الزعم أن من حد من الصحابة لا تقبل روايته(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغرضين أن من أقيم عليه حد من الصحابة لا تقبل روايته للحديث؛ لأن ارتكاب الحد يسقط العدالة، وساقط العدالة لا تقبل أحاديثه. مستدلين على ذلك بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا مجلود في حد...» الحديث، كما أن من فعل ذنبا يوجب الحد فقد انتقص إيمانه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...»الحديث، ثم مثلوا لذلك بعدد من الصحابة الذين أقيمت عليهم الحدود كأبي بكرة، وأبي محجن الثقفي، وحسان بن ثابت. رامين من وراء ذلك إلى الطعن في عدالة هؤلاء الصحابة.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن الحديث الذي استدل به الطاعنون حديث ضعيف لا يقوم حجة لهم.
2) لقد أجمع المحدثون والأصوليون على أن الذي أقيم عليه الحد من الصحابة عدل كامل العدالة تقبل روايته؛ إذ إن هناك فرقا بين الرواية والشهادة، ولهم في ذلك تفصيل وبيان.
3) إن قولهم بأن الإيمان ينقص بالمعاصي أمر علمه الصحابة، وذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أنه لا يغض من قدرهم، ولا يرد شهادتهم؛ لأنه واقع لهم جميعا.
4) إن عدد الصحابة الذين أقيمت عليهم الحدود عدد ضئيل جدا مقارنة بأعداد الصحابة الآخرين، كما أن هؤلاء الصحابة المحدودين لم تكن لهم روايات حديثية كثيرة، وما ورد عن بعضهم من أحاديث تلقاه المحدثون بالثقة والقبول.
التفصيل:
أولا. حديث "رد شهادة المحدود" ضعيف لا تقوم به حجة:
إن الحديث الذي استدل به الطاعنون حديث ضعيف؛ فالحديث مروي في سنن الترمذي وغيره من الكتب، وقد رواه الترمذي كالتالي: حدثنا قتيبة، أخبرنا مروان بن معاوية الفزاري، عن يزيد بن زياد الدمشقي، عن الزهري، عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا مجلودة...»([1]).
لقد اتفق محدثو الأمة سلفا وخلفا على ضعف هذا الحديث الذي اتخذه الطاعنون دليلا للقول بإسقاط عدالة الصحابة، وعدم الثقة في مروياتهم، وما علم هؤلاء المغرضون أن لهذا الدين رجالا يذبون عنه، ويدافعون عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - بتهذيبها وإيضاح صحيحها من ضعيفها، فالحديث المذكور قد ضعفه غير واحد من أهل العلم؛ قال أبو اسحاق الفزاري رحمه الله: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن زياد الدمشقي، ويزيد يضعف في الحديث، ولا يعرف هذا الحديث من حديث الزهري إلا من حديثه، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو قال: ولا نعرف معنى هذا الحديث ولا يصح عندي من قبل إسناده([2]).
وقد ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2298)، وفي إرواء الغليل([3]) برقم (2675)، وفي صحيح وضعيف الجامع الصغير([4]) برقم (14351)، أما عن العلة الرئيسة التي أدت إلى ضعف هذا الحديث ورده من قبل المحدثين فهي: انفراد يزيد بن أبي زياد عن الزهري وعدم معرفة المحدثين لهذا الطريق، ثم ضعف يزيد بن أبي زياد نفسه وتجريحه من قبل أئمة الحديث.
قال الذهبي في "ميزان الاعتدال": يزيد بن أبي زياد، ويقال: يزيد بن زياد الشامي عن الزهري وسليمان بن حبيب المحاربي، وعنه وكيع، وأبو نعيم، وأبو اليمان، وعدة.
قال البخاري: منكر الحديث. وقال الترمذي، وغيره: ضعيف. وقال النسائي: متروك الحديث.
ثم مثل الذهبي رحمه الله بحديثين من بينهما الحديث المذكور في موضوع الشبهة نموذجا يوضح ضعف هذا الراوي وسقوطه([5]).
وهذا هو تحقيق العلامة الألباني للحديث في إرواء الغليل تحت عنوان: باب موانع الشهادة برقم (2675).
