دعوى بطلان حديث نسيان النبي صلى الله عليه وسلم - بعض آيات من القرآن(*)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض الطاعنين حديثا أخرجه الشيخان في صحيحيهما، مفاده أن الرسولـ صلى الله عليه وسلم - سمع صحابيا يقرأ آية - ليلا - فقال صلى الله عليه وسلم: «يرحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتها من سورة كذا وكذا»... «أو آية أنسيتها»! ويتساءلون: أليس هذا الحديث ينافي عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخطأ في عملية تأدية الوحي إلى الناس، والذي يقتضي منه حفظه دون نسيان؟! ثم إن هذا الحديث يتناقض مع القرآن الكريم نفسه الذي ينفي النسيان عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: )سنقرئك فلا تنسى (6)( (الأعلى)، وفيه تكفل من الله - سبحانه وتعالى - بحفظ القرآن، قال تعالى: )لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17)( (القيامة) لكن هذا الحديث يشكك في حفظ القرآن وجمعه. وهذا كفيل برد الحديث. رامين من وراء ذلك إلى الطعن في السنة النبوية واتهامها بمخالفة القرآن.
وجها إبطال الشبهة:
1) حديث نسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض آيات القرآن، ثم تذكير الصحابي له إياها، حديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو في أعلى درجات الصحة؛ لرواية البخاري ومسلم له في صحيحيهما، ونسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقدح في عصمته؛ فقد اتفق علماء الأمة على أنه يجوز وقوع النسيان من النبيـ صلى الله عليه وسلم - فيما ليس هو مأمور فيه بالبلاغ مطلقا، أما ما هو مأمور فيه بالبلاغ، فيجوز وقوع النسيان منه في ذلك بشرطين؛ أولهما: أن يقع منه النسيان بعدما يقع منه التبليغ، وثانيهما: أن لا يستمر على نسيانه؛ بل يحصل له تذكرة، إما بنفسه وإما بغيره.
2) إن إسقاط النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض آي القرآن الكريم لا يتعارض مع القرآن الكريم، ولا يقدح في أصل جمع القرآن وحفظه؛ لأن إسقاطه لم يكن عمدا؛ وإنما كان إسقاطه نسيانا؛ لدلالة لفظة «أنسيتها» في الروايات، علاوة على أن وقوع النسيان منه كان بعد تبليغه إياها، فقد كانت مكتوبة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومحفوظة في صدور أصحابه الذين تلقوها عنه، ومنهم هذا الصحابي الذي ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها، ولذلك فقد تحقق في الحديث الشرطان اللذان وضعهما علماء الأمة.
التفصيل:
أولا. حديث نسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض آيات القرآن صحيح سندا ومتنا باتفاق جميع علماء الحديث، وهو لا ينافي عصمته - صلى الله عليه وسلم -:
لقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقرأ في سورة بالليل، فقال: يرحمه الله، لقد أذكرني آية كذا وكذا، كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا»[1].
وقد ذكر هذا الحديث أبو داود في سننه، وأحمد في مسنده بأسانيد صحيحة وقوية، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة قالت: «سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقرأ آية، فقال: رحمه الله، لقد أذكرني آية كنت نسيتها»[2].
وجاء في سنن أبي داود بسند صحيح عن عائشة قالت:«إن رجلا قام من الليل يقرأ، فرفع صوته بالقرآن، فلما أصبح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله فلانا، كائن من آية أذكرنيها الليلة، كنت قد أسقطتها»[3].
فالحديث صحيح في أعلى درجات الصحة باتفاق جميع علماء الأمة، ويكفي لصحة الحديث سندا، أنه ورد في أصح كتابين من كتب السنة، وهما صحيح البخاري وصحيح مسلم المجمع على صحتهما، فضلا عن تواتر الأحاديث بنفس هذا المعنى في أغلب كتب الحديث بأسانيد صحيحة وقوية - كما ذكرنا.
· نسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الإطلاق والتقييد:
لا بد في صدد هذا الموضوع أن نبين؛ هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينسى؟ ولو كان النبيـ صلى الله عليه وسلم - ينسى؛ فما حقيقة نسيانه؟
إن وقوع النسيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - جائز، لقوله صلى الله عليه وسلم: «... إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون؛ فإذا نسيت فذكروني...»[4].
