دعوى تعارض حديث "إذا أنا مت فأحرقوني..." مع ثوابت الدين(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين تعارض السنة مع ما علم من الدين بالضرورة، ويستدلون على ذلك بحديث الرجل الذي قال لبنيه:«... إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فو الله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه به أحدا. قال: ففعلوا ذلك به. فقال للأرض: أدي ما أخذت. فإذا هو قائم. فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يارب - أو قال - مخافتك؛ فغفر له بذلك».
ويرون أن الرجل قد وقع في الكفر الصريح بشكه في قدرة الله - عز وجل - على إعادة الأبدان وإن تفرقت. فكيف يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد سرد هذه القصة: «فغفر له»؟ وكيف يغفر الله تعالى للكافر، وهو الذي يقول: )والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور (36)( (فاطر)
رامين من وراء ذلك إلى الطعن في السنة الثابتة الصحيحة.
وجه إبطال الشبهة:
· إن من جهل صفة من صفات الله تعالى، وآمن بسائر صفاته، وعرفها لم يكن - بجهله لبعض صفات الله تعالى - كافرا، والرجل المذكور في الحديث إنما شك - جاهلا - في طلاقة قدرة الله - عز وجل - لذلك فهو معذور بجهله، وليس كل من وقع في شيء منالكفر وقع الكفر عليه.
التفصيل:
لقد عد قوم من الناس هذا الحديث من الحديث المشكل، فظاهره أن الرجل كان شاكا في قدرة الله؛ لأنه قال: لئن قدر علي ربي، والشك في قدرة الله كفر، ولا يغفر الله لكافر.
وعلى هذا رد هؤلاء الحديث بدعوى تعارضه مع القرآن وثوابت الدين.
والحق أن ما حدث في هذا الحديث من خلاف، ليس في الأخذ به أو رده؛ وإنما في طريقة فهمه، فالحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد رواه أصحاب الصحاح والمسانيد عن عدد كبير من الصحابة، فلا سبيل لرفضه أو رده.
لقد فهم هؤلاء أن الحديث متعارض مع آيات القرآن التي تقول بأن الكافر لا يغفر له، بيد أن الحديث مشكل في لفظه فقط, أما معناه فيدل على أن الرجل في صنيعه هذا كان جاهلا بطلاقة قدرة الله - عز وجل - ومع ذلك كان مؤمنا بالبعث والحساب، والثواب والعقاب، تدل على ذلك روايات الحديث:
فقد روى البحاري بسنده عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض، فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك. فغفر له»[1].
وروى البخاري بسنده عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:«قال رجل - لم يعمل خيرا قط - إذا مات فحرقوه واذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك وأنت أعلم، فغفر له»[2].
وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه ذكر رجلا فيمن سلف - أو فيمن كان قبلكم - قال كلمة يعني أعطاه الله مالا وولدا، فلما حضرت الوفاة قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب. قال: فإنه لم يبتئز - أو لم يبتئر[3] - عند الله خيرا، وإن يقدر الله عليه يعذبه، فانظروا إذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحما فاسحقوني - أو قال فاسحكوني - فإذا كان يوم ريح عاصف فأذروني فيها. فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ مواثيقهم على ذلك، وربي ففعلوا، ثم أذروه في يوم عاصف، فقال الله عز وجل: كن، فإذا هو رجل قائم. قال الله: أي عبدي ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال: مخافتك - أو فرق منك - قال: فما تلافاه أن رحمه عندها، وقال مرة أخرى: فما تلافاه غيرها فحدثت به أبا عثمان فقال: سمعت هذا من سلمان غير أنه زاد فيه: أذروني في البحر أو كما حدث»[4].
وعن حذيفة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله، فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف. ففعلوا به، فجمعه الله ثم قال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ما حملني عليه إلا مخافتك. فغفر له»[5].
فالحديث إذن حديث صحيح وثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل في أعلى درجات الصحة، ولا مجال للطعن في سنده كما يبدو من روايات الحديث أن الرجل مؤمن بوجود الله - عز وجل - ومؤمن بأن الله يبعث من في القبور، وأنه سيحاسبهم يوم القيامة، فريق في الجنة وفريق في السعير.
فهو مؤمن بهذا كله، لكن الجهل الذي وقع فيه هو أنه ظن أن قدرة الله لها حد محدود، وهذا الحد المحدود مع عظمه واتساعه وشموله إلا أن وراء هذا الحد شيء أو مجال لا تدخل القدرة فيه، ومن هذا المجال هذا اللحم الذي أكلته النار، وهذا العظم الذي طارت به الريح واختلط بذرات الماء فوق سطح بحر متلاطم الأمواج.