عن عائشة مرفوعا «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في قرابة ولا ولاء» ورواه الخلال بنحوه من حديث عمر وأبي هريرة، ورواه أحمد وأبو داود بنحوه من حديث عمرو بن شعيب... ثم يقول: ضعيف أخرجه الترمذي (2/ 48) والدار قطني (529) والبيهقي (10/ 155) من طريق يزيد بن زياد الدمشقي عن الزهري عن عروة عنها.
وقال الترمذي: "لا يصح عندي من قبل إسناده"، وقال الدارقطني: "ضعيف، لا يحتج به"، وقال البيهقي: "هذا ضعيف"، وكذلك قال الحافظ في "التلخيص" (4/ 198)، وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 476): "... فسمعت أبا زرعة يقول: هذا حديث منكر، ولم يقرأ علينا".
ثم يعقب الشيخ الألباني قائلا: وأما حديث عمر، فلم أقف على إسناده، ولا مرفوعا، وقد ذكره مالك في "الموطأ" (2/ 720/ 4) أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: "لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين" وهذا موقوف معضل. ولكن الثابت في كتاب عمر إلى أبي موسى: "والمسلمون عدول، بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا في شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قربة".
أخرجه البيهقي وقال: "وهذا إنما أراد به قبل أن يتوب، فقد روينا عنه أنه قال لأبي بكرة رضي الله عنه: تب تقبل شهادتك، وهذا هو المراد بما عسى يصح فيه من الأخبار". وقال قبل ذلك: "لا يصح في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء يعتمد عليه"([6]).
وعليه يتبين أن إقامة حد من الحدود على أحد الصحابة لا يسقط عدالته ولا يرد روايته.
ثانيا. إقامة الحد لا تنفي العدالة ولا قبول الرواية:
لقد أجمع المحدثون على أن إقامة الحد على أحد الصحابة لا ينفي عنه العدالة؛ إذ إنهم - أي الصحابة - خير الناس لحديث النبي صلى الله عليه وسلم «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم...»([7]) فوقوع الصحابة في ذنب ما لا يـحط من قدرهم ولا ينقص من شأنهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»([8])، ولم يذكر في أي كتاب من كتب المحدثين أن صحابيا فعل كبيرة وأقام عليها، بل إنهم بمجرد وقوعهم في الذنب يتوبون إلى الله، وهذا ليس عجيبا؛ لأنهم غير معصومين، بل ربما أوقعهم الله تعالى في هذه الذنوب كي يعلم الأمة بعدهم أنه تعالى يقبل توبة عبده إذا تاب إليه علت منزلته أو نزلت.
ولا يعني هذا أنه تجريح للصحابة، شأنه تماما شأن السهو الذي حدث للنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته؛ فهو لا ينسى ولا يسهو لأنه نبي، لكن الله تعالى أراد له ذلك حتى يسأله الناس ويبين لهم هذا الحكم عمليا، كذلك فإن الثابت عند علماء المسلمين أن جيل الصحابة هو خير جيل قال سبحانه وتعالى: )محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما (29)( (الفتح).
قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد؛ فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه - صلى الله عليه وسلم - يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن...»([9]).
يقول الآمدي: "واختيار الله لا يكون لمن ليس بعدل"([10]) كما أنه من الثابت نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سب الصحابة، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - مبينا قدرهم ومكانتهم: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدهم، ولا نصيفه»([11]). فدلالة الحديث واضحة على أفضليتهم، لكن هذه الأفضلية تثبت لهم العدالة، ولا تنفي عنهم الذنوب.
يقول علماء الأصول: "المحدود في القذف إن كان بلفظ الشهادة فلا يرد خبره؛ لأن نقصان العدد ليس من فعله، ولهذا روى الناس عن أبي بكرة واتفقوا على ذلك وهو محدود في القذف، وإن كان بغير لفظ الشهادة فلا تقبل روايته حتى يتوب"([12]).
ففي إبطال الرواية بالحد في القذف تفصيل:
1. إن كان المحدود شاهدا عند الحاكم بأن فلانا زنى وحد لعدم كمال الأربعة، فهذا لا ترد به روايته؛ لأنه إنما حد لعدم كمال نصاب الشهادة في الزنا، وذلك ليس من فعله.
