الطعن في عدالة غير المجتهدين من الصحابة(*)
مضمون الشبهة:
يطعن بعض المغرضين في عدالة غير المجتهدين من الصحابة، ويقصرون العدالة على المجتهدين منهم، ولما كان هؤلاء المجتهدون قلائل، لزم من ذلك قلة العدول من الصحابة؛ ويستدلون على ذلك: بقول الغزالي: "لم يكن في الصحابة من المجتهدين إلا قليل: وهم الخلفاء الأربعة، والعبادلة، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، ومن عرف منهم بالرجوع إليه من غير نكير، وأراد بهم أهل الفتيا، لا الرواية". ويتساءلون: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تدعى عدالتهم جميعا؟! رامين من وراء ذلك إلى الطعن في عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - لتقصيرهم في الاجتهاد، والاستدلال على صعوبة الاجتهاد، لقلة المجتهدين منهم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الاجتهاد ليس شرطا في العدالة، وإن كانت العدالة شرطا في الاجتهاد، فادعاء أن مدار العدالة قائم على الاجتهاد في الفتيا قول لا يصح بأي حال من الأحوال؛ ومن ثم فالصحابة كلهم علماء وعدول؛ المجتهد منهم وغير المجتهد.
2) إن مقولة الغزالي التي استدل بها الطاعنون على قلة المجتهدين من الصحابة - لم تصح نسبتها إليه، وعلى فرض صحة نسبتها إليه، فهي معارضة لما رواه من هو أرجح منه في هذا المضمار، فكيف نقبل المقولة المنسوبة إلى الغزالي، ونرد ما ثبت من روايات كثيرة دلت على كثرة المجتهدين من الصحابة؟!
3) إن المجتهدين من الصحابة عدد كبير لا يستطيع أحد حصرهم، والمعروف منهم بالاجتهاد والفتيا هم المشهورون فقط، فقد كانوا يتورعون ويكتفون بمن يتصدر للفتيا، ويحيلون عليه وإلا فكلهم مجتهدون، ولقد ذكر ابن حزم من المشهورين بالاجتهاد فقط ما يربو على المائتين.
التفصيل:
أولا. الاجتهاد ليس شرطا في العدالة:
إن القول بأن مدار عدالة الصحابة قائم على الاجتهاد في الفتيا قول لا يستقيم عقلا ولا نقلا، فمما لا شك فيه أن الصحابة - رضي الله عنهم - عدول كلهم، والعدالة ثابتة لهم جميعا بنص الكتاب العزيز، والسنة النبوية الشريفة.
سواء من تقدم إسلامه أو من تأخر منهم، ومن هاجر ومن لم يهاجر، فلقد أثنى الله - عز وجل - عليهم أجمعين في كتابه العزيز في قوله عز وجل: )وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا( (البقرة: ١٤٣)، وقوله سبحانه وتعالى: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( (آل عمران: ١١٠)، وقد أثنى عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته»([1])، فقد شهد الله - عز وجل - ونبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - بعدالة الصحابة - رضي الله عنهم - وعلى هذا فأي دعوى أو اتهام موجه إليهم فهو ادعاء باطل.
وصدق الحسن حينما ذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوما اختارهم الله - سبحانه وتعالى - لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فإنهم - ورب الكعبة - على الهدي المستقيم"([2]).
لقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - حريصين على الفهم والاستيعاب الدقيق الكامل لكل ما يتعلمونه من القرآن والحديث، فهذا عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود، وغيرهما - رضي الله عنهم - كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: "فتعلمنا العلم والعمل جميعا"، وقام عبد الله بن عمر بحفظ سورة البقرة في ثمان سنين لاستغراقه في المعرفة والفهم([3]).
"وكانت أم الدرداء تصف زوجها بأن أفضل عمله التفكر والاعتبار"([4]).
وإننا لنعجب من محاولة انتقاص الصحابة وغمطهم حقهم بعد ذلك بالقول بأنهم لا يكونون عدولا إلا إذا كانوا مجتهدين، ولا نعلم عن أحد من العلماء قال بهذا الشرط العجيب حقا، ألا فليعلم أصحاب هذه الشبهة أن الصحابة - رضي الله عنهم - قد اختصوا بفضيلة الصحبة التي لا تعدلها فضيلة أخرى عند غيرهم، فهم صفوة مختارة، وثلة مجتباة، وقد اختارهم الله - سبحانه وتعالى - لصحبة نبيه، قال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».
