مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن

دعوى تعارض أحاديث الصفات مع القرآن، واعتبارها من التشبيه والتجسيم(*)

مضمون الشبهة:

يتوهم بعض الناس وقوع تعارض بين السنة والقرآن فيما يتعلق بمسألة صفات الله تعالى، حيث جاءت السنة النبوية بذكر صفات للذات العلية، فيها تشبيه وتجسيم - على حد زعمهم - ينبغي أن ينزه عنهما الله تبارك وتعالى، بمقتضى قوله تعالى: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى).

واستدلوا على زعمهم ببعض الأحاديث التي يرون أنها تخالف العقل من ناحية إثبات هذه الصفات لله تعالى، لما تشتمل عليه من تجسيم وتشبيه ينبغي تنزيه الله تعالى عنهما.

ويفضي هذا الفهم الخاطئ إلى رد نصوص صحيحة من السنة النبوية، وتعطيل ونفي الصفات الإلهية.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  علم من دين الله - عز وجل - بالضرورة أن الإيمان بما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جملة الإيمان بالله - عز وجل - لكونه وحيا من الله - عز وجل - ونسبة السنة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هي من جهة أنه المنشئ لألفاظها؛ لذلك فهي مصدر أصيل في التعرف على الغيبيات، ولا مدخل للعقل في إثبات شيء أو نفيه مما يتعلق بالغيب عامة، وبصفات الله - عز وجل - خاصة. فإذا كان هناك من صفات الله ما يستطيع العقل أن يستدل عليها بنفسه، كاتصاف الله بالعلم والقدرة والحكمة ونحو ذلك، فإنه يقف عاجزا ليس له من سبيل إلا النصوص ليتمكن من التعرف على صفات الله الذاتية والفعلية كصفة الوجه، واليد، والمجيء والنزول ونحو ذلك.

2)   سلك أهل السنة والجماعة في باب الصفات طريقا واضحة، لا عوج فيها ولا أمتا، وعولوا على ما صح من النقل؛ فسلموا من الانحراف عن جادة الطريق، فآمنوا بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه، ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف للنصوص، أو تعطيل للمراد، ولا طمع في معرفة كيفية لا تدركها العقول، ولا تمثيل له بأحد من المخلوقين، فأمروا نصوص الصفات كما جاءت عن الله على مراد الله، وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مراده - صلى الله عليه وسلم - دون بحث في كيفيتها. فكان سبيلهم أسلم وأعلم وأحكم.

3)  إن الأحاديث التي أوردها المشككون والواهمون إذا ما أسقطنا عليها قواعد الصفات عند أهل السنة فإننا لا نجد غضاضة ولا حرجا في قبولها على مراد الله- سبحانه وتعالى - وعلى مراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لكون ما تتضمنه من معنى هو في الأصل معلوم، وما أخبرت عنه من غيب فكيفيته مجهولة، في إطار قوله تعالى: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى). فالله - سبحانه وتعالى - متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين، وبصرهم، وكلامهم، ونزولهم، واستواؤهم، وضحكهم، وغضبهم، وغيرتهم، ومجيئهم، وهذا الكلام لازم في العقليات والسمعيات، فما دام لله - سبحانه وتعالى - ذات حقيقية لا تماثل الذوات فإن الذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات.

فكل هذه الصفات الواردة في الأحاديث الصحيحة الثابتة تساق مساقا واحدا، ويجب الإيمان بها على أنها صفات حقيقية، لا تشبه صفات المخلوقين، دون تعطيل أو تمثيل ولا رد، ولا جحد، ولا تأويل يخالف الظاهر.

التفصيل:

أولا. السنة مصدر أصيل في معرفة الغيب؛ لكونها وحيا، والعقل تابع للوحي في معرفة عالم الغيب:

إذا كان للإنسان حواس يحس بها، وعقل يعقل به، فهل يستطيع بعقله وحسه - فقط - أن يعيش، ويؤدي دوره في هذا الكون، ويقوم بوظيفة الخلافة فيه، ويتوجه في كل ما يعمل إلى الله خالقه سبحانه وتعالى؟ وهل يستطيع أن يحدد وظيفته، وأن تكون له معرفة صحيحة بخالقه، وبما يطلب منه؟ وهل يستطيع بهذه الكفايات - الحس والعقل - أن يعرف ما ينتظره بعد موته؟

إن الإنسان عاجز - بحسه وعقله فقط - عن أن يفي بهذه المعرفة، أو أن يقدم عنها شيئا، ومن ثم فهو في أشد الحاجة إلى مصدر آخر للمعرفة وهو الوحي المنزل من رب العالمين، على من اصطفاه من خلقه؛ كي يسعف هذه الفطرة بطريق رباني دقيق ثابت شامل للمعرفة.

وليس في اعتماد النبوة طريقا للمعرفة هضم لقيمة العقل والحس ودورهما في المعرفة؛ وذلك لأن للحس والعقل ميدانا لا يتجاوزانه وهو عالم الشهادة[1].

والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه هو: ما موقف العقل من التعرف على عالم الغيبيات وقضاياه؟

فالإجابة على هذا السؤال تحمل في طياتها معالم المنهج المطلوب في علاقة العقل بعالم الغيب، وفي نفس الوقت تضع أمامنا حقيقة الخلاف بيننا وبين منهج المخالفين في الإيمان بقضايا الغيب؛ فلاسفة كانوا أو متكلمين، قدامى كانوا أو معاصرين، وهذا يفسر لنا بالتالي سبب الحملة التي شنع بها المخالفون على منهج السلف، واتهموهم من خلالها برفض العقل وأحكامه.

إن قضية الإيمان بالغيب هي محك الخلاف بين المنهجين: منهج عرف أصحابه للعقل إمكاناته، وطاقاته من جانب، وعرفوا أيضا مطلب الشرع والوحي من العقل، والوظيفة التي ناطه بها من جانب آخر.

أما المنهج الثاني فأطلق أصحابه العنان لعقولهم، فلم يعترفوا بأن لإمكانات العقل وطاقاته حدودا لا يتجاوزها، بل قالوا: إن العقل قادر على أن يخضع كل شيء لسلطانه، ما غاب عنه وما حضر، ما أدركته الحواس وما غاب عنها، حتى ما أخبرت به الأنبياء عن عالم الغيب وقضاياه يجب أن يخضع العلم به وبكيفيته لسلطان العقل، ولا مانع عندهم من رفض هذا العالم الغيبي وإنكاره.

ولم يفرقوا في ذلك بين مطلب الشرع من العقل في عالم الشهادة ومطلبه من العقل في عالم الغيب، والخلاف بين الموقفين يكمن في المنهج أولا.

إن أصحاب المنهج الأول وظفوا العقل فيما خلق له في التعرف على عالم الشهادة، وعرفوا له قدره، وحدوده في مجال التعرف على عالم الغيب.

عرفوا أن العقل في عالم الشهادة مسلط لاكتشاف الكون وقوانينه، وهو في عالم الغيب متعلم يأخذ العلم من مصادره التي غاب عنها، أو غابت عنه، والتي جاء الخبر عنها معصوما عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - عن الله - سبحانه وتعالى - عرفوا أن العقل يملك البحث والتعرف على عالم الشهادة، لكنه يفقد جميع الأدوات التي يتعرف بها على عالم الغيب، إلا مصدرا واحدا هو الوحي الذي هو إخبار الله من ذاته بذاته على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا إذا كان للعقل أن يؤمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. أما إذا كان العقل رافضا الأخذ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابتداء فهذا له شأن آخر، وليس لنا معه هنا من حديث.

والسؤال الآن: أي المنهجين أكثر احتراما للعقل؟.. وأيهما أكثر عقلانية؟ أن نأخذ الحديث عن الغيب وعن الله مأخذ التصديق به كما جاء به الوحي، أم نتخيل له كيفيات عقلية لسنا مطالبين بها أولا، ولا سبيل لنا إلى العلم بها بالحواس ثانيا[2].

إن الاعتصام بالنص الصحيح في قضايا الغيب كان منهجا أقوم في منطق العقل نفسه، ذلك أن العقل مطالب بالإيمان بالغيب، وفي نفس الوقت ليس مؤهلا للبحث فيه، كما هو شأنه في عالم الشهادة.

ولم يطلب منه الشرع البحث فيه؛ لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يكلفها إلا ما آتاها، وسبيله الوحيد إلى التعرف على الغيب هو خبر المعصوم - صلى الله عليه وسلم - عن الله - عز وجل - والذي قال لصحابته: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك»[3]، وفي القرآن الكريم: )وما آتاكم الرسول فخذوه( (الحشر:7).

