مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن

دعوى انقطاع الأسانيد بين الرواة والنبي صلى الله عليه وسلم(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغرضين أنه لا يوجد حديث يتصل سنده إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - زاعمين أن أقصى اتصال ينقطع ويتوقف عند نهاية القرن الأول الهجري.

ويستدلون على ذلك بأن هذا العصر كان عصر الصحابة - رضي الله عنهم - الذين شهدوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسمعوا أقواله، أما التابعون ومن جاء بعدهم فإنهم لم يشهدوه صلى الله عليه وسلم.

ومعنى ذلك أن السنة بحسب زعمهم تعد اختراعا من اختراعات المسلمين المتأخرين، وأرادوا من ذلك أن يثبتوا أحكاما فنسبوها للرسول صلى الله عليه وسلم.

رامين من وراء ذلك إلى التشويش على المسلمين، والتشكيك في السنة كلها.

وجها إبطال الشبهة:

1)    لقد لاقت السنة من العناية والرعاية في عهد الصحابة الكرام ما لا يتصوره عقل، وقد تكفلوا بحفظها في حياته - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته إلى أن أخذها عنهم التابعون.

2)    إن فساد هذه الشبهة واضح عقلا ونقلا؛ إذ إن التابعين قد احتاطوا أيما احتياط في العناية بالسنة، ابتداء من الحفظ، ومرورا بالمذاكرة والحكم على الرجال، وانتهاء بالتدوين في المسانيد والصحاح، ولا شك أنه لا غنى لأي علم من العلوم عن الرواية، فهل كانت السنة بدعا في ذلك؟

أولا. عناية الصحابة بالسنة وتكلفهم بحفظها:

لابد أن نشير في البداية إلى ما نالته السنة من رعاية على يد الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - ليتبين لكل عاقل أنه لا يصح بأي حال من الأحوال التفوه بمثل هذه الشبهة.

ولم ينته الاهتمام بالسنة عند حد الصحابة فقط، بل إن السنة قد لقيت من الاهتمام والعناية ما حير أعداء الإسلام، حتى قال أشدهم حقدا على الإسلام المستشرق مرجليوث: "ليفتخر المسلمون بعلم حديثهم ما شاءوا"، ولقد كانت هذه الشهادة من جراء المجهود العظيم الذي قام به علماء الأمة لاستخلاص الصحيح، ونفي الواهي والساقط والموضوع[1].

فمنذ البداية "عني الصحابة - رضي الله عنهم - بالأحاديث النبوية عناية فائقة، وحرصوا عليها حرصهم على القرآن، فحفظوها بلفظها أو بمعناها، وفهموها، وعرفوا مغازيها ومراميها بسليقتهم وفطرتهم العربية، وبما كانوا يسمعونه من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وما كانوا يشاهدون من أفعاله وأحواله، وما كانوا يفعلونه في الظروف والملابسات التي قيلت فيها هذه الأحاديث، وما كان يشكل عليهم منها ولا يدركون المراد منه يسألون عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد بلغ حرصهم على سماع الوحي والسنن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يتناوبون في هذا السماع، فروى البخاري في صحيحه عن عمر - رضي الله عنه - قال: «كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك...» [2] الحديث. وبذلك جمعوا بين خيري الدين والدنيا، فما شغلهم دينهم عن دنياهم ولا شغلتهم دنياهم عن دينهم"[3].

ولقد حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على التعلم من النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماع حديثه، لدرجة أنهم فارقوا أهليهم وغادروا أوطانهم وأقاموا عنده، ثم عادوا بعد ذلك إلى أهليهم وذويهم يعلمونهم ما تعلموه، ويفقهونهم بما فقهوه.

كما تجشموا المتاعب والمشاق في سبيل سماع الحديث وجمعه، يدل على ذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك، من حديث عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك، وفي الناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فيهم؟ قال: فتركت ذاك، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل[4]، فأتوسد ردائي على بابه، يسفي الريح علي من التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء بك؟ هلا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، قال: فأسأله عن الحديث. فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني، وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني" [5].

