دعوى خروج أبي هريرة - رضي الله عنه - عن حدود اللياقة مع بعض أمهات المؤمنين(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن أبا هريرة كان لا يراعي حدود الأدب مع بعض أمهات المؤمنين؛ في سبيل إثبات صحة مروياته التي لم نسمع بها، ويمثلون لذلك بموقف السيدة عائشة - رضي الله عنها - حين أنكرت حديثا سمعته منه، وقالت له: «إنك لتحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ما سمعته منه، فقال أبو هريرة: يا أمه طلبتها وشغلك عنها المرآة والمكحلة، وما كان يشغلني عنها شيء».
رامين من وراء ذلك إلى الطعن في عدالته رضي الله عنه؛ إيذانا للطعن في عدالة الصحابة جملة.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد كان لأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمعين عند أبي هريرة منزلة عظيمة، فمن المحال - عقلا - أن يقدر أبو هريرة آل البيت، ثم يخرج عن حدود اللياقة مع السيدة عائشة - رضي الله عنها، وكيف ذلك وهو يناديها بأطيب لفظ وأحبه إليها: "ياأمه" وهو قمة التوقير والتقدير الذي يليق بمثله ومثلها؟! وهل كان يتركه الصحابة دون أن ينكروا عليه ويردوه لو فعل ذلك؟!
2) لقد كان المقصود من قول أبي هريرة التسويغ لا الانتقاص؛ إذ إنه كان يدافع عن نفسه عندما استكثرت ما يحدث به، فتبين لها أنه كان يطلب الحديث وأنها شغلت بشئونها عنه، وهو شأن كل امرأة في بيت زوجها، وليس عيبا أن تشغل المرأة المرآة والمكحلة ما دامت تتزين لزوجها، بل هو حق عليها - لزوجها - وإن لم تكن السيدة عائشة - وهي أم المومنين والقدوة للمؤمنات - مؤدية لحقوق زوجها، فمن تكون؟!.
3) لقد كان أبو هريرة يحدث فتوافقه السيدة عائشة تارة، وتستدرك عليه تارة أخرى، وكان هذا دأبها مع غيره من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عمر وغيرهم، ولم يشعر أحد من الصحابة بما فيهم أبو هريرة بأدنى غضاضة أمام سمو الهدف المتمثل في الحفاظ على روايته وتبليغه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التفصيل:
أولا. قدر ومكانة آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أبي هريرة رضي الله عنه:
لقد كان أبو هريرة وجميع الصحابة - رضي الله عنهم - يقدرون آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق قدرهم، لا سيما أمهات المؤمنين، وما كان يسع أبا هريرة أو غيره من الصحابة إلا توقيرهن وإعطاؤهن حقهن من المنزلة والمكانة إيمانا بفضلهن وقدرهن، وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - أكثر الصحابة ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان على جانب كبير من العرفان لأزواجه بالرفعة والمنزلة.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان على علم تام بفضل السيدة عائشة وسابقتها في الدين ومكانتها في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي التي حظيت بحبه - صلى الله عليه وسلم - فكانت أحب زوجاته إليه، فقد قال عمرو بن العاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقال: من الرجال؟ قال: أبوها...»[1].
وقد أثارت تلك المنزلة التي احتلتها عائشة - رضي الله عنها - من النبي - صلى الله عليه وسلم - غيرة زوجاته، فأرسلن ابنته فاطمة - رضي الله عنها - يطالبنه بأن تكون لهن مكانة عائشة، فقال لفاطمة: «يا بنية ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى، فرجعت إليهن فأخبرتهن...»[2].
وقال - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة: «لا تؤذيني في عائشة، فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة»[3].
ومن شدة حب النبي - صلى الله عليه وسلم - لها اختياره أن يمرض في بيتها، ووفاته بين نحرها، ودفنه في بيتها. وقد عرف الصحابة - رضي الله عنهم - ذلك بعدما صار حبه إياها علما عليها فسميت "حبيبة حبيب الله"، و"خليلة رسول الله"، و "حبيبة رسول الله"[4].
