الطعن في حديث "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" (*)
مضمون الشبهة:
يطعن بعض المتوهمين في حديث: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه»؛ بحجة معارضته لقول الله عز وجل )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الزمر:٧)، واستحالة الجمع بين مدلول الحديث ومدلول الآية، وإنكار طائفة من العلماء - على رأسهم أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - له؛ فلقد ورد أنه حين بلغها الحديث ردته، وقالت: «حسبكم القرآن»، كما أن الحديث ينهى عن البكاء على الموتى، وهو أمر يخالف فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين دمعت عيناه، وكثر بكاؤه على ولده إبراهيم حين مات، حتى قال صلى الله عليه وسلم: «إن العين تدمع، والقلب يحزن...».
وهم يرمون من وراء ذلك إلى تشكيك المسلمين في السنة المطهرة بإيهامهم بوجود تعارض بين القرآن والسنة الصحيحة.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لا تعارض بين الحديث والآية؛ فالميت الذي يعذب ببكاء أهله عليه هو من أوصى بأن يناح عليه بعد موته، أو كانت هذه سنته، فيستحق العذاب بموجب ما أوصى به.
2) إنكار أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنه - للحديث، وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان، أو أنه سمع بعضا ولم يسمع بعضا - بعيد؛ لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح.
3) المراد بالبكاء هنا النوح؛ وهو البكاء بصياح وعويل، وهذا منهي عنه، أما دموع العين وحزن القلب فمباح، وعليه فلا وجه للقول بتعارض هذا الحديث مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
التفصيل:
أولا.لا تعارض بين الحديث والآية؛ لأن الحديث محمول على من أوصى بالنواح عليه:
لا يصح الاعتقاد بوجود تعارض بين نصوص القرآن الكريم والسنة الصحيحة؛ نظرا لوحدة المصدر، فكلاهما من عند الله، كما أنه لا يمكن أن يتعارض كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كتاب الله أبدا، وهو المبين عن الله وحيه.
إن التعارض الحقيقي بين القرآن والسنة غير موجود على أرض الواقع؛ إذ لو كان موجودا، وعجز العلماء عن الجمع بين الحديث والآية؛ لخرج الناس من دين الله أفواجا، وما فكر أحد في الدخول فيه.
وإذا كان العلماء قد جمعوا بين الحديث والآية، وأماطوا لثام الوهم عن وجه الحقيقة، فإذا هي واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فإن من الواجب على المشككين والطاعنين في سنة النبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم - الإذعان والتسليم بصدق الرسالة، ورد العلم إلى أهله بدلا من التخبط فيه دون هدى أو بصيرة، مما يؤدي إلى إثارة شكوك المسلمين تجاه سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - المعصوم، فلزمهم الرجوع لأهل العلم؛ لمقتضى قول الله عز وجل: )ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم( (النساء:٨٣).
وهذا الاشتباه يرجع تاريخه إلى واقعة خلافية في فهم الحديث بين الصحابة - رضي الله عنهم - تحديدا بين عمر بن الخطاب وابنه - رضي الله عنهما - من جهة، وبين أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - من جهة أخرى، فما حقيقة هذه الواقعة؟ وما هي أسباب الخلاف؟
يروي لنا الإمام البخاري في صحيحه هذه القصة في أكثر من حديث في كتاب الجنائز، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته" فيروي من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة قال: «توفيت ابنة لعثمان - رضي الله عنه - بمكة، وجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - وإني لجالس بينهما - أو قال: جلست إلى أحدهما، ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي فقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه".
فقال ابن عباس - رضي الله عنهما: قد كان عمر - رضي الله عنه - يقول بعض ذلك، ثم حدث قال: صدرت مع عمر - رضي الله عنه - من مكة، حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو بركب تحت ظل سمرة، فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب. قال: فنظرت فإذا صهيب، فأخبرته، فقال: ادعه لي. فرجعت إلى صهيب فقلت: ارتحل، فالحق بأمير المؤمنين. فلما أصيب عمر دخل صهيب يبكي، يقول: واأخاه، واصاحباه. فقال:عمر رضي الله عنه: يا صهيب أتبكي علي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما: فلما مات عمر - رضي الله عنه - ذكرت ذلك لعائشة - رضي الله عنها - فقالت: رحم الله عمر! والله ما حدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه، وقالت: حسبكم القرآن: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الزمر:٧) قـال ابن عبـاس - رضـي الله عنهمـا - عنـد ذلك: والله )هـو أضحــك وأبكـى (43)( (النجم)، قال ابن أبي مليكة: والله ما قال ابن عمر - رضي الله عنهما - شيئا»[1].
وروي عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «إنما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية يبكي عليها أهلها، فقال: إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها»[2].
وروي عن أبي بردة عن أبيه قال:«لما أصيب عمر - رضي الله عنه - جعل صهيب يقول: واأخاه. فقال عمر: أما علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الميت ليعذب ببكاء الحي؟»[3].