وهذه الخيرية لا شك أنها في كمال العلم، وتمام الفهم عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - وصحة الدين، وصدق العزم في الدعوة إلى الله وإلى شرعه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكل من له لسان صدق من مشهور بعلم أو دين معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة"([5])، فكيف لا يكونون عدولا؟!
ثانيا. لا يصح الاستدلال بما نسب إلى الغزالي على قلة المجتهدين من الصحابة:
وأما مقولة الغزالي التي استدل بها الطاعنون، فلا يصح الاستدلال بها من عدة وجوه:
الأول: من أين لهم ثبوت هذه الرواية عن الغزالي؟ وكيف يقبلونها ويردون ما ثبت من روايات صحيحة دلت على كثرة المجتهدين من الصحابة؟!
الثاني: أن الغزالي توفي على رأس المائة الخامسة من الهجرة، ومن بينه وبين غيره خمسمائة سنة إلا القليل، فمن المعلوم أنه لا يعرف حاله بطريق الخبرة، وإنما يعرف حاله بطريق النقل الصحيحة، إما عن الصحابي أنه أقر أنه ليس بمجتهد، وإما عن عالم مجتهد اختبر الصحابي فلم يجده مجتهدا، ولا طريق صحيحة إلى المعرفة بعدم اجتهاد الصحابي سوى هاتين، لكن الظاهر أنهما مفقودتان، فبطلت تلك الدعوى.
الثالث: أننا نعارض كلام الغزالي - إن فرضنا صحة نسبته إليه - بما رواه من لا يقل عنه علما ودراية في ذلك، وهو الحافظ الكبير أبو محمد بن أحمد بن سعيد الأندلسي (ابن حزم)، فإنه ذكر أن الفتيا نقلت عن مائة واثنين وأربعين رجلا وعشرين امرأة من الصحابة، وكذلك الشيخ أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص، فإنه ذكر في كتاب "الشجرة" في الفقه قريبا من ذلك من المجتهدين، وعدهم بأعيانهم، وهذه الرواية أولى من رواية الغزالي لوجوه:
الأول: أنها مثبتة، ورواية الغزالي نافية، والمثبت مقدم على المنفي.
الثاني: أن هذا الحافظ من أهل المعرفة بالحديث والدراية بكتب الرجال، والعناية التامة بمعرفة أحوال الصحابة، وعلم التاريخ، والغزالي دونه في ذلك([6]).
ومما سبق يتضح أن ما احتجوا به من كلام الغزالي لا يستقيم لهم، ولا يستدل به على ما زعموه من قلة المجتهدين من الصحابة.
ومما يزيد الأمر وضوحا، ويؤكد أن الصحابة - رضي الله عنهم - جميعا كانوا علماء وعدولا أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب ولسانهم، جاريا على معهودهم في الكلام، وعادتهم في الخطاب، فكل من كان من لسان العرب متمكنا، كان للقرآن أشد فهما، وأحسن إدراكا، ولا يعلم أحد أفصح لسانا، وأسد بيانا، وأقوم خطابا من أهل القرون الأولى المفضلة، وأولاهم من هذا الفضل والسبق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يكون في الأمة من بعد القرون الأولى أحد أفصح منهم لسانا، ومن ثم فلا يقدر أحد أن يفهم القرآن من هذه الجهة - جهة كونه عربيا - أفضل ولا أحسن منهم، بل كل من جاء بعدهم فهو دونهم في الفصاحة والبيان، والفهم والإدراك، عقلا وحسا([7]).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ولما كان التلقي عنه - صلى الله عليه وسلم - على نوعين: نوع بوساطة، ونوع بغير وساطة، وكان التلقي بلا وساطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق، واستولوا على الأمد؛ فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم، والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال، فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؟ تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذبا صافيا زلالا، وأيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالا، فتحوا القلوب بعدلهم بالقرآن والإيمان، والقرى بالجهاد بالسيف والسنان، وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصا صافيا، وكان سندهم فيه عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل عن رب العالمين سندا صحيحا عاليا"([8]).
"قال الليث عن مجاهد: العلماء أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال سعيد عن قتادة في قوله تعالى: )ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق( (سبأ: ٦)، قال: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"([9]).
وما من شك في بطلان وضلال من نفى عدالة الرعيل الأول، عصبة الإيمان الذين صدق موعود الله - عز وجل - لهم، إذ أكرمهم الله تعالى ووفقهم، وأعز بهم دينه، ونصر بهم كلمته، وما من رجل على وجه الأرض يستطيع مهما قدم من التضحيات أن يبلغ مثل مد أحدهم أو نصيفه، سواء في ذلك المجتهدون منهم وغير المجتهدين.
