إنكار حديث الكتابي فداء للمسلم من النار)*(
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المغرضين حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يبين فيه أن الكتاين[1] يكونون فداء للمسلمين يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة دفع الله - عز وجل - إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا، فيقول: هذا فكاكك من النار».
مستدلين على إنكارهم للحديث بأنه يتصادم مع حقيقة ثابتة في الدين؛ وهي أن مقياس دخول الجنة هو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، ولن يكون أحد فكاك الآخر من النار، قال سبحانه وتعالى: )إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)( (البقرة).
والحديث بزعمهم يكرس مقولة اليهود والنصارى التي حكاها القرآن، قال تعالى عنهم: )وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى( (البقرة: ١١١).
وهم يرمون من وراء ذلك كله إلى إنكار الحديث، والتشكيك في كل ما ثبتت صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وجها إبطال الشبهة:
1) لقد أجمع علماء الأمة على صحة حديث الكتابي فداء للمسلم من النار سندا ومتنا؛ فأورده الإمام مسلم في صحيحه - مع علمنا بمكانته الفضلى بين علماء الأثر - ومما يؤكد صحة الحديث من جهة أخرى اتفاق معناه مع ما جاء من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «ما منكم من أحد إلا وله منزلان...»، كما أورد الإمام مسلم أيضا روايات عدة للحديث في صحيحه - مع بقاء متن الحديث صحيحا مستقيما بالاتفاق - وهي بمثابة دعم للحديث؛ إذ تجعل منه طودا عظيما، لا سبيل لتقويضه.
2) هذا الحديث لا يتفق مع مقولة اليهود والنصارى؛ إذ إن أهل الكتاب بشركهم وفتنتهم وحسدهم على الدين هو موقف الظالم لهم، فينطبق عليهم مع المسلمين قاعدة الظالم والمظلوم بين المسلمين وبعضهم الموجبة لأخذ الحسنات من الظالم وإعطائها للمظلوم، وطرح سيئات المظلوم على الظالم، فيصير كل ظالم فكاكا لكل مظلوم.
التفصيل:
أولا. صحة حديث الكتابي فداء للمسلم من النار سندا ومتنا:
إن حديث الكتابي فداء للمسلم من النار حديث صحيح ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرجه مسلم في صحيحه، وكفى بهذا دليلا على صحته، وإذا ما نظرنا في سلسلة الرواة وجدت أن جميعهم من الثقات أصحاب الدقة والحذر بدءا بأبي موسى، ووصولا لأبي شيبة، فقد قال رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة عن طلحة بن يحيى، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا كان يوم القيامة، دفع الله - عز وجل - إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا، فيقول: هذا فكاكك من النار»[2].
وهذا الحديث صحيح ولم يطعن فيه أحد بأية شبهة سواء في سنده أو في متنه، كما أنه قد ورد أيضا في صحيح مسلم وغيره بروايات أخرى تعضد هذه الرواية وتقويها، ومن هذه الروايات:
· عن قتادة أن عونا وسعيد بن بردة حدثاه أنهما شهدا أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهوديا أو نصرانيا، قال: فاستحلفه عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلا هو! ثلاث مرات؛ أن أباه حدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فحلف له»[3].
· وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى»[4].
· وهاك رواية أخرى للحديث صححها الألباني وهي:
«إذا كان يوم القيامة بعث إلى كل مؤمن بملك معه كافر، فيقول الملك للمؤمن: يا مؤمن! هاك هذا الكافر، فهذا فداؤك من النار» [5].
وهذه الأحاديث تؤكد الحديث الشريف الذي معنا: أن الكتابي يكون فداء للمسلم من النار يوم القيامة، ولا غرابة في ذلك؛ وهذا لا يتصادم مع قوله تعالى: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الأنعام: ١٦٤).
قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: ومعنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات، فدخل النار، ورث أهل الجنة منزله» [6]؛ لاستحقاقه ذلك بكفره، ومعنى «فكاكك من النار»: أنك كنت معرضا لدخول النار، وهذا فكاكك؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - قدر لها عددا يملؤها، فإذا دخلها الكفار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين[7].
