الطعن في أحاديث حكم قتل الكلاب وبيان نجاستها)*(
مضمون الشبهة:
يطعن بعض محاربي السنة النبوية المطهرة فيما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشأن بيان حكم قتل الكلاب وما يتعلق بها من نجاسة، والتي منها ما رواه عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها؛ فاقتلوا منها كل أسود بهيم». ويستدلون على ذلك بأن هذا الحديث يناقض بعضه بعضا؛ إذ كيف يبيح النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل الكلب الأسود البهيم، في حين أنه عفا عن جماعة الكلاب؛ لأنها أمة، كما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر بقتل الكلاب في المدينة، حتى لم يبق بالمدينة كلب، فكيف قتلها جميعا، وهو الذي نهى عن قتلها لأنها أمة؟!
كما يدعون أن هناك اضطرابا شديدا في الأحاديث التي جاءت تبين عدد غسلات الإناء عند ولوغ الكلب فيه؛ فهناك أحاديث دلت على أن الغسلات سبع، منها: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا، إحداهن بالتراب».
إلا أن هناك حديثا آخر دل على أنهن ثمانية، فعن ابن مغفل -رضي الله عنه- قال: «أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب؟ ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال: إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبع مرات، وعفروه الثامنة بالتراب»، بل إن أبا هريرة نفسه - راوي حديث السبع غسلات - قد خالف ما قال؛ عندما أفتى بأن غسل الإناء ثلاث مرات فقط.
ناهيك عن أن هناك أحاديث دلت على أن الكلاب كانت تمر بمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتترك فيها أثرا من البول، ولم يكونوا يريقون الماء عليها، فعن حمزة بن عبد الله عن أبيه قال: «كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك».
فأين ذلك من الأحاديث السابقة التي تؤكد نجاسة الكلاب، ووجوب غسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب سبع مرات أو ثمان؟! كما أنهم يسخرون من قوله صلى الله عليه وسلم: «... فليغسله سبعا إحداهن بالتراب».
زاعمين أن ذلك مناف للحقائق العلمية، كما أن فيه تعنتا من الشريعة الإسلامية، فلماذا خص الحديث "التراب" ضمن مرات غسل الإناء؟ أليس هناك ما هو أقوى من التراب، وله القدرة على غسل وتنظيف الآنية؟! وماذا في لعاب الكلب كي يميزه عن بقية السباع وغيره من الحيوانات المفترسة؟!
هادفين من وراء ذلك إلى بيان اضطراب السنة في مسألة قتل الكلاب وبيان نجاستها، وبالتالي الطعن في مصداقية السنة وردها.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه لولا أن الله قد خلق جنس الكلاب لحكمة معينة، لأمر بقتلها جميعا دون استثناء، ولكن إذا اقتضى الأمر فلتقتلوا الأسود والأضر منها فقط؛ لقلة نفعه وكثرة شره، حيث وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بأنه شيطان»، وقتل النبي -صلى الله عليه وسلم- جميع الكلاب بالمدينة؛ لأنها مهبط الملائكة بالوحي، والملائكة لا تدخل مكانا به كلب أو صورة.
2) لا تعارض بين أحاديث بيان عدد غسلات الإناء الذي يلغ فيه الكلب؛ فقد اتفق العلماء على أن الغسلات سبع، ولكن أطلق على التتريب غسلة مستقلة مجازا؛ لأنه داخل ضمن غسله من السبع، ولأن جنس التراب غير جنس الماء، على غرار قوله عز وجل: )ثلاثة رابعهم كلبهم( (الكهف: ٢٢)، كما أن رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- بأنه يغسل ثلاثا، إن صحت - فإنها لا تقوى للطعن في حديث السبع الذي رواه هو نفسه؛ لأن رواية السبع أثبت وأصح سندا، وأنها قد وردت من طرق أخرى غير طريق أبي هريرة في أغلب كتب الحديث، ورواية الثلاث إن أثرت في روايته هو، فإنها لا تؤثر في مروي غيره.
