دعوى نسبة الأحاديث إلى الصحابة، لا إلى النبي صلى الله عليه وسلم)*(
مضمون الشبهة:
يدعي بعض منكري السنة أن الأحاديث النبوية كلها من أقوال الصحابة، وأفكارهم، وأفعالهم، ولا نستطيع أن نجزم أنها من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله. ويستدلون على ذلك بأن ما روي عن الصحابة والتابعين يفوق بكثير ما روي عنه صلى الله عليه وسلم. هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في أصل السنة وإنكار حجيتها.
وجه إبطال الشبهة:
· لقد ميز الصحابة - رضي الله عنهم - بين حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وما كان منهم من أقوال أو آراء أو اجتهاد ونصوا على ذلك صراحة؛ فأقوالهم هي الفتاوى والشروح والتفسير والفهم لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا واضح من الدليل الذي ادعاه المغرضون أنفسهم بأن ما روي عن الصحابة يفوق بكثير ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن أين لهم معرفة ذلك إلا إذا كان الأمر واضحا عند الجميع في التمييز بين أقوال الصحابة والحديث الشريف؟! فدليلهم شاهد عليهم لا لهم.
التفصيل:
تمييز الصحابة بين أقوالهم وبين أقوال النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد أراد القوم التلبيس على جمهور المسلمين من العامة وذلك بخلطهم المتعمد بين ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحاديث نبوية معصومة بعصمة الوحي، وبين ما صدر عن الصحابة من آراء وأقوال حتى يوهموا الناس أن السنة المدونة في كتب الحديث والفقه ما هي إلا أقوال الصحابة التي نسبوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك كان لا بد أن نوضح لهم الفرق - الذي يعلمه كل مسلم - بين الحديث النبوي والخبر الموقوف على الصحابي. وقبل ذلك نود أن نطمئنهم أن تلك الأمور هي من المعلوم من الدين بالضرورة ويعرفها كل مسلم ولا تخفى على أحد مهما تدنت ثقافته ومعرفته بأمور دينه، فليس من المسلمين أحد يجهل ذلك حتى يمكن أن تنطلي عليهم تلك الدعاوى المغرضة.
فالحديث النبوي: هو ما أضيف للنبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية[1].
أما الخبر الموقوف: فهو ما روي عن الصحابة من أقوالهم وأفعالهم ونحوها، فيوقف عليهم ولا يتجاوز به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم[2]، وكذلك كانت هناك أقوال موقوفة على التابعين ومن بعدهم: هي خلاصة ما فهموه من جملة النصوص الشرعية سواء كانت قرآنا أم سنة، فيقال: حديث كذا وقفه فلان على عطاء، وحديث كذا وقفه فلان على طاوس، وحديث كذا وقفه فلان على الزهري، ويقال: موقوف على مالك، موقوف على الثوري، موقوف على الأوزاعي... ونحو ذلك.
وكل ما ورد عن التابعين والذين من بعدهم من أقوال وأفعال تسمى بالمقطوع[3].
· حرص الصحابة على الحفاظ على السنة:
ومما يؤكد على أن أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل فيها أي قول أو لفظ من أقوال الصحابة أو غيرهم، بل ظلت محفوظة مصانة كما صدرت عنه صلى الله عليه وسلم - أن الصحابة - رضي الله عنهم - وتابعيهم كانوا يحرصون كل الحرص، ويتوخون منتهى الدقة عند روايتهم لما يحفظون من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه حذر من الكذب عليه، فقد أخرج البخاري بسنده عن أنس أنه قال: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار»[4]، مع العلم أن أنس - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة الأبرار ما كانوا ليتعمدوا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما أراد أنه لا يكثر من الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخافة أن ينسى شيئا فيقوله بالمعنى أو يغير لفظا بمرادفه، مع أن الوعيد لا يلحقه إذا فعل ذلك عن غير عمد، ولكن يتورع حتى لو كان لا يغير المعنى.