أما عن مجموعة الروايات الأخرى للحديث، فهي تؤكد صحة هذا الحديث ومتنه؛ ففي الرواية الأولى: «فاستحلفه عمر بن عبد العزيز أن أباه حدثه» فهو لزيادة الاستيثاق والطمأنينة، وهذا دليل على صحة الحديث؛ إذ يوضح لنا خوف علمائنا والأئمة وأولي الأمر، وحرصهم البالغ على تحري الصدق بكل ما وصلنا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما عن الرواية الثانية: «يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين...»، فمقصودها أن استحقاق الكافرين دخول النار بعيد عن أي ظلم وبهتان، فقد استحقوا ذلك؛ لكفرهم وصدهم عن سبيل الله بشتى الطرق.
وقد عقب النووي - رحمه الله - على تلك الرواية قائلا:
فمعناه أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين، ويسقطها عنهم، ويضع على اليهود والنصاري مثلها بكفرهم وذنوبهم، فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين... وقوله «ويضعها» مجاز، والمراد: يضع عليهم مثلها بذنوبهم، فكان إسقاط ذنوب المسلمين - بعفو الله ورحمته - وإبقاء ذنوب الكافرين شبيه بمن حمل إثم الفريقين؛ لكونهم حملوا الإثم الباقي، وهو إثمهم، ومن المحتمل أن يكون المراد آثاما كان الكفار سببا فيها بأن سنوها، وجعلوها سنة متبعة[8].
أما عن مسألة إبدال المسلم بالكافر، ودخوله الجنة بعد أن كاد يلقى في النار؛ هو إبدال مجازي، يوضحه حديث أبي هريرة السابق: «ما منكم من أحد إلا وله منزلان، منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات، فدخل النار ورث أهل الجنة منزله».
من خلال ما سبق يتبين صحة حديث فداء المسلم بالكتابي يوم القيامة؛ فقد أخرجه مسلم في صحيحه، مع ذكره شواهد كثيرة تؤيده وتعضده، بالإضافة إلى الحديث الذي رواه الطبراني وابن عساكر وصححه الألباني، فإنه أيضا يؤكد صحته، وهذا الحديث إنما هو تفسير لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وله منزلان...» كما قدمنا شرحه.
ثانيا. فداء المسلم بالكتابي من النار يوم القيامة هو جزاء ما جناه ضد الإسلام:
وبعد أن أثبتنا صحة الحديث وبيان شواهده كان لزاما علينا توضيح معنى الحديث؛ فالحديث يقول: «إذا كان يوم القيامة دفع الله - عز وجل - إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا، فيقول: هذا فكاكك من النار»[9]، "قوله هذا:«فكاكك من النار» بفتح الفاء؛ أي: خلاصك منها ومعافاتك، ومنه فكاك الرقبة: تخليصها من الرق، وفكاك الرهن: تخليصه من عهد الارتهان وإطلاقه لربه، وفكوا العاني؛ أي: افدوا الأسير وخلصوه من الأسر"[10].
ولهدم الدعوى - أيضا - يجب أن نحيط علما - كما ذكرنا آنفا - بمعاني الروايات الأخرى للحديث، وإبراز دورها في عملية النقض.
لقد ذكر القرطبي في "التذكرة" بعد إيراده ما رواه الإمام مسلم من أحاديث تخص فداء المسلمين بالكتابيين - في صحيحه، فقال: "قال علماؤنا - رحمة الله عليهم - هذه الأحاديث ظاهرها الإطلاق والعموم، وليست كذلك؛ وإنما هي في ناس مذنبين تفضل الله - سبحانه وتعالى - عليهم برحمته ومغفرته، فأعطى كل إنسان منهم فكاكا من النار من الكفار.
واستدلوا بحديث أبي بردة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها لهم، ويضعها على اليهود والنصاري»...ومعنى قوله: «ويضعها على اليهود والنصاري» أنه يضاعف عليهم عذاب ذنوبهم، حتى يكون عذابهم بقدر جرمهم، وجرم مذنبي المسلمين، لو أخذوا بذلك؛ لأنه تعالى لا يأخذ أحدا بذنب أحد، كما قال تعالى: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الأنعام: ١٦٤)، وله سبحانه أن يضاعف لمن يشاء العذاب، ويخفف عمن يشاء بحكم إرادته ومشيئته؛ إذ لا نسأل عن فعله.
