الطعن في سنن الترمذي لروايته عن غير الثقات)*(
مضمون الشبهة:
1) يطعن بعض الواهمين في سنن الإمام الترمذي بدعوى أنه روى عن غير الثقات، وأورد ما رواه عنهم تحت ما سماه الحديث الحسن، ويستدلون على ذلك بما رواه من طريق شعبة عن عاصم بن عبد الله عن عبيد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه، قال: «إن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت: نعم، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم»، قال الترمذي: "هذا حديث حسن" بالرغم من أن عاصم بن عبد الله وصف بأنه ضعيف سيء الحفظ.
2) وكذلك ما رواه من طريق يزيد بن هارون عن المسعودي عن زياد بن علاقة قال: «صلى بنا المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - فلما صلى ركعتين قام فلم يجلس، فسبح به من خلفه، فأشار إليهم أن قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو وسلم، وقال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم» ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح على الرغم من أن سماع يزيد بن هارون كان عن المسعودي بعد ما اختلط. ويتساءلون. كيف يروي الترمذي عن الضعفاء وعمن سمع من مختلط بعد اختلاطه، ويحسن أحاديثهم؟!
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن مصطلح الحديث الحسن لم يكن من اختراع الإمام الترمذي، فقد سبقه بعض أئمة الحديث كالإمام مالك، والبخاري، وعلي بن المديني وغيرهم، ولكن الإمام الترمذي أصل له في كتابه وعرفه، وجعله قسما بين الصحيح والضعيف، وقد قسمه العلماء بعد ذلك إلى الحسن لذاته، والحسن لغيره، وهذا يدل على اقتناعهم به كمصطلح، ورضاهم عنه.
2) لقد كان للإمام الترمذي منهج معروف في التصحيح والتحسين؛ إذ يعتمد على المتابعات والشواهد، فيرتفع عنده الحديث من الضعيف إلى الحسن، ومن الحسن إلى الصحيح بهذه المتابعات وتلك الشواهد، وهو لم يقصد الرواية عن الضعفاء، وليس هذا من منهجه، وهذا ما حدث في الحديثين - موضوع الشبهة.
3) لقد اعترف كثير من علماء الحديث وأئمته بمكانة جامع الإمام الترمذي؛ لتعدد فوائده وجمعه لكل من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا ينفي أي مطعن فيه.
التفصيل:
أولا. الإمام الترمذي وأثره في تأصيل مصطلح الحديث الحسن:
يعزو كثير من المتأخرين استعمال مصطلح "الحديث الحسن" بمعنى الحديث النازل عن درجة الصحيح - إلى الإمام الترمذي صاحب "الجامع"؛ والحق أن تقسيم الحديث المقبول إلى: صحيح، وحسن، لم يكن شائعا قبل الإمام الترمذي، وكان بعض من تقدم قبله من أئمة الحديث يرون أن الحديث الحسن درجة من درجات الضعيف، وذلك عند الإمام أحمد وغيره، فيما كانوا يقدمونه على القياس، ولم يكن مرادهم الضعيف المردود، فلما جاء الترمذي أظهر الاصطلاح بجعل "الحسن" أحد قسمي المقبول، ولكن بالتحقيق وجد أنه مسبوق إلى استعمال هذا المصطلح بالمعنى الذي قصد إليه، وقد سبقه به أئمة الحديث، لكنه لم يتحرر يومئذ بتعريف، وفضل الترمذي أنه هو أول من صاغ قانونه، وحرر تعريفه، فممن استعمله قبله أو من معاصريه من أئمة الحديث:
1. الإمام مالك بن أنس رحمه الله: وهو أقدم من عرف عنه ذكر "الحديث الحسن"، وذلك في تعليقه على ما روي له عن المستورد بن شداد القرشي قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره»[1].
فقال: "إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة"[2].
وهذا الحديث لو تتبعته صرت إلى أنه "حسن" بالمعنى الاصطلاحي، مع أن الاصطلاح لم يكن قد عرف بعد.