وكان أهل الحديث أحرص الناس على ذلك؛ لاختصاصهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطول ملازمتهم له، وحفظهم العلم النبوي عنه، وشدة تمسكهم بما سمعوه ونقلوه عنه إلى الناس من بعدهم، وذلك دون واسطة بينهم وبينه، فحفظوا عنه ووعوا واعتقدوا جميع ما سمعوا.

يقول الإمام اللالكائي عن هذا المنهج: "فهذا دين أخذ أوله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشافهة لم يشبه لبس ولا شبهة، ثم نقله العدول من غير تحامل ولا ميل، ثم الكافة عن الكافة، والصافة عن الصافة، والجماعة عن الجماعة، أخذ كف بكف، وتمسك خلف بسلف، الحروف يتلو بعضها بعضا، ويتسق أخراها على أولاها وصفا ونظما، فهؤلاء الذين تعهدت بنقلهم الشريعة، وانحفظت بهم أصول السنة، فوجبت لهم بذلك المنة على جميع الأمة، فهم حملة علمه، ونقلة دينه، وسفرته بينه وبين أمته، وأمناؤه في تبليغ الوحي عنه"[4].

ومن أهم ما عني به أصحاب هذا المنهج حرصهم على صفائه ونقائه، فلم يتأثروا فيه بمسلك الخصوم معهم، ولا بتشنيع المخالفين عليهم، فكانوا يكرهون مناظرة أهل البدع، ويتناهون عن نقل شبهاتهم أو عرضها على المسلمين مخافة الفتنة بها. يقول سفيان الثوري: من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائه، ولا يلقها في قلوبهم[5].

بين الوحي والعقل:

ولعل ما سبق يقودنا إلى الحديث عن علاقة الوحي بالعقل باعتبار أن كلا منهما وسيلة أو أداة من أدوات المعرفة، لكن لكل منهما مجاله وميدانه الذي نجح في الكشف عنه والتعرف عليه، وعلينا أن ندرك أنهما معا وسيلتان للمعرفة، وكما أن العقل مسلط على عالم الشهادة فكذلك الوحي خاص بالتعرف على عالم الغيب، وليس من هدفنا الدخول في تفصيلات هذه العلاقة؛ فقد كفانا القدماء مؤنة الحديث عنها ولكن نود أن ننبه هنا إلى أهم معالم المنهج في هذه القضية؛ إذ يرتبط المنهج هنا بفهم طبيعة علاقة العقل بعالم الشهادة من جانب، وعلاقة العقل بعالم الغيب من جانب آخر، وإذا عرفنا أبعاد علاقة العقل بعالم الغيب والفارق الكبير بينهما وبين علاقته بعالم الشهادة فإنه يكون من اليسير فهم علاقة العقل بالوحي.

وفيما يلي نذكر أهم النقاط التي توضح علاقة العقل بالوحي[6]:

1. مما ينبغي أن نؤمن به إيمانا جازما أن الله - عز وجل - أنزل كتابه ليفهم ويتدبر، كما قال تعالى: )كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته( (ص:٢٩)، وقال: )أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24)( (محمد)؛ ولهذا فإن إقبال السلف على حفظ القرآن وفهمه وحسن تدبره كان مجالا للتنافس فيما بينهم، وحكي عن السلمي قوله: كنا نقرأ العشر آيات من القرآن ولا نتجاوزها حتى نعلم ما فيها من علم وعمل، وكان بين أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هو حبر الأمة وترجمان القرآن.

2. لم نقرأ عن الصحابة والتابعين الذين نقلوا إلينا أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله أنهم توقفوا أمام آية أو حديث، وقالوا: إن العقل يعارضها أو يرفضها، أو ينبغي تأويلها بصرفها عن ظاهرها، وإنما عملوا بالمحكم وآمنوا بالمتشابه، وقالوا: )كل من عند ربنا( (آل عمران:٧) خاصة فيما يتصل بقضايا الغيب من هذه الآيات، وفي مقدمتها آيات الصفات الإلهية التي هي محل الخلاف الأساسي بين السلف ومخالفيهم، وكذلك آيات البعث والحساب، كذلك لم يتساءلوا عن كيفية أي صفة من الصفات المذكورة في الآية المعينة أو الحديث المعين، وإنما تلقوها بالقبول كما سمعوها من الرسول صلى الله عليه وسلم.

3. من الأصول المرعية هنا أن النص إذا صح سندا ومتنا، فإنه لا يتعارض أبدا مع الدلائل العقلية الصريحة عن الشبهات والخالية من الشكوك.

ذلك أن العقل والنقل وسيلتان لتحقيق غاية واحدة هي الوصول إلى الحق، والتعرف عليه في الأقوال والأفعال والاعتقادات، والوسائل التي تؤدي إلى غاية واحدة لا يعارض بعضها بعضا، وإنما يؤيد ويعاضد بعضها بعضا، فكلاهما حق والحق لا يعارض الحق أبدا.

أما الذين يقولون بإمكان التعارض بينهما فتجد أحدهم يدعي أن ما معه من النقل صحيح، وقد يكون الأمر خلاف ذلك، وقد يكون النقل صحيحا ولكن ما فهمه منه ليس فهما صحيحا، وكذلك تجد الآخر يدعي أن معه من الدلائل العقلية المعارضة للسمع ما يرد به نصا صحيحا، وعند التأمل تجد أن ما معه ليس له من النظر العقلي الصحيح نصيب، وإنما هو شبهات فاسدة أو شكوك طارئة، سرعان ما تزول بالبرهان القطعي الصريح. أما أن يكون النقل صحيحا والدليل العقلي صريحا فهذان لا يمكن أن يتعارضا أبدا.

4. يتفرع عن الأصل السابق أن الدليل النقلي الصحيح قطعي الدلالة، والدليل العقلي الصريح هو أيضا قطعي الدلالة، والدلائل القطعية لا تتعارض، وإنما يتعارض منها ما هو ظني الدلالة أو ظني الثبوت، وإذا قال البعض: إن معه دليلين: عقلي ونقلي، وظنهما متعارضين، ينظر فيهما: أيهما كان قطعيا قدم وأخذ به، ويتأخر الظني ويرفض، ليس لكونه عقليا، ولا شرعيا ولكن لكونه ظنيا في دلالته، والظني لا يعارض القطعي، وينبغي أن ننبه هنا إلى أن كثيرا مما نسميه دلائل عقلية أو سمعية يعارض بعضها بعضا ليس كثير منها يرقى إلى مستوى البرهان، وهذا متفق عليه؛ لأنه قد لا يكون دليلا في الأمر نفسه وإنما هو بحسب من يظنه كذلك.

5. إن دلالة ما جاء به الشرع في باب الإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر والبعث والحساب والجنة والنار... إلخ - لهي دلالة واضحة صريحة فيما دلت عليه، وبالرغم من أن هذه المسائل وغيرها كانت تشكل محور الخلاف الجوهري بين المؤمنين بالوحي ومعارضيهم - فإن هذا الخلاف والنزاع حول هذه المسائل لم يكن - قديما - يتطرق إلى دلالتها على ما دلت عليه من ذلك، فالمتنازعون في ذلك لم يتنازعوا في دلالة الأدلة السمعية على هذه المسائل، وإنما تنازعوا في كون هذه المسائل تعارض الأدلة العقلية - مما يدفع وجوبها - أم لا؟

وإذا فرضنا وقوع التعارض بين الدلالتين، السمعية والعقلية، فأي الدلالتين تكون قطعية والأخرى تكون ظنية؟

هذا هو مثار الخلاف في أمثال هذه المسائل، وقد عالج هذه القضية أئمة كبار مثل ابن رشد في كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، كما وضع الإمام ابن تيمية كتابه العظيم: "درء تعارض العقل والنقل" لحسم هذه المشكلة بالأصول العقلية والنقلية معا.

لا يستطيع أحد أن يطعن في جنس الأدلة العقلية، ولا فيما علم العقل صحته، وإنما تتجسد المشكلة فيما يدعيه البعض أنه من العقليات - ويردون من أجلها ما صح من نصوص الوحي القطعية - وهي في حقيقتها ليست دليلا في نفس الأمر؛ وكل ما عارضوا به الشرع من هذه الأدلة قد تبين فساده في العقل فضلا عن معارضة الشرع له.

