول د. أحمد عمر هاشم: "وفي هذا الحديث يدعو الرسول -صلى الله عليه وسلم- لاستماع مقالته وأدائها، ويدعو بالنضرة للقائم بذلك؛ فيقول: «نضر الله عبدا...»، وفي رواية: «امرأ»، وكل واحدة من الكلمتين بمعنى "الواحد"، والرسول لا يأمر أن يؤدي عنه إلا الذي تقوم به الحجة، فدل ذلك على وجوب العمل بخبر الآحاد"[18]، وإذا وجب العمل به في حكم جديد، وجب رفعه لحكم سابق.
ومن ذلك أيضا حديث تحويل القبلة عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - بأصح إسناد إليه، قال: «بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة»[19].
وهذا دليل على أن خبر الواحد ينسخ المتواتر.
قال الآمدي: "وأما نسخ المتواتر منها بالآحاد، فقد اتفقوا على جوازه عقلا، واختلفوا في وقوعه سمعا؛ فأثبته داود وأهل الظاهر، ونفاه الباقون...
وأما المثبتون فقد احتجوا بالنقل، والمعنى.
أما النقل فمن وجهين:
الأول: أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا بالسنة المتواترة؛ لأنه لم يوجد في الكتاب ما يدل عليه، وأن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس؛ بناء على السنة المتواترة، فلما نسخ جاءهم منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: «إن القبلة قد حولت»، فاستداروا بخبره، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليهم، فدل على الجواز.
الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفذ الآحاد إلى أطراف البلاد لتبليغ الناسخ والمنسوخ، ولولا قبول خبر الواحد في ذلك، لما كان قبوله واجبا"[20]، ومن ذلك بعثه -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ إلى اليمن، فقال له: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله...»[21]، وهذا دليل على حجية خبر الواحد، ولو أن الحجة لا تقوم به لما بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكيف تقوم به الحجة في العقائد ولا يقوم به النسخ؟!
"وأما المعنى فمن وجهين:
الأول: أن النسخ أحد البيانين، فكان جائزا بخبر الواحد، كالتخصيص.
الثاني: أن نسخ القرآن بخبر الواحد جائز على ما سيأتي بيانه، فنسخ السنة المتواترة به أولى"[22].
وزاد محمد بن عمر الرازي وجوها أخرى لأصحاب هذا الاتجاه، فقال:
"الأول: أنه جاز تخصيص المتواتر بالآحاد، فجاز نسخه به، والجامع دفع الضرر المظنون.
الثاني: أن خبر الواحد دليل من أدلة الشرع، فإذا صار معارضا لحكم المتواتر وجب تقديم المتأخر قياسا على سائر الأدلة"[23].
والتحقيق الذي لا شك فيه هو جواز وقوع نسخ التواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه، والدليل الوقوع.
أما قولهم: إن التواتر أقوى من الآحاد، والأقوى لا يرفع بما هو دونه، فإنهم قد غلطوا فيه غلطا عظيما، مع كثرتهم وعلمهم.
وإيضاح ذلك أنه لا تعارض ألبتة بين خبرين مختلفي التاريخ؛ لإمكان صدق كل منهما في وقته، وقد أجمع جميع النظار أنه لا يلزم التناظر بين القضيتين إلا إذا اتحد زمنهما، أما إن اختلفا فيجوز صدق كل منهما في وقتها، فلو قلت: صلى النبي إلى بيت المقدس، وقلت: لم يصل إلى بيت المقدس، وعنيت بالأولى ما قبل النسخ، وبالثانية ما بعده، لكانت كل منهما صادقة في وقتها[24].
قال أبو محمدابن حزم: "وبهذا نقول وهو الصحيح"[25].
ومما يحقق أن خبر الواحد الواجب قبوله يوجب العلم قيام الحجة القوية على جواز نسخ المقطوع به؛ كما في رجوع أهل قباء عن القبلة التي كانوا يعلمونها ضرورة من دين الرسول بخبر واحد، وكذلك في إراقة الخمر، وغير ذلك، وإذا قيل الخبر هناك أفادهم العلم بقرائن احتفت به، قيل: فقد سلمتم المسألة، فإن النزاع ليس في مجرد خبر الواحد، بل في أنه قد يفيد العلم، والباجي مع تغليظه على من ادعى حصول العلم به، جوز النسخ به في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي: خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده، ولم تختلف الرواية به، وتلقته الأمة بالقبول، وأصحابنا يطلقون القول فيه، وأنه يوجب العلم، وإن لم تتلقه بالقبول، والمذهب على ما حكيت لا غير، وقال القاضي في ضمن مسألة انعقاد الإجماع على القياس: إنما لم يفسق مخالفه إذا لم يتأيد بالإجماع عليه، فأما إذا تأيد بالإجماع عليه قوي بالمصير إليه، فيفسق جاحده، وهذا كما قلنا في خبر الواحد: من جحده لا يفسق، ومع هذا إذا انعقد الإجماع عليه فسق مانعه ومخالفه[26].
وبهذا قد وضح لهؤلاء الواهمين أن تلقي أهل قباء خبر الواحد دليل على حجيته، وقبوله في نسخ المتواتر، مادام هذا الآحاد قد جاء من طريق صحيح مقبول، ويدل هذا أيضا بجلاء على أن واقعة تحويل القبلة من وقائع النسخ، كما ذكر ابن عباس وغيره.