قالوا: وقوله في الرواية الأخرى: «لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه يهوديا أو نصرانيا»، فمعنى ذلك: أن المسلم المذنب لما كان يستحق مكانا من النار بسبب ذنوبه، وعفا الله عنه، وبقي مكانه خاليا منه، أضاف الله تعالى ذلك المكان إلى يهودي أو نصراني؛ ليعذب فيه زيادة على تعذيب مكانه الذي يستحقه بحسب كفره، ويشهد لهذا قوله - عليه السلام - في حديث أنس للمؤمن الذي يثبت عنه السؤال في القبر، فيقال له: «انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة»[11].
قلت - أي القرطبي: قد جاءت أحاديث دالة على أن لكل مسلم - مذنبا كان أو غير مذنب - منزلين: منزلا من الجنة، ومنزلا من النار، وذلك هو معنى قوله تعالى: )أولئك هم الوارثون (10)( (المؤمنون)؛ أي: يرث المؤمنون منازل الكفار، ويجعل الكفار في منازلهم في النار على ما يأتي بيانه، وهو مقتضى حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا وضع في قبره...» الحديث.
إلا أن هذه الوراثة تختلف، فمنهم من يرث ولا حساب، ومنهم من يرث بحسابه وبمناقشته، وبعد الخروج من النار حسب ما تقدم من أفعال الناس"[12].
يقول علي بن نايف الشحود (الباحث بالقرآن والسنة): "ليس هناك تعارض؛ فاليهود والنصارى مكانهم معروف بموجب أفعالهم في ظل الآيات القرآنية، ويجب على الذين عاشوا ليعاصروا آخر الرسل أن يؤمنوا بالرسل السابقين، ومن كفر فمكانه حتما إلى النار، )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الإسراء:١٥)، تعني: أن الإنسان يحاسب على أفعاله التي هي من اختياره، وليس لأحد دخل فيها، فيستحق هذا العقاب إذن، فاليهود والنصارى مصيرهم النار؛ لكفرهم بالرسل كافة، ولا تتبدل أماكنهم هكذا ظلما؛ لأن الله ليس بظلام للعبيد، قال تعالى: )ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (182)( (آل عمران)؛ وإنما المقاعد من النار التي كانت محددة للناس، يستقر عليها أصحابها حسب أفعالهم، والتي هي من اختيارهم، فهكذا يحدث الاستبدال: الكافر يأخذ مكان الذي أسلم، والذي كان مكانه موجودا لولا إسلامه"[13].
وقد أفرد الشيخ رفاعي سرور بحثا في هذا الموضوع، وقد جاء فيه: "وقد أورد ابن ماجه في سننه: «إن الميت يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشعوف، ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: كنت في الإسلام، فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه، فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله، فيفرج له فرجة قبل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله! ثم يفرج له فرجة قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك، ويقال له: على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ويجلس الرجل السوء في قبره فزعا مشعوفا، فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولا فقلته، فيفرج له قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة قبل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا، فيقال له: هذا مقعدك، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى»[14].
ويتضح أن موضوع الاختبار هو الإيمان بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو القضية الفاصلة بين المسلمين وأهل الكتاب.
كما نلاحظ أن النعيم لن يكون دخول الجنة فقط؛ ولكنه - أيضا - النجاة من النار، وأن العذاب لن يكون دخول النار فقط؛ ولكنه - أيضا - الحرمان من الجنة، وهذا هو معنى نسبية الجزاء بين أهل الجنة وأهل النار، وعلى أساس هذه النسبية يكون تحديد مصير كل طرف بالنسبة للطرف الآخر من حيث العمل، ومن حيث الجزاء، وبذلك يكون كل من يدخل النار فكاكا لكل من يدخل الجنة.
وكما تبين أن من يدخل الجنة يرث مقعد الكافر، فكل من يدخل النار يرث مقعد المؤمن، إذن فكل الكافرين فداء لكل المؤمنين، وهذا هو المعنى العام للعلاقة بين أهل الجنة وأهل النار، ومن هنا فإنك لا تجد في القرآن الكريم: (أصحاب الجنة) و (أصحاب النار)، إلا وتجد نسبية العلاقة بين أهل الجنة وأهل النار، وهو ما جاء في سورة الأعراف؛ حيث تجد تكرار هذا التعبير فيها؛ لكون الموضوع الأساسي للسورة هو تلك المقارنة، يقول تعالى: )والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (36)( (الأعراف)، وكذلك قوله: )ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين (50)( (الأعراف).