6. والدليل لا يمدح ولا يذم لكونه عقليا أو سمعيا، وإنما يمدح الدليل لكونه قطعيا في الدلالة على مطلوبه، والدليل الشرعي لا يقابل بالدليل العقلي وإنما يقابل بالدليل البدعي المحرم؛ لأن الدليل العقلي الصحيح هو في الأصل دليل شرعي دل عليه الشرع نصا أو تنبيها وأشار إليه وأمر به الشرع وأوجب الأخذ به.

هذه هي أهم ملامح العلاقة بين العقل والوحي (قرآنا وسنة) والتي يظهر منها تهافت القول بوجود تعارض بين صريح المعقول وصحيح المنقول، كما تظهر - هذه الملامح - دور العقل في عالم الشهادة، وتبعيته للنقل الصحيح في عالم الغيب.

كذلك هناك أمر آخر ينبغي أن نقرره هنا، وهو: أنه يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فما جاء به القرآن أو السنة المعلومة وجب على الخلق الإقرار به جملة وتفصيلا عند العلم بالتفصيل، فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يقر بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو تحقيق شهادة أن لا إله الله، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول الله، فمن شهد أنه - صلى الله عليه وسلم - رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله - عز وجل - فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة؛ إذ الكاذب ليس برسول فيما يكذب به، وقد قال الله تعالى: )ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46)( (الحاقة).

وفي الجملة فهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام[7].

فالسنة منسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة أنه المنشئ لألفاظها، وأما معانيها فهي من عند الله: إما أن ينزل بها جبريل - عليه السلام - كما ينزل بالقرآن، أو ينفث بها في روعه - صلى الله عليه وسلم - أو يلهمه مناما، أو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول أو يفعل باجتهاد منه في حدود ما يعلمه من معرفة بمقاصد الشرع، وقواعده المحكمة الحكيمة، وهذا الاجتهاد إما أن يقر عليه فيرجع إلى حقيقة الوحي، أو لا يقر عليه، فينبه إلى الصواب[8].

والقرآن مليء بالآيات الكثيرة الدالة على حجية السنة وهي على أقسام[9]:

القسم الأول: آيات تدل على وجوب الإيمان به - صلى الله عليه وسلم - واتباعه، والرضا بحكمه:

1.    قال تعالى: )إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم (62)( (النور).

قال ابن القيم - رحمه الله: "فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه، فأولى أن يكون من لوازمه ألا يذهبوا إلى قول، ولا مذهب علمي، إلا بعد استئذانه، وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه"[10].

2.  قوله تعالى: )وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36)( (الأحزاب).

3.  قوله تعالى: )فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)( (النساء).

القسم الثاني: آيات تدل على أن السنة تبين الكتاب، وتشرحه شرحا معتبرا عند الله U مطابقا لما حكم به على العباد؛ فمن ذلك:

1.    قوله تعالى: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (44)( (النحل).

2.    قوله تعالى: )وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة( (النساء:١١٣).

وفي هذه الآية وما شابهها عطف الله الحكمة على الكتاب وذلك يقتضي المغايرة، وأنها ليست إياه، ولا يصح أن تكون شيئا آخر غير الكتاب والسنة؛ لأن الله - عز وجل - امتن علينا بتعليمها، والمن لا يكون إلا بما هو صواب، وحق مطابق لما عنده، فتكون الحكمة واجبة الاتباع كالكتاب[11].

القسم الثالث: آيات تدل على طاعته - صلى الله عليه وسلم - طاعة مطلقة، وأن طاعته طاعة لله تعالى؛ فمن ذلك:

1.    قوله تعالى: )وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132)( (آل عمران).

2.    وقوله تعالى: )من يطع الرسول فقد أطاع الله( (النساء:٨٠).

3.    وقوله تعالى: )قل أطيعوا الله والرسول( (آل عمران:٣٢).

4.    وقوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)( (النساء).

وقال ميمون بن مهران: "الرد إلى الله إلى كتابه، والرد إلى رسوله إن كان حيا، فإن قبضه الله إليه فالرد إلى السنة"[12].

وقال الحافظ في الفتح: "أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن"[13].

القسم الرابع: آيات تدل على وجوب اتباعه - صلى الله عليه وسلم - في جميع ما يصدر عنه، والتأسي في ذلك به، وأن اتباعه لازم لمحبة الله تعالى فمن ذلك:

1.    قوله تعالى: )قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31)( (آل عمران).

2.    وقوله تعالى: )لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21)( (الأحزاب).

3.    وقوله تعالى: )واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون (156) الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157)( (الأعراف).

القسم الخامس: آيات تدل على أن الله - عز وجل - كلف رسوله - صلى الله عليه وسلم - باتباع ما أوحي إليه متلوا أو غير متلو، وتبليغ جميع ما أنزل عليه؛ فمن ذلك:

1.  قوله تعالى: )يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما (1) واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا (2)( (الأحزاب).

2.    وقوله تعالى: )ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18)( (الجاثية).

3.    وقوله تعالى: )فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم (43)( (الزخرف).

فإذا تبين هذا فقد صح ووجب على كل مسلم تصديقه - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن الله تعالى من أسمائه وصفاته، مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه، كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، فإن هؤلاء الذين تلقوا عنه القرآن والسنة وكانوا يتلقون منه ما في ذلك من العلم والعمل[14].

وذلك لأن السنة كما بينا مصدر أصيل في التعرف على الغيبيات؛ لكونها وحيا من عند الله، ولا مدخل للعقل في إثبات شيء أو نفيه مما يتعلق بالغيبيات عامة، وبصفات الله خاصة، فالعقل له دور محدود؛ وهو عالم الشهادة، أما عالم الغيب فهو تابع للنقل (القرآن والسنة)، يثبت ما أثبته الوحي وينفي ما نفاه؛ لأن الغيب لا يعرف إلا من قبل الله - عز وجل - من طريق المعصوم محمد - صلى الله عليه وسلم - عن المعصوم جبريل - عليه السلام - عنه عز وجل.

أما عن دور العقل في إدراك صفات الله - عز وجل - على وجه الخصوص - وهي من جملة الغيب - فمداره على قسمين:

الأول: ما لا يستطيع العقل الإنساني التعرف عليه وإدراكه بنفسه، أي من غير طريق النصوص؛ كإثبات الوجه واليد لله تعالى.

الثاني: ما يمكن أن يستدل عليه بالعقل، كاتصاف الله تعالى بالقدرة والحكمة [15].

ثانيا. معالم المنهج القويم الذي تفهم صفات الله في ضوئه:

لقد كثرت الأقاويل في مسألة الصفات، وخاض في هذا البحث من يعرف، ومن لا يعرف، ورمى بعض الناس بعضا بالتكفير من جراء الجهل ببعض مسائل العقيدة، وخصوصا مسألة صفات الله تعالى، وهي مسألة شغلت أذهان كثير من الباحثين، وكثر النزاع حولها.

إنه مما لا شك فيه أن العقيدة غيبية توقيفية، ولا دور للعقول فيها إلا التسليم للنصوص الثابتة الصحيحة الواردة فيها، وتعظيم هذه النصوص؛ لأن هذه العقول قاصرة عن الإحاطة بالغيب، كما أن الله - سبحانه وتعالى - له المثل الأعلى فلا يقاس بغيره، ولا يقاس به غيره[16].

"وقد سلك أهل السنة والجماعة في هذا الباب طريقا واضحا بينا لا عوج فيه ولا أمتا؛ وذلك لأنهم عولوا فيه - وكذا في أبواب الاعتقاد - على النقل الثابت الصحيح، فسلموا من الانحراف الذي وقع فيه من اتخذ العقل أساسا في هذا الباب، وقدمه على النقل، علما بأن أهل السنة يؤكدون على أن العقل الصريح لا يمكن بحال أن يخالف النقل الصحيح".

وأهل السنة وسط في هذا الباب بين الإفراط والتفريط، فلم يغلوا في الإثبات إلى درجة تصل بهم إلى التكييف أو التمثيل، كما لم يقعوا في التفريط الذي هو تعطيل الله - سبحانه وتعالى - عن أسمائه وصفاته كلها، أو شيء منها، بل أثبتوا جميع ما صح به النقل من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى[17].

فعقيدة أهل السنة والجماعة في صفات الله تتمثل في قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن الإيمان بالله؛ الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل"[18].

وأول ما نستفيده من هذه الجملة التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية: "الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه"؛ وكلمة "وصف" أشمل من كلمة "أثبت" لأن الوصف يشمل الإثبات والنفي، فنحن نثبت لله - سبحانه وتعالى - ما أثبته لنفسه، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه، ونثبت ما أثبته الرسول - صلى الله عليه وسلم - وننفي ما نفاه - صلى الله عليه وسلم - وكذلك كلمة "نؤمن" أعظم بكثير من كلمة "نصف" فقط؛ لأن الإيمان يشمل القول والعمل، ويشمل التعبد بمقتضى ذلك[19].