2. إن كان القذف ليس بصيغة الشهادة، كقوله لعفيف: يا زان ويا عاهر، ونحو ذلك، بطلت روايته حتى يتوب ويصلح، بدليل قوله )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5)( (النور).
فأبو بكرة - رضي الله عنه - متفق على قبول روايته مع أنه محدود في شهادته على المغيرة بن شعبة الثقفي بالزنا، والشهادة في هذا ليست كالرواية، فلا تقبل شهادة المحدود في قذف حتى يتوب بدليل قول عمر - رضي الله عنه - لأبي بكرة: " تب وأقبل شهادتك"([13]). خلافا لمن جعل شهادته كروايته فلا ترد، وهو محكي عن الشافعي.
والحاصل: أن القاذف بالشتم ترد شهادته وروايته بلا خلاف حتى يتوب ويصلح، والمحدود في الشهادة لعدم كمال النصاب تقبل روايته دون شهادته، وقيل: "تقبل شهادته وروايته"([14]). وليس المحدود بأشد جرما من الكافر؛ فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته.
أما المقصود بالنهي عن قبول الشهادة في مثل قوله سبحانه وتعالى: )ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا( (النور: ٤)؛ أي: ما دام قاذفا. وأيضا الحديث: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا مجلود في حد..." فمعناه - على فرض صحته - حتى يحدثوا التوبة بدليل الاستثناء في قوله سبحانه وتعالى: )إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5)( (النور)، فلا تقبل شهادة الكافر أبدا، ما دام كافرا.
وقال الشعبي: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته؟! ثم إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام من الأصوليين، فقوله: )وأولئك هم الفاسقون (4)( (النور: 4) تعليل لا جملة مستقلة بنفسها؛ أي: لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم([15])؟ إذا قبلت شهادة المحدود بتوبته فقبول روايته أولى([16]).
ثالثا. من الأمور المسلم بها عند المسلمين أن الإيمان يزيد وينقص وأن زيادته بالطاعات والقربات، ونقصه بالمعاصي والزلات:
لقد شكا الصحابة أنفسهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - اختلاف حالهم في منازلهم عن حالهم في مجلسه - صلى الله عليه وسلم - فبين لهم أن الإيمان يزيد وينقص، ولعل هذا ما دعا بعضهم للقول بنفي الإيمان عمن وقع منه ذنب أو كبيرة معتمدين على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...» الحديث([17]). فقالوا: هذا حديث يعضد قولنا ويأصل حجتنا، لكنهم لجهلهم باللغة اعتقدوا أن وقوع الذنب أو الكبيرة ينفي الإيمان كلية حتى وإن تاب صاحبه، وهذا قول ينأى عن الصحة والاعتبار؛ قال النووي رحمه الله: "هذا الحديث مما اختلف العلماء في معناه، فالقول الصحيح الذي قاله المحققون: أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء، ولا يراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة، وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، فقلت - أي: أبو ذر - وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق...»([18])، وحديث عبادة بن الصامت في الصحيح، الذي يقول فيه:«كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلس، فقال: تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق؛ فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به، فهو كفارته، ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه»([19]).
فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح مع قول الله عز وجل: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( (النساء: ٤٨) مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة([20]). كل ذلك يرد زعم الطاعنين في أن ارتكاب الذنوب يبطل العدالة.
ولقد اتفق العلماء على أن الذي يفعل الذنب - ولو كان قاذفا - ثم تاب فإن الله يتوب عليه؛ استنادا إلى قوله سبحانه وتعالى: )إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5)( (النور)، فهذا الاستثناء عمدة من أجاز شهادته إذا تاب، وقد أخرج البيهقي من طريق ابن عباس في قوله سبحانه وتعالى: )ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا( (النور: ٤)، ثم قال: )إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5)( (النور) فمن تاب فشهادته في كتاب الله تقبل، ويزول عنه إثم الفسق سواء كان بعد إقامة الحد أو قبله، وتأولوا قوله سبحانه وتعالى: )أبدا( على ما يليق به، كما لو قيل: لا تقبل شهادة الكافر أبدا، فإن المراد ما دام كافرا، وقال الشافعي: "الحدود كفارة لأهلها فهو بعد الحد خير منه قبله، فكيف يرد وهو في خير حالتيه ويقبل في شرهما"([21])؟!