ثم نأتي للمعنى الخاص للعلاقة بين عمل أهل الجنة وأهل النار، أو قل: العلاقة الخاصة بين المسلمين وأهل الكتاب - وهم اليهود والنصاري - فأصبحت العلاقة هي علاقة اختصاص بين المسلم والكتابي، كما أن اختصاص العلاقة هو الذي تقوم عليه نسبية الجزاء في الجنة والنار، وهذا الاختصاص هو أن أهل الكتاب والمسلمين كانوا مخاطبين بالعمل لله؛ وفقا لما ورد في الحديث الذي رواه ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا حتى انتصف النهار، ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربنا، لم أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطا قيراطا، ونحن كنا أكثر عملا منهم؟ قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجوركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء» [15].
وهذا الحديث يثبت العلاقة في الجزاء بين المسلمين وأهل الكتاب، وقد أتت هذه النسبية من مخاطبة الله - عز وجل - لأهل الكتاب والمسلمين؛ للعمل لله - عز وجل - ثم تخلي أهل الكتاب عنه، واستجابة المسلمين له، وقد نشأ عن موقف أهل الكتاب بالتخلي من العمل لله الانحراف عن التوحيد وصولا إلى الشرك، وهو الموضوع الأساسي الفاصل في دخول الجنة والنار، فيصير التوحيد بسبب ذلك موضوعا للمقارنة المحققة لنسبية الجزاء بين المسلم الموحد، والكتابي المشرك؛ فيكون دخول المسلم الجنة بثباته على التوحيد؛ وذلك لعدة أسباب:
وهي أن المفاصلة العقيدية في دخول الجنة والنار هي نفسها المفاصلة العقيدية بين المسلمين وأهل الكتاب، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - في سؤال القبر؛ فيقال له: «هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله».
وقد زعم اليهود والنصارى تجسد الله ورؤيته في الدنيا، مثلما قالوا في العزير والمسيح: )وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30)( (التوبة)، فأصبح أهل الكتاب فتنة للمسلمين في دينهم وعقيدتهم، حتى أصبح ثبات المسلم على التوحيد له علاقة بشرك أهل الكتاب وفتنتهم للمسلم عن دينه، يقول تعالى: )ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير (109) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير (110) وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112)( (البقرة).
ومن الآيات السابقة نلاحظ الربط القرآني بين رغبة أهل الكتاب في ارتداد المسلمين عن دينهم، كما نلاحظ أمر الله - عز وجل - إلى المسلمين بالثبات على الدين بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وفعل الأعمال التي يدخلون بها الجنة، وزعم أهل الكتاب أنه لن يدخل الجنة أحد غيرهم، والقاعدة الحاكمة للجميع هي قول الله عز وجل: )بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112)( (البقرة). فأهل الكتاب بشركهم وتحريفهم وحربهم وفتنتهم للمسلمين وحسدهم على الدين. هو موقف الظالم حتى ينطبق عليهم مع المسلمين قاعدة الظالم والمظلوم الواجبة لأخذ الحسنات من الظالم، وإعطائها للمظلوم، وطرح سيئات المظلوم على الظالم، فيصير كل ظالم فكاكا لكل مظلوم، سواء على المستوى الفردي، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» [16].
أو المستوى الأممي كما بين المسلمين وأهل الكتاب؛ حيث أخذ أهل الكتاب والمسلمون حكم الظالم والمظلوم الوارد في الحديث.
ومن هنا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى»[17].
وفوق كل ما تقدم يكون من أسباب وضع الذنوب على أهل الكتاب دعوتهم إلى الضلال، وهي قاعدة عامة في الحساب والجزاء كما في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا»[18].
يقول النووي: "وهذا الحديث من قواعد الإسلام، وهو أن كل من ابتدع شيئا من الشر كان عليه مثل وزر كل من اقتدى به في ذلك العمل مثل عمله إلى يوم القيامة، وهو موافق للحديث الصحيح «من سن في الإسلام سنة حسنة...، ومن سن سن في الإسلام سنة سيئة»[19]، وللحديث الصحيح: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»[20]، وللحديث الصحيح: «وما من داع يدعو إلى هدى، ومن من داع يدعو إلى ضلالة» الحديث [21][22].
