إنكار النسخ في السنة النبوية (*)
مضمون الشبهة:
تعرضت قضية النسخ في السنة النبوية لشد وجذب، ما بين طعون من أعداء الإسلام تارة، واعتراضات من بعض المسلمين تارة أخرى. فأنكر الطاعنون وجود النسخ مطلقا، ووصفوه بالبداء[1] الذي ينبغي أن ينزه عنه الخالق - عز وجل - واتخذ بعضهم من اختلاف المسلمين في بعض قضايا النسخ الجزئية تكأة لرده، ووصفوا النسخ بعدم انضباط قضاياه، وأن الطرق المعرفة بالنسخ مختلطة ومضطربة. وأما من اعترض من أهل الإسلام على بعض وجوه النسخ[2] فقد استدل بأن السنة مبينة للقرآن مفسرة له، فلا ينبغي أن تكون حاكمة عليه، أو رافعة لبعض أحكامه. مما يتأتى من جراء هذه الدعاوى والاعتراضات - في مجموعها - الطعن في وقوع النسخ في السنة، فضلا عن إثارة الشكوك حول كثير من قضاياه.
وجوه إبطال الشبهة:
1) النسخ هو ارتفاع حكم شرعي بدليل شرعي متراخ عنه، وهذا المعنى لا يعني البداء أو التردد في الأحكام، فالبداء مستلزم الظهور بعد الخفاء، والعلم بعد الجهل، وذلك مستحيل في حق الله تعالى، كما يشهد العقل والنقل؛ لأنه ينافي إحاطة الله تعالى بكل شيء ما كان وما سيكون، أما النسخ فإنه لا يعدو أن يكون بيانا لمدة الحكم الأول، على نحو ما سبق في علم الله، وإن كان رفعا لهذا الحكم بالنسبة لنا.
2) النسخ ثابت في الشرائع السابقة على شريعة الإسلام بكلا نوعيه؛ (أي في شريعة لاحقة لشريعة سابقة، وبين أحكام الشريعة الواحدة)، دلت على ذلك وقائع التاريخ، ونصوص القرآن والتوراة والإنجيل، وفيها جميعا أحكام نسخت بعضها بعضا.
3) اتفقت كلمة المسلمين - بفضل الله - على أن النسخ في الشريعة جائز عقلا وواقع شرعا، ولم يخالف في ثبوته إلا ما نسب لبعض المتأخرين، وهو - على ندرته - خلاف منهم في اللفظ دون المعنى. فالنسخ لا يترتب على وقوعه محال من ناحية العقل، بالإضافة إلى أن هناك نصوصا، من القرآن، ووقائع من السنة دلت على وقوعه في الشرع.
4) النسخ في الشريعة الإسلامية جائز دورانه بين الكتاب والسنة، فقد يرد القرآن بالنسخ، وقد ترد به السنة، والإجماع منعقد على جواز نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة بالسنة، والجمهور من الأئمة على نسخ السنة للقرآن وبالقرآن، وكذلك ما صح من الآحاد يجوز نسخ القرآن والمتواتر من السنة به على الراجح.
5) وقوع النسخ في الشريعة الإسلامية دليل على حكمة الله تبارك وتعالى في تحقيق مصالح المكلفين، فابتلاء العباد بالنسخ تارة، والتدرج في التشريع تارة أخرى، إنما هو عين الرحمة، وإظهار التفضل على العباد برفع الحرج عنهم، والأخذ بأيديهم لما يصلح به أمر دنياهم وآخرتهم.
6) النسخ في السنة لا يثبت بالاحتمال أو بالهوى، وإنما يخضع لضوابط وشروط لابد أن تتحقق عند أهل الاختصاص قبل القول به، بعد تلمس الطرق المعرفة لكون الناسخ ناسخا، كما هو مقرر في كتب الأصول.
7) اختلاف المسلمين في بعض قضايا النسخ الجزئية لا يعد قدحا في وقوع النسخ، ومصداقية وجوده في السنة عامة، فمرد هذا الاختلاف إلى أن بعض الصحابة كانت تغيب عنه الأحاديث الناسخة بعد تفرقهم في الأمصار فيعلم المنسوخ، ولا يصله الناسخ، ومثل ذلك يقال في حق من اختلف بعدهم من عدم اكتمال شروط النسخ في الحديث الذي بين يديه، فيفتي بخلاف ما هو موجود، وكل هذا لا يقدح فيهم ولا في النسخ، مع التنبيه على أن النسخ في الشريعة قليل، ولم يقع إلا في بعض الفروع الجزئية للأحكام العملية، أما العقيدة وأصول الأحكام والكليات والمقاصد فلا نسخ فيها.
التفصيل:
أولا. النسخ لا يعني البداء أو التردد في الأحكام:
يذكر اللغويون لمادة "النسخ" عدة معان تدور بين النقل والإزالة والإبطال. وأمام هذه المعاني نراهم يختلفون في أيها هو المعنى الحقيقي، وأن ما عداه يدخل في باب المجاز[3].
يقول صاحب "العين": "والنسخ: إزالتك أمرا كان يعمل به، ثم تنسخه بحادث غيره؛ كالآية في أمر، ثم يخفف، فتنسخها بأخرى فالأولى منسوخة "[4].
وقال ابن منظور: "والنسخ: تبديل الشيء من الشيء وهو غيره.. والنسخ نقل الشيء من مكان إلى مكان وهو هو.. والعرب تقول: نسخت الشمس الظل وانتسخته: أزالته، والمعنى: أذهبت الظل، وحلت محله"[5].
وزاد أبو بكر الحازمي الأمر وضوحا حيث قال: "اعلم أن النسخ له اشتقاق عند أرباب اللسان، وحد عند أصحاب المعاني، وشرائط عند العالمين بالأحكام.
أما أصله؛ فالنسخ في اللغة عبارة عن إبطال شيء وإقامة آخر مقامه.
ثم إن النسخ في اللغة موضوع بإزاء معنيين؛ أحدهما: الزوال على جهة الانعدام. والثاني: على جهة الانتقال.