وقصارى ما يمكن أن نأخذه على هذا الرجل أنه ما قدر الله حق قدره[6]، لقد قرر علماء الإسلام أن الإنسان إذا أخطأ في بعض صفات الله جاهلا فإنه لا يعد بهذا الخطأ كافرا.
قال ابن عبد البر: "إن هذا الرجل قد شك في قدرة الله تعالى على جمعه بعد تحريقه وطحنه وتفرق أجزائه، كما شك في إحيائه وبعثه بعد ذلك، لكنه كان جاهلا، ومن جهل صفة من صفات الله تعالى وآمن بسائر صفاته وعرفها لم يكن - بجهله بعض صفات الله - كافرا، قالوا: إنما الكافر من عاند الحق لا من جهله، وهذا قول المتقدمين من العلماء ومن سلك سبيلهم من المتأخرين"[7].
وقال ابن قتيبة: "هذا رجل مؤمن بالله، مقر به، خائف له، إلا أنه جهل صفة من صفاته، فظن أن إذا أحرق، وذري به في الريح، أن يفوت الله تعالى، فغفر الله تعالى له - بمعرفته تأنيبه، وبمخافته من عذابه - جهله بهذه الصفة من صفاته، وقد يغلط في صفات الله تعالى قوم من المسلمين ولا يحكم عليهم بالنار، بل ترجأ أمورهم إلى من هو أعلم بهم وبنياتهم"([8]).
وقال الخطابي: "وقد يسأل عن هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث، والقدرة على إحيائه وإنشاره؟! فيقال: إنه ليس بمنكر للبعث إنما هو رجل جاهل ظن أنه إذا فعل به هذا الصنيع ترك فلم ينشر ولم يعذب. ألا تراه يقول: فجمعه. فقال: لم فعلت ذلك؟ فقال: من خشيتك، فقد تبين أنه رجل مؤمن بالله، فعل ما فعل من خشية الله إذا بعثه إلا أنه جهل، فحسب أن هذه الحيلة تنجيه مما يخافه"([9]) هذا، وقد استدل ابن حزم على عدم كفر هذا الرجل بجهله وعدم قيام الحجة عليه، بقوله: "وبرهان ضروري لا خلاف فيه وهو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم وهو أن كل من بدل آية من القرآن عامدا، وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك، أو أسقط كلمة عمدا كذلك، أو زاد فيها كلمة عامدا، فإنه كافر بإجماع الأمة كلها، ثم إن المرء يخطئ في التلاوة، فيزيد كلمة وينقص أخرى، ويبدل كلامه جاهلا، مقدرا أنه مصيب ويكابر في ذلك ويناظر قبل أن يتبين له الحق، ولا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافرا ولا فاسقا ولا آثما، فإذا وقف على المصاحف، أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره، فإن تمادى على خطئه فهو عند الأمة كلها كافر بذلك لا محالة، وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة"[10].
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد جعل نظير هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى، قال: قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا، وانتعل رويدا، وفتح الباب فخرج ثم أجافه رويدا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت، وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام، فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال:" ما لك يا عائش؟ حشيا رابية[11]!" قالت: قلت: لا شيء، قال: "لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير"، قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي! فأخبرته، قال: "فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟" قلت: نعم، فلهدني في صدري لهدة أوجعتني، ثم قال: "أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟" قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله؛ نعم، قال: "فإن جبريل - عليه السلام - أتاني حين رأيت فناداني، فأخفاه منك، فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت. فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم" قالت: قلت كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون»[12].
قال ابن تيمية معلقا على هذا الحديث: "فهذه عائشة أم المؤمنين سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - «هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم»، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء، هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب، ولهذا لهزها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال:«أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟» وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع.
فقد تبين أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها، فكانت السيدة عائشة جاهلة بمعنى "علم الله" فلم تكفر لذلك. وأيضا الرجل، فهو جاهل بمعنى "قدرة الله" فلا يوجب جهله تكفيره، فكان هذا دليلا على إيمانه[13].