والكلام على معتقد أهل السنة في هذا الباب وذكر أدلته، وتفاصيل مسائله يطول، ولربما أخرج عن المقصود، ولذا فسوف نقتصر على بيان أهم الأصول والأسس التي بنى عليها أهل السنة والجماعة عقيدتهم في الأسماء والصفات، وهي كما يلي[20]:

1.  الاعتماد على الكتاب والسنة الصحيحة، فيثبتون ما أثبته الله لنفسه في كتابه، وما أثبته رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته، من غير تحريف [21] ولا تعطيل[22]، ومن غير تكييف ولا تمثيل[23]، على حد قوله تعالى: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى).

وينفون ما نفاه الله عن نفسه في كتابه، أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته، مع إثبات كمال ضده[24].

قال الإمام أحمد: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يتجاوز القرآن والحديث"[25].

وقال ابن خزيمة: "نحن نثبت لخالقنا - عز وجل - صفاته التي وصف الله بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مما ثبت بنقل العدل، عن العدل موصولا إليه"[26].

وقال الإسماعيلي: "اعلموا - رحمنا الله وإياكم - أن مذهب أهل الحديث - أهل السنة والجماعة: الإقرار بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، وقبول ما نطق به كتاب الله تعالى، وما صحت به الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا معدل عما وردا به، ولا سبيل إلى رده... ويعتقدون أن الله مدعو بأسمائه الحسنى، موصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم"[27].

وقال ابن تيمية: "طريق سلف الأمة وأئمتها: أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل؛ إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات قال عز وجل: )ليس كمثله شيء( (الشورى:١١) فهذا رد على الممثلة، )وهو السميع البصير (11)( (الشورى) فهذا رد على المعطلة"[28].

2.  إمرار نصوص الصفات كما جاءت، وذلك بحملها على ظاهرها، دون التعرض لتعطيل شيء منها، أو تأويله بما لا يتفق مع مراد الله - عز وجل - أو مراد رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال الوليد بن مسلم: "سألت الأوزاعي، والثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفات، فكلهم قال: أمروها كما جاءت بلا تفسير"[29].

وسئل عبد الله بن المبارك عن أحاديث الصفات فقال: "تمر كما جاءت بلا كيف".

وقال أبو زرعة عن أحاديث الصفات: "هذه أحاديث متواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمروها كما جاءت بلا كيف"[30].

وهذا القول متواتر عن السلف - رحمهم الله - قال أبو يعلى: "روي عن شيخنا وإمامنا أبي عبد الله أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الحديث أنهم قالوا: أمروها كما جاءت، فحملوها على ظاهرها في أنها صفات الله تعالى لا تشبه سائر الموصوفين"[31].

وقال ابن قدامة: "وعلى هذا درج السلف، وأئمة الخلف - رضي الله عنهم - كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات، لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم"[32].

ومراد السلف بهذه العبارة "أمروها كما جاءت بلا كيف": إجراء نصوص الصفات على ظاهرها، والأخذ بما دلت عليه من الصفات، وليس مرادهم: إمرار ألفاظها دون فهم معانيها.

قال ابن تيمية - رحمه الله: "قولهم رضي الله عنهم: "أمروها كما جاءت" رد على المعطلة، وقولهم: "بلا كيف" رد على الممثلة.."[33].

ثم قال مبينا مراد السلف بهذه العبارة: "إنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه - على ما يليق بالله - لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما، بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم، وأيضا فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات.

وأيضا: فإن من ينفي الصفات الخبرية - أو الصفات مطلقا - لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف.

وأيضا: فقولهم: أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظا دالة على معان، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ: بلا كيف؛ إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول[34].

ومما ينبغي التأكيد عليه هنا: أن عدم فهم معنى الصفة ليس مسوغا لردها، أو تأويلها بما يخالف مراد المتكلم بها.

قال ابن تيمية: "ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ربه - عز وجل - فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف؛ لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه"[35].

3.  عدم تمثيل صفات الله تعالى بصفات خلقه - كما تقدم - فالله تعالى له صفات تليق به، والمخلوق له صفات تليق به، ولا يلزم من الاتفاق في الأسماء الاتفاق في المسميات[36].

قال أبو يعلى عن أحاديث الصفات: "الواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات لله تعالى، لا تشبه سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا نعتقد التشبيه فيها"[37].

وقال ابن تيمية: "أهل السنة والجماعة والحديث: هم أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم، متفقون على تنزيه الله تعالى عن مماثلة الخلق، وعلى ذم المشبهة الذين يشبهون صفاته بصفات خلقه، ومتفقون على أن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله"[38].

4.    تفويض الكيفية، وقطع الطمع في إدراكها؛ وذلك لوجوه ثلاثة:

أحدها: أن الله تعالى أخبرنا أنه متصف بالصفات، ولم يخبرنا كيف هي.

والثاني: أن العلم بكيفية الصفة فرع عن العلم بكيفية الموصوف، فإذا كنا لا نعلم كيفية ذات الله تعالى، فكذلك لا نعلم كيفية صفاته.

قال الخطيب البغدادي: "الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين - عز وجل - إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف"[39].

وقال ابن تيمية معللا عدم العلم بكيفية الصفات: "إذ العلم بكيفية الصفة، يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له"[40].

والثالث: أن الشيء لا تعلم كيفيته إلا بمشاهدته أو مشاهدة نظيره أو الخبر الصادق عنه، وكل ذلك منتف في صفات الله تعالى[41].

فالكيفية ثابتة لله تعالى، لكنها مجهولة لنا غير معقولة؛ ولهذا كان شعار أهل السنة والجماعة في هذا الباب تلك الكلية العظيمة للإمام مالك - رحمه الله - حيث ثبت عنه أنه لما سئل عن كيفية الاستواء، قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"[42].

وجاء عن وكيع بن الجراح أنه قال عن أحاديث الصفات: "نسلم بهذه الأحاديث كما جاءت، ولا نقول: كيف هذا، ولم جاء هذا؟"[43].

وقال أبو عبيد - وقد ذكر بعض أحاديث الصفات -: "هذه الأحاديث صحاح، حملها أصحاب الحديث والفقهاء، بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا نشك فيها، ولكن إذا قيل: كيف وضع قدمه؟ وكيف ضحك؟ قلنا: لا يفسر هذا، ولا سمعنا أحدا يفسره"[44].

والتأكيد على هذا المعنى - وهو نفي العلم بالكيفية - كثير في كلام السلف.

قال ابن تيمية: "ومثل هذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة، ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، فلا يعلم ما هو إلا هو"[45].

وقال ابن القيم: "العقل قد يئس من تعرف كنه الصفة وكيفيتها، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف: "بلا كيف" أي: بلا كيف يعقله البشر، فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ لا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك، كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته، مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فعجزنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم.

فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود في معرفة كيفية من له الكمال كله، والجمال كله، والعلم كله، والقدرة كلها، والعظمة كلها، والكبرياء كلها؟.."[46].

قواعد أهل السنة في فهم الصفات:

وقد سار أهل السنة والجماعة في فهمهم للصفات الواردة في القرآن أو السنة الصحيحة على قواعد وأصول هي بمثابة الأرض الصلبة، أو قارب النجاة في هذا الحقل الشائك، الذي يتعلق بالحديث عن ذات الله تعالى وصفاته.

ويمكن أن نلخص هذه القواعد فيما يلي لتكون نبراسا لكل من يتصدى لحديث فيه تعلق بذات الله وصفاته، ذكرناه هنا أو لم نذكره[47].

القاعدة الأولى: صفات الله - سبحانه وتعالى - كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه: كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعلو، والعظمة، وغير ذلك، وقد دل على هذا: السمع والعقل والفطرة.

أما السمع فمنه قوله تعالى: )للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم (60)( (النحل) والمثل الأعلى: الوصف الأعلى الكامل.

وأما العقل: فهو أن كل موجود حقيقة لابد أن تكون له صفة: إما صفة كمال، وإما صفة نقص، والنقص باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة، فتعين الأول.

ثم إنه قد ثبت بالحس والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال، ومعطي الكمال أولى به.

وأما الفطرة: فلأن النفوس السليمة مجبولة على محبة الله، وتعظيمه وعبادته.