أما النسخ بمعنى الإزالة فهو أيضا على نوعين: نسخ إلى بدل؛ نحو قولهم: نسخ الشيب الشباب، ونسخت الشمس الظل؛ أي: أذهبته وحلت محله، ونسخ إلى غير بدل، إنما هو رفع الحكم وإبطاله من غير أن يقيم له بدلا، يقال: نسخت الريح الديار، أي: أبطلتها وأزالتها، وأما النسخ بمعنى النقل، فهو من قولك: نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه، وليس المراد به إعدام ما فيه، ومنه قوله تعالى: )إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (29)( (الجاثية) "[6].
"وإذا كان اسم النسخ مجازا في النقل لزم أن يكون حقيقة في الإزالة؛ لأنه غير مستعمل فيما سواهما، وإذا بطل كونه حقيقة في أحدهما تعين أن يكون حقيقة في الآخر، وقد قرر ذلك بعضهم من وجه آخر، فقال: إطلاق اسم النسخ بمعنى الإزالة والإعدام واقع كما سبق، والأصل في الإطلاق الحقيقة، ويلزم ألا يكون حقيقة في النقل؛ دفعا للاشتراك عن اللفظ[7].
لقد وضعت مادة النسخ لتدل على معنى الإزالة، فالإزالة إذن هي المعنى الحقيقي لها[8].
ومن هنا نستطيع أن نرجح أن معنى النسخ هو الرفع والإزالة، وأن النسخ حقيقة في الإزالة مجاز في النقل [9].
وندع المعنى اللغوي للنسخ بعد أن تبينا حقيقته ومجازه لنرى كيف فسرت حقيقته الشرعية في العصور المختلفة، وكيف قامت هذه الحقيقة على حقيقته اللغوية حينا، وعلى مجازه حينا آخر.
مفهوم النسخ في الاصطلاح:
وقبل أن نقف على حد النسخ عند الأصوليين لابد أن نراعي أن مصطلح النسخ قد مر بتطور في مفهومه بين المتقدمين من السلف الأوائل، وبين مفهومه المستقر لدى المتأخرين من علماء الأصول.
"فالذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد كانوا يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، إنما المراد ما جيء به آخرا، فالأول غير معمول به، والثاني معمول به"[10].
وأما مفهومه المستقر عند الأصوليين، فنجد في تعريفاتهم تنوعا - ولا نقول اختلافا - لأن كل واحد منهم راعى في مسألة النسخ أشياء نحت به منحى معينا في حده لمصطلح النسخ.
فقال جماعة منهم القاضي أبو بكر الباقلاني، والصيرفي، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والآمدي، وابن الأنباري وغيرهم: هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا، مع تراخيه عنه[11].
وفي النصف الثاني من القرن العاشر يعرف الفتوحي النسخ فيقول:
والنسخ شرعا: "رفع حكم شرعي بدليل شرعي متراخ "، ثم قال: ذكر معنى ذلك ابن الحاجب وغيره، وهو قول الأكثر [12].
وهذان التعريفان من أبسط التعاريف وأوضحها، فلا غموض فيهما ولا تعقيد، وهما يعودان بالنسخ إلى مدلوله الأول، فيربطان بينه وبين مدلوله اللغوي برباط وثيق، ويستمدان من القرآن الكريم والسنة المطهرة ولغة الصحابة والتابعين حقيقتهما الشرعية.
وهما بمعنى متقارب إن لم يكن واحدا، بعيدا عن بعض الاعتراضات التي سجلها الشوكاني[13] بعد ذكر التعريف الأول؛ لأن هذا كله إنما هو نزاع لفظي لا معنوي، "فبعض المدارس الأصولية التي عرفت النسخ كانت كلامية المنشأ، فاصطبغت تعريفاتها بصبغة هي إلى مذاهب علماء الكلام والفلسفة أقرب منها إلى مذاهب الأصوليين"[14].
وفي النهاية فإن تعريفات الأصوليين للنسخ نجدها - وإن كانت متعددة في التعابير ومتنوعة أو متقاربة في المعاني - كلها تدور حول معنى واحد، وهو أن النسخ إلغاء حكم شرعي سابق بدليل شرعي لاحق.
ومن خلال هذه التعاريف نقرر أيضا أن النسخ لا يدل على البداء، والبداء: عبارة عن ظهور الشيء بعد خفائه، ومنه يقال: بدا لنا سور المدينة بعد خفائه، وبدا لنا الأمر الفلاني؛ أي: ظهر بعد خفائه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: )وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (47)( (الزمر).
وحيث كان النسخ يتضمن الأمر بما نهي عنه، أو النهي عما أمر به على حده، وظن أن الفعل لا يخرج عن كونه مستلزما لمصلحة أو مفسدة، فإن كان مستلزما لمصلحة فالأمر به - بعد النهي عنه على الحد الذي نهي عنه - إنما يكون لظهور ما كان قد خفي من المصلحة، وإن كان مستلزما لمفسدة، فالنهي عنه - بعد الأمر به على الحد الذي أمر به - إنما يكون لظهور ما كان قد خفي من المفسدة، وذلك عين البداء، فخفي الفرق بين البداء والنسخ.
وكشف الغطاء عن ذلك يتحقق بالفرق بين النسخ والبداء، فنقول: إذا عرف معنى البداء، وأنه مستلزم للعلم بعد الجهل، والظهور بعد الخفاء، وأن ذلك مستحيل في حق الله تعالى[15]، كما يشهد بذلك العقل والنقل، فيتضح ما خفي من التداخل بينهما.
أما العقل: فهو يقرر - نتيجة للنظر الصحيح في هذا العالم - أن الله - عز وجل - متصف أزلا وأبدا بالعلم الواسع المحيط بكل شيء: ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وأنه قديم لا يمكن أن يكون حادثا، ولا محلا للحوادث؛ إذ الجاهل عاجز عن أن يخلق هذا العالم بهذا النظام المعجز، مثله في عجزه الحادث. وقد ثبت أن الله جلت قدرته هو الخالق المبدع للكون كله بمن فيه، فيستحيل إذن عليه الجهل أو الحدوث، وكلاهما يستلزم البداء، فالعقل إذن يحكم باستحالته على الله.