2. الإمام علي بن المديني:
ومما جاء عنه في ذلك في حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان ذا وجهين في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة»[3]، قال ابن المديني: "إسناده حسن، ولا نحفظه عن عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الطريق"[4].
3. الإمام محمد بن إسماعيل البخاري:
قد نقل عنه الترمذي تحسينه لعدة أحاديث، وذلك في كتابي "الجامع" و"العلل الكبير" جميعها مما يتطابق مع تعريف الحديث الحسن بما تقدم، وعني به البخاري درجة في الثبوت، منها: حديث عثمان في تخليل اللحية في الوضوء[5]، وحديث ابن عباس في تخليل الأصابع[6]، وحديث عائشة «ويل للأعقاب من النار»[7] في الوضوء كذلك، وغيرها[8].
4. أبو حاتم الرازي:
حكم بالحديث الحسن على أحاديث كثير من الرجال، من ذلك، قوله في ترجمة "عمرو بن محمد" الراوي عن سعيد بن جبير: "هو مجهول، والحديث الذي رواه عن سعيد بن جبير فهو حسن"[9].
من ثم، فالأشبه أن يكون ما اصطلحه الترمذي في عد الحديث الحسن قسيما للصحيح في جملة الحديث المقبول، مما أخذه عن شيخه البخاري، وأخذه البخاري عن شيخه علي بن المديني.
ولا نعلم أحدا من أئمة هذا الشأن عاب على الترمذي هذا الاصطلاح عند ظهوره منه، بل إن من جاء من بعد قد تواردوا على متابعة الترمذي في استعماله[10].
وقد استعمل الأئمة اسم "الحسن" على كل ما هو داخل في نطاق الحجة، وإن لم يكن في أعلى درجات القبول.
لذا فقد وصفوا الحديث الذي يتفرد به الراوي الصدوق، والذي هو من أدنى درجات الثقات، حيث يكون حديثه سالما من الشذوذ، سالما من العلة، وصفوه بـ "الحسن"، على أساس أنه حديث صالح للحجة؛ أي: حديث يصلح لأن يحتج به وأن تبنى عليه الأحكام، وهذا ما يسميه المتأخرون بـ "الحسن لذاته".
بل لقد صرح الحافظ ابن حجر العسقلاني بأن مثل هذه الأحاديث التي وصفت بكونها حسانا، ولم يكن رواتها في أعلى درجات القبول، أي أن يكون بعض الرواة ممن يصدق عليهم أن ما تفرد به يصير حسنا، قد وجد من هذا أحاديث في "الصحيحين".
ولا شك أنه ما خرجها البخاري ومسلم في "الصحيحين" إلا لأنهما قد ترجح لديهما أن هذه الأحاديث قد حفظها هؤلاء الرواة، وإن كانوا هم ليسوا في أعلى درجات الثقات، لكن ما ترجح لديهما أنهم حفظوها، وأنها سالمة من الشذوذ والعلة؛ لذا استجازا أن يدخلوها في كتاب "الصحيح"، على أساس أن "الحسن" نوع من أنواع "الصحيح".
وقد أطلق أيضا "الحسن" على الحديث الضعيف الذي انضمت إليه قرينة، أو انضمت إليه رواية أو أكثر فارتقى بها إلى مصاف الحجة، وهذا ما يسميه المتأخرون "بالحسن لغيره"، وهو الذي وجد في كلام الإمام الترمذي رحمه الله حيث عرف الحسن واستعمله في كتابه الجامع.
وإنما وصف الأئمة هذا الحديث بـ "الحسن"؛ لأنهم استحسنوا فيه معنى ما، وهو أنه حديث صالح للحجة، قد وجد فيه معنى يدعو العلماء إلى الاحتجاج به وإقامة الأحكام عليه، فهذا معنى يستحسن الحديث من أجله، وهو معنى راجع إلى قبول الحديث، وإلى كونه داخلا في مصاف الحجة، ومصاف الأحاديث المقبولة[11].