قال ابن حجر في الفتح: "وفي الحديث حجة لمن أجاز النسيان على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ليس طريقه البلاغ مطلقا، وكذا فيما طريقه البلاغ؛ لكن بشرطين: أحدهما أنه بعد ما يقع منه تبليغه، والآخر أنه لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكرة، إما بنفسه وإما بغيره"[5].
ووقوع النسيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - على قسمين:
الأول: وقوع النسيان منه - صلى الله عليه وسلم - فيما ليس هو مأمور فيه بالبلاغ، مثل الأمور العادية والحياتية، فهذا جائز مطلقا؛ لما جبل عليه من الطبيعة البشرية.
يدل على ذلك حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في سهو النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «... إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به؛ ولكن إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين»[6].
والثاني: وقوع النسيان منه - صلى الله عليه وسلم - فيما هو مأمور فيه بالبلاغ (كالقرآن)، وهذا جائز بشرطين:
· أن يقع منه النسيان بعدما يقع منه تبليغه، وأما قبل تبليغه فلا يجوز عليه فيه النسيان أصلا.
· أن لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكرة، إما بنفسه وإما بغيره.
قال القاضي عياض: "جمهور المحققين جوزوا النسيان عليه - صلى الله عليه وسلم - ابتداء فيما ليس طريقه البلاغ، واختلفوا فيما طريقه البلاغ والتعليم، ولكن من جوز قال: لا يقر عليه، بل لا بد أن يتذكره، أو يذكره"[7].
وذكر ابن حجر في الفتح: "قال الإسماعيلي: النسيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - لشيء من القرآن يكون على قسمين:
أحدهما: نسيانه الذي يتذكره عن قرب، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود في السهو: «إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون...».
والثاني: أن يرفعه الله عن قلبه، على إرادة نسخ تلاوته، وهو المشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى: )سنقرئك فلا تنسى (6) إلا ما شاء الله( (الأعلى).
قال: فأما القسم الأول فعارض سريع الزوال؛ لظاهر قوله تعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، وأما الثاني فداخل في قوله تعالى: )ما ننسخ من آية أو ننسها( (البقرة: ١٠٦) [8].
والنسيان في هذه الحالة لا ينافي عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الوحي، فالسهو والنسيان من الأنبياء في الأفعال البلاغية، والأحكام الشرعية جائز في حقهم، وهو ظاهر القرآن الكريم والسنة النبوية، وهو مذهب جمهور العلماء من الفقهاء والمتكلمين.
وفرقوا بين ذلك وبين السهو في الأقوال البلاغية، فأجمعوا على منعه، كما أجمعوا على امتناع تعمده؛ لقيام المعجزة على الصدق في القول، ومخالفة ذلك تناقضها.
أما السهو في الأفعال البلاغية فغير مناقض لها، ولا قادح في النبوة، بل غلطات الفعل، وغفلات القلب من سمات البشر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني».
وأما ما ليس طريقه البلاغ، ولا بيان الأحكام من أفعاله صلى الله عليه وسلم، وما يختص به من أمور دينه، وأذكار قلبه مما لم يفعله ليتبع فيه، فالأكثر من طبقات علماء الأمة على جواز السهو والغلط عليه فيها، ولحوق الفترات والغفلات بقلبه؛ وذلك مما كلفه من مقاساة الخلق، وسياسات الأمة، ومعاناة الأهل، وملاحظة الأعداء، ولكن ليس على سبيل التكرار، ولا الاتصال، بل على سبيل الندور، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان[9] على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة»[10].
وبهذا يتبين أن حديث نسيان النبي لبعض آيات القرآن، ثم تذكره لها بقراءة الصحابي - حديث صحيح، والنسيان الموجود في الحديث يتعلق بما بلغ لا بما لم يبلغ، وهذا لا يطعن في عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه الوحي؛ لأنه لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نسي شيئا ولم يبلغه، أو كتمه.
ثانيا. نسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض آيات القرآن لا يتعارض مع القرآن، ولا يقدح في أصل جمع القرآن وحفظه:
الذي يتأمل القرآن الكريم في قوله تعالى: )سنقرئك فلا تنسى (6)(، يعلم أنه لا تعارض بين الحديث وما جاء في هذه الآية، وذلك بمعرفة تفسير هذه الآية الكريمة، وكذلك قوله تعالى: )لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18)( (القيامة).