وقد وقرها الصحابة جميعا، يبتغون بذلك مرضاته صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة - رضي الله عنه - من جملة هؤلاء الصحابة في تقديره لأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قدرها وإنزالها منزلتها، ويكفي دلالة على ذلك أنه هو الذي صلى عليها بعدما توفيت - رضي الله عنها - وكيف يخرج عن حدود اللياقة والأدب معها وهو يناديها بأحب الألقاب إليها وأطيبها إلى نفسها: "يا أمه" تلك المنزلة التي حباها الله ورسوله إياها، وهي أثمن عندها من أي شيء آخر؛ لذلك رفضت المتاع والأهل - في سبيلها - عندما خيرهن الله تعالى؟ وهل كان أبو هريرة - رضي الله عنه - مع كثرة مروياته وسعة علمه يجهل معنى هذه اللفظة - "يا أمه" - وهو يناديها بها حتى ينطق بعدها بما يعتبر خروجا عن حدود اللياقة والأدب معها؟! فلماذا - إذن - قدم كلامه بهذا الاستهلال الطيب الذي يدل على عظيم توقيره لها وإجلاله لمكانتها؟! ولماذا لم ينكر عليه واحد من الصحابة ذلك؟! إنه لو فعل ما يعتبر خروجا عن اللياقة معها ما وسع أحد من الصحابة تركه دون إنكار أو رد عليه، ولكن لما لم ينكر عليه أحد، بل شهدوا له بالفضل والصلاح والعلم والفقه، ولم يذكروا له منقصة أو مذمة؛ كان ذلك دالا على سلامة موقفه وبراءته مما يريد أن يلصقه به الطاعنون من معايب.
ومما يدل على توقيره - رضي الله عنه - لأم المؤمنين عائشة، وتقديره لعلمها ما رواه الإمام أحمد عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه أنه قال: «دخلت على عائشة، فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا ثم يغتسل ثم يغدو إلى المسجد ورأسه يقطر، ثم يصوم ذلك اليوم، فأخبرت مروان بن الحكم بقولها، فقال لي: أخبر أبا هريرة بقول عائشة، فقلت: إنه لي صديق فأحب أن تعفيني، فقال: عزمت عليك لما انطلقت إليه، فانطلقت أنا وهو إلى أبي هريرة، فأخبرته بقولها، فقال: عائشة إذن أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم»[5].
أليس في قوله: "عائشة إذن أعلم برسول الله" دليل على اعترافه بعلمها وفضلها؟! أليس فيه رد كاف على من يزعم أنه كان ينقص من قدرها ويخرج عن حدود اللياقة والأدب معها؟!
ثانيا. المقصود من قول أبي هريرة التسويغ وليس الانتقاص:
من المسلم به، ومما هو معلوم: أن الصحابة الأخيار لم يكن يكذب بعضهم بعضا، إلا ما اختلقه الأفاكون من أهل الأهواء الذين استغلوا ما دار بين الصحابة من نقاش علمي، أو تثبت في الحديث وجعلوا منه مادة ينفذون من خلالها لمآربهم، وما من حادثة لأبي هريرة مع أمنا عائشة - رضي الله عنها - إلا بين العلماء وجه الحق فيها، ولم يروا في كلام عائشة - رضي الله عنها - موقف المكذب لأبي هريرة، ولم يفهم أحد مما دار بينهما أن أبا هريرة كذاب يتهمه الصحابة في صدقه وعلمه، إلا ما كان من اختلاق أعداء السنة، أهل البدع والأهواء[6].
إن القصة - التي يشير إليها المغرضون - رواها ابن سعد عن عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي عن جده، قال: "قالت عائشة لأبي هريرة: إنك لتحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ما سمعته منه، فقال أبو هريرة: يا أمه طلبتها وشغلك عنها المرآة والمكحلة، وما كان يشغلني عنها شيء"[7].