هذه الروايات هي ملخص القضية، ومفادها أن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بلغها حديث عمر بن الخطاب وابنه عبد الله - رضي الله عنهما: "إن الميت يعذب..." الحديث. فاستشكل الأمر عليها؛ لمعارضته لظاهر قوله تعالى: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الزمر: 7)، فتأولت الحديث وخصصته، ولم ترده؛ لإقرارها بصدق عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما.
والحق أن الإمام البخاري استطاع أن يحل ما أشكل على أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عندما بوب في صحيحه لهذا الحديث في كتاب الجنائز بعنوان "باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته"، ثم احتج لذلك فقال:
"لقول الله تعالى: )قوا أنفسكم وأهليكم نارا( (التحريم: 6)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع ومسئول عن رعيته". فإذا لم يكن من سنته، فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها: )ولا تزر وازرة وزر أخرى(، وهو كقوله: )وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء( (فاطر: ١٨)، وما يرخص من البكاء من غير نوح، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها"؛ وذلك لأنه أول من سن القتل" [4].
ويبين ابن حجر العسقلاني كلام الإمام البخاري بقوله: "من كانت طريقته النوح على الميت يكون قد نهج لأهله تلك الطريقة، فيؤاخذ على فعله الأول، وحاصل ما بحثه المصنف في هذه الترجمة أن الشخص لا يعذب بفعل غيره إلا إذا كان له فيه تسبب، فمن أثبت تعذيب شخص بفعل غيره فمراده هذا، ومن نفاه فمراده ما إذا لم يكن له فيه تسبب أصلا، وقد اعترض بعضهم على استدلال البخاري بهذا الحديث؛ لأن ظاهره أن الوزر يختص بالبادئ دون من أتى بعده، فعلى هذا يختص التعذيب بأول من سن النوح على الموتى، والجواب أنه ليس في الحديث ما ينفي الإثم عن غير البادئ، فيستدل على ذلك بدليل آخر، وإنما أراد المصنف بهذا الحديث الرد على من يقول: إن الإنسان لا يعذب إلا بذنب باشره بقوله، أو فعله، فأراد أن يبين أنه قد يعذب بفعل غيره إذا كان له فيه تسبب"[5].
ثم يقول ابن حجر: "وقد جمع كثير من أهل العلم بين حديثي عمر وعائشة بضروب من الجمع: أولها: طريقة البخاري كما تقدم توجيهها، ثانيها: وهو أخص من الذي قبله ما إذا أوصى أهله بذلك، وبه قال المزني وإبراهيم الحربي وآخرون من الشافعية وغيرهم، حتى قال أبو الليث السمرقندي: إنه قول عامة أهل العلم، وكذا نقله النووي عن الجمهور قالوا: وكان معروفا للقدماء حتى قال طرفة بن العبد:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله
وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
واعترض بأن التعذيب بسبب الوصية يستحق بمجرد صدور الوصية، والحديث دال على أنه إنما يقع عند وقوع الامتثال. والجواب أنه ليس في السياق حصر، فلا يلزم من وقوعه عند الامتثال أن لا يقع إذا لم يمتثلوا مثلا. ثالثها: يقع ذلك أيضا لمن أهمل نهي أهله عن ذلك، وهو قول داود وطائفة، ولا يخفى أن محله ما إذا لم يتحقق أنه ليست لهم بذلك عادة، ولا ظن أنهم يفعلون ذلك. قال ابن المرابط: إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النوح، وعرف أن أهله من شأنهم يفعلون ذلك، ولم يعلمهم بتحريمه، ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه لا بفعل غيره بمجرده"[6].
وفي تأكيد ما ذهب إليه البخاري وغيره يقول الإمام البغوي في شرح السنة: "وفسر المزني هذا الكلام، فقال: بلغني أنهم كانوا يوصون بالبكاء عليهم وبالنياحة، وهي معصية، ومن أمر بها فعملت بعده كانت له ذنبا، فيجوز أن يزاد بذنبه عذابا، كما قال الشافعي، لا بذنب غيره.
قال رحمه الله: ويمكن تصحيح رواية عمر على هذا التأويل، وقد ذكره بعض أهل العلم، وذلك أنهم كانوا يوصون أهليهم بالبكاء عليهم والنوح، وذلك موجود في أشعارهم، قال قائلهم:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله
وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
فالميت تلزمه العقوبة لبكاء أهله بما تقدم من أمره ووصيته في حياته، وكذلك إذا كان النوح من سنته، أو كان يفعله أهله، فلا ينهاهم عنه، فيعاقب بعد موته بها؛ إذ كان عليه كفهم عنه، قال الله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا( (التحريم:6)... قال ابن المبارك: أرجو إن كان ينهاهم في حياته أن لا يكون عليه من ذلك شيء"[7].
وإضافة لما سبق بيانه يقول الإمام ابن الوزير اليماني: "من تأول ذلك - يعني الحديث - بالوصية ونحوها؛ منهم البخاري في "الصحيح"، والخطابي، وحكاه عنه ابن الأثير في "شرح غريب حرف الميم"، والنواوي في "رياض الصالحين"، وفي "الروضة" ذكره في كتاب الجنائز منها، وقال في "شرح مسلم" في كتاب الجنائز منه: إنه قول الجمهور، وإنه الصحيح. قال: وقالوا: فأما من بكى عليه أهله من غير وصية منه فلا يعذب؛ لقوله: )ولا تزر وازرة وزر أخرى(" [8].