وأما النقل: فهو يلتقي مع العقل في الحكم باستحالة الجهل والحدوث علي الله - عز وجل - ذلك حيث تصفه النصوص الثابتة يقينا بالعلم الواسع المحيط، وبالقدم الذي لا يسبقه شيء، وبأنه هو الخالق، لاخالق سواه، وحسبنا في الدلالة على هذا قوله تعالى: )وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (59)( (الأنعام).
من أجل هذا تنزه الله - عز وجل - عن الوصف بالبداء؛ لأن البداء ينافي إحاطة الله تعالى بكل شيء: ما كان وما سيكون، ولم يتنزه عن النسخ؛ لأن النسخ لا يعدو أن يكون بيانا لمدة الحكم الأول، على نحو ما سبق في علم الله تعالى، وإن كان رفعا لهذا الحكم بالنسبة لنا[16].
"ففي حالة النسخ يعلم الله تعالى من الأزل أن ما أمر به من الأفعال محقق للمصلحة في وقت من الأوقات، ونسخه محقق للمصلحة في وقت آخر، كما يعلم سبحانه أن ما نهى عنه لمفسدة في وقت معين يكون بقاؤه مفسدة في وقت آخر، ونسخه مصلحة، فلا يلزم من ذلك أن يكون قد ظهر له ما كان خفيا عنه، ولا أن يكون قد أمر بما فيه مفسدة، ولا نهى عما فيه مصلحة" [17].
ونخلص من ذلك إلى أنه لا علاقة بين النسخ والبداء؛ لأن الأول فيه تغيير لعلم الله تعالى، والثاني يفترض وقوع هذا التغيير، وفرق كبير بين ما يقوم عليه البداء من تغيير في العلم، وما يقوم عليه النسخ من تغير في المعلوم مع ثبات العلم نفسه على ما كان منذ الأزل.
"وأما المراد بآية: )يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (39)( (الرعد) فهو محو المنسوخ وإثبات الناسخ، ومحو السيئـات بالحسنـات، كمـا قـال تعالـى: )إن الحسنات يذهبـن السيئـات( (هود: ١١٤).
وعليه فإن أمر الله مطلق، فما علم الله استمرار حكمه لن يلحقه نسخ، وما علم انتهاء حكمه عند أمد معين، فقد علم انتهاءه مسبقا بالنسخ الآتي في الوقت الذي يقع فيه، لا أن علم انتهائه عند ذلك الوقت أو الأمد؛ حتى لا ينقلب علمه جهلا" [18].
ومعنى هذا أن الله - عز وجل - حين ينسخ شريعة أو حكما في شريعة إنما يكشف لنا بهذا النسخ عن شيء من علمه السابق، ومن هنا يعد النسخ نوعا من أنواع البيان، ولا يعني بأية حال وصف الله - عز وجل - بالبداء.
ثانيا. النسخ ثابت في الشرائع السماوية كلها:
إن الشرائع السماوية تعد لبنات متراصة في بنيان الدين والأخلاق وسياسة المجتمع، وكانت مهمة اللبنة الأخيرة منها أنها أكملت البنيان، وملأت ما بقي من فراغ، وأنها في الوقت نفسه كانت بمثابة حجر الزاوية الذي يمسك أركان البناء. وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صور الرسالات السماوية في جملتها أحسن تصوير، فقال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»[19].
إنها إذن سياسة حكيمة رسمتها يد العناية الإلهية؛ لتربية البشرية تربية تدريجية، لا طفرة فيها ولا ثغرة، ولا توقف فيها ولا رجعة، ولا تناقض ولا تعارض، بل تضافر وتعانق، وثبات، واستقرار، ثم نمو واكتمال وازدهار.
والله - عز وجل - حين يشرع لقوم من خلقه شرعا فإنه يعلم يقينا ما سيبقى من هذا الشرع وما سينسخ، ويعلم الحكم الذي سيحل محل المنسوخ حين يرفع، كما يعلم الوقت الذي سيتم فيه النسخ، فعلمه - عز وجل - محيط بكل شيء"[20].
والنسخ ليس مقصورا على الشريعة الإسلامية وحدها، وإنما وقع - أيضا - في الشرائع السابقة على شريعة الإسلام بكلا نوعيه؛ أي في شريعة لاحقة لشريعة سابقة، وفي الشريعة الواحدة نفسها[21]، على أنه ينبغي أن يكون معلوما أن الحكمة الإلهية التي اقتضت رسوخ الدين وثباته في بعض الأحكام هي التي اقتضت نسخ شريعة سابقة بشريعة لاحقة؛ رعاية لحكم الضرورة، أو مسايرة لسنة الترقي، ومضيا مع نضج العقل الإنساني[22].
أما عن وقوع النسخ في الشرائع السابقة نفسها، فهو ثابت رغم إنكار اليهود له، والأدلة على ذلك كثيرة تحفل بها التوراة.
وأولى الوقائع: التي تثبت النسخ هي واقعة زواج آدم - عليه السلام - من حواء، وحل استمتاعه بها نتيجة لهذا الزواج، مع أنها جزء منه، فقد حرمت الشرائع التالية لشريعة آدم - ومنها اليهودية - أن يستمتع الإنسان بجزئه. ومن ذلك: «وعرف آدم حواء امرأته، فحبلت وولدت قايين. وقالت: اقتنيت رجلا من عند الرب». (التكوين 4: 1).