فالسنة النبوية الشريفة كانت محفوظة في صدور الصحابة يحدثون بعضهم بعضا، ويصدقون بعضهم بعضا، ولم يكن الصحابة يعرفون الكذب، فقد جاء عن أنس بن مالك أنه حدث بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رجل: أسمعت هذا من رسول الله؟ قال: نعم. أو حدثني من لم يكذب، والله ما كنا نكذب ولا ندري ما الكذب[5]. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم»[6]. وعن بشير بن نهيك قال: "كنت أكتب عن أبي هريرة ما سمعت منه، فإذا أردت أن أفارقه جئت بالكتاب فقرأته عليه، فقلت: أليس هذا ما سمعته منك؟ قال: نعم"[7]. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "قلنا لزيد بن أرقم: يا أبا عمرو، ألا تحدثنا؟ فقال: قد كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديد"[8].
ومما يدل أيضا على شدة حرص الصحابة وحفظهم للسنة حتى لا يدخل فيها ما ليس منها - فضلا عن أن يضعوا فيها ما ليس منها – وحاشاهم ذلك وهم حماة الشريعة وحراس الدين - أنهم كانوا يتحرون في اللفظ، ويرد بعضهم حديث بعض إذا أورده بمعناه حتى ولو كان المعنى صحيحا لم يتغير.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت"؛ فقال رجل: الحج وصيام رمضان؟ قال: لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم»[9].
وعن سعيد بن جبير قال: «قلت لابن عباس إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، إنما هو موسى آخر، فقال: كذب... حدثني أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم...» فذكر الحديث بطوله [10].
وقيل لابن مسعود: "إن سلمان بن ربيعة وأبا موسى الأشعري قالا في بنت وبنت ابن وأخت: إن المال بين البنت والأخت نصفان، ولا شيء لبنت الابن، وقالا للسائل: ائت ابن مسعود فإنه سيتابعنا، فقال ابن مسعود: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، بل أقضي فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للبنت النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت"[11].
ومما يدل على حرص الصحابة على حفظ السنة نقية كما صدرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون أن يدخلها ما ليس من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك التمسك الشديد بالسنة، ورد أي حكم إليها، ونبذ أي رأي حتى ولو كان كلام صحابي مقاسا على نصوص أخرى، ما دام الأمر من السنة قد ورد في ذلك، أو وجد نص منها في المسألة كان خافيا على من أفتى فيها من قبل؛ فإنهم يرجعون إليه فور بلوغه لهم، فعن بلال بن عبد الله بن عمر أن أباه عبد الله بن عمر قال يوما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنوكم" فقال بلال: والله لنمنعهن. فقال له عبد الله: أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول أنت: لنمنعهن»[12].
وعن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، قال: «سألت عائشة فذكرت لها قول ابن عمر "ما أحب أن أصبح محرما أنضخ طيبا"، فقالت عائشة: أنا طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرما»[13].
وعن عبد الله بن أوس قال: «سألت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن المرأة تطوف بالبيت ثم تحيض؟ قال: ليكن آخر عهدها الطواف بالبيت. فقال الحرث: كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: أربت عن يديك، سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكني ما أخالفه[14]»؟!
وقدم عمر بن الخطاب المدينة فقام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة، إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا"[15]. وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يقوم الخميس قائما فيقول: "إنما هما اثنان: الهدي والكلام، فأفضل الكلام - أو أصدق الكلام - كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، ألا وكل محدثة بدعة، ألا لا يتطاولن عليكم الأمر فتقسو قلوبكم، ولا يلهينكم الأمل؛ فإن كل ما هو آت قريب، ألا إن بعيدا ما ليس آتيا"[16].
· تفريق الصحابة أنفسهم بين أقوالهم وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم:
ومما يدل على أن السنة النبوية ظلت نقية ومميزة عن آراء الصحابة وأقوالهم أن الصحابة حرصوا على ذلك فكانوا يخبرون بأن ذلك القول اجتهاد منهم إذا لم يكن فيه عندهم نص من السنة ويسمونه الظن أو الرأي مع تورعهم في الرأي وذمهم له، مع ملاحظة أن آراءهم هي خلاصة ما فهموه من السنة أو القرآن، فلم يكن عندهم ما يخالفهما.
فكان ابن عمر إذا سئل عن شيء لم يبلغه فيه شيء (أي: نص من القرآن أو السنة)، قال: "إن شئت أخبرتكم بالظن"[17].
وهذا سالم بن عبد الله بن عمر، وقد سأله رجل عن شيء فقال له: "لم أسمع في هذا بشيء. فقال له الرجل: إني أرضى برأيك. فقال سالم: لعلي أن أخبرك برأيي، ثم تذهب فأرى بعده رأيا غيره فلا أجدك"[18].
وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: "سئل بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لأستحيي من ربي أن أقول في أمة محمد برأيي"[19].
وقال عمر - رضي الله عنه - وهو على المنبر: "يا أيها الناس، إن الرأي إنما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصيبا؛ لأن الله - عز وجل - كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف"[20]، وقال أيضا: "أصبح أهل الرأي أعداء السنن؛ أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم أن يحفظوها؛ فقالوا في الدين برأيهم"[21]، وقال أيضا: "السنة ما سنه الله ورسوله، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة"[22].
والمقصود بالرأي - هنا - الذي ليس له أصل يرجع إليه من الكتاب والسنة، أو الرأي المخالف للكتاب والسنة.
· تثبت الصحابة من صحة الحديث:
ومن أدلة حفظ الصحابة للسنة نقية دون أن يدخل فيها ما ليس منها من أقوال الصحابة، أو آرائهم، أو فتاواهم أن الصحابة كانوا يتثبتون من الحديث قبل العمل به، وكذلك مدارسته ومذاكرته من أجل صيانته وحفظه غضا كما صدر من في رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلقد تشدد صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التثبت من الحديث قبل أخذه من الرواة، وقد كان أبو بكر الصديق أول من تثبت في قبول الحديث بعد عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءت الجدة إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال: «ما أعلم لك في كتاب الله شيئا، ولا أعلم لك في سنة رسول الله من شيء حتى أسأل الناس، فسأل، فقال المغيرة بن شعبة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل لها السدس، فقال: من يشهد معك، أو من يعلم معك، فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ذلك، فأنفذه لها»[23].
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضا يتشدد في قبول الأخبار أيما تشدد، ومن ذلك ما جاء في حديث البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال: «كنت في مجلس من مجالس الأنصار؛ إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع"، فقال: والله لتقيمن عليه بينة. أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك»[24].
ونحب أن نبين - هنا - أن طلب سيدنا عمر بن الخطاب من أبي موسى البينة على الحديث لم يكن اتهاما لأبي موسى، ولكن حرصا في التثبت، خاصة وأن عمر بن الخطاب كان حاكما ومعلما للرعية وأراد أن تقتدي به الرعية في التثبت من الرواية، ومن المعروف تاريخيا أن الفتوحات الإسلامية كانت في عهد عمر - رضي الله عنه - ودخل في الإسلام كثير من الناس، فخشي عمر على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدس والتدليس، خاصة بعد انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية[25]. وكيف يكون عمر شاكا في صدق أبي موسى وهو الذي يقول له: إن كنت لأمينا على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن أحببت أن أستثبت"[26].
وكانت عادة الصحابة حتى بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما يروي أحدهم الحديث عن غيره من الصحابة أن يذكر ذلك، كأن يروي علي حديثا سمعه عن عائشة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يروي أبو بكر حديثا سمعه عن أبي هريرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولقد تمسكوا بذلك بعد رحيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إمعانا في التثبت والحيطة فظلوا يطلبون الإشهاد على الرواية، بل كانوا يمتحنون من يحدثهم ويختبرونه بتكرار الحديث عدة مرات للتأكد من صحته، ومن ذلك ما حدث لعبد الله بن عمر مع عائشة في الحديث الصحيح الذي أورده مسلم من حديث عروة بن الزبير قال: «قالت لي عائشة: يا ابن أختي، بلغني أن عبد الله بن عمرو مار بنا إلى الحج، فالقه فسائله؛ فإنه قد حمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علما كثيرا. قال: فلقيته فساءلته عن أشياء يذكرها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عروة: فكان فيما ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعا، ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم، فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته، قالت: أحدثك أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا؟ قال عروة: حتى إذا كان قابل - أي عام الحج المقبل - قالت له: إن ابن عمرو قد قدم، فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم. قال: فلقيته فساءلته فذكره لي نحو ما حدثني به في مرته الأولى، قال عروة: فلما أخبرتها بذلك، قالت: ما أحسبه إلا قد صدق، أراه لم يزد فيه شيئا ولم ينقص»[27]. وقال البخاري في بعض طرقه: «فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون"، وقال عروة: فقالت عائشة: "والله لقد حفظ عبد الله بن عمرو»[28].