وليس هذا القول - قول الجمهور والإمام البخاري - هو القول الأوحد في الجمع بين الحديث والآية، لكنه القول الراجح عند معظم العلماء إلا الإمام ابن القيم الذي اختار رأي شيخه - شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية - الذي حمل الحديث على ما يتألم به الميت، ويتعذب به من بكاء الحي عليه.
قال ابن القيم: "إن المراد بالحديث: ما يتألم به الميت ويتعذب به من بكاء الحي عليه، وليس المراد: أن الله يعاقبه ببكاء الحي عليه، فإن التعذيب هو من جنس الألم الذي يناله بمن يجاوره مما يتأذى به ونحوه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «السفر قطعة من العذاب»[9]، وليس هذا عقابا على ذنب، وإنما هو تعذيب وتألم، فإذا وبخ الميت على ما يناح به عليه لحقه من ذلك تألم وتعذيب"[10].
وهذا القول ليس قول ابن تيمية - رحمه الله - وحده، إنما هو قول ابن حجر وغيره، وإليه ذهب القاضي عياض، قال ابن الوزير اليماني: "وقالت طائفة: إنه يعذب بسماعه لبكاء أهله؛ لأنه يرق لهم. وإلى هذا ذهب محمد بن جرير وغيره، وقال القاضي عياض: وهو أولى الأقوال"[11].
والحق أن الراجح هو ما قررناه مسبقا، وهو أولى الأقوال. أما قول شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن جرير الطبري وغيرهما، والذي انتصر له القاضي عياض، ورجحه ابن القيم فقول مرجوح لعدة أسباب، أهمها أن هذا الفهم ليس فهم عمر بن الخطاب ولا فهم عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - للحديث، وهما أشهر رواته، بل المنقول عنهما يفيد وقوع العذاب لا التوبيخ على الميت، وقولهما حجة يدفع أي قول معارض؛ لأن الراوي أدرى بمرويه.
السبب الثاني: أن معنى الألم النفسي أو العذاب الذاتي تأثرا بحالة الألم عند الآخر معنى ضعيف وغير معقول؛ لأن فعل «يعذب»في الحديث مبني لما لم يسم فاعله، وهذا يفيد وقوع العذاب على الميت (المعذب) من قبل غيره.
والسبب الأخير هو ما صح من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك وقوع العذاب على الميت من قبل الملائكة؛ بسبب بكاء الحي عليه، منها ما روي عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الميت يعذب ببكاء الحي إذا قالوا: واعضداه! واكاسياه! واناصراه! واجبلاه! ونحو هذا يتعتع ويقال: أنت كذلك؟! أنت كذلك؟!» [12].
ويتعتع، من تعتعت الدابة في الرمل: إذا ساخت فيه وارتطمت، وتعتع فلان في كلامه: تردد في عي[13].
وعليه فإن الميت يتعتع؛ أي: يسيخ في الرمل حتى يرتطم ويتردد في كلامه، والميت - في الحقيقة - لا يتتعتع من تلقاء نفسه، إنما يقع ذلك من قبل غيره؛ لأن الفعل مبني لما لم يسم فاعله، فأي تعذيب يقع على الميت حتى يتتعتع ومن يقوم بذلك؟
يجيب عن هذا السؤال ما رواه موسى ابن أبي موسى الأشعري أخبره عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: واجبلاه! واسيداه! أو نحو ذلك، إلا وكل به ملكان يلهزانه: أهكذا كنت؟!»[14].
فيلهزانه من اللهز: وهو الضرب بجمع الكف، يقال: لهز فلان فلانا أي: ضربه بجمع كفه في رقبته ولهازمه[15].
إن هذه الرواية توضح وتجيب عما سألناه مسبقا، وبالجمع بينها وبين الراوية السابقة تتضح معالم وأبعاد الصورة؛ لنرى أن الميت يعذب ببكاء الحي ونواحه عليه؛ حيث يعذبه ملكان من الملائكة يضربانه بجمع كفيهما في رقبته ولهازمه، فيسيخ في الرمل كما تسيخ الدابة حتى يرتطم، ويقولان له: أهكذا كنت؟.
هذه هي الصورة التي يرسمها الحديث بوضوح، وكلا الحديثين حسن صحيح، يقويهما ما روي في صحيح البخاري من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: «أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته عمرة تبكي: واجبلاه، واكذا واكذا، تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا قيل لي: آنت كذلك؟»[16].
وعن النعمان بن بشير - أيضا - قال: «أغمي على عبد الله بن رواحة... بهذا. فلما مات لم تبك عليه» [17].