ثم إننا نتوقف - مع العقل - أمام هذا الشرط الجديد والعجيب في الوقت نفسه للحكم بعدالة الصحابة أو تجريدهم منها وهو الاجتهاد، لقد خانهم مكرهم حينما اشترطوا هذا الشرط، وكان الواجب عليهم في هذا الصدد أن يقولوا بما قال به العلماء من أن العدالة شرط في الاجتهاد، إذ به يستقيم القول لا العكس.
فهب أن رجلا أوتي من العلم ما أوتي، وصار من أكثر الناس اجتهادا، ولكنه يفعل ما يوجب جرحه، فهل نستطيع الحكم له بالعدالة؟ وهب أن رجلا كان من البساطة بمكان إذ لم يتمكن من تحصيل العلوم التي تؤهله للاجتهاد، وهو في الوقت ذاته لا يفعل ما يجرحه و يدينه أويشينه، فهل نستطيع أن نجرده من العدالة ونجرحه؟!
ثالثا. كثرة عدد المجتهدين من الصحابة:
لما كان الاجتهاد مطلوبا لمعرفة أحكام الشرع في الحوادث والوقائع التي لا نص ولا إجماع فيها، وضروريا لاستمرار خضوع أفعال المكلفين لشرع الله، فقد درب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على الاجتهاد، وكان تدريبهم إشعارا بمرتبة الاجتهاد في التشريع الإسلامي، وتهيئة للقادرين عليه؛ لبذل الوسع في استنباط الحكم والنطق به أمام معلمهم ونبيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما كان صوابا أقره ورضي به؛ وما كان خطأ صوبه، وبين وجه الحق فيه([10]).
وكان من مظنة تدريب النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته الكرام على الاجتهاد وتشجيعهم عليه أن زاد عدد المجتهدين منهم - رضي الله عنهم - فعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - "أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»([11]).
وها هو سعد بن معاذ - رضي الله عنه - يحكم في بني قريظة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاضر، فحكم سعد فيهم باجتهاده: أن يقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم؛ قياسا على جزاء المحاربين في قوله سبحانه وتعالى: )إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33)( (المائدة). وقد أقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اجتهاده وأثنى عليه بقوله: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك»([12]).
وقد روي أن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب. فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت إني سمعت الله يقول: )ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29)( (النساء)، يقول: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئا»([13]).
ولقد اجتهد كذلك عمار بن ياسر حين أجنب ولم يجد ماء يغتسل به، فتمرغ في التراب وصلى، ثم ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «كان يكفيك هكذا: وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه»([14]).
ليس هذا فحسب، بل إن جميع الصحابة قد اجتهدوا في تحليل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»([15])؛ إذ فسره بعضهم بأن المراد إنما هو الإسراع في السير لا تأخير الصلاة؛ فصلوا في الطريق، وفهمه بعضهم الآخر أن المراد هو عدم الصلاة إلا في بني قريظة على الحقيقة، فأخروا الصلاة إلى أن وصلوا إليها، وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلا الفريقين([16]).
وكان من المجتهدين أيضا سلمان الفارسي، وعبد الله بن سلام، روى ابن عساكر في تاريخ دمشق قال: "كان يزيد بن عميرة السكسكي تلميذا لمعاذ بن جبل، فلما حضرت معاذ الوفاة قعد يزيد عند رأسه يبكي، فنظر إليه معاذ، فقال: ما يبكيك؟ فقال له يزيد: أما والله ما أبكي لدنيا كنت أصيبها منك، ولكني أبكي لما فاتني من العلم. فقال له معاذ: إن العلم كما هو لم يذهب، فاطلب العلم بعدي عند أربعة؛ عند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام... وعند عمر... وعند سلمان الفارسي"([17]).
وكذلك كان من المجتهدين أبو ذر - رضي الله عنه - الذي شهد له علي - رضي الله عنه - فعن زاذان قال: "سئل علي - رضي الله عنه - عن أبي ذر، فقال: وعى علما عجز فيه، وكان شحيحا حريصا؛ شحيحا على دينه حريصا على العلم، وكان يكثر السؤال فيعطى ويمنع، أما إنه قد ملئ له في وعائه حتى امتلأ! فلم يدروا ما يريد بقوله: وعي علما عجز فيه، أعجز عن كشفه، أم عما عنده من العلم، أم عن طلب ما طلب من العلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ([18]).