تأصيل الترمذي رحمه الله لمصطلح الحديث الحسن:
علمنا مما سبق أن مصطلح الحديث الحسن كانت له بدايات عند بعض المحدثين، ولكن الفضل يرجع للإمام الترمذي في تأصيله لهذا المصطلح بتعريفه إياه تعريفا دقيقا، فقد عر ف الترمذي الحديث الحسن بأنه: "كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذا، ويروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن"[12].
وقد ميز الإمام الترمذي الحديث الحسن عن الصحيح بشيئين هما:
1. أن يكون راويه قاصرا عن درجة راوي الصحيح، بل وراوي الحسن لذاته، وهو أن يكون غير متهم بالكذب؛ فيدخل فيه المستور والمجهول، ونحو ذلك، وراوي الصحيح لا بد وأن يكون ثقة، وراوي الحسن لذاته لا بد وأن يكون موصوفا بالضبط، ولا يكفي كونه غير متهم، ولم يعدل الترمذي عن قوله "ثقات" وهي كلمة واحدة - إلى ما قاله إلا لإدارة قصور "رواته" عن وصف الثقة، كما هي عادة البلغاء.
2. مجيئه من غير وجه، على أن عبارة الترمذي فيما ذكره في العلل التي في آخر جامعه "وما ذكرنا في هذا الكتاب(حديث حسن)، فإنما أردنا به حسن إسناده" إلى آخر كلامه[13].
وقد قصد الترمذي بهذا قسما من الحديث الحسن ويؤكد ذلك قول ابن الصلاح: "الحديث الحسن قسمان، أحدهما: الحديث الذي لا يخلو إسناده من مستور لم تتحقق أهليته، غير أنه ليس مغفلا كثير الخطأ فيما يرويه، ولا هو متهم بالكذب في الحديث؛ أي: لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث، ولا سبب آخر مفسق، ويكون متن الحديث مع ذلك قد عرف بأن روي مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر؛ حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله، أو بما له من شاهد، وهو ورود حديث آخر بنحوه، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذا منكرا وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل"[14].
ويقول الإمام الذهبي: "والترمذي أول من خص هذا النوع باسم الحسن، وذكر أنه يريد أن يسلم راويه من أن يكون متهما، وأن يسلم من الشذوذ، وأن يروى نحوه من غير وجه"[15].
وقد انتقد أيضا؛ هذا بأنه غير جامع، فقد عرف الحسن لغيره، ولم يعرف الحسن لذاته، والتعريف لا بد أن يكون جامعا.
وانتقد لأنه يقول في كتابه هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والجواب أن شرط مجيئه من غير وجه يتحقق بمجيئه بلفظه أو معناه، وعليه يحمل قوله: لا نعرفه إلا من هذا الوجه؛ يعني بلفظه، فلا ينافي أن يكون معروفا بمعناه من وجه آخر[16].
مصطلح الحديث الحسن عند المتأخرين:
أما الحديث الحسن عند المتأخرين فقد انقسم إلى: حسن لذاته، وحسن لغيره وهو ما ذكره الترمذي.
أما الحسن لذاته فهو أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح؛ لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد ما ينفرد به من حديثه منكرا، ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث من أن يكون معللا، وعلى القسم الثاني يتنزل كلام الخطابي"[17].
ويقول الحافظ ابن حجر: "فإن خف الضبط؛ أي: قل مع بقية الشروط المتقدمة في حد الصحيح، فهو الحسن لذاته"[18]، أما الحسن لغيره "فهو الذي يكون حسنه بسبب الاعتضاد، نحو حديث المستور إذا تعددت طرقه، وخرج باشتراط باقي الأوصاف الضعيف، وهذا القسم من الحسن مشارك للصحيح في الاحتجاج به، وإن كان دونه، ومشابه له في انقسامه إلى مراتب بعضها فوق بعض"[19].
وقد وافقه السيوطي في تدريب الراوي فيما حكاه عن النووي، فقال: "ثم إن الحسن كالصحيح في الاحتجاج به، وإن كان دونه في القوة، ولهذا أدرجته طائفة في نوع الصحيح"[20].