3) إن التشريع الإسلامي لم يكن قد بين أحكام النجاسات في بداية العهد النبوي، ولذلك فقد كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- على سبيل الإباحة، ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليشرع من تلقاء نفسه حتى ورد الأمر بتكريم المساجد.
4) إن الدراسات العلمية الحديثة قد أثبتت أن لعاب الكلب يحمل كثيرا من الديدان التي تسبب كثيرا من الأمراض التي تصيب الإنسان، كما أثبتت - أيضا - ما للتراب من قدرة هائلة على إزالة الجراثيم الناتجة عن لعاب الكلب، وذلك ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام.
التفصيل:
أولا. لقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتل جميع الكلاب بعد أن نسخ الأمر بقتلها، وأباح قتل الأسود منها فقط؛ لأنه شيطان، وأمر بقتل جميع كلاب المدينة؛ لأنها مهبط الملائكة بالوحي، والملائكة لا تدخل مكانا به كلب:
إن الحديث النبوي الوارد في النهي عن قتل جميع الكلاب - ما عدا الأسود منها - حديث صحيح ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- رواه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد بطرق صحيحة متصلة مرفوعة.
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث روح بن عبادة قال: حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتلها، وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين؛ فإنه شيطان»[1].
كما روى الإمام الترمذي في سننه من طريق منصور بن زاذان، ويونس عن الحسن عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم»[2].
وكذلك روى هذا الحديث الإمام أبو داود[3] والنسائي[4] وابن ماجه[5] في سننهم، والإمام أحمد في مسنده[6] بهذا الإسناد، وجاء بنحوه في كثير من كتب السنة الأخرى.
وعلى هذا، فالحديث صحيح ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا طعن في ثبوته أو صحته.
ومن ثم يقول الإمام ابن قتيبة معلقا على الحديث السابق: "إن كل جنس خلقه الله تعالى من الحيوان أمة؛ كالكلاب، والأسد، والبقر، والغنم، والنمل، والجراد، وما أشبه ذلك، كما أن الناس أمة.
وكذلك الجن أمة، يقول الله عز وجل: )وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم( (الأنعام: ٣٨)، يريد أنها مثلنا في طلب الغذاء والعشاء، وابتغاء الرزق، وتوقي المهالك... ولو أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتل الكلاب على كل حال لأفنى أمة، وقطع أثرها"[7].
وقال أبو الطيب العظيم آبادي في "عون المعبود": "قال الخطابي: معنى هذا الكلام أنه -صلى الله عليه وسلم- كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق؛ لأنه ما من خلق لله تعالى إلا وفيه نوع من الحكمة، وضرب من المصلحة، يقول: إذا كان الأمر على هذا، ولا سبيل إلى قتلهن، فاقتلوا شرارهن، وهي السود البهم، وأبقوا ما سواها؛ لتنتفعوا بهن في الحراسة"[8].
لذا فلا تعارض يذكر بين أول الحديث: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها..» وآخره: "ولكن اقتلوا منها كل أسود بهيم".
وعليه، فلم يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتل الكلاب جميعا؛ خشية إبادة جنسها كلية، وإنما أمر بقتل الأسود منها؛ لأن الأسود البهيم منها أضرها وأعقرها، والكلب إليه أسرع منه إلى جمعها، وهو - مع هذا - أقلها نفعا، وأسوؤها حراسة، وأبعدها من الصيد، وأكثرها نعاسا[9].
وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «بقتلها كلها»؛ أي: لا تقتلوها كلها جميعا، ولكن اقتلوا الأسود البهيم غير النافع كثير الضرر فقط؛ فقد وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه شيطان، فقال: «عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين؛ فإنه شيطان»، وقال أيضا: «الكلب الأسود شيطان» [10].
واللسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم يطلق اسم الشيطان على كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب، ومنه قوله عز وجل: )وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون (14)( (البقرة)، وقوله عز وجل: )وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا( (الأنعام: ١١٢)، ومنه الحديث الذي رواه أبو ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود. قلت: يا أبا ذر: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني، فقال: الكلب الأسود شيطان»[11].
لقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ما استشكله أبو ذر في هذا الحديث، فقال له: «الكلب الأسود شيطان».
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفرق النبي - صلى الله عليه وسلم ـبين الكلب الأسود والأحمر والأبيض بأن الأسود شيطان...، وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الكلب الأسود شيطان الكلاب، والجن تتصور بصورته كثيرا، وكذلك بصورة القط الأسود؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة"[12].
وقال الإمام ابن قتيبة: "وقال: "هو شيطان" يريد أنه أخبثها، كما يقال فلان شيطان، وما هو إلا شيطان مارد، وما هو إلا أسد عاد، وما هو إلا ذئب عاد - يراد: أنه شبيه بذلك... وأما قتله - أي النبي صلى الله عليه وسلم - كلاب المدينة، فليس فيه نقض لقوله: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها»؛ لأن المدينة في وقته -صلى الله عليه وسلم- مهبط وحي الله تعالى مع ملائكته، والملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب، ولا صورة" [13].
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتاني جبرائل - جبريل - فقال لي: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر[14] فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل - فيجعل - منه وسادتين منبوذتين توطآن، ومر بالكلب فليخرج، ففعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإذا الكلب لـحسن أو حسين كان تحت نضد لهم، فأمر به فأخرج»[15].
قال الإمام ابن قتيبة: "وهذا دليل على أنها كما تكره الكلاب في البيوت، تكره أيضا في الـمصر، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتلها، أو بالتخفيف منها، فيما قرب منها، وأمسك عن سائرها، مما بعد من مهبط الملائكة ومنزل الوحي"[16].
كما أن الأمر بقتل الكلاب جميعا كان في بداية الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك، ونهي عن قتلها، إلا الأسود منها فقط، ثم بعد ذلك نهي عن قتل جميع الكلاب التي لا ضرر فيها، بما فيها الكلاب السود وغيرها.
واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن المغفل -رضي الله عنه- قال: «أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وما بال الكلاب؟ ثم رخص في كلب الصيد، وكلب الغنم»[17].
فيفهم من الجمع بين الحديثين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أمر بقتل جميع الكلاب، ثم نسخ ذلك بقتل الأسود البهيم منها، ثم نهي عن قتلها جميعا غير أولي الضرر منها، سواء الأسود وغيره.
قال الإمام النووي: "أجمع العلماء على قتل الكلب الكلب، والكلب العقور...
قال إمام الحرمين من أصحابنا: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أولا بقتلها كلها، ثم نسخ ذلك، ونهى عن قتلها إلا الأسود البهيم، ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب التي لا ضرر فيها سواء الأسود وغيره، ويستدل لما ذكره بحديث ابن المغفل"[18].
وخلاصة القول فيما سبق أن الحديث حديث صحيح لا تناقض فيما بينه؛ فلعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر بقتل جميع الكلاب؛ حتى لا يستأصل جنسا خلقه الله -سبحانه وتعالى- لحكمة ومصلحة؛ وحث على قتل الأسود منها؛ لأنه شيطان لا خير فيه، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتل جميع الكلاب في المدينة؛ لأنها كانت مهبط الوحي مع الملائكة؛ والملائكة لا تدخل مكانا فيه كلب، علاوة على قول بعض الفقهاء بأن القتل للجميع كان في البداية، ثم نسخ بعد ذلك بقتل الأسود البهيم، ويزال الإلباس وينتفي التعارض.
ثانيا. عدد الغسلات من ولوغ الكلب سبع مرات، ولا تعارض بين الأحاديث التي جاءت في هذا الشأن:
لقد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب»[19]، وفي رواية أخرى: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب»[20].
كما روي عن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «... إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبع مرات، وعفروه الثامنة في التراب»[21].
ولا تعارض بين الحديثين؛ لأن التراب عد في حديث ابن مغفل -رضي الله عنه- غسلة ثامنة، وإن لم تكن غسلة مستقلة، بل مع إحدى الغسلات السبع؛ لأنه من غير جنس الماء، كقوله تعالى: )سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم( (الكهف: ٢٢) [22].