والواقعة الثانية: من وقائع النسخ في الشرائع السابقة كانت هي أيضا من شريعة آدم، وهي زواج أبنائه من بناته وحل استمتاعهم بهن، مع إجماع الشرائع بعد ذلك على تحريم زواج الأخ من أخته: شقيقة أو لأب، أو لأم. توأمه لأخيه الآخر أو لا. ومن ذلك: «وعرف قايين امرأته، فحبلت وولدت حنوك. وكان يبني مدينة، فدعا اسم المدينة كاسم ابنه حنوك».(التكوين 4: 17).
والواقعة الثالثة: هي قصة الذبيح - وإن اختلفوا معنا في تعيينه - فقد أمر الله - عز وجل - إبراهيم - عليه السلام - بأن يذبح ابنه إسحاق في زعمهم، واستجاب نبي الله لأمره، فأعد ابنه للذبح، وكاد الذبح يتم فعلا، لولا أن الله - عز وجل - نسخ الأمر به، وفدي الغلام المستسلم لأمر الله بذبح عظيم. ونص ذلك: «وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم، فقال له: يا إبراهيم! فقال: هأنذا. فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه، إسحاق، واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك. فبكر إبراهيم صباحا وشد على حماره، وأخذ اثنين من غلمانه معه، وإسحاق ابنه، وشقق حطبا لمحرقة، وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله. وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد، فقال إبراهيم لغلاميه: اجلسا أنتما ههنا مع الحمار، وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد، ثم نرجع إليكما. فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ووضعه على إسحاق ابنه، وأخذ بيده النار والسكين. فذهبا كلاهما معا. وكلم إسحاق إبراهيم أباه وقال: يا أبي. فقال: هأنذا يا ابني. فقال: هوذا النار والحطب، ولكن أين الخروف للمحرقة؟ فقال إبراهيم: الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني. فذهبا كلاهما معا. فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله، بنى هناك إبراهيم المذبح ورتب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب. ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه. فناداه ملاك الرب من السماء وقال: إبراهيم إبراهيم! فقال: هأنذا. فقال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا؛ لأني الآن علمت أنك خائف الله، فلم تمسك ابنك وحيدك عني. فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه. فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع «يهوه يرأه». حتى إنه يقال اليوم: في جبل الرب يرى». (التكوين 22: 1 - 13).
والواقعة الرابعة: هي تحريمهم العمل الدنيوي - ومنه الاصطياد - في يوم السبت، مع اعترافهم بأن هذا التحريم لم يرد إلا في شريعتهم، أما قبلهم فقد كان هذا اليوم كغيره من أيام الأسبوع: يجوز فيه العمل الدنيوي، ولا يحرم فيه إلا ما يحرم في سائر الأيام من أعمال. ومن ذلك ما جاء على لسان موسى عليه السلام: «فقال لهم: هذا ما قال الرب: غدا عطلة، سبت مقدس للرب. اخبزوا ما تخبزون واطبخوا ما تطبخون. وكل ما فضل ضعوه عندكم ليحفظ إلى الغد. فوضعوه إلى الغد كما أمر موسى، فلم ينتن ولا صار فيه دود. فقال موسى: كلوه اليوم؛ لأن للرب اليوم سبتا. اليوم لا تجدونه في الحقل. ستة أيام تلتقطونه، وأما اليوم السابع ففيه سبت، لا يوجد فيه، وحدث في اليوم السابع أن بعض الشعب خرجوا ليلتقطوا فلم يجدوا. فقال الرب لموسى: إلى متى تأبون أن تحفظوا وصاياي وشرائعي؟ انظروا! إن الرب أعطاكم السبت. لذلك هو يعطيكم في اليوم السادس خبز يومين. اجلسوا كل واحد في مكانه. لا يخرج أحد من مكانه في اليوم السابع. فاستراح الشعب في اليوم السابع». (الخروج 16: 23 - 30).
وإذا كان اليهود قد اعترفوا بهذه الوقائع الأربع، ولم ينكروا ما فيها من نسخ لبعض الأحكام التي كانت مقررة في الشرائع السابقة، ثم جاءت التوارة بما يخالفها - فهم يعترفون كذلك بالأحكام التي نسخت من شريعتهم، وكان الناسخ لها أحكاما أخرى جاءت بها هذه الشريعة نفسها[23].
ومن هذه الأحكام أمر الله - عز وجل - لهم بأن يعملوا السيف فيمن عبد العجل منهم، ثم أمره تعالى برفع السيف عنهم وعدم قتلهم. فكلا الحكمين في هذه الواقعة الواحدة ورد في التوراة، وانتساخ أولهما بثانيهما واقع لا ينكره اليهود ولا يمارون فيه.
ونص ذلك: «وقال موسى لهارون: ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة؟ فقال هارون: لا يحم غضب سيدي. أنت تعرف الشعب أنه في شر. فقالوا لي: اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر، لا نعلم ماذا أصابه. فقلت لهم: من له ذهب فلينزعه ويعطني. فطرحته في النار فخرج هذا العجل. ولما رأى موسى الشعب أنه معرى؛ لأن هارون كان قد عراه للهزء بين مقاوميه، وقف موسى في باب المحلة، وقال: من للرب فإلي. فاجتمع إليه جميع بني لاوي. فقال لهم: هكذا قال الرب إله إسرائيل: ضعوا كل واحد سيفه على فخذه ومروا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة، واقتلوا كل واحد أخاه، وكل واحد صاحبه وكل واحد قريبه. ففعل بنو لاوي بحسب قول موسى. ووقع من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل. وقال موسى: املأوا أيديكم اليوم للرب، حتى كل واحد بابنه وبأخيه، فيعطيكم اليوم بركة. وكان في الغد أن موسى قال للشعب: أنتم قد أخطأتم خطية عظيمة، فأصعد الآن إلى الرب لعلي أكفر خطيتكم. فرجع موسى إلى الرب، وقال: آه، قد أخطأ هذا الشعب خطية عظيمة وصنعوا لأنفسهم آلهة من ذهب. والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت. فقال الرب لموسى: من أخطأ إلي أمحوه من كتابي. والآن اذهب اهد الشعب إلى حيث كلمتك. هوذا ملاكي يسير أمامك. ولكن في يوم افتقادي أفتقد فيهم خطيتهم. فضرب الرب الشعب، لأنهم صنعوا العجل الذي صنعه هارون». (الخروج 32: 21 - 35).