ونستطيع أن نستخلص مما سبق أن الحديث الحسن نوعان هما:
1. الحسن لذاته: هو الذي اجتمعت فيه كل شروط الحديث الصحيح إلا أن راويه خف ضبطه عن راوي الصحيح، لذلك هو من أدنى درجات الثقات إلا أنه دخل نطاق الثقة.
2. الحسن لغيره: هو الذي لا يخلو إسناده من مستور، أو مغفل كثير الخطأ غير أنه لم يتعمد الكذب، ولا متهم به، وقد روى مثله من وجه آخر سواء بالمتابعة، أو الشواهد، فيخرج بذلك من الشذوذ والنكارة إلى الحسن.
ومما سبق يتبين لنا أن الإمام الترمذي رحمه الله لم يكن أول من ذكر الحديث الحسن، ولكن ذكر قبله عند بعض المحدثين، كالإمام مالك، والبخاري، وعلي بن المديني، والرازي، إلا أنه أصل لهذا النوع من الحديث، وذكر تعريفا له، وانتهي الأمر بعد ذلك إلى أن فرق العلماء بين الحسن لذاته الذي يقارب الصحيح، والحسن لغيره الذي يتقوى بمجموع طرقه من متابعات وشواهد.
فلماذا إذا يتهمون الإمام الترمذي بأنه ضلل الأمة باختراعه لهذا المصطلح رغم أنه كان مسبوقا إليه.
ثانيا. منهج الإمام الترمذي يقتضي تحسينه للحديثين موضوع الشبهة:
كان للإمام الترمذي منهج مغاير لمعظم كتب السنة في جمعه للأحاديث وحكمه عليها، فقد اتبع بعض العادات في جامعه منها: "أنه يترجم الباب الذي فيه حديث مشهور عن صحابي قد صح الطريق إليه، وأخرج حديثه في الكتب الصحاح، فيورد في الباب ذلك الحكم من حديث صحابي آخر لم يخرجوه من حديثه، ولا يكون الطريق إليه كالطريق إلى الأول، إلا أن الحكم صحيح، ثم يتبعه بأن يقول: وفي الباب عن فلان وفلان، ويعد جماعة، ومنهم الصحابي الذي أخرج ذلك الحكم من حديثه، وفي هذا الصنيع فوائد، منها: أن يطلع الناس على هذا الحديث غير المشهور، ومنها إظهار ما في سنده من علة، ومنها: بيان لما في هذا الحديث من زيادة أو شيء آخر.
ومنها: أنه يعقد الباب أولا، ثم يروي حديثا واحدا أو أكثر، ثم إن كان فيه كلام يتكلم، ثم يقول: وفي الباب عن فلان وفلان"[21].
ومنها: أنه قد يعقد بابا ويورد فيه حديثا اختلف في رفعه ووقفه، ويكون في الباب حديث مرفوع صحيح لم يختلف في رفعه ووقفه، فلا يورده فيه، بل يشير إليه، وكذلك يورد في باب حديثا ضعيفا، وفيه حديث صحيح، فلا يورد الحديث الصحيح فيه، بل يشير إليه بعد قوله: وفي الباب، فأما صنيعه الأول، فقيل في توجيهه: أنه أخرج المختلف فيه، واستشهد بما لم يختلف فيه؛ لأن الاستشهاد لا يحسن بالمختلف فيه، وأما صنيعه الثاني: فيلنبه على ذلك الحديث الضعيف، ويبين ما فيه من الكلام، ويستشهد بالصحيح.
ومنها: أنه قد يحسن الحديث الضعيف الذي يكون ضعفه ظاهرا؛ لجهالة بعض رواته أو لضعفهم، أو للانقطاع، أو لغير ذلك من وجوه الضعف، فأما تحسينه ما في إسناده مجهول، فيحتمل أن الترمذي عرفه"[22].