قال الإمام النووي: "فمذهبنا ومذهب الجماهير: أن المراد: اغسلوها سبعا واحدة منهن بالتراب مع الماء، فكأن التراب قائم مقام غسلة، فسميت ثامنة لهذا" [23].
وهذا ابن قدامة يقول: "والرواية الأولى أصح - رواية الغسلات السبع، ويـحمل هذا الحديث - حديث الثماني غسلات - على أنه عد التراب ثامنة؛ لأنه وإن وجد مع إحدى الغسلات فهو جنس آخر، فيجمع بين الخبرين"[24].
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" ما يؤكد ذلك بقوله: "وجمع بعضهم بين الحديثين بضرب من المجاز، فقال: لما كان التراب جنسا غير الماء جعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدودا باثنتين، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن قوله: «وعفروه الثامنة بالتراب» ظاهر في كونها غسلة مستقلة، لكن لو وقع التعفير في أوله قبل ورود الغسلات السبع كانت الغسلات ثمانية، ويكون إطلاق الغسلة على التتريب مجازا"[25].
كما أن فتوى أبي هريرة -رضي الله عنه- بغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا لا تقوى على معارضة الراويات الكثيرة الأخرى الأصح ثبوتا، والتي تؤكد أن عدد الغسلات سبع بالإضافة إلى غسلة التتريب "التراب"، وذلك من عدة وجوه، وهي:
أنه قد ثبت عن الصحابي نفسه - وهو أبو هريرة - حديث يؤكد الغسلات السبع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا»[26].
وهذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة، وقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من طرق أخرى كثيرة، منها ما أخرجه أبو داود في سننه، والنسائي في سننه، والدارمي في سننه، والإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن مغفل، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبعا، وعفروه الثامنة بالتراب».
فإذا سلمنا - مع الفرض الممتنع - أن مخالفة الصحابي تؤثر في الحديث الذي رواه، فإنها لا يمكن أن تؤثر في مروي غيره [27].
كما أن ما روي عن أبي هريرة من "أنه كان إذا ولغ الكلب في الإناء أهرقه وغسله ثلاث مرات"[28]، وعليه بنوا زعمهم بمخالفة أبي هريرة لما رواه سابقا، فذلك لا يصح أن يكون مستندا يعتمد عليه في ذلك؛ لأن الرواية اختلفت عن أبي هريرة؛ فقد روي عنه أنه أفتى بغسل الإناء سبع مرات، وروي عنه أنه أفتى بغسله ثلاث مرات، لكن رواية من روي عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روي عنه أنه أفتى بمخالفة ما رواه.
وذلك ما أثبته ابن حجر في "الفتح"، فقال: "وأيضا فقد ثبت أنه أفتى بالغسل سبعا، ورواية من روي عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روي عنه مخالفتها من حيث الإسناد، ومن حيث النظر، أما النظر فظاهر، وأما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عنه، وهذا من أصح الأسانيد، وأما المخالفة فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه، وهو دون الأول في القوة بكثير" [29].
وقال الصنعاني: "وأجيب عن هذا بأن العمل بما رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا بما رآه وأفتى به، وبأنه معارض بما روي عنه أنه أفتى بالغسل سبعا، وهي أرجح سندا، وترجح أيضا بأنها توافق الرواية المرفوعة، ومما روي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال في الكلب يلغ في الإناء: «يغسل ثلاثا أو خمسا أو سبعا»[30].
قالوا: فالحديث دل على عدم تعيين السبع، وأنه مخير ولا تخيير في معين، وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة"[31].
وخلاصة القول في ذلك أن غسل الإناء من ولوغ الكلب يكون سبعا، وإطلاق الغسلة على التتريب مجازا؛ لأن التراب غير جنس الماء، كما قال تعالى: )ثلاثة رابعهم كلبهم(، فضلا عن أن فتيا أبي هريرة -رضي الله عنه- بغسل الإناء ثلاثا عند ولوغ الكلب فيه، لا تقوم دليلا يعتمد عليه في إثبات التعارض؛ لأن رواية أبي هريرة المرفوعة التي تقول بالغسلات السبع أثبت وأصح من هذه الفتوى؛ ولورود رواية الغسلات السبع من طرق أخرى غير أبي هريرة في أغلب كتب الحديث بأسانيد قوية وصحيحة، وبذلك تسقط تلك الشبهة وتزول.