وهل تحب، وتعظم، وتعبد إلا من علمت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته؟

ثم إن هذه الصفات منها ما هو كمال على الإطلاق كالصفات السابقة، فهذه ثابتة لله تعالى، ومنها ما هو نقص على الإطلاق فهذه منفية عن الله تعالى؛ كالجهل، والعمى، والصم.

ومنها ما هو كمال من وجه ونقص من وجه، فهذه يوصف الله بها في حال كمالها، ويمتنع وصفه بها في حال نقصها، بحيث يوصف الله - تعالى - بها وصفا مقيدا مثل: المكر، والكيد، والمخادعة.

القاعدة الثانية: باب الصفات أوسع من باب الأسماء؛ وذلك لأن كل اسم متضمن لصفة؛ لأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله، وأفعاله - عز وجل - لا منتهى لها. قال الله تعالى: )ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم (27)( (لقمان).

ومن أمثلة ذلك أن من صفات الله المجيء والأخذ، والإتيان، والإمساك، والبطش، فنصف الله بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولا نسميه بها، فلا نقول: إن من أسمائه الجاني، والآتي، والباطش، والآخذ، والممسك، والنازل، والمريد، وإن كنا نخبر بذلك عنه، ونصفه به.

القاعدة الثالثة: صفات الله تنقسم قسمين: ثبوتية وسلبية، فالثبوتية: هي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء، واليدين، والوجه، فيجب إثباتها لله على الوجه اللائق به، وقد تقدم ذلك في الحديث عن منهج أهل السنة والجماعة في فهم أسماء الله وصفاته.

وأما السلبية والمنفية: فهي ما نفاه الله عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - مثال الصمم، والنوم، وغير ذلك من صفات النقص، فيجب نفيها عن الله - عز وجل - كما مر.

القاعدة الرابعة: الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال، فكلما كثرت وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر؛ ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر من الصفات السلبية؛ فالقاعدة في ذلك الإثبات المفصل، والنفي المجمل؛ فالإثبات مقصود لذاته، أما النفي فلم يذكر غالبا إلا على الأحوال التالية:

o  بيان عموم كماله كما في قوله تعالى: )ليس كمثله شيء( (الشورى:١١)، وقوله تعالى: )ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص).

o  نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون كما في قوله تعالى: )أن دعوا للرحمن ولدا (91) وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا (92)( (مريم).

o  دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعين كما في قوله تعالى: )وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين (38)( (الدخان)، وقوله: )ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)( (ق).

ثم إن النفي مع أنه مجمل بالنسبة للإثبات إلا أن فيه تفصيلا وإجمالا بالنسبة لنفسه؛ فالإجمال في النفي أن ينفي الله - عز وجل - كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص، كما في قوله تعالى: )ليس كمثله شيء(، وقوله: )هل تعلم له سميا (65)( (مريم)، وقوله: )سبحان ربك رب العزة عما يصفون (180)( (الصافات).

وأما التفصيل في النفي فهو أن ينزه عن كل واحد من العيوب والنقائص بخصوصه، فينزه عن الولد، والصاحبة، والسنة والنوم، وغير ذلك مما ينزه الله عنه.

القاعدة الخامسة: الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية وفعلية:

o  الذاتية: هي التي لم يزل الله ولا يزال متصفا بها، وهي التي لا تنفك عنه - سبحانه وتعالى - كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعزة، والحكمة، والوجه، واليدين.

o  الفعلية: وتسمى الصفات الاختيارية، وهي التي تتعلق بمشيئة الله - عز وجل - إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، وتتجدد حسب المشيئة؛ كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا.

وقد تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين؛ كالكلام فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - لم يزل ولا يزال متكلما، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية؛ لأن الكلام يتعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء بما شاء، وكل صفة تعلقت بمشيئته تعالى فإنها تابعة لحكمته، وقد تكون الحكمة معلومة لنا، وقد نعجز عن إدراكها، لكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانه لا يشاء شيئا إلا وهو موافق للحكمة، كما يشير إليه قوله تعالى: )وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما (30)( (الإنسان).

القاعدة السادسة: الصفات الذاتية والفعلية تنقسم إلى قسمين:

o  عقلية: وهي التي يشترك في إثباتها الدليل الشرعي السمعي، والدليل العقلي، والفطرة السليمة، وهي أغلب صفات الله تعالى مثل صفة السمع، والبصر، والقوة، والقدرة، وغيرها.

o  خبرية: وتسمى النقلية، والسمعية، وهي التي لا تعرف إلا عن طريق النص، فطريق معرفتها النص فقط، مع أن العقل السليم لا ينافيها، مثل صفة اليدين، والنزول إلى السماء الدنيا.

القاعدة السابعة: صفات الله توقيفية: فلا نصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه:

o  التصريح بالصفة: كالعزة، والقوة، والرحمة، كما في قوله تعالى: )فإن العزة لله جميعا (139)( (النساء)، وقوله: )إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)( (الذاريات)، وقوله: )وربك الغني ذو الرحمة( (الأنعام: ١٣٣).

o  تضمن الاسم لها؛ كالعزيز والغفور، قال تعالى: )الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور (2)( (الملك)؛ فالعزيز متضمن لصفة العزة، والغفور متضمن لصفة المغفرة.

o  التصريح بفعل أو وصف دال عليها، كالاستواء على العرش، والمجيء قال تعالى: )الرحمن على العرش استوى (5)( (طه)، وقوله: )وجاء ربك والملك صفا صفا (22)( (الفجر).

القاعدة الثامنة: المضافات إلى الله إن كانت أعيانا فهي من جملة المخلوقات، وإن كانت أوصافا فهي من صفات الله؛ وبيان ذلك أن المضافات إلى الله نوعان:

o  أعيان قائمة بذاتها مثل: عبد الله، ناقة الله، فهذه من جملة المخلوقات، وإضافتها إلى الله من باب إضافة المخلوقات لخالقها، وقد تقتضي تشريفا مثل: أرض الله، سماء الله.

o  أن يكون المضاف أوصافا غير قائمة بذاتها مثل: سمع الله، قدرة الله، بصر الله، فهذه الإضافة تقتضي أن هذه الصفة قائمة بالله، وأن الله متصف بها، وهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.

القاعدة التاسعة: القول في بعض الصفات كالقول في بعض: وهي قاعدة يرد بها على من فرق بين الصفات فأثبت بعضها، ونفى بعضها، فيقال لمن فعل ذلك: أثبت الجميع، أو انف الجميع.

ومن أثبت بعض الصفات، ونفى بعضها، فهو مضطرب متناقض، وتناقض القول دليل على فساده وبطلانه.

القاعدة العاشرة: القول في الصفات كالقول في الذات: وذلك أن الله - سبحانه وتعالى - ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقية لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل الصفات.

القاعدة الحادية عشرة: ظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار، ومجهولة لنا باعتبار: فباعتبار المعنى معلومة، وباعتبار الكيفية مجهولة؛ كالاستواء مثلا، فمعناه معلوم لنا فهو بمعنى العلو، والارتفاع، والصعود، والاستقرار.

أما كيفيته فمجهولة؛ لأن الله أخبرنا بأنه استوى، ولم يخبرنا عن كيفية استوائه، وهكذا يقال في باقي الصفات.

القاعدة الثانية عشرة: في العلاقة بين الصفات والذات:

وخلاصة القول في هذه المسألة أن العلاقة بين الصفات والذات علاقة تلازم؛ فالإيمان بالذات يستلزم الإيمان بالصفات، وكذلك العكس؛ فلا يتصور وجود ذات مجردة عن الصفات في الخارج، كما لا يتحقق وجود صفة من الصفات في الخارج إلا وهي قائمة بالذات[48].

وبهذا يتبين لنا أن طريقة السلف في فهم صفات الله تعالى هي الأسلم والأحكم، وليس هناك طريقة أخرى تجري على قواعد وأصول محكمة في هذا الباب كطريقتهم، فهم يؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

شعارهم فيها هو أن نؤمن بما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن خلال هذا العرض يبدو لنا جليا وضوح مسلك أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وذلك لأنهم عولوا فيه - وكذا في بقية أبواب الاعتقاد - على النقل الثابت الصحيح، فسلموا من الانحراف الذي وقع فيه من اتخذ العقل وحده أساسا في هذا الباب وقدمه على النقل، علما بأن أهل السنة يؤكدون على أن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، وتواترت النقول عن الأسلاف من الصحابة والتابعين وأهل العلم العدول على أن أحاديث الصفات الإلهية نمرها كما جاءت من غير تفسير للكيفية؛ لأن العلم بكيفية الصفة فرع عن العلم بكيفية الموصوف، والشيء لا تعرف كيفيته إلا بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو بالخبر الصادق عنه، وهذا منتف في صفات الله تعالى، فكان من السلامة تفويض الكيفية، وقطع الطمع في إدراكها مع العلم بمعاني هذه الصفات والإبقاء على دلالاتها، من غير تمثيل - نفي المثلية - لصفات الله تعالى بصفات خلقه.

