دعوى أن السنة هي مشهور آراء المدارس الفقهية(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن مؤسسي المدارس الفقهية الأولى لم يستطيعوا أن يميزوا بين ما يعتبر من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وما لا يعتبر منه؛ ذلك أن السند لم يكن معروفا عندهم. بالإضافة إلى ذلك فإنهم قد اختلقوا أحاديث ونسبوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليثبتوا صحة ما يقولون من آراء فقهية تبنوها ولم يجدوا دليلا من الكتاب أو السنة عليها، وعلى هذا فالسنة تعني الرأي المقبول لدى علماء الفقه المشهورين وليست من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم. رامين من وراء ذلك إلى التشكيك في حجية السنة وزعزعة الثقة في علماء المسلمين.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن قولهم بأن السند لم يكن معروفا لدى علماء هذه المدارس قول مردود؛ إذ عرف السند منذ عصر الفتنة الكبرى بعد مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كما أن أصحاب المذاهب الفقهية كانوا كلهم من المتبحرين في علوم السنة رواية ودراية، وشاهد ذلك مصنفاتهم الكبرى في هذا الفن,فكيف يتهمون بعدم استطاعتهم تمييز أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - من غيرها؟!
2) إن سيرة الفقهاء، وشهود الجميع لهم بالتقوى والصلاح لينفي عنهم أية مظنة في اتهامهم بوضع الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأييدا لمذهبهم ورأيهم الفقهي، وكذلك اعتمادهم الأصلين العظيمين القرآن والسنة أساسا رئيسا في استنباط الأحكام الشرعية وعدولهم عن رأيهم عند وصول الحديث الصحيح إليهم لينفي عنهم مثل هذه التهمة.
3) لم يكن جمع الحديث ونقده حكرا على أئمة المذاهب حتى يضعوا فيه ما يؤيد آراءهم الفقهية، ولو حدث ذلك ما تركهم رجال الحديث الأفذاذ الذين أخذ عنهم مؤسسو المذاهب أنفسهم، فوظيفة الفقيه استنباط الأحكام من المصادر الشرعية كالكتاب والسنة والإجماع لا إنشاء هذه المصادر، وما نتج من اختلاف بعد ذلك في الآراء والأحكام,إنما كان بسبب اختلاف الفهم والنظر ومدى بلوغ الحديث مسامعهم, وفهم اللغة وغيره.
التفصيل:
أولا. تأسيس علم الإسناد منذ ظهور الفتنة, وتبحر مؤسسي المذاهب الفقهية في السنة دراية ورواية:
إن القول بأن مؤسسي المذاهب الفقهية لم يكونوا على علم بالسند - قول مردود؛ ذلك أن السند قد عرف منذ ظهور الفتنة التي بدأت بمقتل عثمان - رضي الله عنه - ولم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - يشكون في رواة الأحاديث حتى استشرت الفتنة, وظهرت مساوئها, وخرج منها من يروج الأحاديث الموضوعة, مثل عبد الله بن سبأ اليهودي وغيره, فاهتم الصحابة والتابعون لهذا الأمر, وعلموا خطورته, فبدأوا يتحرون في نقل الحديث, ولا يقبلون منه إلا ما عرفوا طريقه ورواته وتوثقوا من عدالتهم, يقول ابن سيرين فيما يرويه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم, فينظر إلى أهل السنة فيأخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم».
وقد بدأ هذا التثبت منذ عصر الصحابة - رضي الله عنهم - الذين تأخرت وفاتهم إلى ما بعد زمن الفتنة, فقد روى مسلم أيضا في مقدمة صحيحه عن مجاهد: «أن بشيرا العدوي جاء إلى ابن عباس - رضي الله عنه - فجعل يحدث ويقول: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه, فقال يا ابن عباس: مالي لا أراك تسمع لحديثي؟! أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تسمع؟! فقال ابن عباس - رضي الله عنه -: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بأذاننا, فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف».
ولم يتوقف الأمر عند الصحابة فقط بل جاء التابعون وطالبوا بالإسناد حين ازداد الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكدوا على أهميته, يقول ابن المبارك: «الإسناد من الدين, ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء». فالإسناد إذا خصيصة مقترنة بهذه الأمة انفردت بها عن غيرها من الأمم, روى الخطيب عن أبي بكر بن محمد بن أحمد أنه قال: "بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد, والأنساب, والإعراب".
قال الخطيب: أخبرني أبو بكر محمد بن المظفر بن علي الدينوري المقرئ، قال حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي، قال: سمعت أبا العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي السرخسي، يقول: سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: "إن الله أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها، قديمهم وحديثهم إسناد، وإنما هي صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، وليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل مما جاءهم به أنبياؤهم، و تمييز بين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوا عن غير الثقات.
وهذه الأمة إنما تنص الحديث من الثقة المعروف في زمانه، المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقل مجالسة، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجها وأكثر حتى يهذبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه ويعدوه عدا.
فهذا من أعظم نعم الله تعالى على هذه الأمة، نستوزع الله شكر هذه النعمة، ونسأله التثبيت والتوفيق لما يقرب منه ويزلف لديه، ويمسكنا بطاعته، إنه ولي حميد.
فليس أحد من أهل الحديث يحابي في الحديث أباه، ولا أخاه، ولا ولده. وهذا علي بن عبد الله المديني، وهو إمام الحديث في عصره، لا يروى عنه حرف في تقوية أبيه، بل يروى عنه ضد ذلك"[5].