ثالثا. لقد كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بداية الأمر على سبيل الإباحة، ثم جاء الأمر بتكريم المساجد، ونزلت أحكام النجاسات:
إن حديث حمزة بن عبد الله عن أبيه قال: «كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك»[32] - حديث صحيح، أخرجه البخاري في صحيحه، وأبو داود في سننه وغيرهما، ولا تعارض بين هذا الحديث وبين الأحاديث الأخرى التي تؤكد نجاسة الكلاب، ووجوب غسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب سبع مرات، بالإضافة إلى تتريبه مرة منفصلة.
فمن المعلوم جيدا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتسلم رسالته دفعة واحدة، كما تسلم موسى -عليه السلام- الألواح دفعة واحدة، أو كما تسلم إبراهيم الصحف دفعة واحدة، أو كما تسلم عيسى -عليه السلام- الإنجيل دفعة واحدة؛ وإنما كان أسلوب التلقي في الدعوة الإسلامية مخالفا لهذا كله، فكان القرآن ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- منجما؛ ليقرأه على الناس على مكث، وليثبت به فؤاده، وليكون جوابا موقوتا بما عسى أن يطرح على النبي -صلى الله عليه وسلم- من تساؤلات.
فلما نزلت أحكام النجاسات، أو أوحي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بها، لم يتخذوا للمسجد أبوابا فقط، وإنما تتبعوا كل نجاسة حدثت فيه، فأراقوا عليها الماء[33].
فقد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه"، وهريقوا على بوله سجلا من الماء - أو ذنوبا من ماء - فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين»[34].
وقد قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": "والأقرب أن يقال: إن ذلك كان في ابتداء الحال على أصل الإباحة، ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها، وجعل الأبواب عليها، ويشير إلى ذلك ما زاده الإسماعيلي في روايته من طريق ابن وهب في هذا الحديث عن ابن عمر قال: كان عمر يقول بأعلى صوته: «اجتنبوا اللغو في المسجد»، قال ابن عمر: «وقد كنت أبيت في المسجد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت الكلاب..» إلخ[35]، فأشار إلى أن ذلك كان في الابتداء، ثم ورد الأمر بتكريم المسجد حتى من لغو الكلام، وبهذا يندفع الاستدلال به على طهارة الكلب، وأما قوله: «في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم» فهو وإن كان عاما في جميع الأزمنة؛ لأنه اسم مضاف، لكنه مخصوص بما قبل الزمن الذي أمر فيه بصيانة المسجد"[36].
"قال الخطابي: وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد عابرة؛ إذ لا يجوز أن يترك للكلاب انتياب المسجد حتى تمتهنه وتبول فيه، وإنما كان إقبالها وإدبارها في أوقات نادرة، ولم يكن على المسجد أبواب تمنع من عبورها فيه"[37].
فدل ذلك على ارتفاع هيئة المسجد شيئا فشيئا مع ظهور مكانته أمام المسلمين، حتى وصل الأمر بعمر بن الخطاب إلى أن نهى الناس بشدة عن أن يتحدثوا في المسجد حديث الغلط أو السمر؛ مستندا في ذلك إلى توجيهات نبيه -صلى الله عليه وسلم- حتى إنه -صلى الله عليه وسلم- قد وجههم إلى أنه لا يجوز لأحد أن ينشد ضالته في المسجد، وأمرهم أن يقولوا لمن ينشد ضالته في المسجد: «لا ردها الله عليك».
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا» [38].