وروى الذهبي القصة من طريق إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: "دخل أبو هريرة على عائشة، فقالت له: أكثرت يا أبا هريرة عن رسول الله! قال: إي والله يا أماه، ما كانت تشغلني عنه المرآة، ولا المكحلة، ولا الدهن، قالت: لعله". وقال الذهبي: ورواه بشر بن الوليد عن إسحاق، وفيه: "ولكني أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي. قالت: لعله"[8].
وفي رواية الحاكم «أن عائشة - رضي الله عنها - دعت أبا هريرة - رضي الله عنه - فقالت له: يا أبا هريرة، ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنك تحدث بها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهل سمعت إلا ما سمعنا؟ وهل رأيت إلا ما رأينا؟! قال: ياأماه، إيه كان يشغلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرآة والمكحلة والتصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني والله ما كان يشغلني عنه شيء»[9].
وفي ضوء السياق - السالف ذكره - نتساءل: هل خرج أبو هريرة عن حدود الأدب مع السيدة عائشة - رضي الله عنها؟! لا والله، بل إنه - فقط - يدافع عن نفسه عندما استكثرت ما يحدث به، فبين لها أنه كان يطلب الحديث وأنها شغلت عما استكثرته من أبي هريرة بحياتها المنزلية وهو شأن كل امرأة في بيت الزوجية، عليها مسئوليات كثيرة لا تتيح لها أن تسير مع زوجها في كل مكان، أو ترافقه في جميع حالاته، ثم إن في جواب السيدة عائشة على أبي هريرة بقولها: "لعله" ما يدل على أنها وافقت أبا هريرة على تبريره ولم تعترض عليه أو تستنكر ما اعتبروه خروجا عن حدود اللياقة معها.
غير أن المغرضين "شنعوا على أبي هريرة ورأوا تسويغه خروجا على الأدب والوقار، مزيدين في الرواية نفسها عبارة: "على أنه لم يلبث أن عاد وشهد بأنها أعلم منه" فهذا غير صحيح في هذه الواقعة ولا يقوله إلا مغرر؛ لأنه لا يوجد أي تعارض بين الروايتين، فهذه القصة تتناول حفظ أبي هريرة وكثرة حديثه، ولم يتراجع أبو هريرة عما رواه، بل سمعت منه عائشة دفاعه عن نفسه، واقتنعت بما قال"[10].
وهناك ما يثبت أن السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - لم تنكر على أبي هريرة - رضي الله عنه - كثرة ما يروي بل صدقته، فقد روى الرامهرمزي بسنده عن أبي سلمة، قال: "قيل لعائشة إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أدنوه مني، فأدنوه، فقالت: أذكرتني شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم... وذكر الحديث"[11].
ونخلص من هذا، أن أبا هريرة لم يكن ليقلل من شأن السيدة عائشة - رضي الله عنها - وحاشاه أن يقصد ذلك، ولا فهم هذا من كلامه؛ إذ ليس في السياق خروج عن اللياقة، بل كان يبرر كثرة تحديثه بالحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما لم تسمعه عائشة - رضي الله عنها، وقد وافقته عائشة - رضي الله عنها - واقتنعت بكلامه ولم تنكر عليه كثرة حديثه ولا أسلوبه في الحوار معها، ولا ادعت أنه خرج عن حدود اللياقة معها، إنما ذلك شأن المفترين على عائشة وأبي هريرة وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
ثالثا. التثبت من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان هدف الصحابة جميعا:
إن هدف الصحابة جميعا كان التثبت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمام هذا الهدف السامي لم يكن أحدهم يجد في نفسه شيئا حين تراجعه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أو غيرها من أمهات المؤمنين أو الصحابة.
ولقد راجعت أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عمر وغيرهم، فما شعر أحدهم بحرج ولا غضاضة.