ومن ثم، هذه بعض أسس المنهج عند الإمام الترمذي رحمه الله يتبين لنا من خلالها أن الإمام الترمذي رحمه الله قد نوع من أسلوبه في إيراد الأحاديث في كل باب من أبواب كتابه إلى أسلوبين:
1. رواية طائفة من الأحاديث بأسانيدها:
وذلك بأن يروي الحديث في الباب بسنده، ثم يتبعه بحديث آخر بسنده أو أكثر، وهو إذا سلك هذا الأسلوب فإنه إما أن:
· يخرج في الباب حديثين صحيحين أو أكثر.
· وقد يصدر الباب بحديث صحيح أصل في الباب، ثم يروي حديثا فيه ضعف، وفائدة تخريجه تقوية الصحيح؛ لتعدد مخرجه مما يفيد في الترجيح، كما أن الوجه الضعيف ينجبر.
· وكثيرا ما يعكس الإمام الترمذي، فيقدم الحديث الضعيف، ثم يتبعه بحديث أو أكثر من رتبة الصحيح، ومقصده من ذلك بيان علة الحديث المتقدم، ولتكون الأحاديث الصحيحة شاهدا لمعنى الأول.
· وربما يخرج حديثا ضعيفا، ثم يتبعه بضعيف مثله أيضا، لكن الروايتين تتقويان ببعضهما، فيرتقي الحديث إلى الحسن لغيره، فلذلك يحكم الترمذي بأن الحديث حسن.
2. إشارة الترمذي إلى أحاديث الباب:
وهي مما امتاز به كتاب الترمذي عن سائر كتب السنة؛ فإنه يقتصر في كثير من الأبواب على حديث أو حديثين اختصارا، ثم يشير إلى الأحاديث المروية في الباب بذكر أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث تتعلق بذلك الباب، وبذلك يستوعب الترمذي الأحاديث دون أن يسردها، ومقصده من قوله: وفي الباب عن فلان وفلان: أن هذه الأحاديث يصلح ذكرها في هذا الباب، وهي شواهد للحديث المذكور، وقد يكون تعلقها بالحديث المذكور تعلقا يسيرا، وقوله أيضا: وفي الباب عن فلان وفلان، لا يعني أن الأحاديث المشار إليها في رتبة الحديث المذكور، بل قد يكون بعضها ضعيفا[23].
وعليه، فإذا طبقنا منهج الإمام الترمذي رحمه الله على الحديثين اللذين وردا في مضمون الشبهة نجد أن الحديث الأول قد حسنه الترمذي رغم أن في إسناده ضعف، وهو "عاصم بن عبد الله" الذي وصفه علماء الجرح والتعديل بأنه ضعيف لسوء حفظه.
يقول السيوطي: إذا روي الحديث من وجوه ضعيفة لا يلزم أن يحصل من مجموعها أنه حسن، بل ما كان ضعفه لضعف حفظ راويه الصدوق الأمين زال بمجيئه من وجه آخر، وعرفنا بذلك أنه قد حفظه ولم يختل فيه ضبطه، وصار الحديث حسنا بذلك، كما رواه الترمذي وحسنه من طريق شعبة عن عاصم بن عبيد الله قال سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه، «أن امرأة من بني فزازة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت: نعم، قال: فأجازه»[24]، قال الترمذي: وفي الباب عن عمر، وأبي هريرة وسهل بن سعد، وأبي سعيد، وأنس، وعائشة، وجابر، وأبي حدرد الأسلمي، حديث عامر بن ربيعة حديث حسن صحيح[25]، قال السيوطي: "فعاصم ضعيف لسوء حفظه، وقد حسن له الترمذي هذا الحديث لمجيئه من غير وجه"[26].
فإذا تتبعنا منهج الترمذي وجدنا أنه ربما يصدر الباب بحديث ضعيف، ثم يتبعه بأحاديث صحيحة، فيرتقي الحديث من الضعف إلى الحسن، وهذا ما طبقه في تحسينه لهذا الحديث، فلماذا ينكرون عليه هذا المنهج في التصحيح والتضعيف؟!