وقد أفتى أبو هريرة - رضي الله عنه - وكان من رءوس العلم في زمانه، في القرآن والسنة والاجتهاد.
ولم يقف حد الاجتهاد عند الرجال من الصحابة - رضي الله عنهم - فقد اجتهدت النساء رضوان الله عليهن، ومنهن عائشة رضي الله عنها فقد كانت عالمة بالفقه مجتهدة في كثير من مسائله، وعدت من كبار الصحابة المجتهدين، حتى أصبحت المرجع الشرعي لكبار الصحابة، فيسألونها فيما خفي عنهم، أو يستفتونها في كثير من المسائل الفقهية، فقد جاء عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: "كانت عائشة قد استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان... إلى أن ماتت يرحمها الله"([19]).
وقال عطاء: "كانت عائشة أفقه الناس وأحسن الناس رأيا في العامة"([20]).
وكانت أم سلمة رضي الله عنها مشهودا لها بالاجتهاد؛ وكانت ذات عقل راجح ورأي صائب، وإشارتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية تدل على ذلك.
ومن خلال ما سبق نجد أن الصحابة المجتهدين كانوا كثرة، ولم يكونوا قلة بأي حال من الأحوال، ولا نظن أن المدعين كانوا يعرفون كثرتهم هذه وإلا ما حكموا عليهم بهذا الحكم، وما انتقصوا قدرهم وغمطوا حقهم.
وتأكيدا على ما سبق يشير ابن حزم الظاهري إلى أن الفتيا نقلت عن مائة واثنين وأربعين رجلا من الصحابة - رضي الله عنهم - وعن عشرين امرأة منهم، وقد أكد ذلك الشيخ أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص، فإنه ذكر في كتاب الشجرة في الفقه قريبا من ذلك من المجتهدين، وعدهم بأعيانهم([21]).
ولقد أثرت اجتهادات الصحابة - رضي الله عنهم - الفقه الإسلامي كثيرا؛ إذ إن المأثور عن الأئمة الأربعة أنهم كانوا يتبعون أقوال الصحابة ولا يخرجون عنها؛ فأبو حنيفة يقول: "إن لم أجد في كتاب الله أخذت بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن لم أجد أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت وأدع من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم.
ولقد قال الشافعي في الرسالة برواية الربيع، وهي من كتابه الجديد: "ولقد وجدنا أهل العلم يأخذون بقول واحد منهم؛ (أي الصحابة) مرة ويتركونه أخرى، ويتفرقون في بعض ما أخذوا منهم، قال (أي مناظره): فإلى أي شيء صرت من هذا؟ قلت: اتباع قول واحدهم إذا لم أجد كتابا ولا سنة ولا إجماعا ولا شيئا في معناه يحكم"([22]).
وهكذا يثبت لدينا كثرة عدد المجتهدين وأهل الفتيا من الصحابة على خلاف زعم المغرضين وأباطيلهم، فالصحابة كلهم عدول دون شك في هذا، وهم كذلك علماء مجتهدون.
الخلاصة:
· إن محاولة اتهام الصحابة بعدم العدالة لأن المجتهدين منهم هم العدول دون غيرهم محاولة فاشلة؛ إذ إن الاجتهاد ليس شرطا في العدالة، كما أن عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - ثابتة بالقرآن والسنة سواء المجتهدون منهم أو غير المجتهدين، قال سبحانه وتعالى: )من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23)( (الأحزاب)، وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».
· لا نستطيع الجزم بأن المقولة المستدل بها ثابتة عن الغزالي، وإذا فرضنا - جدلا - ثبوتها فلم يقصد بها ما ذهب إليه المرجفون، كما أنه ذكر نماذج للتمثيل والتوضيح لا الحصر والاستقصاء.
· لقد نهل الصحابة - رضي الله عنهم - العلم من معلم الأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف نحاول انتقاصهم وغمط حقهم؟! وهم الذين تعلموا العلم والعمل، وكان لهم الاستيعاب الكامل والفهم الدقيق دون غيرهم، ولـم لا وهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين اجتباهم الله وخصهم بهذه الفضيلة وتلك النعمة، فقد ثبتت عدالتهم بتعديل المولى - عز وجل - لهم، )ومن أصدق من الله قيلا (122)( (النساء)، )ومن أصدق من الله حديثا (87)( (النساء).