ونخرج من هذا إلى أن الميت يقع عليه عذاب من قبل الملائكة؛ لبكاء أهله ونواحهم عليه كما قال الجمهور، وكما قال البخاري، وكما فهم الصحابة ورواة الحديث، وعلى رأسهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله - رضي الله عنهما.
وبما سبق تتضح صحة ما رجحناه، يستوي في ذلك قول البخاري أو قول الجمهور، فكلاهما قريب من الآخر، إلا أن الإمام ابن القيم يرد كلا القولين ويضعفهما بحجة:
· أن لفظ الحديث عام، والجمهور والبخاري خصصا الحديث.
· أن عمر والصحابة - رضي الله عنهم - فهموا منه حصول ذلك، وإن لم يوص به، فكيف يتم تقييده بالوصية[18]؟
وقول الإمام ابن القيم فيه نظر، وهو مردود؛ لأن العرب كانوا يوصون ويتواصون بذلك، يعني ذلك أن النواح على الميت كان عادة وتبعة عند العرب، ويشهد لذلك قول طرفة بن العبد:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله
وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
"قال الخطابي: يشبه أن يكون هذا من حيث أن العرب كانوا يوصون أهاليهم بالبكاء والنوح عليهم، وإشاعة النعي في الأحياء، وكان ذلك مشهورا في مذاهبهم، وموجودا في أشعارهم كثيرا. قال: تلزمه العقوبة في ذلك بما تقدم من أمره إليهم وقت حياته"[19].
وعليه قال الجمهور: "فخرج الحديث مطلقا حملا على ما كان معتادا لهم"[20].
ويقول الإمام ابن حجر العسقلاني:
"الحديث وإن كان دالا على تعذيب كل ميت بكل بكاء، لكن دلت أدلة أخرى على تخصيص ذلك ببعض البكاء... وتقييد ذلك بمن كانت تلك سنته، أو أهمل النهي عن ذلك، فالمعنى على هذا أن الذي يعذب ببعض بكاء أهله من كان راضيا بذلك بأن تكون تلك طريقته... إلخ، ولذلك قال المصنف: (فإذا لم يكن من سنته)؛ أي كمن كان لا شعور عنده بأنهم يفعلون شيئا من ذلك، أو أدى ما عليه بأن نهاهم - فهذا لا مؤاخذة عليه بفعل غيره، ومن ثم قال ابن المبارك: إذا كان ينهاهم في حياته ففعلوا شيئا من ذلك بعد وفاته لم يكن عليه شيء"[21].
وعليه "فمن كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته، أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه، ومن كان ظالما فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضيا بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ، كيف أهمل النهي؟"[22].
وبذلك نكون قد جمعنا بين الحديث والآية دون أن تشوب هذا الجمع شائبة، أو تثار حوله شبهة أخرى، فما من شك لدينا الآن - وقد قدمنا البراهين والأدلة - أن النياحة على الميت كانت عادة جاهلية عربية، سادت أقطار الجزيرة العربية، وظلت قائمة حتى بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وستستمر حتى قيام الساعة، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب،والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة»[23].
من أجل ذلك جاء حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - على العموم؛ لأنها عادة للعرب مشهورة يتواصون بها، ولما تغيرت الحال حين تقلصت هذه العادة إلى حد بعيد؛ بسبب انتشار آداب الإسلام وأخلاقه، وأصبح حكم الحديث مختصا بفئة قليلة كان لابد من تخصيص للحديث، وإنا لنشهد بالبراعة للإمام البخاري حين بوب الحديث في جامعه الصحيح في كتاب الجنائز بقوله: باب: قوله صلى الله عليه وسلم: «يعذب الميت ببعض بكاء أهله إذا كان ذلك من سنته»، ثم قوله بعد التبويب: فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها: )ولا تزر وازرة وزر أخرى(. وبذلك نكون قد جمعنا بين الحديث والآية وفق ما قاله وأقره جمهور علماء الأمة، ونكون قد أجبنا علي من يثير هذه الشبهة وغيرها من الطاعنين في سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
ثانيا. إنكار أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - للحديث، وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو أنه سمع بعضا ولم يسمع بعضا - رأي بعيد:
إن إنكار أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - للحديث كان نتيجة لعدم استطاعتها الجمع بين الحديث والآية، وهو ما أدى إلى استشكال الأمر عليها؛ لذا نسبت ابن عمر - رضي الله عنهما - إلى التخطئة والنسيان؛ لجواز ذلك عليه.
ولقد ردت أم المؤمنين الحديث؛ لظنها مخالفته لقوله عز وجل: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الزمر:٧) "وإن كان هذا التعارض الذي ذكرته عائشة لا يقوى على رد الحديث"[24]، إلا أن أم المؤمنين ردت الحديث، وتأولته على الكافرين لا على المؤمنين.
بداية نريد أن نجيب عن رأي أم المؤمنين ومن تابع قولها بما قاله الحافظ ابن قيم الجوزية: "إن المعارضة التي ظنتها أم المؤمنين - رضي الله عنها - بين روايتهم وبين قوله عز وجل: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( غير لازمة أصلا، ولو كانت لازمة لزم في روايتها أيضا: أن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا، فإن الله سبحانه لا يعذب أحدا بذنب غيره الذي لا تسبب له فيه. فما تجيب به أم المؤمنين من قصة الكافر يجيب به أبناؤها عن الحديث الذي استدركته عليهم"[25].