كما حرصوا على مذاكرة ما يسمعونه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن يمنعهم الحياء عن سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومراجعته، وما كان هذا كله إلا جانبا يسيرا من عناية الصحابة بحديث نبيهم - صلى الله عليه وسلم - إبان حياته، وازداد هذا الحرص وعظم بعد رحيله - صلى الله عليه وسلم - إذ نراهم أصبحوا أشد تمسكا بسنته وآثاره، فحفظوا سنته وعملوا بها، واحتاطوا في رواياتهم عنه - صلى الله عليه وسلم - خشية الوقوع في الخطأ، وخوفا من أن يتسرب إلى السنة المطهرة الكذب والتحريف، فآثروا الاعتدال في الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل إن بعضهم فضل الإقلال منها كالفاروق عمر - رضي الله عنه - وغيره من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما أتقنوا أداء الحديث وضبطوا حروفه ومعانيه، وكانوا كثيرا ما يخشون الوقوع في الخطأ؛ لذا فقد اشتهر عنهم - رضي الله عنهم - التشدد في الحرص على أداء الحديث كما سمعوه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى إن بعضهم ما كان يرضى أن يبدل حرفا بحرف، أو كلمة مكان كلمة، أو يقدم كلمة على أخرى وردت في الحديث قبلها، وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يقول: "من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم" [6].

وروي نحوه عن عبد الله بن عمر، وزيد بن أرقم - رضي الله عنهما، فعن ابن عمر أنه روى حديث "بني الإسلام على خمس، فأعاده رجل فقال له ابن عمر: "لا، اجعل صيام رمضان آخرهن كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم" [7].

كما عني الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - بجمع حديث نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وتوثيقه وضبطه، فرحلوا في طلبه؛ ذلك لأن الصحابة تفرقوا في البلدان إثر الفتوحات الإسلامية، وكان كل منهم يحمل في صدره من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يحمله غيره، فرحل بعضهم إلى بعض لتوثيق حديث نبيهم - صلى الله عليه وسلم - والمحافظة عليه، تمهيدا لجمعه بعد ذلك وتدوينه، وقد عرفت رحلات كثيرة للصحابة بعضهم إلى بعض، فمن ذلك:

1)    خروج أبي أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر، يسأله عن حديث سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق أحد سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيره وغير عقبة، فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري وهو أمير مصر، فأخبر به فعجل، فخرج إليه فعانقه، ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبق أحد سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيري وغير عقبة، فابعث من يدلني على منزله، قال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فأخبر عقبة به، فعجل، فخرج إليه فعانقه، وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبق أحد سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيري وغيرك، في ستر المؤمن، قال عقبة: نعم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من ستر مؤمنا في الدنيا على خربة[8] ستره الله يوم القيامة". فقال أبو أيوب: صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعا إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر[9].

وهذا يؤكد حرص الصحابة الكرام على الحديث، وخشية أبي أيوب الأنصاري أن يكون نسي شيئا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يرغب به في ستر المؤمن، فسافر من المدينة إلى مصر يقطع الفيافي والقفار، ليتأكد بنفسه من صحة ما يحفظ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2)    كما رحل رجل من الصحابة إلى فضالة بن عبيد بمصر، فلما قدم إليه قال له: «أما إني لم آتك زائرا، ولكن سمعت أنا وأنت حديثا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجوت أن يكون عندك منه علم» [10].        

وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: "لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله تعالى مني تبلغه الإبل لأتيته" [11].