ثالثا. الجواب عما أشكل من أحاديث الصفات:

ذكرنا أن السبيل الذي يعرفنا بالله، هو النصوص القرآنية والحديثية التي تتحدث عن الله حديثا مباشرا، مبينة صفاته وأسماءه وأفعاله، وهذا سبيل نير مأمون العواقب؛ لأن التعرف إلى الله من خلال كلامه، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يبقي مجالا للشك والالتباس.

وصفات الله تعالى التي جاء بها الوحي - قرآنا وسنة - قسمان:

الأول: لا يستطيع العقل الإنساني التعرف عليه وإدراكه بنفسه، أي من غير طريق النصوص، كإثبات اليد والوجه لله عز وجل.

الثاني: ما يمكن أن يستدل عليه بالعقل؛ كاتصاف الله تعالى بالقدرة والحكمة... ونحو ذلك.

ونحن هنا لا نستقصي جميع الصفات التي وردت في الأحاديث النبوية، ولكن سنذكر جملة منها مما أشكل على بعض الناس بدعوى أنها تخالف العقل، وأنه لا يجوز نسبة هذه الصفات لله تعالى؛ لكون ذلك من التشبيه والتجسيم الذي ينبغي أن ننزه الله تعالى عنه.

فنذكر الأحاديث ونبين ثبوتها، وفهم السلف من الصحابة والتابعين لهذه الأحاديث، وما تتضمنه من صفات الله تعالى:

1.     استشكال حديث الجارية وفيه "قال صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء":

فقد توهم بعض الناس اضطراب الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي، ولفظه «فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة»[49].

وقالوا: إن هذا الحديث لا تصح نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ، فإنه يثبت لله المكانية، وأن السماء تحتويه، فأين كان قبل خلق السماء؟ وهذا مستحيل على الله أن يحويه مكان أو جهة.

وقبل أن نذكر توجيه الحديث لابد من إثبات صحته بمجيئه في الصحاح والسنن والمسانيد بأسانيد صحيحة.

·        فالحديث رواه الإمام مسلم باللفظ المتقدم كما ذكرنا.

·   ورواه مالك في الموطأ من حديث هلال بن أسامة عن عطاء بن يسار عن عمر ابن الحكم، ولفظه: «فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فقالت: في السماء. فقال: من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتقها»[50]. هكذا قال الإمام مالك: عمر بن الحكم، وهو وهم.

·   ورواه الإمام أحمد من حديث معاوية بن الحكم السلمي، وفيه: «...فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء...» الحديث[51].

·   ورواه أبو داود في سننه من حديث يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي، ولفظه: «قال: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة»[52].

·        ورواه النسائي في السنن الكبرى[53].

·        ورواه ابن حبان في صحيحه[54].

كذلك رواه سائر الأئمة كالبخاري في "خلق أفعال العباد"، وغيره.

 قال ابن قدامة المقدسي: هذا حديث صحيح[55].

فهذه روايات الحديث عند هؤلاء الأئمة، كلها متفقة على السؤال عن الله تعالى بـ "أين"، وإخبار الجارية له بـ: أن الله في السماء، وشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بالإيمان.

وعن رواية معاوية السلمي يقول الإمام الذهبي: هذا حديث صحيح، رواه جماعة من الثقات عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية السلمي، أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي وغير واحد من الأئمة في تصانيفهم، يمرونه كما جاء، ولا يعترضون له بتأويل ولا تحريف[56].

والطعن في هذا الحديث الصحيح بحجة أن البخاري لم يخرجه في صحيحه أو التشكيك في جملة «أين الله» لأنها وردت خارج الصحيح، كل هذا ظاهر البطلان، لا حاجة بنا إلى تسويد الورق لبيانه[57].

ومن عجيب أمر هؤلاء المعطلة - النفاة لعلو الله على عرشه - أنهم استلزموا من إثبات العلو إثبات المكان والجهة لله - عز وجل - وهذا مما يدل على بالغ جهلهم؛ لأن الله تعالى كان قبل كل شيء، ثم خلق الأمكنة والسماوات والأرض وما بينهما، وقد صح في المعقول وثبت بالواضح من الدليل أنه كان في الأزل لا في كل مكان.

كما قال ابن عبد البر: "فهو تعالى ليس في مكان أزلا وأبدا، وليس بمعدوم، فكيف يقاس على شيء من خلقه أو يجري بينه وبينهم تمثيل أو تشبيه؟!"[58].

ومع هذا فقد وقعوا فيما فروا منه، لقد فروا مما توهموه ضلالا - وهو الحق يقينا، أن الله فوق المخلوقات كلها ومنها الأمكنة - فوقعوا في الضلال الأكبر حين قالوا: إنه في كل مكان[59].

فمن توهم كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحدا يفهمه من اللفظ، ولا رأينا أحدا نقله عن واحد.. إذ السماء يراد بها العلو، فالمعنى أن الله في العلو لا في السفل، وقد علم المسلمون أن كرسيه - سبحانه وتعالى - وسع السماوات والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله، لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته، فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقا يحصره ويحويه[60].

قال الشيخ الألباني: إن الجواب "في السماء" ليس عن سؤال عن مكانة ولا عن مكان، أما أنه ليس سؤالا عن المكانة؛ فلأن مكانة الله المعنوية معروفة لدى كل المسلمين، بل حتى الكافرين، وأما أنه ليس سؤالا عن المكان؛ فذلك لأن الله - عز وجل - ليس له مكان يحويه.

إذن ما المعنى الصحيح للفظة "في السماء"؟

السماء لها معان في اللغة العربية لن نقف على تفصيلها وحصرها كثيرا، لكن من هذه المعاني: السماء الدنيا، والثانية... إلخ، ومن هذه المعاني: العلو المطلق، كل ما علا فهو سماء، فإذا قلنا: الله في السماء، معناه حصرناه في مكان، وقد قلنا: إنه منزه عن المكان؛ إذا كيف نفهم؟

الجواب من الناحية العلمية: "في" في اللغة ظرفية، فإذا أبقيناها على بابها وقلنا: الله في السماء، وجب تفسير السماء بالعلو المطلق، أي الله فوق المخلوقات كلها بحيث لا مكان، بهذه الطريقة آمنا بما وصف الله به نفسه بدون تشبيه وبدون تعطيل[61].

وهذا وجه إيراد محمد بن إسحاق حديث الجارية هذا في كتابه "الإيمان"، وقد بوب عليه بقوله: "ذكر ما يدل على أن المقر بالتوحيد إشارة إلى السماء بأن الله في السماء دون الأرض، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم - يسمى مؤمنا"[62].

وبوب له ابن خزيمة قال: ذكر الدليل على أن الإقرار بأن الله - عز وجل - في السماء من الإيمان[63].

وقال البيهقي في الأسماء والصفات: معنى قوله في هذه الأخبار: "في السماء"؛ أي فوق السماء على العرش كما نطق به الكتاب والسنة[64].

وقد نقل ابن تيمية أقوال بعض الأئمة في ذلك، فقال: "قال مالك: إن الله في السماء، وعلمه في كل مكان".

وقال عبد الله بن المبارك: "نعرف ربنا فوق سبع سماواته، على العرش، بائنا من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا، وأشار إلى الأرض".

وقال سفيان الثوري في قوله تعالى: )وهو معكم أين ما كنتم( (الحديد: ٤ (قال: علمه.

قال الشافعي: إنه على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف يشاء.

قال أحمد: إنه مستو على العرش، عالم بكل مكان، وإنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء؟ وإنه يأتي يوم القيامة كيف شاء"[65].

ومن خلال ما سبق نخلص إلى "أن الله تعالى وصف نفسه بالعلو في السماء، ووصفه بذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة الأتقياء، والأئمة الفقهاء، وتواترت الأخبار في ذلك على وجه حصل به اليقين، وجمع الله - عز وجل - عليه قلوب المسلمين، وجعله مغروزا في طبائع الخلق أجمعين، فتراهم عند نزول الكرب بهم يلحظون السماء بأعينهم، ويرفعون نحوها للدعاء أيديهم، وينتظرون مجيء الفرج من ربهم - سبحانه وتعالى - وينطقون بذلك بألسنتهم، لا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته، أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته"[66].