لقد أصابت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في أكثر من موضع في التعليق على بعض الأحاديث؛ لأنها كانت معها زيادة علم، أما في هذه القصة فيقرر كبار أهل العلم أنها تأولت الحديث؛ لذا لن يجد من يوافقها الرأي؛ نظرا الإمام ابن القيم - رحمه الله - الذي عرضناه آنفا.
يقول عمار بن ياسر رضي الله عنه - وكان من أنصار علي رضي الله عنه - فيما رواه الإمام البخاري من طريق أبي مريم عبد الله بن زياد الأسدي، قال: «لما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، بعث علي عمار بن ياسر وحسن بن علي، فقدما علينا الكوفة، فصعدا المنبر، فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه، وقام عمار أسفل من الحسن، فاجتمعنا إليه، فسمعت عمارا يقول: إن عائشة قد سارت إلى البصرة، والله إنها لزوجة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم؛ ليعلم إياه تطيعون أم هي»[26].
لذا يجب أن نوافق أم المؤمنين - رضي الله عنها - متى كانت على الحق، كما يسوغ لنا أن نخالفها إذا اجتهدت فأخطأت، فلها أجر الاجتهاد، ولا يجب علينا متابعتها فيما أخطأت فيه؛ وذلك لأنها بشر تصيب وتخطئ، ولأننا مأمورون باتباع الحق حيثما ذهب، والحق لا يعرف بنسبته إلى أحد، فالحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق، وإن ما استشكل من الحديث على أم المؤمنين رضي الله عنها، والذي قالت على إثره ما قالت، فقد أثبتنا في الوجه السابق صحته، وقمنا بالجمع بينه وبين الآية، لكن ما يتبقى أمامنا هو قول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وهل هو مسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو هو اجتهاد منها؟.
ربما "كان ذلك من السيدة عائشة - رضي الله عنها -... محاولة للتوفيق بين الكتاب والسنة، وتكون هي لا تقصد الجزم بقولها: «إنما قال رسول الله كذا» بل تعني أن خبر ابن عمر لا يقبل لمعارضته صريح القرآن، وأن ابن عمر لعله فهم خطأ، فروى بالمعنى، ولعل رسول الله قال كذا، فتورد عائشة عدة احتمالات للصيغة الصحيحة لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاجتهاد"[27].
ففي رواية قالت: «إنما مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على قبر، فقال: إن صاحب القبر يعذب وإن أهله يبكون عليه، ثم قرأت: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الزمر:٧)» [28].
وفي رواية خصتها بالكافر، قالت: «أما والله ما تحدثون هذا الحديث عن كاذبين مكذبين ولكن السمع يخطئ، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه»[29].
"لاحظ أن عائشة في هذه الرواية وافقت ابن عمر على التعليل، ولكنها خصت ذلك بالكافر، بينما في الرواية السابقة قالت: «إنه يعذب بخطيئته وذنبه».
وفي رواية تخص ذلك أكثر بامرأة يهودية، قالت: «يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيهودية يبكي عليها أهلها، فقال: "إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها»[30].
كل ذلك يجعل الأمر محتملا بين اختلاف الرواة واختلاف عائشة في إيرادها عدة احتمالات لتوجيه الحديث"[31].
وبناء على ما سبق يمكننا القول بأن ما ورد عن أم المؤمنين في المسألة كان اجتهادا منها، يقوي ذلك تعدد التأويلات التي حملت عليها الحديث، والتي لا يمكن جمعها هي والآية معا، فعلى أي وجه بني استنكار أم المؤمنين للفظ الحديث كما رواه ابن عمر؟!
ومما يقوي ما أثبتناه قول الإمام الشافعي: "ولا حجة بتوهين الحديث إذا ذهبوا إلى أنه يخالف ظاهر القرآن وعمومه إذا احتمل القرآن أن يكون خاصا"[32].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأحاديث الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وأبي موسى الأشعري وغيرهم لا ترد بمثل هذا. وعائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - لها مثل هذا نظائر ترد الحديث بنوع من التأويل لاعتقادها بطلان معناه، ولا يكون الأمر كذلك، ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح يرويه الثقة، لا يرده أحد بمثل هذا إلا إذا كان مخطئا"[33].
"نستطيع أن نؤيد عائشة - رضي الله عنها - في قولها: إن ابن عمر أخطأ أو نسي في روايته لهذا الحديث لو أنه انفرد بروايته، ولكنه لم ينفرد"[34].
"الحق أن ابن عمر - رضي الله عنهما - لم يخطئ ولم ينس، بل حفظ شيئا لم تحفظه عائشة، ولم ينفرد بهذا الحديث، بل رواه جماعة من الصحابة غيره فيهم عمر بن الخطاب... ورواه عن عمر، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وأنس بألفاظ متقاربة"[35].