هكذا كانت البداية، وهكذا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يرحلون طلبا للحديث وجمعا وتوثيقا لروايته، وهكذا احتاطوا - رضي الله عنهم - وعنوا بحديثه وسنته في حياته وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - على وجه يمكننا القطع معه أن السنة في عهده - صلى الله عليه وسلم - وعهد خلفائه الراشدين كانت محفوظة عند الصحابة جنبا إلى جنب مع القرآن الكريم، وإن كان نصيب كل صحابي منها يختلف عن نصيب الآخر، فمنهم المكثر من حفظها، ومنهم المقل، ومنهم المتوسط في ذلك، ومن هنا يتقرر أنهم قد أحاطوا بالسنة إحاطة كاملة، وتكفلوا بنقلها إلى التابعين، ويخطئ من يدعي أن بعض السنن فاتت الصحابة جميعا بعد أن أثبتنا مدى عنايتهم بها، وحرصهم عليها، فكيف يغيب عنهم شيء منها، وهم الذين صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نيفا وعشرين عاما قبل الهجرة وبعدها، فحفظوا عنه أقواله وأفعاله، ونومه ويقظته، وحركته وسكونه، وقيامه وقعوده، واجتهاده وعبادته، وسيرته وسراياه ومغازيه، ومزاجه، وخطبه، وأكله وشربه، ومعاملته أهله، وتأديبه فرسه، وكتبه إلى المسلمين والمشركين، وعهوده ومواثيقه، وألفاظه وأنفاسه وصفاته. هذا سوى ما حفظوا عنه من أحكام الشريعة، وما سألوه من العبادات والحلال والحرام، أو تحاكموا إليه فيه، فكانوا بحق خير خلف لخير سلف - رضي الله عنهم - أجمعين [12].

ثانيا. دعوى انقطاع الإسناد بين الرواة والنبي - صلى الله عليه وسلم - دعوى يرفضها العقل ويبطلها الواقع والتاريخ:

لقد كان التابعون يحفظون الحديث كما يحفظون القرآن، كما جاء عن قتادة أنه "كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل[13] حتى يحفظه"[14]، هذا مع قوة حفظه، وذكروا أن صحيفة جابر على كبرها قرئت عليه مرة واحدة - وكان أعمى - فحفظها بحروفها، حتى قرأ مرة سورة البقرة فلم يخطئ حرفا، ثم قال: لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة"[15]. وكان غالبهم يكتبون ثم يحفظون ما كتبوه، ثم منهم من يبقي كتبه، ومنهم من إذا أتقن المكتوب حفظا محا الكتاب.

"وهؤلاء نفر لم يكونوا يكتبون، غالبهم ممن رزقوا جودة الحفظ، وقوة الذاكرة كالشعبي، والزهري، وقتادة. وقد عرف منهم جماعة بالتزام رواية الحديث بتمام لفظه؛ كالقاسم بن محمد بن أبي بكر، ومحمد بن سيرين، ورجاء بن حيوة.

أما أتباع التابعين فلم يكن فيهم راو مكثر إلا كان عنده كتب بمسموعاته يراجعها، ويتعاهدها، ويحفظ حديثه منها. ثم منهم من لم يكن يحفظ، وإنما يحدث من كتابه. ومنهم من جرب عليه الأئمة أنه يحدث من حفظه فيخطئ فاشترطوا لصحة روايته أن يكون السماع منه من كتابه. ومنهم من عرف الأئمة أنه حافظ، غير أنه قد يقدم كلمة أو يؤخرها، ونحو ذلك مما عرفوا أنه لا يغير المعنى، فيوثقونه ويبينون أن السماع منه من كتابه أثبت.

فأما من بعدهم فكان المتثبتون لا يكادون يسمعون من الرجل إلا من أصل كتابه، فقد كان عبد الرزاق الصنعاني ثقة حافظا، ومع ذلك لم يسمع منه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلا من أصل كتابه.

