دعوى تعارض أحاديث الغسل من الجماع (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن ثمة تعارضا بين أحاديث الغسل من الجماع؛ قائلين: إن هناك أحاديث تدل على وجوب الغسل لمن جامع مطلقا، حتى ولو لم ينزل، وأحاديث أخرى تدل على عدم وجوب الغسل لمن جامع إذا لم ينزل.
مستدلين على ذلك بحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنما الماء من الماء» وحديث أبي بن كعب -رضي الله عنه- أنه قال: «يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال: يغسل ما مس المرأة منه، ثم يتوضأ ويصلي»، وما روي عن زيد بن خالد الجهني أنه سأل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فقال: «أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره».
ويرون أن هذه الأحاديث تتعارض مع ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل»، وما روي - أيضا - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع وأجهد نفسه فقد وجب الغسل، أنزل أم لم ينزل». ويتساءلون: أليس هناك تعارض بين هذه الأحاديث التي لا توجب الغسل من الجماع إلا إذا أنزل، وبين تلك الأحاديث التي توجب الغسل حتى ولو لم ينزل؟! رامين من وراء ذلك إلى تشكيك المسلمين في أحاديث الغسل من الجماع وردها جميعا.
وجه إبطال الشبهة:
· لا تعارض بين أحاديث الغسل من الجماع؛ إذ إن الأحاديث التي لا توجب الغسل من الجماع إلا بالإنزال كانت رخصة من النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول الإسلام، ثم نسخت بالأحاديث التي توجب الغسل بالتقاء الختانين حتى ولو لم يحصل الإنزال، وهذا باتفاق جمهور الفقهاء والمحدثين، وبهذا تسقط دعواى المشككين.
التفصيل:
لقد أجمع علماء الحديث والفقه على أن الأحاديث القائلة بعدم وجوب الغسل من الجماع إلا بالإنزال أحاديث منسوخة ولا عمل عليها؛ إذ إنها كانت رخصة رخص بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في بداية الإسلام، ثم أوجب الغسل على كل من جامع امرأته سواء حدث إنزال منه أم لم يحدث.
وهذا ما قال به كل من تناول باب الغسل من الجنابة؛ فلقد عنون الإمام النووي في صحيح مسلم بابا بعنوان: "باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين"، فدل ذلك على نسخ الأحاديث التي لا توجب الغسل إلا بإنزال، وقال الإمام النووي "اعلم أن الأمة مجتمعة الآن على وجوب الغسل بالجماع، وإن لم يكن معه إنزال، وعلى وجوبه بالإنزال، وكان جماعة من الصحابة على أنه لا يجب إلا بالإنزال، ثم رجع بعضهم، وانعقد الإجماع بعد الآخرين...
وأما حديث: «إنما الماء من الماء»[1] [2] فالجمهور من الصحابة ومن بعدهم قالوا: إنه منسوخ، ويعنون بالنسخ أن الغسل من الجماع بغير إنزال كان ساقطا ثم صار واجبا [3].
وقد أكد الإمام البيهقي أن قول أبي بن كعب رضي الله عنه: «الماء من الماء»، ثم نزوعه عنه بعد ذلك يدل على أنه ثبت عنده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال بعده ما نسخه " [4].
وقد نزع أبي بن كعب -رضي الله عنه- عن قوله هذا فيما رواه الترمذي عنه أنه قال: «إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ثم نهي عنها»[5].
ثم علق الترمذي على هذا الحديث فقال: "هذا حديث حسن صحيح، وإنما كان الماء من الماء في أول الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك، وهكذا روى غير واحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم: أبي بن كعب، ورافع بن خديج، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم على أنه إذا جامع الرجل امرأته في الفرج وجب عليهما الغسل، وإن لم ينزلا"[6].
ويكفي للتدليل على القول بالنسخ في تلك المسألة ما ذكره ابن قدامة في "المغني" قائلا: "التقاء الختانين[7] يعني: تغيب الحشفة في الفرج، فإن هذا هو الموجب للغسل، سواء كانا مختتنين أو لا، وسواء أصاب موضع الختان منه موضع ختانها أو لم يصبه، ولو مس الختان الختان من غير إيلاج فلا غسل بالاتفاق.
واتفق الفقهاء على وجوب الغسل في هذه المسألة، إلا ما حكي عن داود أنه قال: لا يجب؛ لقوله عليه السلام: «الماء من الماء»، وكان جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- يقولون: لا غسل على من جامع فأكسل؛ يعني: لم ينزل. ورووا في ذلك أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت رخصة رخص فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أمر بالغسل، قال سهل بن سعد: حدثني أبي بن كعب أن "الماء من الماء" كان رخصة أرخص فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم نهى عنها"[8].