على أن أبا هريرة كان واحدا من هذا الجيل الفريد، فيحدث بالحديث؛ فتوافقه السيدة عائشة تارة، وتستدرك عليه تارة أخرى، كما كان يحدث مع غيره من الصحابة، فقد استدركت على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عمر وغيرهم، وكل ذلك كان من باب التفاهم والسؤال عن الحديث، وقد استدرك غيرها عليها، كما أنها كانت توجه من يسألها أحيانا إلى من هو أعرف منها في تلك المسألة، وقد ثبت أنها وجهت من سألها عن مسح الخف إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال شريح بن هانئ: «سألت عائشة عن المسح على الخفين، فقالت: ائت عليا؛ فهو أعلم بذلك مني، فأتيت عليا فسألته...»[12].
وإتماما للفائدة - وتأكيدا لما أسلفنا ذكره من أن الصحابة، لم يكن يمنعهم مانع من التثبت في الرواية على حساب ذواتهم - يحسن أن نذكر نصا تراجع فيه أبو هريرة - المفترى عليه بأنه خرج عن اللياقة دفاعا عن مروياته - وهذا النص هو حديث «من أصبح جنبا فلا صيام له»[13].
وإليكم الحديث كما رواه الإمام مسلم في صحيحه قال: «حدثني محمد بن رافع - واللفظ له - حدثنا عبد الرزاق بن همام أخبرنا ابن جريج، أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي بكر، قال: «سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقص، يقول في قصصه: من أدركه الفجر جنبا فلا يصم، فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث فذكره لأبيه فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما، فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال: فكلتاهما، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم، قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان، فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة فرددت عليه ما يقول، قال: فجئنا أبا هريرة، وأبو بكر حاضر ذلك كله. قال: فذكر له عبد الرحمن، فقال أبو هريرة: أهما قالتاه لك؟ قال: نعم، قال: هما أعلم، ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن العباس، فقال أبو هريرة: سمعت ذلك من الفضل ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، قال فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك. قلت لعبد الملك: أقالتا: في رمضان؟ قال: كذلك. كان يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم»[14].
إن أبا هريرة عندما بلغه قول عائشة وأم سلمة، تأكد منهم قائلا: «أهما قالتاه لك؟»، وعندما قالوا له: «نعم»، لم يتأخر عن أن يقول: «هما أعلم» وبين لهم ممن سمع ذلك، فلو كان أبو هريرة - كما يدعي المفترون - يخرج عن اللياقة مع من يناقشه في الحديث - لما سمع لهما، وخاصة من السيدة عائشة التي افتري عليه بأنه لم يلتزم الأدب معها، وفي هذا دليل على أن أبا هريرة - رضي الله عنه - صحابي جليل تربى في مدرسة النبوة المحمدية، وأنه ذو أدب عال وخلق رفيع ليس مع السيدة عائشة فحسب، بل مع كل أمهات المؤمنين، وجميع الصحابة غير مبال إلا بالحق والتثبت من النص موطن الدليل.
"كما أن رجوع أبي هريرة عن فتواه يحمد له، ولا يعاب عليه، وهو دليل على ورعه وتقواه وقوة فقهه؛ حيث أدرك أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمهات المؤمنين يمكن لهن معرفة ما استقر عليه الأمر آخرا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون قول الفضل - رضي الله عنه - أول الأمر ثم لحقه النسخ"[15].
هذا ولم تكن كل مرويات أبي هريرة لم تسمعها السيدة عائشة، وهذا سبب يفسر لنا موقف أبي هريرة حين سوغ فوات هذا الجانب اليسير منها حال انشغالها بشأنها، ولو كان هذا الجانب - الذي رواه أبو هريرة ولم تسمع به السيدة عائشة - رضي الله عنها - كثيرا؛ لكان السياق مظنة التقليل من شأنها، وأنها أنفقت وقتا طويلا في شئونها مهملة الحديث وسماعه، ولكن هذا لم يكن، بل إنها كانت تعلم ما لا يعلمه أكابر الصحابة، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي هريرة الذي كان يعلم ذلك جيدا، وإلا فلماذا رجع عن فتواه فيمن أصبح جنبا وهو صائم إلى حديثها كما ذكرنا؟!