هذا، وكان الأئمة يعتبرون حديث كل راو، فينظرون كيف حدث به في الأوقات المتفاوتة، فإذا وجدوه يحدث مرة كذا ومرة كذا بخلاف لا يحتمل ضعفوه. وربما سمعوا الحديث من الرجل، ثم يدعونه مدة طويلة، ثم يسألونه عنه. ثم يعتبر حرف مروياته برواية من روى عن شيوخه وعن شيوخ شيوخه، فإذا رأوا في روايته ما يخالف رواية الثقات حكموا عليه بحسبها. وليسوا يوثقون الرجل لظهور صلاحه في دينه فقط، بل معظم اعتمادهم على حاله في حديثه كما مر، وتجدهم يجرحون الرجل بأنه يخطئ ويغلط، وباضطرابه في حديثه، وبمخالفته الثقات، وبتفرده، وهلم جرا. ونظرهم عند تصحيح الحديث أدق من هذا، نعم، وإن هناك من المحدثين من يسهل ويخفف، لكن العارف لا يخفى عليه هؤلاء من هؤلاء، فإذا رأيت المحققين قد وثقوا رجلا مطلقا، فمعنى ذلك أنه يروي الحديث بلفظه الذي سمعه، أو على الأقل إذا روى بالمعنى لم يغير المعنى. وإذا رأيتهم قد صححوا حديثا فمعنى ذلك أنه صحيح بلفظه، أو على الأقل بنحو لفظه، مع تمام معناه. فإن بان لهم خلاف ذلك نبهوا عليه"[16].

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد من عناية الصحابة والتابعين للسنة، بل إنه ما جاء القرن الثاني إلا وجد تابعو التابعين في تدوين السنة وتوثيقها للحفاظ عليها، وأمر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بجمعها، وكتب إلى الآفاق بذلك؛ فقد روى الإمام البخاري عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أبي بكر بن حزم:«انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء» [17].

كما روى الخطيب البغدادي عن عبد الله بن دينار قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى المدينة: انظروا - وفي حديث عفان إلى أهل المدينة: أن انظروا - ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتبوه؛ فإني خفت - وفي حديث عفان: فإني قد خفت - دروس العلم وذهاب العلماء"[18].

وامتثل في كل مدينة من يهتم بجمع الحديث والتصنيف في السنة، ومن أوائل من قاموا بذلك الإمام ابن شهاب الزهري.

وقد وجد في كل مدينة من يهتم بجمع الحديث والتصنيف في السنة، وتبع التصنيف في السنة، أو تعاصر معه التأليف في الرواة ناقلي الأحاديث من حيث بيان من روى عنهم، ومن رووا عنه، وتاريخ وفاة كل منهم وولادته، وبيان موطن كل منهم، ومعرفة أسمائهم وكناهم وألقابهم وأنسابهم، وبيان العدول منهم والمجروحين [19].

ومع التصنيف في السنة والتأليف في الرواة، ألف أهل هذا القرن في علل الحديث، أي في كشف الصحيح منها من غيره، وبيان ما في بعضها من خلل خفي في المتن أو في الإسناد [20].

وإزاء ذلك كان لابد من وضع الضوابط والأسس التي تصون مسار السنة وتجعل انتقالها صحيحا في أيدي الرواة، وكان هذا على أيدي أئمة عاشوا في هذا القرن، ومما يدعم الرد على هذه الشبهة أن هذا القرن - القرن الثاني - كان غنيا بالموثقين للحديث، وأشهرهم من الفقهاء والمحدثين؛ الأئمة الأربعة: مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، ومعهم سفيان الثوري، وابن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وشعبة بن الحجاج، وصاحبا أبي حنيفة: محمد بن الحسن وأبو يوسف، وغير هؤلاء، ولقد أهلتهم للتوثيق صفات جليلة منها: معرفتهم بمادة التوثيق، وهي الأحاديث، فحفظوا الكثير منها، وربما حفظ بعضهم الأحاديث الضعيفة والموضوعة كي يبينها للناس فيجتنبوها. وقد وجدت هذه الصفة في الكثير منهم، وأثبتت المعرفة الواسعة بالأحاديث لمالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ووكيع بن الجراح، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني.

كما تحلى موثقو الحديث هؤلاء بأنهم من الفقهاء بالسنن والآثار، ولسنا في حاجة إلى إثبات ذلك عند الأئمة الأربعة، وكذلك كان الأوزاعي، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل.