ومن عرف بالكذب في حديثه العادي رفضوا الأخذ عنه قال يحيى بن معين: "آلة الحديث الصدق والشهرة بطلبه، وترك البدع، واجتناب الكبائر".
فكل من ثبت كذبه رد خبره وشهادته؛ لأن الحاجة في الخبر داعية إلى صدق المخبر، فمن ظهر كذبه فهو أولى بالرد ممن جعلت المعاصي داعية على فسقه حتى يرد لذلك خبره، والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم من الكذب على غيره، والفسق به أظهر والوزر به أكبر[7]؛ إذ إن الإسناد عندهم من الدين، قال سعد بن إبراهيم: «لا يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الثقات»[8].
بل إن من تتابعت منه الصغائر وكثرت رد خبره، قال عبد الله بن المبارك: من عقوبة الكذاب أن يرد عليه صدقه"، ونقل أبو نعيم عن سفيان الثوري قوله: "من كذب في الحديث افتضح"، ثم قال: "وأنا أقول: من هم أن يكذب افتضح"[11]، وعلى أساس ذلك قبلوا رواية التائب من الفسق إلا الكذب في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يقبل أبدا، وإن حسنت طريقته، كذا قال الإمام أحمد والحميدي شيخ البخاري والصيرفي الشافعي، قال الصيرفي: "كل من أسقطنا خبره بكذب لم نعد لقبوله بتوبة، ومن ضعفناه لم نقوه بعده بخلاف الشهادة، وقال السمعاني: من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه"[12].
بل إن السلف وفقهاء الأمة لم يتوقفوا في رفض الرواية عن الكذاب فحسب، وإنما رفضوا الرواية عن كل من يرتكب شيئا من خوارم المروءة وإن كان مباحا، فقد روي أن شعبة قال للحكم بن عتيبة: "لم لم ترو عن زاذان؟ قال: كان كثير الكلام". وقال جرير: "رأيت سماك بن حرب يبول واقفا فلم أكتب عنه". قال الخطيب البغدادي: "وقد قال كثير من الناس: يجب أن يكون المحدث والشاهد مجتنبين لكثير من المباحات نحو: التبذل، والجلوس للتنزه في الطرقات، والأكل في الأسواق، وصحبة العامة الأرذال، والبول على قوارع الطريق، والبول قائما، والانبساط إلى الخرق في المداعبة والمزاح، وكل ما قد اتفق على أنه ناقص القدر والمروءة، ورأوا أن فعل هذه الأمور يسقط العدالة، ويوجب رد الشهادة ". ثم يعلق الخطيب البغدادي على هذا الكلام بقوله: "والذي عندنا في هذا الباب رد خبر فاعلي المباحات إلى العالم. والعمل في ذلك بما يقوى في نفسه، فإن غلب على ظنه من أفعال مرتكب المباح المسقط للمروءة أنه مطبوع على فعل ذلك، والتساهل به، مع كونه ممن لا يحمل نفسه على الكذب في خبره وشهادته، بل يرى إعظام ذلك وتحريمه والتنزه عنه - قبل خبره، وإن ضعفت هذه الحال في نفس العالم واتهمه عندها وجب عليه ترك العمل بخبره ورد شهادته". وفي هذا يقول يحيى بن معين: "ويل للمحدث إذا استضعفه أصحاب الحديث... إن كان كذوبا سرقوا كتبه وأفسدوا حديثه؛ أي بينوا أمره وسألوه عن الرجال، وقلبوا عليه الحديث ليعرفوا حفظه".
وعلى هذا كان حد الخبر الصحيح الذي يقبله العلماء ويحكمون بصحته أن يكون برواية العدل الضابط، مع خلوه من الشذوذ والعلة، والذي يهمنا هنا هو معنى "العدالة" حتى لا تتشعب بنا السبل وحتى يتبين لكل ذي نظر أن الأحاديث التي حكم العلماء بصحتها لا يمكن، بل يستحيل أن يكون فيها حديث واحد موضوع، فقد سئل ابن المبارك عن العدل فقال: "من كان فيه خمس خصال: يشهد الجماعة، ولا يشرب هذا الشراب، ولا تكون في دينه خربة، ولا يكذب، ولا يكون في عقله شيء".
قال الخطيب البغدادي: "إن العدل من عرف بأداء فرائض الله ولزوم ما أمر به، وتوقي ما نهي عنه، وتجنب الفواحش المسقطة، وتحري الحق والواجب في أفعاله ومعاملته، والتوقي في لفظه ما يثلم الدين والمروءة، فمن كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه، ومعروف بالصدق في حديثه، وليس يكفيه في ذلك اجتناب كبائر الذنوب التي يسمى فاعلها فاسقا حتى يكون مع ذلك متوقيا لما يقول كثير من الناس: إنه لا يعلم أنه كبير، بل يجوز أن يكون صغيرا نحو الكذب الذي لا يقطع على أنه كبير، ونحو التطفيف بحبة، وسرقة باذنجانة، وغش المسلمين بما لا يقطع عندهم على أنه كبير من الذنوب.
لأجل أن القاذورات وإن لم يقطع على أنها كبائر يستحق بها العقاب، فقد اتفق على أن فاعلها غير مقبول الخبر والشهادة؛ إما لأنها متهمة لصاحبها ومسقطة له، ومانعة من ثقته وأمانته، أو لغير ذلك".
وقال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: "اعلم - وفقك الله - أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين - ألا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع.
والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم، دون ما خالفه: قول الله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (6) ( (الحجرات)، وقال عز وجل: )ممن ترضون من الشهداء( (البقرة: ٢٨٢)، وقال عز وجل: )وأشهدوا ذوي عدل منكم( (الطلاق: ٢)، فدل بما ذكرنا من هذه الآي أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول وأن شهادة غير العدل مردودة؛ والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في أعظم معانيها؛ إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم، ودلت السنة على نفي رواية المنكر من الأخبار، كنحو دلالة القرآن على نفي خبر الفاسق، وهو الأثر المشهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».
هذا هو حال الرواة والمحدثين من الأمانة والدقة والنقد الفاحص، إضافة إلى الشروط الصارمة التي وضعوها لقبول الأخبار والأحاديث، فهل كان يسع أحد من الفقهاء أن يضع حديث يؤيد مذهبهم ويتركه هؤلاء الأفذاذ؟!
أما عن أئمة الفقه فقد أثبت التاريخ أنهم قد اعتنوا بالإسناد عناية تامة, ووضعوا القواعد والأصول لنقده, وتشددوا في البحث حتى عرفوا الثقة والضعيف من رجال الإسناد, وبينوا ما وقع في السند من انقطاع وإرسال.
فهذا الإمام أبو حنيفة فهو كغيره من أهل السنة يرى أن أول أقسام السنة هو الحديث المتواتر الذي وصل إليه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا شبهة حتى صار كالمسموع منه... كما أنه يقبل الخبر المشهور المستفيض أو خبر الآحاد، وقد اشترط في رواة الحديث شروطا صارمة، منها:
· الإسلام: فلا يعتد برواية الكافر.
· العقل: فلا يقبل رواية الصبي غير البالغ ولا المجنون ولا المعتوه ولا من يماثلهم.
· الضبط: وهو فهم الراوي لما يسمعه فهما صحيحا وحفظه له، ثم روايته له كما سمعه وفهمه ولو مر زمن طويل بين السماع والرواية؛ ومن ثم لا تقبل رواية المغفل ولا المتساهل.
· العدالة: ويقصد بها أن يكون الراوي مستقيم الحال، صادق الرواية ليس بذي هوى يدفعه إلى الكذب فيها، ومن ثم لم يقبل أبو حنيفة خبر الفاسق ولا الكذاب ولا ذي الهوى المتهم، ولا المحدود في القذف....
فهذا الإمام مالك رحمه الله كان لا يروي إلا عن الثقات, قال ابن عيينة: "ما كان أشد انتقاد مالك للرجال, وأعلمه بشأنهم", وقال النسائي: "أمناء الله على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعبة بن الحجاج, ومالك بن أنس, ويحيى بن سعيد القطان, وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: "لقد أدركت بهذا البلد - يعني المدينة - مشيخة لهم فضل وصلاح وعبادة يحدثون، ما سمعت من واحد منهم حديثا قط، قيل: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: لم يكونوا يعرفون ما يحدثون".
ومما يدل على شدة حرصه على الحديث أنه ظل ينقح كتابه "الموطأ" أربعين سنة, فهذا يبين أنه رحمه الله كان شديد التمحيص والتدقيق حتى نال كتابه مكانة عظيمة بين كتب الحديث, وحاز كثيرا من ثناء العلماء والفقهاء, فقال عنه الشافعي": ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك, وما في ما بعد كتاب الله تعالى كتاب أكثر صوابا من موطأ مالك"، وكان ذلك قبل وجود صحيحي البخاري ومسلم. هذا هو مالك واهتمامه بالحديث النبوي.
أما عن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - فما كان أشد احتياطه في الأخذ بالسنة وتحريه للحديث الصحيح وتأكيده على وجوب الرجوع إليه وإن خالف مذهبه، قال الشافعي: "متى عرفت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا ولم آخذ به فأنا أشهدكم أن عقلي قد ذهب"، وقال: إذا صح الحديث فهو مذهبي"، وقال: "إذا صح لكم الحديث فخذوا به ودعوا قولي"، وقال: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بها ودعوا ما قلته".
ومما يدل على دقة الشافعي في قبول الرواية أنه قسم الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى نوعين:
خبر العامة: وهو ما لايسع أحد جهله وما كان على أهل العلم والعوام أن يستووا فيه؛ لأن كلا كلفه؛ كعدد الصلاة وصوم رمضان وتحريم الفواحش وأن لله عليهم حقا في أموالهم؛ أي أن مصطلح خبر العامة عند الإمام الشافعي يقصد به الأمور الشرعية المتواتر العمل عليها والمعلومة من الدين بالضرورة.
وخبر الخاصة: وهو ما دون ذلك من الأخبار، وكلف علم ذلك من فيه الكفاية للخاصة به دون العامة، وهذا مثل ما يكون منهم في الصلاة من سهو يجب به سجود السهو... إلخ.
ثم وضع شروطا دقيقة لقبول خبر الخاصة منها:
· أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه عاقلا لما يحدث به، عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ.
· أن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى؛ لأنه إذا حدث به على المعنى - وهو غير عالم بما يحيل معناه - لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالة الحديث.
· حافظا إن حدث به من حفظه، حافظا لكتابه إن حدث به من كتابه.
· إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم.
· بريئا من أن يكون مدلسا، يحدث عمن لقي ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يحدث به الثقات خلافه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
· ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهي بالحديث موصولا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى من انتهى به إليه دونه، لأن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه ومثبت على من حدث عنه، فلا يستغنى في كل واحد منهم عما وصفت".