· مدارسة الصحابة للحديث والرحلة في طلبه:
ومن البينات التي تؤكد أن السنة النبوية بقيت مصانة كما قالها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يختلط بها غيرها من أقوال الصحابة وآرائهم - أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يحرصون على مذاكرة الحديث ومدارسته فيما بينهم حتى لا يضيع منه شيء أو يختلط عليهم بسبب النسيان، ومن ذلك ما ورد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقول: "يا سعيد، اخرج بنا إلى النخل، ويقول: يا سعيد، حدث. قلت: أحدث وأنت شاهد؟!قال: إن أخطأت فتحت عليك"[29].
وعن علقمة قال: "تذاكروا الحديث فإن ذكره صيانة"[30]، وقال أيضا: "أطيلوا كر الحديث لا يدرس"[31]، وقال أبو سعيد الخدري: "تحدثوا، فإن الحديث يهيج الحديث"[32].
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "تداوروا وتذاكروا هذا الحديث، إن لا تفعلوا يدرس". وفي رواية عن أبي سعيد: "تداوروا وتذاكروا، فإن الحديث يذكر الحديث"[33].
ومما يؤكد أن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان هو وحده مراد الصحابة وبغيتهم دون غيره من أقوال الصحابة أو آرائهم - تلك المكابدة التي كانوا يعانونها في الرحلة الشاقة في سبيل طلب الحديث، فلو كانت السنة هي أقوالهم فما فائدة قطع المسافات وتحمل الصعاب من أجل الحصول على حديث أو التثبت منه؟! وفي هذا يقول جابر بن عبد الله: «بلغني حديث عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتعت بعيرا، فشددت إليه رحلي شهرا حتى قدمت الشام؛ فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه أن جابرا بالباب، فرجع الرسول، فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم. فخرج فاعتنقني، قلت: حديث بلغني لم أسمعه خشيت أن أموت أو تموت، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يحشر الله تبارك وتعالى العباد أو الناس عراة غرلا بهما، قلنا: ما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد - أحسبه قال كما يسمعه من قرب: أنا الملك، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، قلت: وكيف، وإنما نأتي الله عراة بهما؟! قال: بالحسنات والسيئات»[34].
وهذا الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري يرحل إلى عقبة بن عامر بمصر ليتثبت من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قدم مصر أخبروا عقبة فخرج إليه، قال: حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ستر المسلم، لم يبق أحد سمعه غيري وغيرك، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من ستر مؤمنا على خزية ستر الله عليه يوم القيامة"، فأتى أبو أيوب راحلته فركبها وانصرف إلى المدينة، وما حل رحله[35].
وبهذا يتبين لنا دقة الصحابة - رضي الله عنهم - وحرصهم على حفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون أن يختلط به غيره، وكيف أنهم اتخذوا الوسائل اللازمة لصيانة الحديث نقيا كما صدر من في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وميزوا بين ما كان من رأيهم واجتهادهم، وبين ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان لا يفوتهم أن ينصوا على أن هذا القول بعينه أو ذلك رأي واجتهاد منهم وإن كان مبنيا على النصوص من قرآن وسنة؛ لذلك فإنهم كانوا إذا وجدوا سنة أو حديثا خالف اجتهادهم رجعوا إليه وتركوا ما كان من اجتهادهم، ويدل على ذلك كلام المغرضين الذي استدلوا به على صحة دعواهم بأن "ما روي عن الصحابة والتابعين يفوق بكثير ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم"؛ إذ إن هذا دليل على نقض دعواهم، فلو كانت السنة كلها من أقوال الصحابة وأفكارهم وأفعالهم كما يدعون؛ فكيف إذن فرقوا هم أنفسهم بين أقوال الصحابة وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما قالوا - وهذا لفظهم: إن ما روي عن الصحابة والتابعين يفوق بكثير ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم؟! أليس في هذا دليل عليهم وعلى نقض دعواهم وهم لا يشعرون؟! أليس كلامهم هذا يدل على أنهم استطاعوا أن يميزوا بين حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أقوال الصحابة والتابعين التي اعتبروها تفوق بكثير أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟!