2.      الطعن في حديث النزول الإلهي إلى السماء الدنيا.

  استشكل بعض المتوهمين حديث النزول الإلهي ولفظه: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له»[67].

وقالوا: إن حديث النزول على الظاهر مناقض لأصول الدين، وهو يثبت حلول الله في السماء الدنيا، والله جل في علاه لا يحل في مخلوق، وإن قلت: ليس هذا بحلول تكون معنى كلمة «ينزل إلى السماء الدنيا» لا معنى لها عندك، ثم كيف تجمع بين حديث النزول وكروية الأرض التي تجعل ثلث الليل في كل بلد ساعة حتى يصير ثلث الليل على مدار اليوم كله في أنحاء العالم، فهل الله - عز وجل - طوال اليوم نازل ومحيط بذاته بالأرض؟ وكذا الفوقية التي تستلزم علوه - عز وجل - فهل السماء الثانية فما فوقها تكون فوقه إذا نزل إلى السماء الدنيا؟ وهل يستلزم نزول الله - عز وجل - أن يخلو العرش منه أو لا؟ وهل إذا نزل تقله السماء؟

كل هذه التساؤلات جعلت أصحاب المنهج العقلي يردون هذا الحديث، حتى إن بعض أهل العلم - ممن يعلمون صحة الحديث - تورط في تأويله حتى يكون موافقا للعقل، فزعم هؤلاء المؤولون أن المقصود بالنزول هو نزول الملك وليس نزوله سبحانه وتعالى.

الجواب عن هذه الاستشكالات:

حديث النزول الإلهي حديث صحيح، رواه أصحاب الكتب التسعة كلهم عن أبي هريرة.

فهذا النزول - نزوله سبحانه وتعالى - حقيقة على الوجه اللائق بجلاله وكماله وليس نزول ملك من الملائكة، يدل على ذلك رواية مسلم وفيها: «يقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له»[68]. وهل يقول ملك من الملائكة: من يدعوني، من يسألني، من يستغفرني؟

وتأويل حديث النزول بأن معناه نزول الملك أو الرحمة لا دليل عليه، والتأويل إذا لم يستند إلى دليل كان تأويلا باطلا، ومشتملا على محذورين: الأول: تحريف الكلم عن مواضعه، والثاني: القول على الله بغير علم.

قال حنبل بن إسحاق: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا"، فقال أبو عبد الله: "نؤمن بها ونصدق بها ولا نرد شيئا منها إذا كانت أسانيد صحاح، ولا نرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، حتى قلت لأبي عبد الله: ينزل الله إلى سماء الدنيا؟ قال: نعم، قلت: نزوله بعلمه أم بماذا؟ فقال لي: اسكت عن هذا، مالك ولهذا، أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد، إنما جاءت به الآثار وبما جاء به الكتاب، قال الله عز وجل: )فلا تضربوا لله الأمثال( (النحل:٧٤) ينزل كيف يشاء بعلمه وقدرته وعظمته، أحاط بكل شيء علما، لا يبلغ قدره واصف ولا ينأى عنه هرب هارب"[69].

وروى البيهقي بسنده إلى عباد بن العوام قال: "قدم علينا شريك بن عبد الله منذ نحو من خمسين سنة، قال: فقلت له: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوما من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث "أحاديث النزول"، قال: فحدثني بنحو من عشرة أحاديث في هذا، وقال: أما نحن فقد أخذنا ديننا هذا عن التابعين، عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم عمن أخذوا؟"[70].

"قال إسحاق بن راهويه: سألني ابن طاهر عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم - يعني في النزول - فقلت له: النزول بلا كيف. قال أبو سليمان الخطابي: هذا الحديث - وما أشبهه من الأحاديث في الصفات - كان مذهب السلف فيها الإيمان بها، وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها"[71].

فإن قيل: هل يستلزم نزول الله - عز وجل - أن يخلو العرش منه أو لا؟

نقول: أصل هذا السؤال تنطع، وإيراده غير مشكور عليه مورده؛ لأننا نسأل: هل أنت أحرص من الصحابة - رضي الله عنهم - على فهم صفات الله؟ إن قال: نعم فقد كذب. وإن قال: لا. قلنا: فليسعك ما وسعهم، فهم ما سألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: يا رسول الله إذا نزل هل يخلو منه العرش؟ وما لك ولهذا السؤال؟! قل: ينزل واسكت، يخلو منه العرش أو ما يخلو، هذا ليس إليك، أنت مأمور بأن تصدق الخبر لا سيما ما يتعلق بذات الله وصفاته؛ لأنه أمر فوق العقول. إذن نقول:هذا السؤال تنطع أصلا لا يرد، وكل إنسان يريد الأدب كما تأدب الصحابة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يورده، فإذا قدر أن شخصا ابتلي أن وجد العلماء بحثوا في هذا واختلفوا فيه، فمنهم من يقول: يخلو، ومنهم من يقول: لا يخلو، ومنهم من توقف، فالسبيل الأقوم في هذا هو التوقف، ثم القول بأنه لا يخلو منه العرش، وأضعف الأقوال القول بأنه يخلو منه العرش، فالتوقف أسلمها وليس هذا مما يجب علينا القول به؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبينه والصحابة لم يستفسروا عنه، ولو كان هذا مما يجب علينا أن نعتقده لبينه الله ورسوله بأي طريق، ونحن نعلم أنه أحيانا يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحق من عنده، وأحيانا يتوقف فينزل الوحي، وأحيانا يأتي أعرابي فيسأل عن شيء، وأحيانا يسأل الصحابة أنفسهم عن الشيء كل هذا لم يرد في هذا الحديث فلو توقفنا وقلنا: الله أعلم فليس علينا سبيل لأن هذا هو الواقع[72].

قال شيخ الإسلام: والصواب: قول السلف: أنه ينزل ولا يخلو منه العرش...[73].

قال الخلال في "كتاب السنة": حدثنا جعفر بن محمد الفريابي حد ثنا أحمد بن محمد المقدمي حد ثنا سليمان بن حرب قال: سأل بشر بن السري حماد بن زيد فقال: يا أبا إسماعيل الحديث الذي جاء: «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا» يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد بن زيد ثم قال: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف شاء[74].

وقال ابن بطة: وإن قلتم: لا ينزل إلا بزوال فقد شبهتموه بخلقه، وزعمتم أنه لا يقدر أن ينزل إلا بزواله على وصف المخلوق الذي إذا كان بمكان خلا منه مكان، لكنا نصدق نبينا - صلى الله عليه وسلم - ونقبل ما جاء به، فإنا بذلك أمرنا، وإليه ندبنا، فنقول كما قال: "ينزل ربنا عز وجل" ولا نقول: إنه يزول، بل ينزل كيف شاء، لا نصف نزوله، ولا نحده، ولا نقول: إن نزوله زواله.

 قال شريك: "إنما جاء بهذه الأحاديث من جاء بالسنن عن رسول الله؛ الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وإنما عرفنا الله وعبدناه بهذه الأحاديث"[75].

"قال إسحاق بن راهويه: دخلت على عبد الله بن طاهر فقال: ما هذه الأحاديث التي تروونها؟ قلت: أي شيء أصلح الله الأمير؟ قال: تروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا. قلت: نعم رواها الثقات الذين يروون الأحكام. قال: أينزل ويدع عرشه؟ قال: فقلت: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو العرش منه. قال: نعم"[76].

ومن خلال هذا نستطيع أن نقرر موقف أهل العلم من هذه المسألة؛ فكثير من أهل الحديث يتوقف عن قول: يخلو أو لا يخلو. وجمهورهم على أنه لا يخلو منه العرش. ومن يتوقف منهم؛ فذلك لأنهم لم يتبين لهم جواب أحد الأمرين، مع كون الواحد منهم قد ترجح عنده أحد الأمرين لكنه يمسك في ذلك لكونه ليس في الحديث، ولما يخاف من الإنكار عليه، وأما الجزم بخلو العرش فلم يبلغنا إلا عن طائفة قليلة منهم، والقول الثالث - وهو الصواب وهو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها - أنه لا يزال فوق العرش ولا يخلو العرش منه مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا ولا يكون العرش فوقه، كما أن مسألة خلو العرش منه من عدمه نوع من الخوض في كيفية النزول التي نهينا عن الخوض فيها.