وكان الإمام أحمد رحمه الله من المتبحرين في علوم السنة دراية و رواية, وألف ذلك المسند الذي أورد فيه نحو أربعين ألف حديث منها عشرة آلاف مكررة, انتقى أحاديثه من سبعمائة وخمسين ألف حديث كان يحفظها، وقال لبنيه عبد الله وصالح: "إن هذا الكتاب جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث, فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارجعوا إليه, فإن كان فيه وإلا فليس بحجة".
يقول الشيخ أبو زهرة: "ولقد اتفق العلماء على أن الإمام أحمد كان محدثا وأنكر بعضهم أن يكون فقهيا، ويحق لنا أن نقول: إن أحمد إمام في الحديث بلا ريب، ومن طريق هذه الإمامة كانت إمامته في الفقه، وأن فقهه سنن وآثار في منطقه وضوابطه ومقايسه ولونه ومظهره... وأن النظرة الفاحصة فيما أثر عنه من أقوال. وفتاوى يتبين لنا ما ذكرناه من أنه كان فقهيا غلب عليه الأثر".
فهل يعقل بعد هذا أن يقال أن هؤلاء الأئمة الأعلام لم يكونوا على دراية بعلم الإسناد وهم من جهابذته ونقاده، وإليهم يرجع الفضل في إرساء القواعد التي بها تقبل الأخبار، وإن كانوا ليسوا وحدهم في الميدان فمعهم الرواة والأئمة العظام من المحدثين من عهد الصحابة وحتى العهود المتأخرة قبل وبعد زمن تكوين المذاهب الفقهية، ولو حاد الفقهاء عن الحق في منهج الحديث أو وضعوا شيئا لنصرة مذاهبهم ما تركهم المحدثون بل لبينوا ذلك وحذروا منه.
ثانيا. سيرة الفقهاء الأربعة الحميدة، وموقفهم من الأخذ بالحديث النبوي:
إن وصم علماء المذاهب بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الافتراءات وأخبثها؛ لأن الطعن في العلماء هدم للدين, ذلك أنهم هم الذين فسروا لنا هذا الدين,وحملوا كل أحكامه وتشريعاته للأمة.
ولكن هيهات أن تنطلي مزاعم الطاعنين على أحد من المسلمين، والتراث الفقهي العظيم يفضح مآربهم، وكذلك سير هؤلاء العلماء الأفذاذ ومكانتهم العلمية تدحض هذه الفرية من أساسها, لذلك كان لا بد أن نعرف من هؤلاء العلماء لنوضح, هل يمكن أن يكذبوا على النبي - صلى الله عليه وسلم؟! أو هل يظن بهم ذلك وهم حفاظ سنته الذين خصهم الله بتمييز صحيحها من سقيمها؟!
أما عن أولهم أبي حنيفة النعمان, فهو أقدم الأئمة الأربعة ولد ببغداد سنة80هـ, وحضر لحماد شيخ فقهاء زمانه, وظل يداوم على حضور حلقته حتى توفي حماد سنة 120هـ، فاتفق رأى تلاميذه على استخلاف أبي حنيفة مكانه,فانتهت إليه رئاسة مدرسة الكوفة,وقد شهد له بالعلم جميع علماء عصره على اختلاف مشاربهم, بل كانوا يحضرون حلقته, فحضرها من الفقهاء أبو يوسف, وزفر, ومحمد, والحسن بن زياد, ومن المحدثين عبد الله بن المبارك,وحفص بن غياث, ومن الزهاد الفضيل بن عياض, وداود الطائي؛ إذ إن - أبا حنيفة - قد جمع بين هذه العلوم كلها.
وإذا كان أبو حنيفة لم يصنف في السنة النبوية, فإن تلاميذه جمعوا أحاديثه في كتب ومسانيد بلغت بضعة عشر مسندا.
وكان مالك بن أنس رحمه الله إمام دار الهجرة من أتقن الناس حفظا لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يعرف للنبي - صلى الله عليه وسلم - حقه, فكان إذا ذكر عنده تغير لونه وانحنى حتى يصعب ذلك على جلسائه, وكان إذا أراد أن يجلس للحديث اغتسل, وتطيب, فإذا رفع أحد صوته في مجلسه زجره، وقال: قال الله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي( (الحجرات: 2)[36].
فمن رفع صوته عند حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكأنما رفع صوته فوق صوته صلى الله عليه وسلم.
وقد أثنى علماء الحديث والفقه عليه أحسن الثناء, فقال سفيان بن عيينة أمير المؤمنين في الحديث: "كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا صحيحا, ولا يحدث إلا عن ثقات الناس"[38], وقال ابن عيينة: "كان مالك إماما في الحديث, وقال يحيى بن سعد: "كان مالك إماما في الحديث"[39].
وكان الشافعي مثلا عظيما في التمسك بالسنة والدفاع عنها, ولذلك بلغ مكانة مرتفعة عند أهل الحديث, فهو الذي وضع قواعد الرواية, ودافع عن السنة دفاعا مجيدا,مما جعل أهل الحديث يطلقون عليه "ناصر السنة".
والحق أن "رسالته" وبحوثه في "الأم" من أثمن ما ألفه العلماء دفاعا عن حجية السنة ومكانتها في التشريع بأسلوب قوي جزل, وأدلة دامغة قاهرة[40]، ولا يذكر أحد ممن كتب في مصطلح الحديث, ومباحث السنة, والكتاب من علماء الأصول إلا هو مدين للشافعي فيما كتب, ومن هنا كان صحيحا ما يقوله محمد بن الحسن: "إن تكلم أصحاب الحديث يوما,فبلسان الشافعي"[41].