فإذا كانت السيدة عائشة - رضي الله عنها - استدركت على أبي هريرة بعض ما فاته كغيره من الصحابة، وخاصة في الأمور التي يكون العلم فيها بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - هي أولى به من غيرها، كالأمور التي كانت تراها من النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته ولا يراها غيرها؛ لذلك رجع عن فتواه "فيمن أصبح جنبا وهو صائم" إلى ما ذكرت من الحديث؛ لأنها في ذلك أعلم وأدرى كيف كان يصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صيامه؟ وماذا كان يفعل؟ ولم يكن عنده أي غضاضة في أن يرجع إلى الحق إذا تبين له.
فإذا كان ذلك كذلك فإن أبا هريرة - رضي الله عنه - ذكر بعض الأحاديث التي لم تسمع بها عائشة فاستكثرتها عليه؛ فأخبرها أنها كانت مشغولة بأمور بيتها عنها؛ فوافقته واقتنعت بتبريره، خاصة وأنها لم تشهد كل مواطن ورود الأحاديث وأسبابها؛ لأنها لم تكن تلازم النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل أموره لاسيما خارج المنزل.
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه الاستدركات من الصحابة بعضهم على بعض - سواء كانت من عائشة أو أبي هريرة أو غيرهما من الصحابة - كانت قليلة ومحدودة إذا ما قورنت بالكم الهائل لمرويات كل واحد منهم والمتفق عليه من الجميع.
ومن هذا المنطلق نذكر مثالا واحدا مما صرحت فيه عائشة - رضي الله عنها - بصدق أبي هريرة فيما يروي - مع العلم أنها لم تكذبه في رواية واحدة، وإن ناقشته مرة فلا يدل ذلك على تكذيبه - والأمثلة على ذلك يستحيل حصرها، إذ إن كل مرويات أبي هريرة كانت على أعين الجميع ومسامعهم ولم يكذبه أحد من الصحابة وإن استكثر عليه بعضهم إلا أنهم كانوا يدركون أسباب كثرة مروياته كما ذكرنا في أماكن متفرقة.
فثمة أحاديث رواها أبو هريرة، وحدث بها الناس، ثم عرضت على السيدة عائشة - رضي الله عنها - فوافقته فيها، ومنها ما روي عن داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه: «أنه كان قاعدا عند عبد الله بن عمر، إذ طلع خباب صاحب المقصورة، فقال: يا عبد الله بن عمر، ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها، ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها، ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد؛ فأرسل ابن عمر خبابا إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة، ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت، وأخذ ابن عمر قبضة من حصباء المسجد يقلبها في يده، حتى رجع إليه الرسول، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض، ثم قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة»[16][17].
ومن جملة ما سلف يتبين لنا أن المغرضين الذين ناصبوا أبا هريرة العداء، يلتمسون في افتراءاتهم عليه أوجها لاحظ لها من السياق ولا شاهد يسندها من الواقع، بل هي محاسن حولوها إلى معايب وفي سبيل ذلك لا يتعرضون للروايات التي تبين صدقه وأمانته وثناء الصحابة عليه، وما أكثرها من روايات.
الخلاصة:
· لقد كان أبو هريرة متحليا بأروع الأخلاق وأشرف السمات؛ فقد كان زاهدا ورعا مجتهدا في العبادة والفقه مع الخلق الرفيع والأدب الجم.
· إن أبا هريرة كان يقدر جميع الصحابة، وكان يقدر آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقديرا يليق بمقامهم؛ لعلمه بفضلهم ومناقبهم، وما كان يسع أبا هريرة أو غيره من الصحابة إلا توقيرهم إيمانا بمكانتهم ومنزلتهم التي وهبهم الله إياها وحاشا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يفعلوا غير ذلك.