ولقد تميز هؤلاء الأئمة بمعرفتهم الواسعة برواة الآثار، معرفة تمكنهم من الحكم عليهم، ومعرفة العدول منهم والمجروحين، وقد كان للأئمة الأربعة وغيرهم من هذه الصفة ما أهلهم لأن يأخذوا بأحاديث ويحكموا بصحتها، ويتركوا أحاديث أخرى، لأن رواتها ليسوا على درجة واحدة من العدالة والضبط.

كما كانوا على درجة كبيرة من الصلاح، والتقوى، والورع، والزهد، وطهارة الخلق، وسخاء النفس، وهذا يجعلنا نطمئن على أحكامهم في توثيق الأحاديث، كما كانوا أصحاب عقل رشيد، ومنطق حسن وبراعة في الفهم، وهذا أعانهم على اكتشاف العلل الموغلة في الخفاء من الأحاديث [21].

وإذا كان التدوين الفردي للسنة قد وقع فعلا في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد الصحابة والتابعين، ولم تبق السنة مهملة طيلة القرن الأول إلى عهد عمر بن عبد العزيز، بل تم حفظها في الصدور جنبا إلى جنب مع حفظها في الصحف والكراريس - ففي مطلع القرن الثاني الهجري تحول عمل العلماء من جمع الحديث وتقييده، إلى تصنيفه على الأبواب، وضم هذه الأبواب إلى بعضها في مصنف أو جامع، فلم يكن مطلع هذا القرن مبدأ لتدوين السنة وتقييدها، بل كان مبدأ للتصنيف على الأبواب، وقد ظهرت هذه المصنفات في أوقات متقاربة في مختلف مراكز الإشعاع العلمي بالدولة.

ثم ظهرت المسانيد، فالصحاح، وبهذا يكون تدوين الحديث قد مر بمراحل منتظمة، حتى انتهى إلينا في كتب الصحاح والمسانيد [22].

وبعرض الأمر على العقل ندرك أنه "لا مندوحة لعلم من العلوم، ولا لشأن من شئون الدنيا عن النقل والرواية؛ لأنه لا يمكن لكل إنسان أن يكون حاضرا في كل الحوادث؛ فإذا لا يتصور علم الوقائع للغائبين عنها إلا بطريق الرواية شفاها أو تحريرا، وكذلك المولدون بعد تلك الحوادث لا يمكنهم العلم بها إلا بالرواية عمن قبلهم.

هذه تواريخ الأمم الغابرة والحاضرة، والمذاهب والأديان، ونظريات الحكماء والفلاسفة، وتجارب العلماء واختراعاتهم، هل وصلت إلينا إلا بطريق النقل والرواية؟!

فهل كان الدين الإسلامي بدعا من الحوادث حتى لا تنتقل أحكامه وأخباره بهذا الطريق؟ أو كان الواجب اتخاذ طريق آخر لنقل أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخباره غير الرواية؟!

لنفرض أن هؤلاء المنكرين علينا رواية الأحاديث - بالأسانيد - أصبحوا زعماء لمن كان على شاكلتهم، فهل هناك طريقة - غير الرواية - لتبليغ استنباطهم، وتحقيقاتهم لأفراد جماعتهم البعيدين عن حلقات دروسهم، أو الذين سيولدون بعدهم؟!" [23].

حري بالمشككين في الإسناد وعلوم الحديث الإمساك عن لغوهم، وإلا فأين أسانيدهم المتصلة إلى أممهم البائدة؟!

بل أين أخبارهم الصحيحة عن أنبيائهم وعظمائهم؟!

بل أين الضوابط التي تثبت صحة أخبارهم فيما سبق؟!

الخلاصة:

·       لقد نالت السنة من الرعاية والاهتمام ما حير أعداء الإسلام حتى قال بعضهم: "ليفتخر المسلمون بعلم حديثهم ما شاءوا"، وقد اعتنى الصحابة - رضي الله عنهم - بالأحاديث النبوية عناية فائقة، فحفظوها بلفظها كما فهموها، وعرفوا مغازيها ومراميها.