ومن ثم، فإن تضعيف بعض العلماء لهذا الحديث الذي حسنه الترمذي لا يطعن بحال في مكانة الترمذي العالية في علم الحديث، وهذا بشهادة كبار المحدثين.
قال الإمام الذهبي في "السير": قال أبو سعد الإدريسي: كان أبو عيسى يضرب به المثل في الحفظ.
وقال الحاكم: سمعت عمر بن علك يقول: مات البخاري، فلم يخلف بخرسان مثل أبي عيسى(يعني الترمذي) في العلم والحفظ[27].
أما الحديث الآخر وهو الحديث الذي رواه الترمذي من طريق يزيد بن هارون عن المسعودي عن زياد بن علاقة قال:«صلى بنا المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - فلما صلى ركعتين فلم يجلس فسبح به من خلفه، فأشار إليهم أن قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو، وقال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم»[28].
قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن صحيح"[29].
ومن المعلوم أن المسعودي صدوق، اختلط في آخر حياته، وقد سمع منه يزيد بن هارون بعدما اختلط، إلا أن الحديث له توابع وشواهد أخرى تقويه، وإذا ما طبقنا منهج الإمام الترمذي على الحديث وجدناه قد تابعه بروايات أخرى عن المغيرة بن شعبة، فقال: وقد روي هذا لحديث من غير وجه عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم[30]، وكذلك له شواهد أخرى عن بعض الصحابة، قال أيضا: وفي الباب عن عقبة بن عامر، وسعد، وعبد الله ابن بحينة"[31].
وحديث عبد الله بن بحينة رواه الترمذي في باب ما جاء في سجدتي السهو قبل السلام، وقال: "حديث حسن والعمل على هذا عند بعض أهل العلم[32]"، ثم تعقبه المباركفوري في التحفة قائلا: "بل هو صحيح أخرجه الشيخان[33][34]. ويؤيد ما سبق قول ابن حجر: "وكذا المختلط الذي لم يتميز، والمستور، والإسناد المرسل، وكذا المدلس إذا لم يعرف المحذوف منه، صار حديثهم حسنا لا لذاته، بل وصفه بذلك باعتبار المجموع"[35].
ومما سبق يتبين لنا أنه من خلال دراسة منهج الإمام الترمذي رحمه الله نستطيع أن نحكم على الحديثين بالحسن أو الصحة؛ لأن لكل منهما ما يقويه ويصححه من المتابعات والشواهد التي تتبعته والتي رواها لنا الإمام الترمذي رحمه الله بالسند فقط أحيانا، وبالسند والمتن أحيانا أخرى، وهذا إنما يدل على مدى علمه بالعلل في كل حديث يرويه، وليس هذا من باب العيب في جامعه، ولكن من باب الفخر والكمال الذي وصف به في كتابه.
ثالثا. مكانة جامع الترمذي عند العلماء:
لجامع الترمذي مكانة سامية ومنزلة عالية عند العلماء. يقول الحافظ ابن الأثير في "جامع الأصول": كتاب الترمذي أحسن الكتب، وأكثرها فائدة، وأحسنها ترتيبا، وأقلها تكرارا، وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال، وتبيين أحوال الحديث من الصحيح والسقيم، والغريب، وفيه جرح وتعديل.
وقال السيوطي في "قوت المغتذي": قال الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد: الذي عندي أن الأقرب إلى التحقيق، والأحرى على واضح الطريق أن يقال: إن كتاب الترمذي يضمن الحديث مصنفا على الأبواب، وهو علم برأسه، والفقه علم ثان، وعلل الحديث، ويشتمل على بيان الصحيح من السقيم، وما بينهما من المراتب علم ثالث، والأسماء والكنى رابع، والتعديل والتجريح خامس، ومن أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يدركه، ومن أسند عنه في كتابه سادس، وتعديد من روى ذلك الحديث سابع، هذه علومه المجملة، وأما التفصيلية متعددة، وبالجملة فمنفعته كثيرة وفوائده غزيرة.