وخلاصة القول في ذلك: أن الكلاب كانت تدخل المسجد في أول استقبال المسلمين لعصر التشريع، ولم يكن الله قد حكم في النجاسات بشيء، ولم يكن قد أنزل شيئا في حرمة المساجد، وما كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يشرع للمسلمين شيئا دون وحي، فلما نزلت أحكام النجاسة ونزلت النصوص الآمرة بحرمة المساجد، انصاع لها المسلمون وتجاوبوا معها، وجاءت توجيهات النبي -صلى الله عليه وسلم- بتأكيد نجاسة الكلب، ووجوب غسل الإناء الذي يلغ الكلب فيه سبعا، علاوة على تتريبه مرة مستقلة، وبذلك يتبين ضعف الشبهة، وعدم وجود طعن في الحديث الصحيح.
رابعا. توجيهات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشأن نجاسة الكلاب معجزة نبوية شهد لها العلم الحديث وأقر بما جاءت به:
أما قولهم: إن السنة الشريفة متعنتة عندما ألزمتنا بالتطهر من لعاب الكلب دون غيره من بقية السباع، حتى إنهم ليسخرون من ذلك ويتساءلون أيضا: ولماذا خص الحديث التراب ضمن السبع غسلات للآنية؟ أليس هناك سوى التراب ما يتميز بالقدرة على غسل وتنظيف الآنية؟! وكل ما يزعمونه فليس له أساس يقوم عليه، حتى يصبح حجة يطعنون بها في متن الحديث الصحيح؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أرشدنا في الحديث الشريف إلى الطهارة من نجاسة الكلب بقوله: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغلسه سبع مرات أولاهن بالتراب»[39].
فبين ضرورة غسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب - بالذات - سبع مرات، على أن تكون منهن مرة بالتراب؛ وذلك لحرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على الوقاية من الأمراض التي قد تنتج جراء ما يتركه لعاب الكلب في الإناء، وقد حدد النبي -صلى الله عليه وسلم- التراب ليغسل به الإناء؛ وذلك لقدرة التراب الهائلة على قتل وإزالة الجراثيم الناتجة عن سؤر الكلب[40].
وقد جاءت النظريات العلمية الحديثة تؤكد ما قرره النبي -صلى الله عليه وسلم- وأثبته في هذا الشأن منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام.
أما بالنسبة لاختصاص النبي -صلى الله عليه وسلم- لعاب الكلب دون غير فكان لحكمة بالغة، ونبوءة عظيمة، فقد جاء في كتاب "الطب الوقائي" للدكتور عبد الباسط محمد السيد: أن الدراسات العلمية الحديثة قد أثبتت أن هناك عدة أنواع مختلفة من الديدان الخطيرة تعيش داخل أمعاء الكلب، ومنها: دودة شريطية من نوع يسمى "ديبليد كنينم" تسبب للإنسان اضطرابات خطيرة في الجهاز الهضمي، والبنكرياس والمرارة، وقد تدخل إلى الكبد، وأحيانا تخترق الأمعاء، وتسبب الالتهاب البريتوني، وتوجد في أمعاء الكلب دودة تسمى "ميلتبيسبس"، ويخرج بيض هذه الدودة مع براز الكلب، فإذا انتقلت إلى الإنسان تؤدي إلى تكوين كيس بالمخ ينتج عنه حدوث شلل، أو فقدان الإبصار، أو عدم القدرة على اتزان الجسم.
كما أنه يوجد في جوف الكلاب نوع معين من الديدان الشريطية يسمى "تينيا إكينوككس"، وتنتقل من شرج الكلب إلى فمه بسهولة، فيصبح ملوثا بآلاف البويضات الدقيقة، وإذا انتقلت إلى الإنسان أصابته بمرض "هيداتيد"، وهو يصيب منطقة الكبد والرئة والطحال والبنكرياس والكلى والمخ والعمود الفقري.
ويواصل د. عبد الباسط محمد السيد كلامه فيقول: "وتظهر نبوءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي خص أنف وفم الكلب بالحيطة؛ حيث إن عقل هذه الديدان المليئة بالبويضات الملقحة حين تصل إلى فتحة شرج الكلب تسبب له حكة شديدة، فيبدأ في حكها (لعقها) بأنفه الذي سرعان ما يمتلئ بنسبة عالية من تلك البويضات الخطيرة، وهنا يمكن نقل العدوى بسهولة، فينصح النبي -صلى الله عليه وسلم- بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات بالماء الطهور، وفي إحدى المرات بالتراب الطهور؛ لأن التراب عامل مهم في إزالة تلك البويضات الخطيرة غير المرئية.