وهناك أحكام وردت في شريعة موسى، ثم جاءت شريعة عيسى - عليهما السلام - بأحكام ناسخة لها، كما نسخت بعض أحكام التوراة أحكاما جاءت بها الشرائع السابقة لها، وكما نسخت بعض الأحكام فيها بعضها الآخر.
من بين هذه الأحكام أن اليهود كانوا يوجبون الختان، قيل: يوم الولادة، وقيل: في اليوم الثامن: «وختن إبراهيم إسحاق ابنه وهو ابن ثمانية أيام كما أمره الله». (التكوين 21: 4)، «وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته». (اللاويين 12: 3)، وقد نسخ هذا الحكم - وهو الوجوب - في شريعة عيسى عليه السلام، فعاد الختان إلى الإباحة كما كان قبل أن تجيء شريعتهم: «قال الرب ليشوع: اصنع لنفسك سكاكين من صوان، وعد فاختن بني إسرائيل ثانية. فصنع يشوع سكاكين من صوان وختن بني إسرائيل في تل القلف. وهذا هو سبب ختن يشوع إياهم: أن جميع الشعب الخارجين من مصر، الذكور، جميع رجال الحرب، ماتوا في البرية على الطريق بخروجهم من مصر. لأن جميع الشعب الذين خرجوا كانوا مختونين، وأما جميع الشعب الذين ولدوا في القفر على الطريق بخروجهم من مصر فلم يختنوا. لأن بني إسرائيل ساروا أربعين سنة في القفر حتى فني جميع الشعب، رجال الحرب الخارجين من مصر، الذين لم يسمعوا لقول الرب، الذين حلف الرب لهم أنه لا يريهم الأرض التي حلف الرب لآبائهم أن يعطينا إياها، الأرض التي تفيض لبنا وعسلا. وأما بنوهم فأقامهم مكانهم. فإياهم ختن يشوع؛ لأنهم كانوا قلفا، إذ لم يختنوهم في الطريق. وكان بعدما انتهى جميع الشعب من الاختتان، أنهم أقاموا في أماكنهم في المحلة حتى برئوا». (يشوع 5: 2 - 8).
ومن هذه الأحكام أيضا أن الطلاق كان مباحا في شريعتهم: «إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها، فإن لم تجد نعمة في عينيه؛ لأنه وجد فيها عيب شيء، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر، فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة، لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست؛ لأن ذلك رجس لدى الرب. فلا تجلب خطية على الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيبا». (التثنية 24: 1 - 3)، ثم جاءت الشريعة العيسوية فحرمته - على حد زعمهم - إلا إذا ثبت الزنا على الزوجة: «وقيل: من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق. وأما أنا فأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني». (متى 5: 31، 32).
ومن بين هذه الأحكام - أيضا - أن أكل لحم الخنزير كان محرما في شريعتهم: «الذين يقدسون ويطهرون أنفسهم في الجنات وراء واحد في الوسط، آكلين لحم الخنزير والرجس والجرذ، يفنون معا، يقول الرب». (إشعياء 66: 17)، حتى جاءت الشريعة العيسوية فأباحته - على زعمهم - وروت أناجيلها قصة إباحته وكيف حدثت: «حينئذ رأى الرسل والمشايخ مع كل الكنيسة أن يختاروا رجلين منهم، فيرسلوهما إلى أنطاكية مع بولس وبرنابا: يهوذا الملقب برسابا، وسيلا، رجلين متقدمين في الإخوة... فقد أرسلنا يهوذا وسيلا، وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاها؛ لأنه قد رأى الروح القدس ونحن، أن لا نضع عليكم ثقلا أكثر، غير هذه الأشياء الواجبة: أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق، والزنا، التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعما تفعلون. كونوا معافين». (أعمال الرسل 15: 22 - 29).
وقد ينكر اليهود ما جاءت به شريعة عيسى - عليه السلام - ناسخا لبعض ما جاءت به شريعتهم، فيرون أن لحم الخنزير ما زال يحرم أكله، وأن الطلاق ما فتئ مباحا دون اضطرار إلى إثبات الزنا على الزوجة، وأن الختان ما انفك واجبا لم يرتفع وجوبه بشيء، ولكن ماذا عسى أن يقولوا في الأحكام المنسوخة إذا كان ناسخها من شريعتهم؟ وبماذا يفسرون تحريمهم العمل الدنيوي في يوم السبت بعد إباحته، والأمر برفع السيف عن عبدة العجل منهم بعد الأمر بقتلهم، وتحريم أكل أنواع من الحيوان عليهم بعد أن كانت كل دابة مأكلا لنوح وذريته وللأمم من بعدهم، كنبات العشب[24]؟
أما ما يخص شريعة النصارى نفسها " فالذي يترجح لدينا أن بعض الأحكام في النصرانية هي - في حقيقتها - إبطال لأحكام الشريعة اليهودية في موضوعات كثيرة، مع أن الأناجيل - أو كتاب العهد الجديد - هي باعتراف النصارى! كمال للتوراة - أو العهد القديم -، وليست ناسخة لها. ولكننا مع هذا نرى نصارى هذا العصر ينكرون جواز النسخ عقلا، كما ينكرون وقوعه؛ ليصلوا من هذا الإنكار إلى غاية حرصوا على تحقيقها، وهي بقاء دينهم إلى جانب الإسلام، بحجة أن شريعة لم تنسخ بشريعة، وأن حكما في شريعة لا ينسخ بحكم في شريعة بعدها" [25].
فكيف يستقيم ذلك ونصارى العصر يخالفون ما ورد في التوراة عن الطلاق؛ فيحكمون بتحريمه إلا إذا ثبت الزنا أو اختلف الدين، وأنهم لا يرون وجوب الختان بالرغم من ثبوت حكمه في التوراة، ويستبيحون أكل لحم الخنزير مع أن التوراة صريحة في تحريمه.