ولكن، إذا كان الرجل قد شك في قدرة الله تعالى جاهلا، فهذا لا يعني أنه كان جاهلا بصفة القدرة مطلقا - جملة وتفصيلا - فهذا بعيد لدلالة الشرع والعقل عليه، فهو مؤمن بمطلق القدرة، لكنه جاهل بقدرة الله المطلقة، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وأنه ما شاء كان، وأنه على كل شيء قدير، وإذا أراد شيئا قال له: كن فيكون؛ ولذا لم يقل مثلا: إذا مت فادفنوني؛ لأنه يعلم أن الله قادر عليه حينئذ.
ومثل هذا يقال في البعث، فهو لم ينكر البعث مطلقا، وإنما شك في قدرة الله على بعثه وهو على هذه الحال؛ ولذا لم يترك أولاده بدون وصية؛ لأنه يعلم أن مصيره حينئذ إلى البعث والحساب، فهرب من هذا بهذه الوصية، خشية من الله تعالى.
والحاصل أن هذا الرجل عنده إيمان مجمل بقدرة الله تعالى، لكنه شك في بعض متعلقاتها لجهله بها، ومن أطلق القول بجهله - من أهل العلم - فهذا مراده"[14].
وجملة القول، أن الرجل المذكور في الحديث كان جاهلا بطلاقة قدرة الله - عز وجل - ولكنه كان مؤمنا بوحدانية الله - عز وجل - ومما يدل على أنه كان من أهل التوحيد ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود، «أن رجلا لم يعمل من الخير شيئا قط إلا التوحيد، فلما حضرته الوفاة قال لأهله: إذ أنا مت فخذوني، وأحرقوني حتى تدعوني حممة، ثم اطحنوني ثم اذروني في البحر في يوم راح، قال: ففعلوا به ذلك، قال: فإذا هو في قبضة الله، قال: فقال الله - عز وجل - له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: مخافتك، قال: فغفر الله له»[15].
كما أن الحديث يدل على إسلام الرجل وإيمانه بالله، وذلك لما جاء فيه من أنه فعل ذلك خشية من الله تعالى، والكافر لا يخشى الله عز وجل.
قال ابن عبد البر: "والدليل على أن الرجل كان مؤمنا: قوله حين قيل له: لم فعلت هذا؟ فقال: من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق، بل ما تكاد تكون إلا لمؤمن عالم، كما قال الله عز وجل: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"[16]، فكانت خشيته من الله - عز وجل - دليلا آخر على إيمانه وليس كفره.
إن الإشكال الوارد في الحديث، والذي على أساسه رد هؤلاء الحديث يزول إذا عرفنا أن الحديث يدل على أصلين عظيمين:
الأصل الأول: العذر بالجهل، فمن جهل صفة من صفات الله تعالى، فأنكرها أو شك فيها؛ فإنه لا يحكم بكفره لمجرد ذلك حتى تقام عليه الحجة.
قال ابن عبد البر: "وأما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدره، فليس ذلك بمخرجه من الإيمان، ألا ترى أن عمر بن الخطاب، وعمران بن حصين، وجماعة من الصحابة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القدر، ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين، أو يكونوا في حين سؤالهم عنه غير مؤمنين"[17].
إن أغلب الناس لا يعرف دليل البعث إلا من الشرع، ولا يعرفه من العقل، فالبعث عند هذا الصنف من الأمور السمعية النقلية لا الأمور العقلية. فلا تقوم الحجة عليه إلا بأن يطلع على السمعي القائل بذلك، أما إذا جهل السمعي وأنكره بناء على جهله، فلا تقوم عليه حجة.
"وهذا الرجل ما كان عالما بدلائل البعث الشرعية، ولم يعرفه بعقله؛ فشك فيه جاهلا، فكان معذورا. ومثل هذا من شك في بعض أحوال الآخرة، وأهوال القيامة، وصفات الجنة والنار؛ لأنه لم يعرف دليلها النقلي، فمن شك في عدد أبواب النار - أعاذنا الله منها - لأنه لم يعلم الآية التي ذكرت عددها، أو شك في الصراط وفي صفته لم يكفر، ولا خلاف في ذلك"[18].
ويؤكد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الكلام بقوله: "وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرا مما يبعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول"[19].
وأما الأصل الثاني: فهو التفريق بين التكفير المطلق والتكفير المعين.
"الشك في قدرة الله تعالى أو المعاد كفر لا ريب فيه، لكن لا يوجه إلى شخص معين حتى تقام عليه الحجة، فتتوفر فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع، فهذا الرجل مع شكه في القدرة والمعاد لم يحكم بكفره؛ لوجود ما يمنع من ذلك، وهو الجهل"[20].