وقد أفرد الإمام الشوكاني هو الآخر في "نيل الأوطار" بابا بعنوان: "باب إيجاب الغسل من التقاء الختانين، ونسخ الرخصة فيه"[9]؛ ليؤكد أن عدم وجوب الغسل من الجماع في حالة عدم الإنزال كان في بداية الإسلام، ثم نسخ بوجوب الغسل من الجماع سواء أنزل أم لم ينزل، وذكر عددا من الأحاديث الصحيحة التي تثبت ذلك، منها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع [10] ثم جهدها [11] فقد وجب الغسل» [12]، وزاد مسلم في روايته من حديث مطر «وإن لم ينزل»[13].
ثم علق الشوكاني على هذا الحديث، فقال: والحديث يدل على أن إيجاب الغسل لا يتوقف على الإنزال، بل يجب بمجرد الإيلاج أو ملاقاة الختان الختان، وقد ذهب إلى ذلك الخلفاء الأربعة والعترة والفقهاء وجمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وروى ابن عبد البر عن بعضهم أنه قال: إن الجمهور - الذين هم الحجة على من خالفهم من السلف والخلف - انعقد إجماعهم على إيجاب الغسل من التقاء الختانين أو مجاوزة الختان الختان"[14].
ودعما لما سبق، فإن الأحاديث الصريحة التي تدل على وجوب الغسل - حتى ولو لم يكن إنزال - كثيرة تدل على نسخ ما عداها، منها ما روته عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «إن رجلا سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل» [15].
وذكر ابن شاهين في كتابه "الناسخ والمنسوخ من الحديث" عددا من الأحاديث التي لا توجب الغسل إلا بالإنزال، ثم ذكر بابا بعنوان: "باب النسخ لهذا الحديث"وذكر عددا من هذه الأحاديث الناسخة[16].
كما أورد الإمام الرازي في كتابه "الناسخ والمنسوخ في الأحاديث" حديثين من تلك الأحاديث المنسوخة، وهما: عن أبي أيوب الأنصاري «أن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله، إذا جامع أحدنا فلم ينزل؟ قال: يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي»[17].
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الماء من الماء»[18]؛ أي: الاغتسال من الإنزال، ثم علق على هذين الحديثين، بقوله: منسوخان بالحديث الذي روته عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل»[19] [20].
وليس هذا فحسب، بل لقد روى الإمام مسلم في صحيحه من طريق أبي العلاء بن الشخير ما يؤكد وقوع النسخ في السنة عموما، حيث قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينسخ حديثه بعضه بعضا، كما ينسخ القرآن بعضه بعضا»[21].
وقد أقر العلماء "أن نسخ السنة بالسنة يقع على أربعة أوجه؛ الأول: نسخ المتواتر بالمتواتر، والثاني: نسخ الآحاد بالآحاد، والثالث: نسخ الآحاد بالمتواتر، والرابع: نسخ المتواتر بالآحاد"[22]، وقضيتنا من قبيل نسخ المتواتر بالمتواتر فحديث «إنما الماء من الماء» منسوخ بحديث " التقاء الختانين " وكلاهما متواتر.
ومن خلال ما سبق ذكره يتبين أن الأحاديث التي لا توجب الغسل من الجماع إلا بعد الإنزال أحاديث منسوخة، كانت رخصة رخص بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في بداية الإسلام، ثم أوجب الغسل من الجماع سواء أنزل أو لم ينزل، والقول بالنسخ هنا باتفاق علماء الحديث والفقه؛ لذلك لا تعارض بين الأحاديث في أمر الاغتسال من الجماع ولا تناقض بينها كما زعم هؤلاء المغرضون.
الخلاصة:
· إن الأحاديث التي تقول بعدم وجوب الغسل من الجماع إلا بالإنزال منسوخة بإجماع العلماء، ومن هذه الأحاديث التي نسخت حديث: «الماء من الماء»، وحديث: «يغسل ما مسه من المرأة ثم يتوضأ ويصلي»، فقد نسخ هذان الحديثان بحديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل».
· كانت هذه الأحاديث المنسوخة رخصة في أول الإسلام، ثم نسخت بالأحاديث التي توجب الغسل على المجامع سواء أنزل أو لم ينزل".
· لقد أكد علماء الحديث والفقه جميعا أن الغسل واجب من الجماع مطلقا سواء أنزل أو لم ينزل، ومن هؤلاء العلماء الأئمة: مسلم، والبيهقي، والترمذي، وابن شاهين، وأبو حامد الرازي، وابن قدامة، والنووي، وابن حجر، والشوكاني... وغيرهم كثير.
· وإذا كانت الأحاديث التي لا توجب الغسل إلا بالإنزال منسوخة، والعمل على الأحاديث التي توجب الغسل مطلقا سواء أنزل أو لم ينزل، فأين التعارض إذا بين الأحاديث المتعلقة بالغسل كما يزعمون.
(*) تدوين وتوثيق السنة النبوية في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة، جمال محمود خلف، مكتبة الإيمان، مصر، ط1، 1428هــ/ 2007م. مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين، نافذ حسين حماد، دار النوادر، بيروت،