دعوى فساد مرويات أبي هريرة التي رواها البخاري في صحيحه (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين فساد روايات أبي هريرة التي رواها البخاري في صحيحه؛ وذلك لأن البخاري اعتقد العصمة في الصحابة جميعا، ومنهم أبوهريرة، ولذلك اعتمد جميع رواياته على أنها صحيحة ثابتة، على الرغم مما وجه إلى أبي هريرة من طعون، زاعمين أن علماء المذاهب الأربعة قد وقعوا في الخطأ نفسه حين أسسوا مذاهبهم على ما رواه البخاري عن أبي هريرة.
رامين من وراء ذلك إلى الطعن في مرويات أبي هريرة التي أخرجها البخاري في صحيحه، تمهيدا للطعن في السنة عامة.
وجها إبطال الشبهة:
1) لم يعتقد الإمام البخاري ولا غيره من أئمة الحديث العصمة في الصحابة؛ لأنها من خواص الأنبياء فقط، وإنما اتفق الجميع على عدالتهم الثابتة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهي المعول عليها في قبول الرواية لا العصمة، وما كان أبو هريرة - رضي الله عنه - إلا أحد هؤلاء المتفق على عدالتهم.
2) إن القول بأن الأئمة الأربعة - أصحاب المذاهب - أسسوا مذاهبهم على أساس رواية البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يعد جهلا صارخا بسير هؤلاء الأفاضل، بل بمعرفة الحد الأدنى من أحوال الرجال وتاريخهم؛ لأن آخر هؤلاء وهو الإمام أحمد بن حنبل (ت: 241هـ) يعد من كبار شيوخ البخاري، فأنى لهم أن يؤسسوا مذاهبهم على أساس رواية من جاء بعدهم بمدة من الزمن (أعني البخاري ت: 256هـ)؟!
التفصيل:
أولا. نفي اعتقاد البخاري بوجود العصمة في أحد غير الأنبياء:
إن البخاري مثل باقي أئمة أهل السنة لم يعتقد العصمة في أحد غير الأنبياء، صحابيا كان أو غير صحابي؛ لأن العصمة من خواص النبوة ولوازمها؛ لثقل ما يحمله الرسل من أمانة أراد الله تبليغها بواسطتهم؛ ليقيم الحجة على الناس، لذلك خصهم الله بما يحول بينهم وبين الزلل، ويحفظهم من الوقوع في الخطأ، مما قد يؤثر في تبليغ الرسالة، ويمنع حصول المطلوب من إقامة الحجة على الخلق، وليست النبوة شرطا في قبول الرواية.
ولو أن العصمة شرط في قبول الرواية، لما قبل أحد من البشر قول أحد بعد تبليغ أنبيائهم الوحي، وإنما يكتفى في تصديق الرواية العلم بعدالة الراوي وجودة حفظه وضبطه لما يرويه، ولم ينقل عن أحد من مؤرخي البشر ونقلة الأخبار مثلما نقل عن البخاري من شدة التحري في كتابه الجامع الصحيح، فليأتنا هؤلاء الطاعنون بمثله أو بما يقرب منه عندهم، كيف وكتبهم المقدسة تنسب الكذب وغيره من كبائر المعاصي إلي الأنبياء - برأهم الله - وعلى الرغم من أن هؤلاء لا يقولون بعصمة الأنبياء، دع عنك عصمة ناقلي كتبهم بغير أسانيد متصلة، إلا أنهم يقبلون ما ينسبه هؤلاء النقلة إلى أنبيائهم[1].
إن العدالة المتفق على حصولها لجميع الصحابة هي المعول عليها في قبول الرواية أو ردها، والعدالة هي: "استواء أحوال صاحبها في دينه، ويعتبر لها شيئان:
الأول: الصلاح في الدين بأداء الفرائض برواتبها، واجتناب المحرمات، بألا يأتي كبيرة، ولا يداوم على صغيرة، والكبيرة: ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة، أو لعنة، أو غضب، أو نفي إيمان، والصغيرة ما دون ذلك.