وبذلك يكون تفسير الفداء هو أن الذنوب التي فعلها المسلمون اتباعا لأهل الكتاب في ضلالهم يكون على المسلم فيها وزر الاتباع، وعلى الكتابي وزر الدعوة للضلال؛ لأن من دعا إلى ضلال فعليه وزره ووزر من عمل به، لا ينقص من أوزارهم شيء، فيغفر الله للمسلم وزر الاتباع إن شاء، ويبقي على الكتابي وزر الدعوة إلى الضلال"[23].
علمنا مما سبق أن يوم القيامة سيكون بيد كل مسلم يهودي أو نصراني؛ يكون فكاكا له من النار، ولا يلزم أن يكون عدد الكافرين مساويا لعدد المسلمين؛ فعدد الكافرين أكثر بكثير؛ كما جاء في الحديث الصحيح: «... من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار، وواحد في الجنة...» [24] الحديث.
فأمة الإسلام هي أكثر الأمم دخولا الجنة، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأصحابه: «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قال: فكبرنا، ثم قال: أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟، قال: فكبرنا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وسأخبركم عن ذلك، ما المسلمون في الكفار إلا كشعرة بيضاء في ثور أسود، أو كشعرة سوداء في ثور أبيض»[25].
"وهذا الحديث يدل على كثرة أمة الإسلام؛ فهي آخر الأمم، ومن سيبقى إلى يوم القيامة، وقد جاء في السنن، والمسند: أن صفوف أهل الجنة مائة وعشرون؛ ثمانون من هذه الأمة، فتكون هذه الأمة ثلثي أهل الجنة، وهو من فضل الله يؤتيه من يشاء"[26].
نخلص مما سبق إلى أن هناك تضادا واضحا معروفا بين الجنة والنار، وأن كل إنسان له مكان في الجنة ومكان في النار، والمؤمن والكافر سواء، فالمؤمن يقيه الله شر النار، ويستقر في مكانه في الجنة، أما الكافر؛ فبسبب كفره وسيئاته، وصده عن سبيل الله، وإشاعة الفتن والفواحش بين المسلمين، فقد سلبه الله منزله الذي كان أعد له في الجنة، وأورده منزله الذي أعده له في النار، فصار بذلك أمر المسلم والكتابي كأمر الظالم والمظلوم الموجب لأخذ الحسنات من الظالم، وإعطائها للمظلوم، وطرح سيئات المظلوم على الظالم، سواء على المستوى الفردي أو الأممي، فمن ذلك يتضح جليا أن الحديث صحيح، يتفق مع القرآن الكريم في قوله تعالى: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الأنعام:١٦٤)؛ ولذلك تسقط الشبهة وتتلاشى.
الخلاصة:
· إن الحديث النبوي الوارد في أن الكتابي فكاك للمسلم من النار حديث صحيح في غاية الصحة سندا ومتنا؛ فقد رواه الإمام مسلم في صحيحه بإسناد قوي، وأورد للحديث شواهد بنفس المعنى بطرق أخرى، وأورد ابن عساكر والطبراني بإسناد صحيح حديثا يقوي هذا الحديث ويدعم معناه.
· لقد تواترت أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيان أن لكل إنسان منزلين في الآخرة، أحدهما في الجنة والآخر في النار، فالمؤمن يدخله الله - سبحانه وتعالى - الجنة، فيظل منزله في النار خاليا، والكتابي يورده الله - سبحانه وتعالى - النار، فيظل منزله في الجنة خاليا.
· يورد الله - عز وجل - الكتابي النار؛ بسبب كفره وصده المسلمين عن سبيل الله، وبسبب اجتهاده في إشاعة الفتن والمعاصي بين المسلمين، وحسده على الدين؛ )وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (118)( (النحل).
· إن موقف أهل الكتاب - بشركهم وتحريفهم وحربهم وفتنتهم للمسلمين وحسدهم على الدين - هو موقف الظالم؛ حيث ينطبق عليهم مع المسلمين قاعدة الظالم والمظلوم الموجبة لأخذ الحسنات من الظالم وإعطائها المظلوم، وطرح سيئات المظلوم على الظالم، فيصير كل ظالم فكاكا للمظلوم، سواء على مستوى الفرد، أو الأمة جميعا.
(*) تحرير العقل من النقل، سامر إسلامبولي، مطبعة الأوائل، دمشق،2001م.