وروي أيضا عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - كما روى عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - في الصحيحين بلفظ قريب.
لذلك قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - عن هذا الحديث: "هذا أحد الأحاديث التي ردتها عائشة واستدركتها ووهمت فيه ابن عمر، والصواب مع ابن عمر، فإنه حفظه ولم يتهم فيه، وقد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبوه عمر بن الخطاب، وهو في الصحيحين، وقد وافقه من حضره من جماعة الصحابة"[36].
يقول الإمام القرطبي: "نزعت عائشة - رضي الله عنها - بهذه الآية: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الزمر:٧) في الردعلى ابن عمر حيث قال:«إن الميت ليعذب ببكاء أهله».
وقال علماؤنا: وإنما حملها على ذلك أنها لم تسمعه، وأنه معارض للآية، ولا وجه لإنكارها، فإن الرواة لهذا المعنى كثير، كعمر وابنه عبد الله، والمغيرة بن شعبة، وقيلة بنت مخرمة، وهم جازمون بالرواية، فلا وجه لتخطئتهم، ولا معارضة بين الآية والحديث؛ فإن الحديث محمول على ما إذا كان النوح من وصية الميت وسنته"[37].
ومما سبق يتبين لنا أن الأسباب التي ردت من أجلها أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - الحديث غير معتبرة وغير صحيحة؛ منها أن السبب الذي بنت عليه بطلان رواية ابن عمر وأبيه عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - يلزم بطلان روايتها أيضا، ومنها أن الخطأ والنسيان الذي تصورته في رواة الحديث الذي أنكرته لم يقع؛ لأن عمر وابنه لم ينفردا برواية الحديث، بل رواه جماعة من الصحابة جازمين به، فكيف ننسبهم جميعا إلى النسيان والخطأ. أضف إلى ذلك أن أحاديث الثقات لا ترد لمجرد تأويل متأول كائنا من كان[38].
نخلص من ذلك إلى أن أم المؤمنين استشكلت الحديث ولم تستطع الجمع بينه وبين الآية، فاجتهدت فأخطأت، ونحن نحمل قسمها على غلبة الظن، ولذلك نظائر عند الصحابة[39].
كما نؤكد أن عددا من الصحابة غير قليل روى هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم جازمون على معناه، فلا وجه للاعتراض.
ثالثا. المقصود من البكاء في الحديث، هو النواح وهو منهي عنه:
يستشهد بعض ضعفاء العقل بهذا الحديث على حرمة البكاء عامة بهدف إسقاط الحديث، متجاهلين أن القرآن أنزل بلسان عربي وفق قوانينهم ورؤاهم البلاغية، والعرب تعبر عن عموم الشيء وتريد جزأه على طريقة المجاز المرسل؛ لذا تجد أن الله سبحانه يقول عن قوم نوح: )وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا (7)( (نوح).
والله يخاطب العربي بكتابه الخاتم، ويقرر عربية القرآن في غير ما موضع؛ منها قوله عز وجل: )إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2)( (يوسف).
إن من غير المعقول أن يضع الرجل أصابعه كلها في أذنه، لكن الله سبحانه عبر بالكل وأراد الجزء، عبر بالأصابع وأراد الإصبع، كما أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - البكاء، وأراد النواح، ودلت على ذلك قرائن عدة من طرق الأحاديث وألفاظها كما ذكرنا؛ ولأن كلام الله سبحانه وتعالى وكلام نبيه - صلى الله عليه وسلم - يجري وفق طرائق البلاغة العربية، لم نجد من الأوائل من يقول: إن البكاء هنا ليس النواح، ولكن هذا ظهر بعد فساد السليقة العربية، وانتشار الجهل والعجمة.
من أجل ذلك وضع بعض أئمة الحديث الكبار هذا الحديث «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه»تحت باب النواح، فالإمام النووي في رياض الصالحين بوب له بقوله: "باب جواز البكاء على الميت بغير ندب ولا نياحة"[40].
ويبوب له الإمام أبو داود في سننه بقوله: "باب في النوح"[41].
ومما يؤكد ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«من نيح عليه يعذب بما نيح عليه»[42].
ومما يؤكد حمل البكاء في الحديث على هذا المعنى (النواح) ما رواه أيضا الإمام البخاري والإمام مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «... إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه أو يرحم»[43].
لذا نهى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أم المؤمنين حفصة بنت عمر حين عولت عليه، فقال: «يا حفصة، أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: المعول عليه يعذب»[44].
وبعد هذا لم يبق إلا أن ننقل لك رأي جمهور علماء الإسلام الذي نقله الإمام النووي في المسألة: "وأجمعوا كلهم - على اختلاف مذاهبهم - على أن المراد بالبكاء هنا - أي في الحديث - البكاء بصوت ونياحة، لا مجرد دمع العين"[45].
ويؤكد الإمام ابن قدامة ما ذهبنا إليه بقوله: "لا بد من حمل البكاء في هذه الأحاديث على البكاء غير المشروع، وهو الذي معه ندب ونياحة"[46].