·       لقد حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على التعلم من النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماع حديثه، وفي سبيل ذلك فارقوا أهليهم، وغادروا أوطانهم، وأقاموا عنده ثم عادوا بعد ذلك إلى أهليهم وذويهم يعلمونهم ما تعلموه، ويفقهونهم بما فقهوه.

·       حرص الصحابة على مذاكرة ما يسمعونه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن يمنعهم الحياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مراجعته في كل شاردة وواردة، وبعد موته - صلى الله عليه وسلم - لم ينحرفوا - رضي الله عنهم - عن شيء فارقهم عليه، فقد حفظوا سننه وعملوا بها، واحتاطوا في روايتها عنه - صلى الله عليه وسلم - خشية الوقوع في الخطأ، وخوفا من أن يتسرب إلى السنة المطهرة الكذب والتحريف.

·       لقد اشتهر عن الصحابة - رضي الله عنهم - التشدد في الحرص على أداء الحديث كما سمعوه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى إن بعضهم ما كان يرضى أن يبدل حرفا مكان حرف أو كلمة مكان كلمة أو يقدم كلمة على أخرى وردت في الحديث قبلها.

·       وقد كان بعض الصحابة يسافر إلى البلاد البعيدة، ويقطع الفيافي في سبيل التثبت من حديث عنده إذا علم أن غيره سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرحل بعضهم لتوثيق حديث نبيهم والمحافظة عليه، تمهيدا لجمعه بعد ذلك وتدوينه.

·       لقد احتاط الصحابة للسنة، وتكفلوا بنقلها إلى التابعين، ويخطئ من يدعي أن بعض السنن فاتت الصحابة جميعا بعد أن رأينا مدى عنايتهم بذلك، وحرصهم عليها.

·       لقد جاء عصر التابعين وشهد عناية فائقة بالسنة النبوية؛ فكانوا يحفظون الحديث كما يحفظون القرآن، فقد جاء عن قتادة أنه "كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل حتى يحفظه" هذا مع قوة حفظه، وذكروا أن صحيفة جابر على كبرها قرئت عليه مرة واحدة - وكان أعمى - فحفظها بحروفها، حتى قرأ مرة سورة البقرة فلم يخطئ منها حرفا، ثم قال: "لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة".

·       أما أتباع التابعين، فلم يكن فيهم راو مكثر إلا كان عنده كتب بمسموعاته يراجعها ويتعهدها، ويتحفظ حديثه منها، ومنهم من كان لا يحدث إلا من كتابه، أما من جاء بعدهم، فكان المتثبتون منهم لا يكادون يسمعون من الرجل إلا من أصل كتابه، فقد كان عبد الرزاق الصنعاني ثقة حافظا، ومع ذلك لم يسمع منه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلا من أصل كتابه.

·       لقد ظهر علم الجرح والتعديل، وكان له علماؤه البارعون فيه، وكان هؤلاء العلماء لا يوثقون الرجل لظهور صلاحه في دينه فقط، بل كان معظم اعتمادهم على حاله في حديثه، فيجرحون الرجل لأنه يخطئ ويغلط، وباضطرابه في حديثه، وبمخالفته الثقات، وبتفرده، إلى غير ذلك من أسباب التجريح.

·       وقد وجد في كل مدينة من يهتم بجمع الحديث والتصنيف في السنة، وتبع التصنيف في السنة أو تعاصر معه التأليف في الرواة "ناقلي الحديث" من حيث بيان من روى عنهم، ومن رووا عنه، وتاريخ وفاة كل منهم وولادته، وبيان موطن كل منهم، ومعرفة أسمائهم، وكناهم، وألقابهم، وأنسابهم، وبيان العدول منهم والمجروحين.