الثاني: استعمال المروءة الإنسانية بفعل ما يجمله ويزينه عادة، مثل السخاء وحسن الخلق، وحسن المجاورة ونحوها، وترك ما يدنسه ويشينه من الأمور الدنية المزرية به"[2].
وهذه الأمور يجب التحقق من وجودها في الراوي إلا أن يكون صحابيا؛ لأن عدالته ثابتة نقلا وعقلا؛ نقلا بالقرآن والسنة الصحيحة، وعقلا؛ لأن الله تعالى سخرهم - الصحابة - لحمل الرسالة وتبليغها من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يؤمن على حملها من ليس بعدل، أو من يتوقع منه التحريف أو التغيير فيها، مما ينتفي معه الغرض من إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
وما أبو هريرة - رضي الله عنه - إلا أحد هؤلاء الصحابة الأخيار، وما دامت مكانة الصحابة بهذه الرفعة والعلو، وأنهم أفضل خلق الله بعد الأنبياء والمرسلين، فلا يقبل تجريح - من بعدهم - لهم، ولا مقارنتهم بغيرهم من الرواة وإن كانوا ثقات لا يختلف عليهم اثنان؛ لأن عدالتهم مشهورة معلومة لكل المسلمين، وصدق القائل:
ألا ترى أن السيف ينقص قدره
إن قيل إن السيف أمضى من العصى
ومن ثم فإن البخاري لم يعتقد العصمة في الصحابة، ولكنه لم يرتب فيهم، ولا يسعه هو، أو غيره أن يرتاب، ومع اعتقاده بعدم عصمتهم، اعتقد عدالتهم، وهي المعول عليها في قبول الرواية، والمتفق على تحققها فيهم - رضي الله عنهم - نقلا وعقلا، فكيف تكون - إذن - رواية البخاري عن أبي هريرة أفسدت الشريعة؟!
ثانيا. الأئمة الأربعة كانوا سابقين للبخاري، فكيف يبنون مذاهبهم على رواياته؟!
إن قولهم بأن الأئمة الأربعة أسسوا مذاهبهم اعتمادا على رواية البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قول يدل على عدم علم هؤلاء بسير الأئمة جميعا، وذلك أن البخاري كان متأخرا عن الأئمة الأربعة؛ إذ ولد سنة (194 هـ)، وتوفي (256هـ)[3] أي ولد بعد وفاة كلا من الإمام أبي حنيفة (80هـ - 150)[4]، والإمام مالك بن أنس (93ـ 179)[5]، فقد ولد بعد وفاة أبي حنيفة بأربعة وأربعين عاما، وبعد وفاة مالك بخمس عشرة سنة، فكيف أسسا مذهبيهما على أساس رواية البخاري عن أبي هريرة؟!
أما الإمام الشافعي فقد ولد عام (150 هـ)، وتوفي (204هـ)[6]، أي كان عمر البخاري عشر سنوات؛ أي في بداية رحلته لطلب العلم، فكيف اطلع الشافعي على صحيحه الذي صنفه في ست عشرة سنة؟! هكذا يكذب التاريخ مزاعم هؤلاء.
وبقي الإمام أحمد بن حنبل (164هـ - 241) [7] فقد أدركه البخاري وتلقى الحديث عنه، وقد جاء في "تهذيب التهذيب" عن العقيلي أن البخاري لما ألف كتابه الصحيح عرضه على علي بن المديني (ت 234هـ)، ويحيى بن معين (ت233هـ) وأحمد بن حنبل، وكلهم من كبار شيوخه، فامتحنوه، وكلهم قال: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث، قال العقيلي: "والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة"[8]، والشاهد في هذا أن البخاري أخذ عمن أدرك من الأئمة الأربعة، ولم يأخذ أحد منهم عنه شيئا، ولم يكن أحد من المجتهدين يقلد أحدا في رواية ولا دراية، وإنما يأخذ كل منهم بما صح عنده من الرواية.