قال ابن تيمية: "التكفير حق الله، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله، وأيضا: فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر"[21].
قال الدكتور يوسف القرضاوي موضحا معنى التفرقة بين تكفير النوع وتكفير الشخص المعين: "ومعنى هذا أن نقول مثلا: الشيوعيون كفار، أو الحكام العلمانيون الرافضون لحكم الشرع كفار، أو من قال كذا أو دعا على كذا فهو كافر، فهذا وذاك حكم على النوع. فإذا تعلق الأمر بشخص معين، ينتسب إلى هؤلاء وأولئك، وجب التوقف للتحقق والتثبت من حقيقة موقفه، بسؤاله ومناقشته، حتى تقوم عليه الحجة، وتنتفي الشبهة، وتنقطع المعاذير"[22].
فالرجل المذكور في الحديث، وإن كان قد فعل فعل الكفر، إلا أنه لا يجوز تكفيره؛ لوجود مانع من ذلك، وهو الجهل. ولا يغير هذا قول بعض العلماء: إن جاحد صفة القدرة كافر. إذ أن هذا الرجل - كما سبق - لم يجحد صفة القدرة، وإنما جهل طلاقتها وشمولها.
يقول ابن القيم رحمه الله: وكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص.
فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، وإرساله الرسول. والخاص المقيد: أن يجحد فرضا من فروض الإسلام، أو تحريم محرم من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبرا أخبر الله به؛ عمدا، أو تقديما لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض.
وأما جحد ذلك جهلا، أو تأويلا يعذر فيه صاحبه، فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه, وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله. وإذا كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عنادا أو تكذيبا"[23].
وعليه فلا سبيل لرد الحديث بدعوى تعارضه مع ثوابت الدين، كما أن الإشكال الذي يدعيه هؤلاء في الحديث إنما هو إشكال في اللفظ فقط، وقد بين علماء الإسلام معنى الحديث والمراد منه، كما بينوا أن الرجل كان جاهلا في فعله، وغايته أن يغفر الله له، ففعل الله ذلك؛ لأنه وحده هو الأعلم بالسرائر.
(*) مشكلات الأحاديث النبوية، د. عبد الله القصيمي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط2، 2006م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: (54)، (6/ 594)، رقم (3481).
[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: (54)، (6/ 594)، رقم (3481). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، (9/ 3856)، رقم (6848).
[3]. يبتئز أو يبتئر: يدخر.
[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: ) يريدون أن يبدلوا كلام الله (، (13/ 474)، رقم (7508).
[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الرقاق، باب: الخوف من الله، (11/ 319)، رقم (6480).
[6]. ضلالات منكري السنة، د.طه حبيشي، مكتبة رشوان، القاهرة، ط1، 1417هـ/ 1996م، ص559 بتصرف.
[7]. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر، تحقيق: عبد الله بن الصديق، مؤسسة قرطبة، المغرب، 1986م، (18/ 42) بتصرف.
[8]. تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص112.
[9]. أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، أبو سليمان الخطابي، تحقيق: د. محمد بن سعد آل سعود، جامعة أم القرى، السعودية، ط1، 1409هـ/ 1988م، (3/ 1565).
[10]. الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، تحقيق: د. محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (3/ 296، 297).
[11]. حشيا رابية: تواتر النفس الذي يعرض للمسرع في مشيه.
[12]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجنائز، باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، (4/ 1569)، رقم (2220).
[13]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (11/ 412).
[14]. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، السعودية، ط1، 1427هـ، ص318.
[15]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود، (5/ 296)، رقم (3785). وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[16]. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر، تحقيق: عبد الله بن الصديق، مؤسسة قرطبة، المغرب، 1986م، (18/ 40).
[17]. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر، تحقيق: عبد الله بن الصديق، مؤسسة قرطبة، المغرب، 1986م، (18/ 46).
[18]. مشكلات الأحاديث النبوية، د. عبد الله القصيمي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط2، 2006م، ص113.
[19]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (11/ 407).
[20]. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، السعودية، ط1، 1427هـ، ص326.
[21]. تلخيص كتاب الاستغاثة في الرد على البكري، ابن تيمية، تحقيق: محمد علي عجال، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، ط1، 1417هـ، (2/ 492).
[22]. ظاهرة الغلو في التفكير، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1422هـ/ 2001م، ص26.
[23]. مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1408هـ/ 1988م، (1/ 367).
why do men have affairs
redirect why men cheat on beautiful women
click
website dating site for married people
read here
website why women cheat on men