ولذلك أجله علماء الحديث, وذكروه بكل خير، فقال فيه أحمد بن حنبل: "ما أحد مس بيده محبرة ولا قلما إلا وللشافعي في رقبته منة"[42]. وقال: "ما علمنا المجمل من المفسر, ولا ناسخ حديث رسول الله من منسوخه حتى جالسنا الشافعي"[43]، وقال الإمام أحمد أيضا: إن الله يقيض للناس في رأس كل مائة من يعلمهم السنن وينفي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكذب، قال: فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين الشافعي[44]، ويقول عبد الرحمن بن مهدي: "لما نظرت لرسالة الشافعي أذهلتني,لأني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح,فإني لأكثر الدعاء له"[45], ويقول الكرابيسي: "ما كنا ندري ما الكتاب والسنة حتى سمعناه من الشافعي, وما رأيت مثل الشافعي, ولا رأى الشافعي مثل نفسه, وما رأيت أفصح منه وأعرف"[46].
أما أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني المولود ببغداد حاضرة العلم والثقافة سنة164هـ, فكان أكثر أهل عصره جدية في طلب العلم حتى بلغ الذروة في حفظ السنة, والإحاطة بها, وأصبح إمام أهل السنة في عصره من غير منازع, أخذ عن الشافعي الفقه, ثم أخذ الشافعي عنه الحديث, وكان من الورع والزهد والأمانة على جانب عظيم[47], تعرض لمحنة خلق القرآن زمن المأمون العباسي, ونال من التعذيب والتنكيل مالا يطيقه بشر على أن ينطق بكلمة أباحتها الشريعة تقية, ولكنه أبى فتحمل العذاب والسجن والجلد إلى أن أتى الله بفرجه, قال عنه الشافعي: "أحمد إمام في ثمان خصال: إمام في الحديث, إمام في الفقه,إمام في اللغة, إمام في القرآن, إمام في الفقر, إمام في الزهد, إمام في الورع, إمام في السنة"[48].
وبعد أن ذكرنا جزءا من سير هؤلاء العلماء ومكانتهم,وثناء العلماء عليهم, فهل يسوغ العقل أن يكذب مثل هؤلاء على النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل يكذب من جلد وسجن في سبيل أن ينطق بكلمة "كخلق القرآن" فلم ينطق, مع أن الشريعة أباحت له ذلك تقية,هل يكذب مثل هذا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
وإن كان هدف هؤلاء العلماء الأفاضل الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم اهتموا بسنته, وأمروا أتباعهم بالأخذ بها وترك أقوالهم إن خالفتها؟! وأين أنتم أيها الطاعنون من جهاد هؤلاء في الذب عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهل كان كل علماء الأمة قبلكم غافلين عنهم, وتنبهتم أنتم لكذبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وحاشاهم ذلك.
ولا شك أن أصحاب الشبهة يريدون من وراء ذلك إثناء المسلمين عن الأخذ بآراء العلماء الأفاضل؛ كي يصبحوا فريسة لكل من أراد الطعن في الدين, ولكن:
متى يصل العطاش إلى ارتواء
إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد
وقد جلس الأكابر في الزوايا
وإن ترفــع الوضعــاء يومــا
على الرفعاء من إحدى الرزايا
إذا استوت الأسافل والأعالي
فقد طابت منادمة المنايا[49]
وبهذا يتبين مدى تهافت هذه الدعاوى، وعليه تسقط هذه الشبهة لما اتضح لنا من جهل أصحابها, وضيق أفقهم وخور منطقهم.
ومما تجدر الإشارة إليه بعد أن وقفنا على سيرة هؤلاء الفقهاء وشهود الجميع لهم بالصلاح والتقوى وأنه يستحيل أن يكذب مثل هؤلاء على النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا - أن نشير إلى أن الأصل الأصيل الذي اعتمد عليه مؤسسو المذاهب الإسلامية هو القرآن والسنة, وكانوا لا يعدلون عنهما إلى غيرهما إلا فيما ليس فيه نص, فهذا أبو حنيفة (80: 150هـ) يحدد أصول مذهبه، فيقول: "آخذ بكتاب الله, فإن لم أجد فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم أجد في كتاب الله, ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذت بقول أصحابه, آخذ بقول من شئت منهم, وأدع من شئت, ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم, فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم (أي النخعي)، والشعبي, وابن سيرين, والحسن, وعطاء, وسعيد بن المسيب - وعدد رجالا، فقوم اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا"[50].
وكان الإمام مالك رحمه الله (179هـ) يجعل الكتاب فوق كل الأدلة؛ لأنه أصل هذه الشريعة وحدها وسجل أحكامها الخالدة إلى يوم الدين, ويقدمه على السنة وعلى ما ورائها, فكان رحمه الله يأخذ بنصه الصريح, الذي لا يقبل التأويل, ويأخذ بظاهره الذي يقبل التأويل, ما دام لا يوجد دليل في الشريعة نفسها على وجوب تأويله, ويأخذ بكل ما يفهم من الكتاب نصا, أو بإشارة أو تنبيه, أو مفهوم ويقدمه على ما عداه من السنة[51].