· إن العقل المنصف يحكم ببطلان هذه الشبهة، فمن الممكن أن يصل الإنسان إلى الاجتهاد وهو غير عدل، كأن يكون من علماء اللسان، كما يمكن أن يكون الإنسان عدلا ولم يحصل من العلوم ما يؤهله للاجتهاد، فهل يجرح لذلك؟! لاشك أن أي منصف لن يقبل عدالة الأول رغم اجتهاده، كما يرفض تجريح الثاني رغم نفي الاجتهاد عنه، ولما ثبت للصحابة أنهم ذروة الأخلاق والعدالة، فلا يشترط معهم الاجتهاد أو عدمه.
· إن كثيرا من الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا من أهل الفتيا المجتهدين، إذ دربهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الاجتهاد، وألقى عليهم السؤال: بماذا يحكمون إذا لم يجدوا حكما في الكتاب أو السنة؟ وكان نتيجة لذلك أن زاد عدد المجتهدين منهم - رضي الله عنهم - على عكس ما يتوهمه المدعون، وكان من هؤلاء عمرو بن العاص، وسعد بن معاذ، وعمار بن ياسر، والسيدة عائشة، والسيدة أم حبيبة - رضي الله عنهم - وها هو الجيش الغازي لبني قريظة يجتهد كله في فهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة»، ويقرهم النبي على اجتهادهم، وغيرهم كثير، وقد أورد ابن حزم أن الفتيا نقلت عن مائة واثنين وأربعين رجلا من الصحابة، وعن عشرين امرأة منهم. وابن حزم رجل ضليع في الفقه، معروف بعمق الفهم وسعة العلم؛ لذا كان قوله الأرجح على غيره؛ لأنه من أهل الاختصاص.
(*) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني تحقيق: شعيب الأررنؤط، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1429 هـ/ 2008 م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري )، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن صحب النبي أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه، (7/ 5)، رقم (3651). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة والذين يلونهم ثم الذين يلونهم، (9/ 3658)، رقم (6351).
[2]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، مكتبة التوعية الإسلامية، مصر، 1428هـ/ 2007م، (2/ 946).
[3]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: عامر الجزار وأنور الباز، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (13/ 331).
[4]. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط4، 1405هـ، (4/ 253).
[5]. شرح العقيدة الأصفهانية، ابن تيمية، تحقيق: إبراهيم سعيداي، مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1415هـ، ص165.
[6]. العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأررنؤط، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1429 هـ/ 2008 م، (1/ 307، 308) بتصرف.
[7]. مصادر التشريع ومنهج الاستدلال والتلقي، حمدي عبد الله الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، القاهرة، ط1، 2006م، ص364.
[8]. أعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973م، (1/ 5، 6).
[9]. أعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973م، (1/ 14).
[10]. الفقه الاجتهادي وأئمته الأعلام، د. عبد الرحمن العدوي، دار الطباعة المحمدية، القاهرة، ط1، 1417هـ/ 1996م، ص29.
[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاعتصام بالسنة، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، (13/ 330)، رقم (7352 ). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، (6/ 2675)، رقم (4407).
[12]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجهاد والسير، باب: إذا نزل العدو على حكم رجل، (6/ 191)، رقم (3043). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد... (7/ 2763)، رقم (4515).
[13]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود )، كتاب: الطهارة، باب: إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟ (1/ 364 )، رقم (330 ). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (334).
[14]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التيمم، باب: المتيمم هل ينفخ فيهما، (1/ 528)، رقم (338). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحيض، باب: التيمم، (3/ 923)، رقم (796).
[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: صلاة الخوف، باب: صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء، (2/ 506)، رقم (946).
[16]. انظر: الفقه الاجتهادي وأئمته الأعلام، د. عبد الرحمن العدوي، دار الطباعة المحمدية، القاهرة، ط1، 1417هـ/ 1996م، ص30: 32.
[17]. تاريخ دمشق، ابن عساكر، تحقيق: علي شيري، دار الفكر، بيروت، د. ت، (58/ 446).
[18]. الطبقات الكبير، ابن سعد، تحقيق: د. علي محمد عمر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م، (2/ 305).
[19]. الطبقات الكبير، ابن سعد، تحقيق: د. علي محمد عمر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م، (2/ 323).
[20]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/ 185).
[21]. انظر: العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، محمد بن إبراهيم الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأررنؤط، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1429 هـ/ 2008 م، (1/ 308).
[22]. أصول الفقه، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1427هـ/ 2006م، ص197 بتصرف.
read
go want my wife to cheat