أما قوله تعالى: )سنقرئك فلا تنسى (6)( يعني: ما نقرأه، والجملة مستأنفة لبيان هدايته - صلى الله عليه وسلم - الخاصة به بعد بيان هدايته العامة لكافة الخلق، وهو هدايته - صلى الله عليه وسلم - لحفظ القرآن وتلقي الوحي، وهدايته للناس أجمعين.
قيل: هو نفي، وقيل: نهي، والألف إشباع، ومنع أن يكون نهيا؛ لأنه لا ينهى عما ليس باختياره، وهذا غير لازم؛ إذ المعنى أن النهي عن تعاطي أسباب النسيان، وهو شائع، فسقط ما قاله.
قال مجاهد والكلبي: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه جبريل - عليه السلام - بالوحي لم يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأولها مخافة أن ينساها، فنزلت هذه الآية، فلم ينس شيئا بعد ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستذكر القرآن؛ مخافة أن ينسى، فقيل له: قد كفيناك ذلك، ونزلت هذه الآية "، وعن سعد بن أبي وقاص نحوه[11].
وعلى هذا الأساس يحمل قوله تعالى: )لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17)(.
وإذا قيل: إن هذا الحديث يشكك في جمع القرآن وحفظه كله، لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نسي منه آيات، حتى يصل الأمر إلى أن يتذكر ذلك بغيره، وليس بنفسه.
نقول: هذا قول مردود، وليس في الحديث ما يوحي بأن القرآن لم يحفظ منه شيء؛ أولا: لقوله تعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، وكذلك قوله - سبحانه وتعالى - الذي تقدم: )إن علينا جمعه وقرآنه (17)(، ثانيا: أن كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتذكر الآية عند قراءة الصحابي لها، فهذا دليل قاطع أنه قد بلغها، وإلا فمن أين حفظها هذا الصحابي الجليل؟
وقد رد الشيخ الزرقاني هذا الافتراء وفنده، فقال: "إنه لا ينهض حجة لهم فيما زعموا من الشك في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن وجمعه، بل الأصل سليم قويم، وهو وجود هذه الآيات مكتوبة في الوثائق التي استكتبها الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجودها محفوظة في صدور أصحابه الذين تلقوها عنه، والذين بلغ عددهم مبلغ التواتر، وأجمعوا جميعا على صحته، كما عرف ذلك في دستور جمع القرآن.
وإنما قصارى هذا الخبر أنه يدل على أن قراءة ذلك الرجل ذكرت النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها، وكان قد أنسيها أو أسقطها (أي نسيانا).
وهذا النوع من النسيان لا يزعزع الثقة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يشكك في دقة جمع القرآن ونسخه؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قد حفظ هذه الآيات من قبل أن يحفظها ذلك الرجل، ثم استكتبها كتاب الوحي، وبلغها الناس فحفظوها عنه، ومنهم رجل الرواية عباد بن بشار - رضي الله عنه - على ما روي، وليس في هذا الحديث أن هذه الآيات لم تكن بالمحفوظات التي كتبها كتاب الوحي، وليس فيه ما يدل على أن أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا قد نسوها جميعا، حتى يخاف عليها وعلى أمثالها الضياع، ويخشى عليها السقوط عند الجمع واستنساخ المصحف الإمام، كما يفتري أولئك الخراصون، بل الرواية نفسها تثبت صراحة أن في الصحابة من كان يقرؤها، وسمعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - منه.
ثم إن دستور جمع القرآن يؤيد أنهم لم يكتبوا في المصحف إلا ما تظاهر الحفظ والكتابة والإجماع على قرآنيته، ومنه هذه الآيات التي يدور عليها الكلام هنا من غير ما شك.