· لقد كان أبو هريرة يوقر أمه وأم المؤمنين - السيدة عائشة - ويبرها إيمانا بحقها في ذلك، ويكفي في الدلالة على ذلك أنه رجع عن فتواه إلى حديثها في مسألة «من أصبح جنبا وهو صائم»، ويكفي - أيضا - أنه هو الذي صلى عليها بعدما توفيت - رضي الله عنهما - فكيف يفترى عليه بأنه لم يلتزم الأدب معها؟! وحاشاه. وكيف لا يقدرها قدرها وهو القائل عنها: «عائشة أعلم».
· إن المقصود من مقولة أبي هريرة التسويغ لا الانتقاص؛ فقد تبين للسيدة عائشة - رضي الله عنها - أن أبا هريرة كان يطلب الحديث، وأنها شغلت عما استكثرته منه بحياتها المنزلية، ولم تعارضه في ذلك، بل وافقته ولم تنكر عليه.
· لقد استغل أهل الأهواء ما دار بين الصحابة من نقاش علمي، وجعلوه مادة ينفذون من خلالها لمآربهم، ولكن أنى لهم هذا وما من حادثة وقعت لأبي هريرة مع أمنا عائشة أو غيرها إلا بين العلماء وجه الحق فيها.
· لقد التقى الصحابة على هدف واحد يتمثل في رغبتهم في الحفاظ على السنة والتثبت من نصوصها، وقد استدركت السيدة عائشة على كثير منهم، فلم يشعروا بأدنى غضاضة من ذلك، كما لم تشعر هي بأدنى انتقاص أو تحرج من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه - لها.
· لقد كانت السيدة عائشة - رضي الله عنها - حين لا تجد من نفسها العلم الكافي بالنص موطن السؤال تحيل السائل على من هو أعلم منها بسؤاله، كما فعلت مع شريح بن هانئ حين سألها عن المسح على الخفين فأحالته إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
· لقد وافقت السيدة عائشة أبا هريرة في كثير من الأحاديث وصدقته فيما ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما فعلت عندما بعث عبد الله بن عمر من يسألها عن حديث أبي هريرة في اتباع الجنازة.
(*) الرد على الطاعن في أبي هريرة، الحسن بن علي الكتاني.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، (7/22)، رقم (3662).
[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، (7/22)، رقم (3662).
[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الهبة، باب: من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض، (5/243)، رقم (2581).
[4]. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/ 197).
[5]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، مسند عائشة ـ رضي الله عنها، رقم (24752). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح.
[6]. الرد على الطاعن في أبي هريرة، الحسن الكتاني، ص27 بتصرف.
[7]. الطبقات الكبير، ابن سعد، تحقيق: علي محمد عمر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م، (2/314).
[8]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/604، 605).
[9]. صحيح: أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب: معرفة الصحابة رضي الله عنهم، باب: ذكر أبي هريرة الدوسي، (3/ 582)، رقم (6160). وصححه الذهبي في التلخيص.
[10]. أبو هريرة راوية الإسلام، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1402هـ/ 1982م، ص227 بتصرف.
[11]. المحدث الفاصل، الرامهرمزي، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، بيروت، ط3، 1404هـ، ص55.
[12]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الطهارة، باب: التوقيت في المسح على الخفين، (2/809)، رقم (629).
[13]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: الصائم يصبح جنبا، (4/170)، رقم (1925).
[14]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، (4/1754)، رقم (2548).
[15]. الرد على القرآنيين دفاعا عن سنة الحبيب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، شافع توفيق محمود، الصفا والمروة للنشر والتوزيع، الإسكندرية، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص82 بتصرف.
[16]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: فضل اتباع الجنائز، (3/229)، رقم (1323،1324). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، (4/1547، 1548)، رقم (2160).
[17]. انظر: الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، ص117، نقلا عن: أبو هريرة راوية الإسلام، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1402هـ/ 1982م، ص228.
My girlfriend cheated on me
find an affair signs of unfaithful husband