فإن قيل: هل إذا نزل تقله السماء؟

فنقول: هذا لا يكون أبدا؛ لأنك لو قلت: إن السماء تقله لزم أنه يكون محتاجا إليها، كما تكون أنت محتاجا إلى السقف إذا أقلك، ومعلوم أن الله - عز وجل - غني عن كل شيء، وأن كل شيء محتاج إلى الله - عز وجل - إذن نجزم بأن السماء لا تقله، لأنها لو أقلته لكان محتاجا إليها، وهذا مستحيل على الله عز وجل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو سبحانه فوق العرش، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه وتعالى - من أنه فوق العرش وأنه معنا - حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن أن ظاهر قوله: (في السماء) أن السماء تقله أو تظله؛ وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان؛ فإن الله قد وسع كرسيه السماوات والأرض وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه )ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره( (الروم:٢٥)[77].

فإن قيل: هل السماء الثانية فما فوقها تكون فوقه إذا نزل إلى السماء الدنيا؟

فنقول: لا، ونجزم بهذا؛ لأننا لو قلنا بإمكان ذلك لبطلت صفة العلو، وصفة العلو لازمة للهـ عز وجل - وهي صفة ذاتية لا تنتفي عن الله عز وجل، ولا يمكن أن يكون شيء فوقه.

 حينئذ يبقى الإنسان منبهتا كيف ينزل إلى السماء الدنيا ولا تقله، ولا تكون السماوات الأخرى فوقه هل يمكن هذا؟!

والجواب: إذا كنت منبهتا من هذا فإنما تنبهت إذا قست صفات الخالق بصفات المخلوق، صحيح أن المخلوق إذا نزل إلى المصباح صار السطح فوقه وصار سطح المصباح يقله، لكن الخالق لا يمكن أن يقاس بخلقه، فلا تقل: كيف؟ ولم؟

 فالسؤال هذا من أصله بدعة، كما قال مالك للذي سأله عن الاستواء كيف استوى؟ قال: "السؤال عنه بدعة" يعني أن الصحابة ما سألوا عن ذلك، فأنت الآن ابتدعت في دين الله حيث سألت عن أمر ديني ما سأل عنه الصحابة وهم أفضل منك، وأحرص منك على العلم بصفات الله - عز وجل - لكن مع ذلك لو قال: أنا يساورني القلق، وأخشى أن أعتقد بصفات الله ما لا يجوز، فبينوا لي وأنقذوني، فحينئذ نبين له؛ لأن الإنسان قد يبتلى بمثل هذه الأمور، ويأتيه الشيطان ويوسوس له، ويقول: كيف؟ وكيف؟ حتى يؤدي به إلى أحد محذورين: إما التمثيل، وإما التعطيل، فإذا جاءنا يسأل ويقول: أنقذوني، ما زال هذا يتردد في خاطري، وما يكفيني أن تقولوا: بدعة، كيف أذهب ما في خاطري وقلبي؟ نقول: نبين لك.

وأما القول بأن النزول ينافي العلو فهو قول مفترض في نزول تعلم كيفيته وهو نزول المخلوق، وأما نزول الرب تبارك وتعالى فلا يعلم كيف هو حتى يقول فيه قائل.

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وروى أبو إسماعيل الأنصاري بإسناده عن حرب الكرماني قال: قال إسحاق بن إبراهيم: لا يجوز الخوض في أمر الله تعالى كما يجوز الخوض في فعل المخلوقين؛ لقوله تعالى: )لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (23)( (الأنبياء)، ولا يجوز لأحد أن يتوهم على الله تعالى بصفاته وأفعاله - يعني كما نتوهم فيهم - وإنما يجوز النظر والتفكر في أمر المخلوقين، وذلك أنه يمكن أن يكون الله - عز وجل - موصوفا بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى السماء الدنيا كما يشاء، ولا يسأل كيف نزوله؛ لأن الخالق يصنع ما يشاء كما يشاء[78].

ولهذا قال غير واحد من أئمة السلف: إنه ينزل إلى السماء الدنيا ولا يخلو العرش منه، فلا يصير تحت المخلوقات ولا في جوفها قط، بل العلو عليها صفة لازمة له، حيث وجد مخلوق فلا يكون الرب إلا عاليا عليه.

وقول الرسل: "في السماء"؛ أي في العلو، وليس مرادهم أنه في جوف الأفلاك، بل السماء: العلو، وهو إذا كان فوق العرش فهو العلي الأعلى، وليس هناك مخلوق حتى يكون الرب محصورا في شيء من المخلوقات، ولا هو في جهة موجودة، بل ليس موجودا إلا الخالق والمخلوق، والخالق بائن عن مخلوقاته، عال عليها، فليس هو في مخلوق أصلا؛ سواء سمى ذلك المخلوق جهة أو لم يسم جهة.

 ومن قال: إنه في جهة موجودة تعلو عليه أو تحيط به أو يحتاج إليها بوجه من الوجوه فهو مخطئ.

كما أن من قال: ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، ومحمد لم يعرج به إلى ربه، ولا تصعد الملائكة إليه، ولا تنزل الكتب منه، ولا يقرب منه شيء، ولا يدنو إليه شيء، فهو أيضا مخطئ... بل طريق الاعتصام أن ما أثبته الرسل لله أثبت له، وما نفته الرسل عن الله نفي عنه... وفي القرآن والسنة ما يقارب ألف دليل على ذلك وفي كلام الأنبياء المتقدمين ما لا يحصى[79].

ومن خلال هذا يظهر جليا أن النزول الإلهي قد تواترت به السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه عنه جمع من الصحابة، وأجمع على الإيمان به أهل السنة والجماعة، فأهل السنة يؤمنون بأنه - سبحانه وتعالى - ينزل حقيقة لا مجازا، ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء كما أخبر به عنه - صلى الله عليه وسلم - فيثبتون لله - سبحانه وتعالى - النزول وينفون عنه المماثلة كما تقدم، ينزل لا كنزول الخلق، ولا نعلم كيفيته.

فالواجب علينا أن نؤمن بما وصف الله - عز وجل - وسمى به نفسه في كتابه, وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، فيجب أن تبرأ عقيدتنا من هذه المحاذير الأربعة، ويجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ "لم"؟ وكيف؟ فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وكذا يمنع نفسه عن التفكير في الكيفية، وهذا الطريق إذا سلكه الإنسان استراح كثيرا، وهذه حال السلف رحمهم الله.

3.     الطعن في حديث «إن الله خلق آدم على صورته»:

وحديث: «خلق الله آدم على صورته» أخرجه الشيخان البخاري ومسلم، وغير واحد من أصحاب السنن والمسانيد من أئمة الإسلام وعلماء الحديث، واللفظ المتفق عليه عند الشيخين: «خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعا، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك، نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن»[80].

ورواه الإمام مسلم من طريق آخر بلفظ: «إذا قاتل أحدكم أخاه، فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته»[81].

واستشكل بعض المتوهمين حديث: «خلق الله آدم على صورته»، وقالوا: كيف يكون لله صورة، أو مثال؟ أليس هذا من التشبيه المنهي عنه؟

ثم إن هذا الحديث ينكره العقل، ولا يثبته؛ لذلك حمله بعض أهل العلم على التأويل خروجا من هذا الإشكال المتوهم، حتى قال بعضهم:إن الضمير في «صورته» عائد على آدم لا على الذات الإلهية.

الجواب عن هذه الاستشكالات والطعون:

"والصورة: صفة ذاتية خبرية ثابتة لله - عز وجل - بالأحاديث الصحيحة"[82]على ما يليق به - عز وجل - فصورته صفة من صفاته، لا تشبه صفات المخلوقين، كما أن ذاته لا تشبه ذواتهم.

ولفظ الصورة في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات، التي قد يسمى المخلوق بها، على وجه التقييد، وإذا أطلقت على الله اختصت به، مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير، ومثل خلقه بيديه، واستوائه على العرش، ونحو ذلك.

قال شيخ الإسلام: "وكما أنه لابد لكل موجود من صفات تقوم به، فلابد لكل قائم بنفسه من صورة يكون عليها، ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يكون عليها".

وقال: "لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير في الحديث عائد إلى الله تعالى، فإنه مستفيض من طرق متعددة، عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك... ولكن لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفة الضمير فيه عائدا إلى غير الله تعالى، حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم، كأبي ثور وابن خزيمة وأبي الشيخ الأصفهاني وغيرهم، ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة[83].

وقال ابن قتيبة - رحمه الله: "الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه؛ لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد"[84].