كما أن روايات هذا الخبر لا تفيد أن هذه الآيات - التي سمعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عباد بن بشار - قد امـحت من ذهنه الشريف جملة، وغاية ما تفيده أنها كانت غائبة عنه صلى الله عليه وسلم، ثم ذكرها، وحضرت في ذهنه بقراءة عباد، وغيبة الشيء عن الذهن، أو غفلة الذهن عن الشيء غير محوه منه، بدليل أن الحافظ منا لأي نص من النصوص قد يغيب عنه هذا النص إذا اشتغل ذهنه بغيره، وهو يوقن في ذلك الوقت بأنه مخزون في حافظته، بحيث إذا دعا إليه داع استعرضه واستحضره، ثم قرأه، أما النسيان التام الذي يترتب عليه محو الشيء من الحافظة؛ فإن الدليل قام على استحالته على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يخل بوظيفة الرسالة والتبليغ، وإذا عرض له نسيان؛ فإنه سحابة صيف لا تجيء إلا لتزول، ولا ريب أن نسيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هنا كان بعد أن أدى وظيفته، وبلغ الناس، وحفظوا عنه، فهو نسيان لم يخل بالرسالة والتبليغ"[12].
وقال بدر الدين العيني: "فإن قلت: كيف جاز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلت: الإنساء ليس باختياره، وقال الجمهور: جاز النسيان عليه فيما ليس طريقه البلاغ والتعليم، بشرط أن لا يقر عليه، بل لا بد أن يذكره، وأما غيره فلا يجوز قبل التبليغ، وأما نسيان ما بلغه - كما في هذا الحديث - فهو جائز بلا خلاف"[13].
كما أن إسقاط النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عمدا؛ وإنما نسيانا، فلا معنى لما أوردوه من أنه قد يكون أسقط عمدا بعض آيات القرآن، ودليل ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الرواية الأخرى، «كنت أنسيتها» فهي كما قال ابن حجر: "هي مفسرة لقوله «أسقطتها»، فكأنه قال: أسقطتها نسيانا لا عمدا"[14].
وقال النووي: "قوله: «كنت أنسيتها» دليل على جواز النسيان عليه - صلى الله عليه وسلم - فيما قد بلغه إلى الأمة"[15].
فنسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا جائز؛ لتوفر شرطين فيه، هما: أنه وقع منه بعد تبليغه، ثم إنه قد ذكره به هذا الصحابي، فلا ينبغي للرسولـ صلى الله عليه وسلم - ولا يعقل أن يبدل شيئا في القرآن بزيادة أو نقص من تلقاء نفسه، وإلا لكان خائنا أعظم الخيانة، والخائن لا يمكن أن يكون رسولا.
ودليل ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، وقوله تعالى: )قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي( (يونس: ١٥).
فحفظ القرآن وجمعه ليس مسئولية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وليس مسئولية الصحابة، ولا أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمانر رضي الله عنهم، بين ذلك - سبحانه وتعالى - في الكتاب العزيز؛ حيث قال: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)(.
فالذي أنزل القرآن هو المتكفل بحفظه وجمعه للأمة، ليس النبي صلى الله عليه وسلم، ويفعل الله ذلك على الوجه الذي يشاء، قال تعالى: )لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17)(، فكان تذكير هذا الصحابي للنبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيات، هو نفسه صورة من صور حفظ الله - سبحانه وتعالى - وتعالى للقرآن الكريم.
وقد يقال إن سهو النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسقاطه بعض آي القرآن يتعارض مع الأحاديث الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - في جعل نسيان القرآن كبيرة من الكبائر، ويرد على ذلك بأن المراد بالنسيان المحرم أن يكون بحيث لا يمكنه معاودة حفظه الأول إلا بعد مزيد من المشقة والتعب؛ لذهابه عن ذاكرته بالكلية، وانشغاله الكامل عن مراجعة القرآن، أما النسيان الذي يمكن معه التذكر بمجرد السماع أو إعمال الفكر، فهذا سهو لا نسيان في الحقيقة، فلا يكون محرما، والذي يدل على أن النبي لم ينس - بالمعنى المحرم - سرعة تذكره صلى الله عليه وسلم، وتفريقه بين اللفظ الصحيح للآية، وبين اللفظ الآخر غير الصحيح[16].