أما البكاء على الميت قبل الدفن وبعده، بلا رفع صوت، أو قول قبيح، أو ندب، أو نواح فهو جائز باتفاق علماء الأمة[47].
قال الخرقي: والبكاء غير مكروه إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة، يدل على ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أنس - رضي الله عنه - قال: «شهدنا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان...»[48].
وروى البخاري أيضا من طريق أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: «أرسلت ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه: إن ابنا لي قبض، فأتنا، فأرسل يقرئ السلام، ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، ورجال، فرفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبي ونفسه تتقعقع[49]، قال: حسبته أنه قال: كأنها شن[50]، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»[51].
وروى البخاري - أيضا - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي أبي سيف القين - وكان ظئرا[52] لإبراهيم عليه السلام - فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك - وإبراهيم يجود بنفسه - فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف إنها رحمة. ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون» [53].
واشتكى سعد بن عبادة شكوى له؛ فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله، فقال: «قد قضى. قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بكوا، فقال: ألا تسمعون، إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم»[54].
فنأخذ من هذه الأحاديث دلالة صريحة على جواز البكاء على الميت دون صوت أو نواح.
وبعد كل هذا أعتقد أننا لسنا في حاجة لأدلة جديدة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - عبر بالبكاء وأراد منه النواح؛ لذا روى البخاري الحديث بلفظ: «ببعض بكاء أهله»، وبه بوب الباب في كتابه "الجامع الصحيح" فعبرالنبي - صلى الله عليه وسلم - بالبكاء إذن وأراد النواح؛ لأنه يخاطب العرب وفق بلاغتهم التي لم تشبها عجمة، ففهموا منه ما أراد، وما وجدنا أحدا - لا من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من العلماء - اعترض على هذا الفهم وفق ما تقتضيه البلاغة من حمل الكل على الجزء، زد على ذلك أنه لم يقل أحد منذ عصر الصحابة إلى اليوم: إن البكاء على الميت محرم بموجب هذا الحديث، وإنه ليحق لنا أن نتسائل في النهاية ونقول: هل يوجد مانع لغوي من حمل البكاء في الحديث على النواح وهو جزء منه؟!
الخلاصة:
· إن حديث تعذيب الميت ببكاء أهله عليه محمول على من أوصى بالنواح عليه، أو كان ذلك من سنته، أو من سنة أهله، وعلم به، ولم ينههم عنه؛ لذا فلا تعارض بينه وبين الآية.
· الحديث يدل على وقوع العذاب من قبل الملائكة على الميت؛ لبكاء أهله عليه إذا كان ذلك من سنته أو وصيته.
· لقد خرج الحديث مطلقا حملا على ما كان معتادا عند العرب، وخصص بمن أوصى؛ لاختلاف العصر ومغايرة الواقع، ولما كان معتادا عند العرب، وفي بداية الإسلام.
· إن المعارضة التي ظنتها عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - بين رواية الصحابة والآية غير لازمة أصلا، ولو كانت لازمة للزم في روايتها أيضا أن الكافر يزيده الله عذابا ببكاء أهله.
· ما ورد عن أم المؤمنين - رضي الله عنها - في الرد على الحديث كان اجتهادا منها، وما ورد عنها من قسم محمول على غلبة الظن عندها.
· لم ينفرد برواية الحديث عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما، ولكن رواه مجموعة من الصحابة، وهم جازمون على معناه.
· إن القول بحرمة البكاء لم يقل به أحد من رواة الحديث، ولا من علمائه، ولا من شراحه، بل حمل أهل العلم البكاء في الحديث على النواح.
· للحديث روايات أخرى بلفظ "النواح" - كما في رواية المغيرة بن شعبة رضي الله عنه - تثبت أن المقصود بالبكاء في الحديث النواح، لا البكاء عموما.
· لم يحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - البكاء، وإنما حرم النواح، أما تحريم البكاء فلم يرد عنه - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل به أحد.
(*)مشكلات الأحاديث النبوية، عبد الله القصيمي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط2، 2006م. تحرير العقل من النقل، سامر إسلامبولي، مطبعة الأوائل، دمشق،2001م. دور السنة في إعادة بناء الأمة، جواد موسى محمد عفانة، جمعية عمال المطابع التعاونية، الأردن، ط1، 1419هـ/ 1999م. تحرير علوم الحديث، عبد الله بن يوسف الجديع، مؤسسة الريان، بيروت، ط3، 1428هـ/ 2007م. مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين، نافذ حسين حماد، دار النوادر، دمشق، ط1، 1428هـ/ 2007م.
[1] ـ صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته"، (3/ 180، 181)، رقم (1286، 1287، 1288). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، (4/ 1527)، رقم (2116، 2117).
[2] ـ صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه..."، (3/ 181)، رقم (1289).
[3] ـ صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه..."، (3/ 181)، رقم (1290).
[4] ـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (3/ 180).
[5] ـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (3/ 183).
[6] ـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، ص184.
[7] ـ شرح السنة، البغوي، تحقيق: زهير الشاويش وشعيب الأرنؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1403 هـ/ 1983م، (5/ 442، 443).