الخلاصة:
· لقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقب قدومه المدينة إلى بيت المقدس بضعة عشر شهرا، بتكليف من الله عز وجل، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام.
· لقد ظلت رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوجه إلى بيت الله الحرام تعتمل في نفسه، حتى استجاب له ربه، فوجهه إلى القبلة التي يرضاها.
· بين الله - سبحانه وتعالى - أن من ضمن حكمه في تحويل القبلة: ابتلاء الناس واختبارهم؛ ليعلم - وهو العليم بحالهم - من يتبع الرسول ممن يعصه وينقلب على عقبيه.
· دلت لنا كتب التفاسير وما تناقلته الرواة من السنة الصحيحة أن حادثة تحويل القبلة كانت أول ما نسخ من القرآن.
· نقل النووي والقرطبي اختلاف بعض أهل العلم في استقبال بيت المقدس في أول الأمر، هل كان بوحي، أم باجتهاد من النبي ـصلى الله عليه وسلم؟ ولكن الراجح الذي عليه الجمهور - كما دلت روايات الطبري - أن استقبال النبي لبيت المقدس كان بوحي من الله عز وجل.
· إن تحقق شرائط النسخ، والطرق المعرفة به في مسألة تحويل القبلة - تستوجب المصير إلى قول الجمهور بأن هذا من النسخ.
· إن نسخ القرآن أو المتواتر من السنة بالآحاد من الأخبار وقع الخلاف في جواز وقوعه شرعا، لكنه غير ممتنع، والأكثرية على عدم استحالته عقلا.
· لقد جاءت السنة الصحيحة المشهورة بقبول خبر الواحد في إثبات النسخ، كما في حديث ابن عمر، والبراء بن عازب في مسألة تحويل القبلة، فإن أهل قباء قد انحرفوا إلى اتجاه الكعبة بمجرد سماعهم من يخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نزل عليه قرآن بأن يستقبل الكعبة.
· كل هذا دل على أن خبر الواحد إذا صح سنده وعلم ثبوته، فإنه يوجب العلم، والحجة قائمة على جواز نسخ المقطوع به.
· لا شك أن تلقي أهل قباء خبر الواحد الصادق دليل على حجيته، وقبوله في نسخ المتواتر، أو ما علم بالضرورة، والقول بخلاف هذا تعسف واضح، فما دامت الحجة قائمة بقبول خبر الواحد الصحيح لإثبات الحكم، فكيف نمنع أن يرفع نفس الخبر حكما متقدما عليه؟!
(*) لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1415هـ/ 1995م.
[1]. انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، (1/ 125، 126).
[2]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (2/ 527)
[3]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (2/ 529) بتصرف.
[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (2/ 150) بتصرف.
[5]. الناسخ والمنسوخ، القاسم بن سلام، (1/ 20).
[6]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980م، (1/ 192)
[7]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، (1/ 101، 102) بتصرف.
[8]. أضواء البيان، الشنقيطي، دار الفكر، بيروت، 1415هـ/ 1995م، (3/ 10، 11) بتصرف.
[9]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (3/ 1092).
[10]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (3/ 138).
[11]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: حد الزنا، (6/ 2629)، رقم (4335).
[12]. إرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول، الشوكاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط1، 1356هـ/ 1937م، ص 197 بتصرف.
[13]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الإيمان، باب: الصلاة من الإيمان، (1/ 118)، رقم (40). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، (3/ 1091)، رقم (1156).
[14]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسبر، باب: قوله تعالى: ) ولكل وجهة هو موليها... (، (8/ 24)، رقم (4492). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، (3/ 1091)، رقم (1157).
[15]. إرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول، الشوكاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط1، 1356هـ/ 1937م، ص190 بتصرف.
[16]. المقدمات الأساسية في علوم القرآن، عبد الله الجديع، موسسة الريان، بيروت، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص226.
[17]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الإيمان، باب: من بلغ علما، (1/ 86)، رقم (236). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (236).
[18]. دفاع عن الحديث النبوي، د. أحمد عمر هاشم، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2000م، ص63.
[19]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في القبلة، ومن لا يرى الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة، (1/ 603)، رقم (403). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، (3/ 1091)، رقم (1158).
[20]. الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1421هـ/ 2000م، (3/ 663، 664).
[21]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، (1/ 342)، رقم (121).
[22]. الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، دار الكتب العلمبة، بيروت، ط5، 1405هـ/ 1985م، (3/ 664).
[23]. المحصول في علم الأصول، الرازي، تحقيق: طه جابر فياض العلواني، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط1، 1400هـ، (3/ 499).
[24]. مذكرة أصول الفقه، محمد الأمين الشنقيطي، ص86، نقلا عن: خبر الواحد وحجيته، أحمد عبد الوهاب الشنقيطي، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط2، 1422هـ، ص129.
[25]. الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، دار الكتب العلمبة، بيروت، ط5، 1405هـ/ 1985م، (1/ 518).
[26]. المسودة في أصول الفقه، آل تيمية، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني، القاهرة، ص223.
husbands who cheat
open my boyfriend cheated on me with a guy
why do wife cheat on husband
website reasons why married men cheat