وأنهم يقرون بطريق القسطنطينية على ما ادعاه بقوله: "إن سيدنا المسيح قد أبطل سائر ما في التوارة، وجاء بتوراة جديدة هي الإنجيل، والإبطال هو النسخ كما هو مقرر"[26].
أما عن موقف الإسلام من الشرائع السابقة ونظرته إليها - فالإسلام يفرق بين مرحلتين في نظرته للشرائع السابقة:
المرحلة الأولى: نظرته للشرائع السابقة وهي على صورتها الحقيقية لم تتغير، ولم تتبدل؛ فالإسلام يؤكد أن كل رسول يرسل، وكل كتاب ينزل قد جاء مصدقا ومؤكدا لما قبله، هذا التصادق الكلي بين الشرائع السماوية إنما يعني وحدة هذه الشرائع في عقائدها وأصولها التي لا تقبل التغيير والتبديل.
أما التشريعات العملية فإنها على نوعين:
1. نوع لا يتبدل ولا يتغير بتغير الأصقاع والأوضاع؛ كالوصايا العشر التي جاءت في سورة الأنعام في قوله تعالى: )قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون (151) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كـان ذا قربـى وبعهـد الله أوفـوا ذلكـم وصاكـم به لعلكـم تذكـرون (152) وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (153)( (الأنعام).
قال ابن عباس - رضي الله عنهما: "أجمعت عليه شرائع الخلق ولم تنسخ في ملة"[27].
2. نوع آخر مؤقت معين، ينتهي بانتهاء وقته، وتجيء الشريعة اللاحقة بتغييره كلية، أو تعديله، وهو المعروف بالنسخ الجزئي أو الكلي.
المرحلة الثانية: وهي العلاقة بين الشريعة المحمدية وبين الشرائع السابقة، بعد أن طال عليها الأمد، ونالها من التحريف ما نالها، فإن الإسلام ينظر إليها نظرة الحارس الأمين، النافي لما جاء فيها زائدا عما شرعه الله تعالى، متحديا - في بعض الأحيان - وجود ما هو دخيل في أصل كتبهم[28].
فعلاقة الإسلام بهذه الشرائع السماوية في صورتها الأخيرة بعد التحريف والتبديل علاقة تصديق لما بقي من أجزائها الأصلية، وتصحيح لما طرأ عليها من البدع والإضافات الغريبة عنها"[29].
ولذلك قرر علماء الإسلام مبادئ وأصولا تخص "شرع من قبلنا"، أهمها:
أولا: أن أحكام شرع من قبلنا لا تؤخذ من غير المصادر الإسلامية، فلا عبرة بالنقل من غير هذه المصادر لما نالها من التحريف والتبديل.
ثانيا: ما ثبت بالنص الإسلامي أنه مقرر في الإسلام، كما كان مقررا في الشرائع السابقة، فهو ثابت بالنص الإسلامي، لا بالحكاية عن السابقين؛ ومن ذلك قولـه تعالـى: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيـام كمـا كتـب على الذيـن من قبلكـم لعلكـم تتقــون (183)( (البقرة)[30].
ومن هنا قلنا نحن المسلمين بجواز النسخ ووقوعه، فقد قرر القرآن أنه كتاب الله ودعوته إلى الناس جميعا، وأن على كل إنسان أن يؤمن به، ويتبع ما جاء فيه، وهذا هو النسخ بمعناه العام، أي: نسخ شريعة لشريعة سابقة، وسجل تاريخ الشريعة الإسلامية أحكاما نسخت أحكاما سابقة عليها في نفس الشريعة، فأضاف إلى النسخ ذلك النوع الآخر من النسخ، ونعني به نسخ حكم لحكم في الشريعة الواحدة.
ومضى المسلمون منذ عهد النبوة على هذا، فلم يشك أي منهم في أن الإسلام هو دين بني الإنسان، منذ دعا إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى يرث الله الأرض ومن عليها، كما لم يشك مسلم في أن بعض الأحكام الجزئية العملية التي شرعها الإسلام قد نسختها أحكام أخرى في موضوعها، وكان كل من الحكمين المنسوخ ثم الناسخ هو الحق في زمانه، وبشرعه نيطت مصلحة أو مصالح تحققت بالعمل به ما دام قائما [31].
وفي ضوء ما تقدم يمكن القول: إن الشرائع الإلهية السابقة نسخت أحكامها الفرعية التي تختلف باختلاف الزمان والمكان بالشريعة الإسلامية؛ لأن القرآن الكريم هو الدستور الإلهي الأخير، جاء معدلا للدساتير السابقة، فألغى منها ما كان قابلا للإلغاء، وأقر منها ما كان غير قابل له؛ كالأحكام الاعتقادية، وآيات الأحكام التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، وأصبحت تلك الأحكام الباقية جزءا من شريعة الإسلام [32].
ثالثا. النسخ جائز عقلا، واقع سمعا بلا خلاف في ذلك بين المسلمين[33]:
إن النسخ جائز عقلا، واقع سمعا، كما قال جمهور العلماء؛ ولأجل أن نثبت وقوع النسخ لا بد أن نقيم أدلة على جوازه العقلي، وأدلة أخرى على وقوعه السمعي.