قال ابن عاشور في تفسيره: "وليس من شرط التوبة أن يكذب نفسه فيما قذف به عند الجمهور، وهو قول مالك؛ لأنه قد يكون صادقا، ولكنه عجز عن إثبات ذلك بأربعة شهداء على الصفة المعلومة، فتوبته أن يصلح ويحسن حاله ويتثبت في أمره"([22]).
مما سبق يتضح أنه بالفهم الصحيح لحديث زيادة الإيمان ونقصانه، وبتفريق العلماء بين الرواية والشهادة، وبثبوت الشهادة بعد التوبة - يتقرر بطلان ما ادعاه المدعون من أن إقامة الحد على بعض الصحابة - تفقدهم العدالة وترد الرواية.
رابعا. الصحابة المحدودون عددهم قليل ورواياتهم كذلك، وهي مقبولة موثوق بها:
إن عدد الصحابة الذين حدوا عدد ضئيل جدا مقارنة بأعداد الصحابة الآخرين، كما أن علماء الجرح والتعديل لم ينصوا في كتبهم على تجريح أي منهم بل عدلوا كل الصحابة، وتلقوا جميع رواياتهم بالثقة والقبول، فكانوا ينصون على صحبتهم، وهذا يعني تعديلهم.
أما عن الصحابة الذين وردت أسماؤهم في الشبهة على سبيل التمثيل للصحابة المحدودين فهذه هي أقوال العلماء فيهم:
· أبو بكرة رضي الله عنه:
قال الذهبي في "السير": روى جملة أحاديث، وحدث عنه بنوه الأربعة، وأبو عثمان النهدي، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وعقبة بن صهبان، وربعي بن حراش، والأحنف بن قيس، وغيرهم. سكن البصرة، وكان من فقهاء الصحابة، فهل يعقل أن يروي عنه هذا الجمع من التابعين مع علمهم فسقه؟!
أما الذين قالوا بعدم توبته لما أمره عمر - رضي الله عنه - أن يتوب، فالبيهقي في سننه يقول: "إن صح هذا فلأنه امتنع من التوبة من قذفه، وأقام على ذلك. قلت: كأنه يقول: لم أقذف المغيرة وإنما أنا شاهد، فجنح إلى الفرق بين القاذف والشاهد؛ إذ نصاب الشهادة لو تم بالرابع لتعين الرجم ولما سموا قاذفين"([23]).
· أبو محجن:
وأخرج الذهبي في تاريخه قال: "أبو محجن الثقفي في اسمه أقوال قدم مع وفد ثقيف فأسلم، ولا رواية له"([24])؛ أي: إنه لم يكن له روايات أصلا، فهو كما قال الذهبي: لم تكن له روايات، ولم يعرف عنه إلا قصة في حده في الخمر، وبلائه في القادسية، والتوبة من الخمر، وعفو سعد بن أبي وقاص عنه.
· حسان بن ثابت رضي الله عنه:
أما هذا الصحابي فلم يكن كغيره من الصحابة الذين أقيمت عليهم الحدود؛ لأن الإمام مسلما قد أفرد له بابا في صحيحه يتحدث عن مناقبه - رضي الله عنه - كما أن الصحابة - رضي الله عنهم - أنفسهم وعلى رأسهم عائشة رضي الله عنها قد قبلوا توبته ودافعوا عنه؛ فعن هشام عن أبيه أن: «حسان بن ثابت كان ممن كثر على عائشة، فسببته، فقالت: يا ابن أختي، فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»([25]).
وعن عمر بن حوشب عن عطاء بن أبي رباح، سمعه يقول: دخل حسان على عائشة بعدما عمي، فوضعت له وسادة، فدخل أخوها عبد الرحمن، فقال: أجلستيه
على وسادة، وقد قال ما قال؟ يريد: مقالته نوبة الإفك، فقالت: كان يجيب عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويشفي صدره من أعدائه وقد عمي، وإني لأرجو ألا يعذب في الآخرة([26]).