[8] ـ العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1429هـ/ 2008م، (3/ 187، 188).
[9] . صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العمرة، باب: السفر قطعة من العذاب، (3/ 728)، رقم (1804). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإمارة، باب: السفر قطعة من العذاب واستحباب تعجيل المسافر إلى أهله...، (7/ 2995)، رقم (4878).
[10] ـ عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (8/ 280).
[11] ـ العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1429هـ/ 2008م، (3/ 188).
[12] ـ حسن: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في أن الميت يعذب بما نيح عليه، (1/ 508)، رقم (1594). وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (1594).
[13] ـ المعجم الوسيط، مادة: "تعتع".
[14] ـ حسن: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الجنائز، باب: كراهيته البكاء على الميت، (4/ 72)، رقم (1008). وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1003).
[15] ـ المعجم الوسيط، مادة: لهز.
[16] ـ صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤتة من أرض الشام، (7/ 589)، رقم (4267).
[17] ـ صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤتة من أرض الشام، (7/ 589)، رقم (4268).
[18] ـ انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (8/ 279).
[19] ـ العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1429هـ/ 2008م، (3/ 188).
[20] ـ شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1533).
[21] ـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (3/ 182).
[22] ـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (3/ 185).
[23] ـ صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجنائز، باب: التشديد في النياحة، (4/ 1529)، رقم (2125).
[24] ـ أصول منهج النقد عند أهل الحديث، عصام أحمد البشير، مؤسسة الريان، بيروت، ط2، 1412هـ/ 1992م، ص53.
[25] ـ عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (8/ 279).
[26] ـ صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الفتن، باب: الفتنة التي تموج موج البحر، (13/ 58)، رقم (7100).
[27] ـ منهج الصحابة في الترجيح، محمود عبد العزيز محمد، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص143.
[28]. صحيح: أخرجه النسائي في سننه، كتاب: الجنائز، باب: النياحة على الميت، (1/ 307)، رقم (1866). وصححــه الألبانـي في صحيـح وضعيـف سنـن النسائـي برقم (1855).
[29] ـ صحيـح: أخرجـه النسائـي في سننـه، كتـاب: الجنائـز، بـاب: النياحـة على الميت، (1/ 307)، رقم (1868). وصححه الألباني في صحيح وضعيـف سنـن النسائـي برقم (1858).
[30]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، (4/ 1529)، رقم (2122).
[31] ـ منهج الصحابة في الترجيح، محمود عبد العزيز محمد، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص144.
[32] ـ اختلاف الحديث، الشافعي، دار الفكر، بيروت، ط1، ص37.
[33] ـ مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (24/ 371).
[34] ـ التعارض في الحديث، د. لطفي الزغير، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1428هـ/ 2008م، ص52.
[35] ـ جامع الأصول، ابن الأثير، (11/91: 99)، نقلا عن: جناية الشيخ محمد الغزالي على الحديث وأهله، أشرف عبد المقصود بن عبد الرحيم، مكتبة الإمام البخاري، مصر، ط1، 1410هـ/ 1989م، ص128.
[36] ـ عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (8/ 277).
[37] ـ الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (10/ 231).
[38] ـ انظر: جناية الشيخ محمد الغزالي على الحديث وأهله، أشرف عبد المقصود بن عبد الرحيم، مكتبة الإمام البخاري، مصر، ط1، 1410هـ/ 1989م، ص135.
[39] ـ انظر: منهج الصحابة في الترجيح، محمود عبد العزيز محمد، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص140 وما بعدها.
[40] ـ رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، النووي، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص246.
[41] ـ عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (8/ 277).
[42] ـ صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت، (3/ 191)، رقم (1291). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، (4/ 1525)، رقم (2108).
[43] ـ صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: البكاء عند المريض، (3/ 209)، رقم (1304). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجنائز، باب: البكاء على الميت، (4/ 1524)، رقم (2102).
[44] ـ صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، (4/ 1526)، رقم (2112).
[45] ـ شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1534).
[46] ـ المغني، ابن قدامة، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي ود. عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر، القاهرة، ط2، 1413 هـ/ 1992م، (3/ 495).
[47] ـ المغني، ابن قدامة، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي ود. عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر، القاهرة، ط2، 1413 هـ/ 1992م، (3/ 487).
[48] ـ صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: من يدخل قبر المرأة، (3/ 248)، رقم (1342).
[49] . قعقع الشيء: أحدث صوتا عند التحريك، وتقعقع: تحرك واضطرب.
[50] . الشن: القربة الخلقة اليابسة.
[51] ـ صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه..."، (3/ 180)، رقم (1284).
[52] . الظئر: المرضع، وأطلق هنا على أبي يوسف؛ لأنه كان زوج المرضعة.
[53] ـ صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنا بك لمحزونون"، (3/ 206)، رقم (1303).
[54] ـ صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: البكاء عند المريض، (3/ 206)، رقم (1304).