أدلة جواز النسخ عقلا:
الدليل الأول: أن النسخ لا يترتب على فرض وقوعه محال؛ وذلك لأن أحكام الله - عز وجل - إما أن تشرع لصالح العباد، أو لا تشرع لمصالح العباد، فإن قلنا بالأول فلا شك أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص، كما تختلف باختلاف الأزمان[34]، وإذا عرف جواز اختلاف المصلحة باختلاف الأزمان، فلا يمتنع أن يأمر الله تعالى المكلف بالفعل في زمان؛ لعلمه بمصلحته فيه، وينهاه عنه في زمن آخر؛ لعلمه بمصلحته فيه، كما يفعل الطبيب بالمريض حيث يأمره باستعمال دواء خاص في بعض الأزمنة، وينهاه عنه في زمن آخر؛ بسبب اختلاف مصلحته. ولهذا خص الشارع كل زمان بعبادة غير عبادة الزمن الآخر؛ كأوقات الصلوات والحج والصيام، ولولا اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة لما كان كذلك، ومع جواز اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة لا يكون النسخ ممتنعا[35]، وما دامت المصالح تتغير والأحكام يراعى في تشريعها مصالح الناس؛ فإن النسخ ممكن غير محال ويكون جائزا عقلا [36].
"وإن قلنا بالثاني، وهو أن الأحكام لا يراعى في تشريعها مصالح العباد، فظاهر أيضا أن النسخ لا يترتب عليه محال؛ لأنه لم يخرج عن كونه فعلا من أفعال الله تعالى، والله يفعل ما يشاء" [37].
فإن قيل: إن هذا الدليل مدفوع " بأن الحكم الناسخ إن كان لمصلحة علمها الله بعد أن لم يكن علمها، فقد تحقق البداء - وهو الظهور بعد الخفاء - وذلك باطل على الله؛ لما يلزمه من نسبة الجهل إلى الله تعالى. وإن كان قد شرع لا لمصلحة، فيكون عبثا، والعبث من الشارع محال، وما يترتب عليه محال، فإن النسخ محال.
ويجاب عن ذلك: بأن هناك قسما ثالثا، هو أنه تعالى شرع الحكم الثاني لمصلحة علمها أزلا، ولم تخف عليه أصلا، ولكن وقتها يجيء عند انتهاء الحكم الأول لانتهاء المصلحة المقصودة منه، وهذا لا يترتب عليه بداء ولا عبث [38].
فإن اعترض بأنه: لو جاز نسخ الأحكام الشرعية؛ لتغير وجه المصلحة، لجاز نسخ ما وجب من الاعتقادات في أمور التوحيد، وصفات الله تعالى وما يجوز عليه، وهو محال باطل، فبطل ما أدى إليه.
فيجاب عن ذلك: بأن اعتقاد التوحيد وكل ما دل عليه العقل إن ثبت بالعقل فمستحيل نسخ ما ثبت وجوبه عقلا؛ لأن الشارع لا يأتي بما يخالف العقل، وإن ثبت بالشرع، فالعقل لا يمنع عدم وجوب الاعتقاد بوحدانية الله، ووحدانيته ابتداء عن الأصل، فضلا عن نسخه بعد وجوبه[39].
الدليل الثاني: "أن المخالف لا يخلو إما أن يكون ممن يوافق على أن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير نظر إلى حكمة وغرض، وإما أن يكون ممن يعتبر الحكمة والغرض في أفعاله تعالى"[40].
فأهل السنة يقولون: إنه لا يجب على الله تعالى لعباده شيء، بل هو - سبحانه - الفاعل المختار والكبير المتعال، وله - بناء على اختياره ومشيئته، وكبريائه وعظمته - أن يأمر عباده بما شاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه ولا ملزم يلزمه برعاية مصالح عباده. ولكن ليس معنى هذا أنه عابث أو مستبد أو ظالم، بل إن أحكامه وأفعاله - عز وجل - كلها لا تخلو من حكمة بالغة، وعلم واسع، وتنزه عن البغي والظلم، والمعتزلة يقولون: إنه تعالى يجب أن يتبع في أحكامه مصالح عباده، فما كان فيه مصلحة لهم أمرهم به، وما كان فيه مضرة عليهم نهاهم عنه، وما دار بين المصلحة تارة والمفسدة أخرى أمرهم به تارة ونهاهم عنه أخرى.
وإذا تقرر هذا، فإننا نستدل من مذهب أهل السنة على أن النسخ تصرف في التشريع من الفاعل المختار الكبير المتعال الذي لا يجب عليه رعاية مصالح عباده في تشريعه. وإن كان تشريعه لا يخلو من حكمة، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا.
وكيف يكون محظورا عقلا، ونحن نشاهد أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال، فالمعلم يتعهد تلاميذه البادئين بأسهل المعلومات، ثم يتدرج بهم من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب؛ حتى يصل بهم إلى أدق النظريات، مقتفيا في ذلك آثار خطى أهل العلم إلى السمو الفكري، والكمال العقلي؟!
كذلك الأمم تتقلب كما يتقلب الأفراد في أطوار شتى، فمن الحكمة في سياستها وهدايتها أن يصاغ لها من التشريعات ما يناسب حالها في الطور الذي تكون فيه، حتى إذا انتقلت منه لآخر، صاغ لها تشريعا آخر يتفق وهذا الطور الجديد؛ وإلا لاختل ما بين الحكمة والأحكام من الارتباط والإحكام، ولم يجر تدبير الخلق على ما تشهده من الإبداع ودقة النظام[41].
الدليل الثالث: أن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا، لما ثبتت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي يطول شرحها، إذن فالشرائع السابقة ليست باقية بل هي منسوخة بهذه الشريعة الختامية، وإذن فالنسخ جائز وواقع، أما ملازمة هذا الدليل فنبرهن عليها بأن النسخ لو لم يكن جائزا وواقعا لكانت الشرائع الأولى باقية، ولو كانت باقية ما ثبتت رسالته - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة [42].
وقد قدمنا أن للإسلام موقفا من الشرائع السابقة، هذا الموقف ضبطه علماء الشريعة فيما يعرف بشرع من قبلنا، وهل هو شرع لنا أو لا؟ وقد فصلنا فيه القول بأن الإسلام ناسخ لهذه الشرائع في أحكامها الفرعية التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، وما أقره الإسلام من أحكام هذه الشرائع فهو شرع لنا بنصوص شرعنا لا بنصوص هذه الشرائع؛ لما حل عليها من تحريف وتبديل.