·       لقد تميز موثقو الحديث بأنهم من الفقهاء بالسنة والآثار، ومعرفتهم الواسعة بالرواة، كما كانوا على درجة كبيرة من الصلاح، والتقوى، والورع، والزهد، وطهارة الخلق، وسخاء النفس، أصحاب عقل رشيد، ومنطق حسن، وبراعة في الفهم، وهذا أعانهم على اكتشاف العلل الموغلة في الخفاء من الأحاديث.

·       وبعد ذلك كله ظهرت المسانيد والصحاح، وبهذا يكون تدوين الحديث قد مر بمراحل منظمة، حتى انتهى إلينا في كتب الصحاح والمسانيد، مما يبطل هذه الدعوى القائلة بانقطاع الأسانيد بين الرواة والنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لا تستقيم مع العقل السليم والفكر القويم.

·       ويعلم كل مثقف أنه لا مندوحة لعلم من العلوم عن النقل والرواية، فهل كان الدين الإسلامي بدعا من الحوادث حتى لا تنقل أحكامه وأخباره بهذا الطريق؟!

 


(*) قصة الهجوم على السنة، د. علي أحمد السالوس، دار السلام، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1987م.

[1]. الأنوار الكاشفة لما في كتاب "أضواء على السنة" من الزلل والتضليل والمجازفة، المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص106 بتصرف.

[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: التناوب في العلم، (1/ 223)، رقم (89).

[3]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1428هـ/ 2007م، ص19.

[4]. القائل: النائم، أو المستريح في وسط النهار.

[5]. أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب: العلم، (1/ 188)، رقم (363).

[6]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق إبراهيم بن مصطفى آل بحبح الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، د. ت، (1/ 506).

[7]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق إبراهيم بن مصطفى آل بحبح الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، د. ت، (1/ 516).

[8]. خربة: سوءة أو معصية.

[9]. الرحلة في طلب الحديث، الخطيب البغدادي، تحقيق: نور الدين عتر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1395هـ/ 1975م، ص118، 119.

[10]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الترجل، (11/ 145)، رقم (4154). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4160).

[11]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق إبراهيم بن مصطفى آل بحبح الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، د. ت، (2/ 469).

[12]. انظر: السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص67، 68.

[13]. الزويل: القلق والانزعاج.

[14]. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (2/ 335).

[15]. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (2/ 334).

[16]. الأنوار الكاشفة، المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص84، 85.

[17]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كيف يقبض العلم، (1/ 32)، معلقا.

[18]. أخرجه الخطيب البغدادي في تقييد العلم، باب: الرواية عن الطبقة الثانية والثالثة من التابعين في ذلك، ص106.

[19]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، مصر، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص339.

[20]. انظر: السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص261: 276.

[21]. توثيق السنة في القرن الثاني الهجري أسسه واتجاهاته، د. رفعت فوزي عبد المطلب، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 1400هـ/ 1981م، ص63: 70.

[22]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص341، 342.

[23]. تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها، سليمان الندوي، نقلا عن: السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام مناقشتها والرد عليها، عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (2/ 143).

redirect redirect unfaithful wives
wives that cheat women who want to cheat read here
husbands who cheat women who cheat on husband my boyfriend cheated on me with a guy
generic viagra softabs po box delivery viagra 50 mg buy viagra generic
why wife cheat cheat on my wife why women cheat in relationships
husband cheat online online affair
My girlfriend cheated on me my wife cheated on me with my father signs of unfaithful husband
My girlfriend cheated on me read here signs of unfaithful husband
مواضيع ذات ارتباط

أضف تعليقا
عنوان التعليق 
نص التعليق 
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء كاتبيها فقط ولا تعبر عن الموقع
 
 
 
  
المتواجدون الآن
  4940
إجمالي عدد الزوار
  38497417

الرئيسية

من نحن

ميثاق موقع البيان

خريطة موقع البيان

اقتراحات وشكاوي


أخى المسلم: يمكنك الأستفادة بمحتويات موقع بيان الإسلام لأغراض غير تجارية بشرط الإشارة لرابط الموقع