ثم يأخذ بالسنة التي تلي الكتاب في المرتبة,ولا يتركها لرأي أحد كائنا من كان,فقد أثر عنه قوله: "كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم"[52].
وكان رحمه الله يرجع عن رأيه إن تبين له مخالفته لنص قد غاب عنه,فكان لا يرى - مثلاـ تخليل الأصابع في الوضوء, إلى أن حدثه ابن وهب بحديث عن المستورد بن شداد القرشي, أنه قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه»[53].
فأمر مالك رحمه الله بتخليل الأصابع,وهذا كان دأبه دائما لا يعدل عن النصوص إلى رأيه, ويرجع عن هذا الرأي إن تبين له أنه يخالف نصا صحيحا[54].
أما مصادر فقه الشافعي (150: 204هـ) فهي خمسة, وقد نص عليها في كتابه "الأم" بقوله: "العلم طبقات شتى؛ الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت, ثم الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب أو سنة, والثالثة: أن يقول بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولا ولا نعلم له مخالفا منهم, والرابعة: اختلاف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك, والخامسة: القياس, ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة, وهما موجودان, وإنما يؤخذ العلم من أعلى"[55].
وعلى ذلك نرى أن الشافعي يعتبر المرتبة الأولى من مراتب الاستنباط نصوص الكتاب والسنة, ويعتبرهما المصدر الوحيد للفقه الإسلامي, وغيرهما من المصادر محمول عليهما, فالصحابة في آرائهم متفقين أو مختلفين, لا يمكن أن يكونوا مخالفين للقرآن والسنة؛ إذ الكتاب والسنة هما الينبوع الصافي لهذه الآراء بالنص فيهما أو بالحمل عليهما,وكذلك الإجماع لا يمكن إلا أن يكون معتمدا عليهما غير خارج عنهما, فالعلم يؤخذ دائما من أعلى, وهما الأعليان[56].
وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أعلم من غيره بالكتاب والسنة, وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان, ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصا, كما لا يوجد له قول ضعيف إلا وفي مذهبه قول أقوى يوافقه, وأكثر مفرداته التي يختلف فيها مذهبه يكون قوله فيها هو الراجح, وكان السبب في عدم وجود قول له يخالف نصا, أنه اعتمد في مذهبه على خمسة أصول متقنة محكمة متفق عليها[57]، وهي:
الأصل الأول: النصوص فإن وجد النص أفتى بموجبه, ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالف كائنا من كان.
الأصل الثاني: ما أفتى به الصحابة, فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف لهم مخالف منهم, لم يعدها إلى غيرها, ولم يقل إن ذلك إجماع, بل من ورعه في العبادة يقول: لا أعلم شيئا يدفعه, أو نحو ذلك.
الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم أقربها إلى كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج من أقوالهم إلى قول غيرهم.
الأصل الرابع: الأخذ بالحديث المرسل الضعيف, إن لم يكن في الباب شيء يدفعه, فضعيف الحديث عنده أولى من رأي الرجال, وليس المراد بالضعيف عنده المنكر أو الباطل, بل هو قسيم الصحيح, وقسم من أقسام الحسن عند المتأخرين.
الأصل الخامس: القياس وكان لا يلجأ إليه إلا في أضيق الحدود,وعند الضرورة وانعدام النصوص[58].
هذه هي أصول المذاهب الفقهية الأربعة المعتمدة والمعمول بها في كل بلاد الإسلام,ولا يوجد منها ما يقدم شيئا على الكتاب والسنة, سواء أكان المقدم رأيا لإمام المذهب نفسه أو لغيره, ولا يأتي الرأي إلا بعد انعدام النصوص, وهو في الحقيقة مبني عليها, ومع ذلك فقد حذر هؤلاء العلماء الأفاضل أتباعهم من التمسك بآرائهم إن خالفت نصا, كتابا كان أو سنة.
فيقول أبو حنيفة - رحمه الله: "إذا قلت قولا يخالف كتاب الله - عز وجل - وخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتركوا قولي"[59].
ويقول الإمام مالك - رحمه الله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب, فانظروا في رأيي فكلما وافق الكتاب والسنة, فخذوا به, وكلما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه"[60].
ويقول الشافعي - رحمه الله: "إذا صح عندي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم آخذ به فإن عقلي قد ذهب". [61] وقال: "كل ما قلت كان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف قولي مما يصح, فحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى فلا تقلدوني". [62]
ويقول الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا,ولا الشافعي, ولا الأوزاعي,ولا الثوري,وخذ من حيث أخذوا"[63].
تلك هي أقوال الأئمة - رضي الله عنهم - في الأمر بالتمسك بالحديث, والنهي عن تقليدهم دون بصيرة, وهي من البيان والوضوح بحيث لا تقبل جدلا ولا تأويلا, وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت من السنة, ولو خالف بعض أقوال الأئمة لا يكون مباينا لمذهبهم, ولا خارجا عن طريقتهم, بل هو متبع لهم جميعا,ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها, وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالفتها لأقوالهم, بل هو بذلك عاص لهم ومخالف لأقوالهم المتقدمة, وهم براء منه ومن فعله[64].
فلا يجب - طبقا لأقوال الأئمة الأربعة - مخالفة السنة لرأي أحد, وإن كان عظيما كبير الشأن؛ لأن شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم ونهجه أقوم, فهل بعد ذلك يقال إن أئمة المذاهب جعلوا مشهور آرائهم سنة ثم نسبوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحوا سنته وآثاره جانبا.