خلاصة القول في ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أسقط نسيانا، وليس عمدا بعض آيات القرآن الكريم، وأن قراءة هذا الصحابي لها قد ذكرته إياها، وذلك لا يقدح في حقيقة القرآن وجمعه وصيانته من الضياع، فنسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لها كان بعد تبليغه إياها للصحابة، وبعد قيام كتبة الوحي بكتابتها، وحفظوها في صدورهم، كما أن الحديث لم يفد أن هذه الآيات قد امـحت عن ذهن النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة، وإنما هي كانت غائبة عنه، ثم تذكرها بقراءة صاحبه، فضلا عن أن الذي تكفل بحفظ القرآن هو الله - سبحانه وتعالى - وليس النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس صحابته الكرام، وتذكير الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم، هو صورة من صور حفظ القرآن وصيانته؛ وبذلك تسقط تلك الشبهة، ويتأكد عدم معارضة الحديث للقرآن الكريم في هذا الشأن.
الخلاصة:
· إن حديث نسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض آيات من القرآن حديث صحيح، رواه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما، وقد اتفق علماء الحديث على صحته سندا ومتنا.
· أجمع العلماء على جواز وقوع النسيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ليس هو مأمور فيه بالبلاغ، مثل الأمور العادية والحياتية، فهذا جائز مطلقا؛ لما جبل عليه - صلى الله عليه وسلم - من الطبيعة البشرية.
· لقد أجمع العلماء على جواز وقوع النسيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما هو مأمور فيه بالبلاغ كأمر القرآن، وذلك بشرطين؛ أولهما: أن يقع منه النسيان بعدما يقع منه تبليغه، وأما قبل تبليغه فلا يجوز فيه النسيان أصلا.والآخر: أن لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكرة، إما بنفسه وإما بغيره.
· إن هذا الحديث لا يخالف قول الله تعالى: )سنقرئك فلا تنسى (6)(؛ لأنها تتعلق بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستذكر القرآن مخافة أن ينساه، فقيل له: قد كفيناك ذلك.
· إن إسقاط النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض آيات القرآن في الحديث لم يكن عمدا، وإنما هو إسقاط نسيان، كما أكدت ذلك شواهد أخرى للحديث بلفظة: «أنسيتها» بدلا من «أسقطتها».
· وقوع النسيان منه - صلى الله عليه وسلم - كان بعد تبليغه إياها، وقيام كتبة الوحي بكتابتها، وحفظها في صدور الصحابة الذين تلقوها عنه.
· إن تذكير الصحابي للنبي - صلى الله عليه وسلم - بتلك الآيات، هو نفسه صورة من صور حفظ الله - سبحانه وتعالى - للقرآن الكريم وصيانته من الضياع.
· إن سهو النبي - صلى الله عليه وسلم - وإسقاطه بعض آي القرآن لا يتعارض مع الأحاديث الواردة في جعل نسيان القرآن كبيرة من الكبائر؛ لأنه ليس نسيانا بمعنى المحو التام من الذاكرة، وإنما هو سهو يسهل معه التذكر والاسترجاع، وهو مما جبلت عليه الطبيعة البشرية.
(*) تحرير العقل من النقل، سامر إسلامبولي، مكتبة الأوائل، سوريا،2001م.. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ/ 1996م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل القرآن، باب: نسيان القرآن وهل يقول: نسيت آية كذا وكذا؟ (8/ 703)، رقم (5038). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأمر بتعهد القرآن، (4/ 1376)، رقم (1806).
[2]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة ـ رضي الله عنها، رقم (24380). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[3]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الحروف والقراءات، ( 11/ 4)، رقم (3963). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3970).
[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصلاة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان، (1/ 600)، رقم (401). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له، (3/ 1135)، رقم (1251).
[5]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (8/ 704).
[6]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصلاة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان، (1/ 600)، رقم (401). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له، (3/ 1136)، رقم (1251).
[7]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1379، 1380).
[8]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (8/ 704).
[9]. الغين: الغيم، والمراد هنا ما يتغشى القلب.
[10]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه، (9/ 3811)، رقم (6730).
[11]. فتح البيان في مقاصد القرآن، أبو الطيب صديق بن حسن بن علي، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1420هـ/ 1999م، (7/ 427، 428).
[12]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ/ 1996م، (1/ 219، 220).
[13]. عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني الحنفي، (29/ 144).
[14]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (8/ 704).
[15]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1379).
[16]. انظر: الفتاوى الفقهية الكبرى، ابن حجر الهيتمي، (1/ 128).
click
website dating site for married people
go
link how long for viagra to work
go
link how long for viagra to work
read here
website why women cheat on men