ومفاد القول أن هؤلاء الصحابة قد عدلهم جمع الصحابة بعد التوبة وذكروهم بالخير، وسار المحدثون على دربهم، كما أن الله تعالى لم يستثنهم من الذين رضي عنهم، ولم يذكر أسماءهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - مع المنافقين مما يدل على أنهم عدول عند الله ورسوله والمؤمنين.
الخلاصة:
· إن الحديث الذي استدل به الطاعنون على سقوط عدالة المحدود حديث ضعيف ضعفه القدامى والمحدثون من أهل الحديث؛ لتفرد يزيد بن زياد الدمشقي بهذا الطريق عن الزهري ولتجريح العلماء له.
· إن إقامة الحد على الصحابة لا تنفي عدالتهم، ولا ترد روايتهم؛ لأن الله تعالى بين في كتابه أن الذي يتوب تقبل شهادته، وما علم عن أحد من الصحابة أنه أقام على كبيرة قط.
· لقد فرق العلماء بين الرواية والشهادة فقالوا: إن الرواية لا تحتاج إلى مزيد شروط كالحرية والعدد وغيرها، وعليه فإذا قبلت شهادة من تاب بعد أن أقيم عليه الحد بزوال المانع، فإن قبول الرواية منه أولى.
· إن الحديث الذي ينص على أن الإيمان يزيد وينقص لا يعتبر قدحا في الصحابة؛ لأنهم لما شكوا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - عذرهم لكنه لم يخبرهم أنه يجرح العدالة أو يرد الشهادة.
· إن عدد الصحابة الذين أقيمت عليهم الحدود عدد ليس بالكثير مقارنة بأعداد الصحابة الآخرين، كما أن هؤلاء الصحابة في جلهم لم تكن لهم روايات حديثية تذكر، أما من رويت له أحاديث منهم فقد تلقته الأمة بالثقة والقبول.
(*) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأررنؤط، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1429 هـ/ 2008 م.
[1]. ضعيف: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الشهادات، (6/ 477، 478)، رقم (2400). وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2298).
[2]. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (6/ 479).
[3]. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، (8/ 292).
[4]. صحيح وضعيف الجامع الصغير، الألباني، (29/ 351).
[5]. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (4/ 425) بتصرف.
[6]. إرواء الغليل، الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، (8/ 292، 293).
[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المناقب، باب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، (7/ 5) رقم (3561). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، (9/ 3659)، رقم (6354).
[8]. حسن: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الزهد، باب: ذكر التوبة، (2/ 1420)، رقم (4251). وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (4251).
[9]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، (5/ 211)، رقم (3600). وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[10]. الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1421هـ/ 2000م، (2/ 315).
[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا"، (7/ 25)، رقم (3673). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: تحريم سب الصحابة، (8/ 332)، رقم (2540).
[12]. المسودة في أصول الفقه، ابن تيمية، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المدني، القاهرة، د. ت، ص233.
[13]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (5/ 303).
[14]. مذكرة في أصول الفقه، محمد الأمين الشنقيطي، دار العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص17.
[15]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (12/ 181) بتصرف.
[16]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (12/ 180، 181).
[17]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المظالم، باب: النهبى بغير إذن صاحبه، (5/ 143)، رقم (2475). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بالمعاصي، (1/ 435)، رقم (199).
[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري )، كتاب: الجنائز، باب: في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، (3/ 132)، رقم (1237). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات مشركا دخل النار، (2/ 487)، رقم (267).
[19]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحدود، باب: الحدود كفارة، (12/ 85)، رقم (6784). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها، (6/ 2661)، رقم (4381).
[20]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 436، 437).
[21]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (5/ 302، 303).
[22]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (18/ 160).
[23]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (3/ 5: 7) بتصرف.
[24]. تاريخ الإسلام، الذهبي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1407هـ/ 1987م، (3/ 300).
[25]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأدب، باب: هجاء المشركين، (10/ 562)، رقم (6150). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفضائل، باب: فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه، (8/ 3624)، رقم (6272).
[26]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/ 514) بتصرف.
click
website dating site for married people