ثالثا. لم يكن جمع الحديث ونقده حكرا على الفقهاء حتى يضعوا فيه:
لقد خلط هؤلاء المغرضون بين الفقهاء والمحدثين ووظيفة كل منهما، وسواء كان هذا الخلط عن جهل أو سوء نية فكلا الأمرين يفضح دعواهم التي أرادوا بها التدليس على الناس؛ لذلك وجب أن نزيل هذا الجهل ونبين لهم ولغيرهم أن الفقهاء وظيفتهم الأولى هي استنباط الأحكام من النصوص، لا رواية تلك النصوص، وإنما الرواية والحفظ هي وظيفة المحدثين والرواة، ولا بد أن يكون الفقيه على جانب كبير من علم الرواية ونقد المرويات، فرواية الحديث وجمعه لم تكن ملكا للفقهاء أو حكرا عليهم حتى يضعوا فيه ما يوافق مذاهبهم، وإن كان كثير من الفقهاء محدثين كالإمام أحمد ومالك والشافعي، وهذا يزيد من قدرهم ويعلي من شأنهم؛ ولذلك استحقوا الإمامة في الفقه والدين، يقول ابن القيم في توضيح الفرق بين الفقهاء والمحديثن: "ولما كانت الدعوة إلى الله والتبليغ عن رسوله شعار حزبه المفلحين، وأتباعه من العالمين، كما قال تعالى: )قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين (108)( (يوسف)، وكان التبليغ عنه من عين تبليغ ألفاظه وما جاء به وتبليغ معانيه - كان العلماء من أمته منحصرين في قسمين:
أحدهما: حفاظ الحديث، وجهابذته، والقادة الذين هم أئمة الأنام وزوامل الإسلام، الذين حفظوا على الأئمة معاقد الدين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس لم تشبها الآراء تغييرا، ووردوا فيها )عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (6)( (الإنسان)، وهم الذين قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل في خطبته المشهورة في كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم؛ فنعوذ بالله من فتنة المضلين.
القسم الثاني: فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام؛ فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب، قال الله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)( (النساء).
قال عبد الله بن عباس - في إحدى الروايتين عنه - وجابر بن عبد الله والحسن البصري وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح والضحاك ومجاهد في إحدى الروايتين عنه: أولو الأمر هم العلماء، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وقال أبو هريرة وابن عباس في الرواية الأخرى وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل: هم الأمراء، وهو الرواية الثانية عن أحمد.
والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم؛ فطاعتهم تبع لطاعة العلماء؛ فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم لهم تبعا، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما، كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل: من هم؟ قال: الملوك، والعلماء"[65].
وبعد أن وقفنا على عمل الفقهاء، والفرق بينه وبين عمل المحدثين يتبين أن رواية الحديث وجمعه ليست حكرا على الفقهاء حتى يضعوا فيه ما يؤيد مذاهبهم، وإنما كان المحدثون على حذر شديد عند جمعهم الحديث وتدوينه، وهم المختصون بهذا الفن العظيم.
وإن قال أحد المغالطين: لا أزال مقتنعا بأن السنة هي مشهور آراء الفقهاء,بدليل قلة اتفاقهم على الحكم الفقهي الواحد, فلو كانت السنة نابعة من مصدر واحد لما وقع كل هذا الخلاف.
فنقول:
· إن الخلاف الذي وقع بين الفقهاء والصحابة قبلهم لا يعني أن السنة لم تصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يقع اختلاف في حكم الواقعة في العهد النبوي لوجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم, ولكنه في عهد الصحابة لما تعدد المجتهدون في الشريعة منهم, وقع بينهم اختلاف في بعض الأحكام, وصدرت عنهم في الواقعة الواحدة فتاوى مختلفة؛ لأن فهم المراد من النصوص يختلف باختلاف العقول ووجهات النظر, ولأن السنة لم يكن علمهم بها وحفظهم لها على السواء, وربما وقف بعضهم منها على ما لم يقف عليه الآخر, ولأن المصالح التي تستنبط لأجلها الأحكام يختلف تقديرها باختلاف البيئات التي يعيش فيها المجتهدون, على أنهم جميعا متفقون على مصادر التشريع وترتيب رجوعهم إليها, أي أنهم اختلفوا في أحكام بعض الوقائع فقط[66].
· كذلك كان من أسباب الاختلاف: اختلافهم في بعض المبادئ اللغوية التي تطبق على فهم النصوص, فقد نشأ ذلك من اختلاف وجهات النظر في استقراء الأساليب العربية؛ فمنهم من رأى أن النص حجة على ثبوت حكمه في منطوقه, وعلى ثبوت خلاف حكمه في مفهوم المخالف, ومنهم من لم ير هذا, ومنهم من رأى أن فعل الأمر المطلق للإيجاب ولا يصرف عنه إلا بقرينة, ومنهم من رأى أنه لمجرد طلب الفعل, والقرينة هي التي تعين الإيجاب أو غيره, فكان ذلك الاختلاف سببا في تكوين المذاهب الفقهية واختلاف آرائها[67].
· ومن أسباب الاختلاف بين الصحابة أيضا: أن يكون الاختلاف من قبيل حكاية الفعل توسعة على العباد, فربما حكى صحابي أنه فعل فعلا, وحكى آخر أنه فعل غيره, فيمكن أن يكون الفعلان مباحين أو يكون أحدهما مستحبا و الآخر مباحا, وذلك مثل الوتر بإحدى عشرة ركعة, أو بأقل إلى واحدة, وكل منها وردت فيها أحاديث صحيحة.