أما بالنسبة لاختصاص النبي -صلى الله عليه وسلم- التراب دون غيره ليغسل به الإناء من ولوغ الكلب؛ فلأنه كان الوسيلة الوحيدة عند العرب لتطهير الأواني، فإنه الآن قد وجدت المادة البديلة، ويمكن استعمالها؛ حيث إن النظافة في هذه الحالة ليست من الأمور التعبدية"[41].
ناهيك عن أن الطب الحديث قد أثبت أن البويضات الخاصة بتلك الديدان التي تعيش في أحشاء الكلب وتخرج مع برازه، لا يقتلها الماء، ولكن التراب هو العامل الأهم والمؤثر في إذابة تلك البويضات الخطيرة غير المنظورة؛ حيث تندمج جزيئات التراب مع البويضات، كما يندمج سائل الصابون مع المواد الدهنية فيزيلها"[42].
ومن هنا يتبين لنا مدى مصداقية النبي -صلى الله عليه وسلم- وإعجازه فيما يقوله وما يفعله، ولا عجب في ذلك؛ فقد )علمه شديد القوى (5)( (النجم)، ويتبين لنا أيضا مدى الحكمة الطبية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التحذير من نجاسة الكلب، وضرورة إزالتها، وبذلك يتضح لنا مدى إفحام من سخر من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإرشاده بشأن ذلك، بالبينة والبرهان الساطعين، وبالبحث العلمي الذي يؤمنون به ويقدمونه.
الخلاصة:
· الأحاديث الواردة في حكم قتل الكلاب وبيان نجاستها صحيحة وثابتة؛ فقد ثبت كثير منها بالصحيحين وغيرهما بأسانيد قوية صحيحة.
· لقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتل الكلب الأسود؛ لأنه أكثر الكلاب ضررا وأقلها نفعا، ولم يأمر باستئصال جنسها تماما؛ لأن الله تعالى قد خلقها لحكمة معينة، وإنما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتل جميع الكلاب في المدينة؛ لأنها مهبط الوحي، والملائكة لا تدخل مكانا به كلب.
· قد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن غسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب سبع مرات، وأطلق على التتريب غسلة مستقلة مجازا؛ لأنها داخلة ضمن غسلة من الغسلات السبع، فلا تعارض في ذلك.
· لقد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه أفتى بأن الإناء الذي ولغ فيه الكلب يغسل ثلاثا، وبأن الإناء الذي ولغ فيه الكلب يغسل سبعا، وفتياه بالسبع هي التي توافق ما رواه مرفوعا، كما أنها أصح وأثبت سندا، علاوة على ورود رواية الغسلات السبع من طريق أخرى غير أبي هريرة، مما دل على أن فتياه بالثلاث لا تؤثر في مروي غيره.
· لقد كانت الكلاب تقبل وتدبر في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ابتداء الحال على أصل الإباحة، ثم ورد الأمر بعد ذلك بتكريم المساجد وتطهيرها، ثم بين الشرع أحكام النجاسات وما يتعلق بها.
· لقد أكد العلم الحديث أن لعاب الكلب يحمل كثيرا من الديدان التي تسبب كثيرا من الأمراض التي تصيب الإنسان، مما يؤدي به - أحيانا - إلى العمى، وذلك ما قرره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما شدد على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب بالماء والتراب، كما أن للتراب قدرة هائلة على إزالة الجراثيم المتخلفة عن لعاب الكلب.
(*) تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م. مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف دراسة نظرية وتطبيقية، د. عبد الكريم محمد النملة، مكتبة الرشيد، الرياض، ط2، 1422هـ/ 2001م. لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1415هـ/ 1995م. ضلالات منكري السنة، د. طه حبيشي، مطبعة رشوان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م. مختلف الحديث عند الإمام أحمد، د. عبد الله بن الفوزان، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1428هـ.