فدل على أن الشريعة المحمدية قاضية على الشرائع السابقة عليها جملة وتفصيلا؛ لثبوتها وعمومها لكافة الخلق.
ومن خلال ما سبق نخلص إلى أن النسخ جائز وقوعه عقلا، وفيما يلي عرض للأدلة النقلية (السمعية) التي برهنت على صحة وقوع النسخ شرعا.
أدلة وقوع النسخ شرعا:
هناك العديد من الآيات القرآنية التي تدل على وقوع النسخ في القرآن الكريم، وما يجري على القرآن يجري علي السنة من باب أولى، ثم إننا في معرض إثبات النسخ شرعا - على عمومه - نذكر أولا الأدلة من القرآن التي تثبت وقوعه، فنقول:
الدليل الأول: قوله تعالى في سورة البقرة: )ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير (106)( (البقرة).
وقبل أن نذكر خلاصة كلام المحققين في تفسير هذه الآية يجب أن نورد سبب نزولها؛ فإن ذلك يعين على فهم المقصود منها.
قال الإمام القرطبي: "وهذه آية عظمى في الأحكام، وسببها أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة، وطعنوا في الإسلام بذلك، وقالوا: إن محمدا يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه، فما هذا القرآن إلا من جهته؛ ولهذا يناقض بعضه بعضا، فأنزل الله: )وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (101)( (النحل)، وأنزل: )ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير (106) ( (البقرة)" [43].
ومن خلال سبب النزول هذا يمكن القول: إن هذه الآية برهان صريح على وقوع النسخ في القرآن بمعنى الإزالة والتبديل؛ وذلك بأن ينزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - آية على خلاف آية نزلت قبلها تغير حكمها إلى حكم جديد هو أرفق بالناس، أو أعظم لهم ثوابا، وأفضل عاقبة مما كان لهم قبل ذلك[44].
وفي هذا المعنى يقول ابن جرير الطبري: "يعني - جل ثناؤه - بقوله: )ما ننسخ من آية(، ما ننقل من حكم آية إلى غيره، فنبدله ونغيره، وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا، والمباح محظورا، والمحظور مباحا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ"[45].
وجمهور المفسرين على أن المراد من الآية هنا هي الآية القرآنية، وذهب بعضهم إلى أنها الآية الكونية، أو المعجزة التي يؤيد الله بها أنبياءه, لكن هذا المعنى لا يتفق وسياق الآية الكريمة، كما أنه مخالف لما ورد في سبب نزول الآية.
وممن قال بالرأي الأول - أن المقصود بالآية هي الآية القرآنية - الإمام الحسن الماوردي والزمخشري، والإمام الرازي، وأبو عبد الله القرطبي، وأبو حيان الغرناطي والحافظ الدمشقي، وأبو الحسن برهان الدين، والنيسابوري، وشهاب الدين الألوسي، وغيرهم ممن لا يكادون يحصون عددا من كبار علماء التفسير[46].
وقوله تعالى: )نأت بخير منها أو مثلها( (البقرة: ١٠٦) دليل على إمكان نسخ الآية بوحي سواها، دون أن يكون ذلك الوحي قرآنا يتلى.
والتفاضل بين الآيات ليس من جهة ألفاظها، فجميع ذلك كلام الله، وإنما من جهة ما فيها من الشرائع والأحكام بالنسبة للمكلف، فالأحكام هي التي تتفاضل فيكون بعضها خيرا من بعض، فإذا عادت الخيرية إلى الأحكام دون اعتبار صيغتها ولفظها، فقد صح النسخ بكل ما ثبت أن الله تعالى أوحاه لنبيه صلى الله عليه وسلم.
فحاصل المعنى: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بوحي خير منها أو مثلها، "وحيث صح نسخ الوحي بوحي خير منه للعباد، صح نسخه بوحي مثله في درجته"[47].
"وقد أجملت - أي الآية - جهة الخيرية والمثلية؛ لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن فتجده مرادا؛ إذ الخيرية تكون من حيث الاشتمال على ما يناسب مصلحة الناس، أوما يدفع عنهم مضرة، أو ما فيه جلب عواقب حميدة، أو ما فيه ثواب جزيل، أوما فيه رفق بالمكلفين ورحمة بهم في مواضع الشدة، وإن كان حملهم على الشدة قد يكون أكثر مصلحة"[48].
وهذا يدل على أن النسخ كما يكون في القرآن، فإنه يكون في السنة لكونهما وحي الله وتنزيله، القرآن بلفظه ومعناه، والسنة بمعناها[49].
ومن خلال ما سبق نقول: إن هذه الآية دلت بلا خفاء على ثبوت النسخ في القرآن، وسكتت عن إمكانه في غيره من الوحي، لكن يستدل منها على وقوع النسخ في السنة التي أوحاها الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من باب أولى.
الدليل الثاني: قوله تعالى: )وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (101) قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين (102)( (النحل).
وقد قدمنا في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كانت إذا نزلت آية فيها شدة، ثم نزلت آية ألين منها يقول كفار قريش: والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه، اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه، والله ما يقول هذه الأشياء إلا من قبل نفسه، فأنزل الله: )وإذا بدلنا آية مكان آية(" [50].
"قال الجمهور: نسخنا آية بآية أشد منها عليهم، والنسخ والتبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه "[51].
"قال مجاهد: )وإذا بدلنا آية مكان آية( قال: نسخناها، بدلناها، رفعناها، وأثبتنا غيرها"[52].
وهذه الكلمة أحسن ما قاله المفسرون في حاصل معنى هذه الآية؛ فالمراد من التبديل في قوله تعالى: )بدلنا( مطلق التغاير بين الأغراض والمقامات، أو التغاير في المعاني واختلافها باختلاف المقاصد والمقامات، مع وضوح الجمع بين محاملها... والتبديل في قوله تعالى: )بدلنا( هو التعويض ببدل، والتعويض لا يقتضي إبطال المعوض، بل يقتضي أن يجعل شيء عوضا عن شيء[53].