· أن يكون صحابي قد سمع حكما من النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة ولم يسمعه منه الآخر, واجتهد برأيه في حدود القواعد الشرعية والأصول الاجتهادية, وقد يوافق اجتهاده الحديث, وقد يخالفه,والصحابة لم يكونوا في الملازمة سواء, ولما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرق الصحابة في الأمصار, وقد كان عند بعضهم من الأحاديث ما ليس عند الآخر. وقد تعرض القضية في المدينة أو غيرها فيجدون فيها حديثا فيحكمون بمقتضاه, ثم تعرض في مصر آخر فلا يجدون عند أحد من الصحابة الموجودين في هذا المصر حديثا فيحكمون بالاجتهاد,فلا يكون ذلك قادحا في الحديث؛ لأنه لم يبلغهم.
· وقد يكون منشأ الخلاف هو اختلاف وجهة النظر في حكاية حال شاهدوها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك مثل: اختلافهم في حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - مفردا أو متمتعا أو قارنا, فقد رآه بعضهم وقد أحرم بالحج فروى أنه كان مفردا, ورآه بعضهم بعدما أدخل العمرة على الحج, فروى أنه كان قارنا, ومن روى أنه كان متمتعا فإنما أراد به التمتع اللغوي لا الشرعي.
· وقد يكون منشأ اختلاف الرواية عند الصحابة هو الاختلاف في فهم المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو في طريقة الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض, أو في علة الحكم أو في ترجيح نص على نص, أو لأن الحديث كان عاما أو خاصا أو مقيدا أو مطلقا أو مجملا أو مبينا إلى غير ذلك, فمن لم يتعمق في الدراسات الإسلامية الأصيلة يظن بادئ الرأي أنه تناقض, وأنه من آثار الوضع والاختلاق, ولو تعمق وبحث بحثا مجردا عن الهوى والتعصب لظهر له الحق[68].
وبناء على ما سبق فإن الاختلافات الفقهية بين الفقهاء لم تكن لهوى في النفس, وإنما كانت لها أسبابها وضوابطها التي أشرنا إليها, فقد حرص أصحاب المذاهب على تحري الصدق والحق فيما أخذوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومما يستدل به على ذلك أن أئمة الفقهاء كانوا من المحدثين, وتشهد لهم بذلك كتبهم التي روت الأحاديث واعتنت بنقدها وتقديم صحيحها على ضعيفها، ونبذ موضوعها.
فهل يصح أن ينسب إليهم الوضع لأنهم اختلفوا في بعض المسائل, ولكل منهم وجهة نظر عند فهمه لما استنبطه من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكل منهم روايته التي أخذها عن الصحابي.
إن ما عرف من جهد هؤلاء الأئمة في توضيح مسائل الشريعة الإسلامية ليشهد لهم بمكانتهم السامقة في حفظ السنة والذود عنها فضلا عن براءتهم من الوضع في الحديث، وكيف يضعون وهم واضعو قواعد نقد الحديث وتمييز صحيح الأخبار من سقيمها.
الخلاصة:
· إن مفهوم السنة عند الفقهاء هي كل ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير, وليست مشهور آرائهم ومذاهبهم كما يدعي المغالطون.
· لقد كان الفقهاء في القرون الثلاثة الأولى على معرفة تامة بعلوم الحديث رواية ودراية, وكانوا يعلمون جيدا عقوبة الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل إنهم قد شاركوا في بناء هذا الصرح العظيم من علوم الحديث ونقد المرويات.
· إن سيرة الفقهاء وشهادة العلماء جميعا لهم بالتقوى والصلاح لينفي عنهم أية مظنة في اتهامهم بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأييدا لمذهبهم.
· لقد أكد الفقهاء - أصحاب المدارس الفقهية - على ضرورة التمسك بالقرآن والسنة, وتقديمهما على أي رأي، فهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
· إن رواية الحديث وجمعه لم تكن حكرا على الفقهاء حتى يضعوا فيها ما يؤيد مذاهبهم، وإنما الرواية والحفظ هي وظيفة المحدثين، وما كانوا ليتركوا أحدا يضع في الحديث ما ليس منه.
· إن الخلاف الذي وقع بين الفقهاء لم يكن منشؤه أهواءهم ونصرة مذاهبهم, وإنما كان سببه اختلاف الفهم والنظر وقبول الحديث أو رده, وتطبيق اللغة, والتباين في الاستنباط.
· لقد وقع الخلاف بين الصحابة - رضي الله عنهم - رغم صحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحكام، وصدرت منهم في الواقعة الواحدة فتاوى مختلفة لاختلاف العقول ووجهات النظر في فهم النصوص واستنباط المراد منها، وعليه فوقوع الخلاف بين الفقهاء ليس بدعا من الأئمة الأعلام، وليس دليلا على أن السنة هي مشهور آراء الفقهاء.
· التشكيك في السنة ودعوى أنها آراء أئمة المذاهب هدفها إنكار حجيتها، وإثناء المسلمين عن الأخذ بآراء العلماء وفتاواهم؛ كي يصبحوا فريسة سهلة لكل من أراد الطعن - بجهله وضيق أفقه وخور منطقه - في الدين، ولكن هيهات هيهات؛ فالأمة تثق بعلمائها ولا تتبع كل ناعق.
(*) السنة قبل التدوين, محمد عجاج الخطيب,