وقال العلامة الشاه عبد العزيز في "بستان المحدثين" تصانيف الترمذي في هذا الفن كثيرة، وأحسنها هذا الجامع، بل هو أحسن من جميع كتب الحديث من وجوه:
· من جهة حسن الترتيب وعدم التكرار.
· من جهة ذكر مذاهب الفقهاء، ووجوه الاستدلال لكل واحد من أهل المذاهب.
· من جهة بيان أنواع الحديث من الصحيح والحسن، والضعيف والغريب، والمعلل.
· من جهة بيان أسماء الرواة وألقابهم وكناهم، والفوائد الأخرى المتعلقة بعلم الرجال[36].
وبعد هذه المكانة الجليلة لهذا الكتاب العظيم، لا ينبغي لأحد من الناس أن يطعن في هذا الكتاب بحجج واهية لا تقوم على دليل.
الخلاصة:
· إن مصطلح الحديث الحسن قد عرف قبل الإمام الترمذي رحمه الله عند بعض المحدثين، كالإمام مالك الذي روي أنه حكم على بعض هذه الأحاديث بقوله: "حديث حسن"، والإمام البخاري كما يروي عنه الترمذي في العلل، والإمام علي بن المديني الذي حسن بعض الأحاديث كما روي عنه.
· كان للإمام الترمذي دور مهم في تأصيل مصطلح الحديث الحسن، وذلك أنه عرف الحديث الحسن، وجعله رتبة بين الصحيح والضعيف، لذلك يعود الفضل إليه في كونه أول من أبرز هذا المصطلح وعرفه، وعمل على أساسه في كتابه الجامع.
· كان للعلماء بعد الإمام الترمذي دور في استخدام هذا المصطلح، بل وتطويره بعد ذلك، فقد قسموه إلى حسن لذاته، وهو القريب من الصحيح، أو يعتبر أدنى رتبة من الصحيح، والحسن لغيره، وهو الذي يصح العمل به إذا روي من غير وجه سواء بمتابع أو شاهد.
· كان للإمام الترمذي منهج معروف في التحسين، والتضعيف، والتصحيح، وهذا المنهج اتبعه في جامعه عند تبويبه للكتاب، فقد كان يروي الحديث ثم يتبعه بالمتابعات، والشواهد بقوله: وفي الباب عن فلان وفلان من الصحابة، أو بقوله وقد روي هذا الحديث من وجه آخر، وهذه المتابعات، وتلك الشواهد تقوي الحديث عنده وترفعه من الضعف إلى الحسن، ومن الحسن إلى الصحة.
· لقد حسن الترمذي حديث المرأة التي تزوجت على نعلين، وذلك بمجموعة من الشواهد الأخرى؛ تبعا لمنهجه المعروف في الحكم على الحديث، وأما عن تضعيف بعض العلماء للحديث؛ فإن ذلك لا يعد طعنا في مكانة الترمذي المعروفة عند أهل العلم.
· إن حديث المغيرة بن شعبة قد حسنه الإمام الترمذي؛ لمجيئه من أكثر من وجه عن المغيرة - رضي الله عنه - وكذا لأن شواهد أخرى تقويه، وترفعه إلى درجة الصحيح، وقد صححه الألباني رحمه الله.
· لقد أشاد أئمة الحديث بمكانة جامع الترمذي وقدره، حتى إن بعض العلماء فضله على كثير من كتب الحديث؛ لعدة وجوه منها: حسن الترتيب، وعدم التكرار، وذكره آراء الفقهاء ووجوه استدلالاتهم على الحكم الفقهي، وذكره أنواع الحديث من صحيح، وحسن، وضعيف، وغريب، ومعلل، وذكره بيان أسماء الرواة، وألقابهم وكناهم، وذكره لتعديلهم وتجريحهم وغيرها من الفوائد الأخرى.
(*) حوار لطيف حول مبحث الحسن، عبد المنعم إبراهيم، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، مصر، ط1، 1423هـ/ 2003م.