ثم إن مصدر العلم والحق في سائر فروع المعرفة الشرعية عند أهل السنة هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا كلام لأحد قبل كلام الله ولا هدي لأحد قبل هدي محمد "[9].
فما أثبته الله ورسوله أثبته علماء المذاهب، وما نفاه الله ورسوله نفاه هؤلاء الأفذاذ، سواء كان الطريق إلى معرفة ذلك رواية أبي هريرة أو غيره، ما دامت هذه الرواية ثابتة وصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا وضعنا في الحسبان علم هؤلاء الأفاضل - أئمة المذاهب - بالسنة وعلومها، علمنا أنهم أسسوا مذاهبهم على أساس الدين، قرآنا وسنة، من روايات أبي هريرة وغيره، ولم يؤسسوا مذاهبهم على روايات البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وحده.
وإذا افترضنا - مجاراة لرأيهم - أن أئمة المذاهب أسسوا مذاهبهم على أساس رواية البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مع مخالفة ذلك للواقع والتاريخ كما بينا بالأدلة الثابتةـ فلا إشكال في هذا نظرا لعدالة أبي هريرة التي لا يشك فيها ذو لب، ولتحري البخاري ودقته وتمحيصه لكتابة الصحيح الذي أجمعت الأمة على أنه أصح كتب السنة جميعا.
الخلاصة:
· إن العصمة فضل من الله على رسله؛ لضمان حصول التبليغ وسلامته، ولم يشاركهم في هذا الفضل أحد، والإمام البخاري من أعلم الناس بذلك، فلم يقل بعصمة أحد من الصحابة أبدا.
· إن المعول عليه في قبول الرواية تحقق الضبط والعدالة التي اتفق على حصولها لجميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا العصمة من الخطأ.
· إن أئمة المذاهب الأربعة أسبق من الإمام البخاري والمتأخر منهم - أحمد بن حنبل - يعد من كبار شيوخه، فكيف يقال إنهم أسسوا مذاهبهم على رواياته؟! إن هذا مما يخالف العقل والمنطق والتاريخ الصحيح.
· إن الأصول التي اعتمد عليها الأئمة في مذاهبهم، القرآن والسنة، سواء كانت من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - أو غيره من الصحابة، ولم يعتمدوا على رواية البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وحده، وهذا مما يدحض شبهتهم، وينفي زعمهم، ويظهر عوار منهجهم، وسوء طويتهم.
· هذه الفرية الباطلة تدل على مبلغ علم المدعين لها وعلى درجة تحريهم وصدقهم فيما يقولون وينقلون، فهم على درجة عالية من التخرص وعدم التحري الذي يريدون به هدم الحقائق الثابتة.
(*) رد السهام الموجهة إلى السنة في العصر الحديث من خلال جهود الإمام محمد رشيد رضا في خدمة السنة، د. يوسف عبد المقصود إبراهيم، دار التوعية، القاهرة، ط1، 1429هـ/ 2008م.
[1]. رد السهام الموجهة إلى السنة في العصر الحديث من خلال جهود الإمام محمد رشيد رضا في خدمة السنة، د. يوسف عبد المقصود إبراهيم، دار التوعية، القاهرة، ط1، 1429هـ/ 2008م، ص123 بتصرف.
[2]. في السنة النبوية ومصطلح الحديث، د. حسين سمرة، دار الهاني، القاهرة، 1427هـ/ 2006م، ص148.
[3]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/392).
[4]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (6/391).
[5]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (8/49).
[6]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (11/ 179).
[7]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (10/ 10).
[8]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (11/ 179).
[9]. مصادر التشريع ومنهج الاستدلال والتلقي، حمدي عبد الله، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، القاهرة، ط1، 2006م، ص18. why do wife cheat on husband wife cheaters reasons why married men cheat My girlfriend cheated on me find an affair signs of unfaithful husband
|