وإذا كانت أقوال الصحابة والتابعين تفوق بكثير أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا ليس عيبا في السنة أو منقصة من شأنها، فالمهم أن السنة مميزة عن غيرها من أقوال الصحابة والتابعين. وهذا اعتراف منهم قد أقروه بألسنتهم وهم يحسبون أنه دليل لهم وهو عليهم، كذلك أعمى الله أبصارهم، كما أنه إذا كانت كثرة أقوال الصحابة والتابعين لا تعد منقصة للسنة حتى ولو كانت تفوق حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فإنها تعد دليلا على عناية الصحابة والتابعين بالسنة والاهتمام بها؛ بكثرة الشروح لها والتفسير والتوضيح لمن جاء بعدهم عن أسباب ورود تلك الأحاديث، وعامها من خاصها، ومطلقها من مقيدها، وناسخها من منسوخها، وما كان منها على سبيل التشريع في الدين، أو ما كان على سبيل أمور المعاش التي لم يتدخل فيها الوحي... إلخ.
فهذه الأقوال من الصحابة هي بمثابة الشروح والتفسير والبيان لما احتاج إلى بيان من الحديث النبوي، وبالطبع فهم أولى الناس بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما فهموه منه هو أولى وأحق من فهم الذين جاءوا من بعدهم؛ إذ إنهم عاينوا الوقائع والأحداث وعاشوها لحظة بلحظة، وشاهدوا أسباب ورودها، وفيهم وبينهم وأمامهم صدرت تلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك فهم أفهم الناس وأضبطهم للفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولسانه الفصيح؛ إذ إنه قيل بلسانهم قبل أن يختلط اللسان العربي بغيره، وهم أأمن الناس وأتقاهم لله في حمل أمانة هذا الدين صافيا دون شوائب؛ لذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - أولى الناس بوضع هذه الشروح والتفسيرات والرؤى، فهم قد تلقوا الدين من أصله ومن مصدره الأول دون واسطة، فهؤلاء هم أهل السنة والحديث حفظا له، ومعرفة بصحيحه وسقيمه، وفقها فيه، وفهما يؤتيه الله - عز وجل - إياهم في معانيه، وإيمانا وتصديقا، وطاعة وانقيادا، واقتداء واتباعا مع ما يقترن بذلك من قوة عقلهم، وقياسهم وتمييزهم وعظيم مكاشفاتهم ومخاطباتهم، فإنهم أسد الناس نظرا وقياسا ورأيا، وأصدق الناس رؤيا وكشفا[36].
ومما تجدر الإشارة إليه أن السلف من التابعين وتابعيهم من العلماء وغيرهم كانوا على وعي تام وإدراك حصيف للفرق بين حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الصحابة وآرائهم واجتهاداتهم؛ لذا حينما صنفوا في مباحث الأصول وكتبوا في مصادر التشريع جعلوا السنة بعد القرآن، ثم أفردوا أبوابا خاصة بقول الصحابي واختلفوا في حجيته[37]، ولم يختلفوا في حجية السنة وما كان لهم وحاشاهم، بل إن العلماء اختلفوا في قول الصحابي: أمرنا، أو نهينا، أو من السنة كذا إذا لم يصرح بالآمر والناهي وصاحب السنة، فقال الجمهور: إنه حجة؛ لأن الصحابي عدل عارف باللسان، فلا يطلق الأمر والنهي إلا بعد التحقيق منه، وحكي عن داود وبعض المتكلمين أنه لا يكون حجة حتى ينقل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم[38].
وبهذا يتبين أن الصحابة أنفسهم ميزوا بين أقوالهم وأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ونصوا على ذلك صراحة؛ لذلك فكل من يقرأ في كتب السنة يجد ذلك منصوصا عليه دون أدنى لبس في ذلك.
الخلاصة:
· هناك فرق بين الحديث النبوي المتصل المرفوع للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبين الخبر الموقوف على الصحابي أو التابعي، وهذا واضح في كل كتب الحديث والفقه والشريعة، ولم يقل أحد من السلف أو الخلف بأن أقوال الصحابة هي حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
· لقد نص الصحابة - رضي الله عنهم - على ما كان منهم من اجتهاد أو رأي، وفرقوا بين ذلك وبين حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أحاطوه بهالة من التقديس؛ إذ إنه وحي مثل القرآن على خلاف آرائهم التي كانوا يضعونها في مصاف البشر التي تصيب وتخطئ.
· إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المعلم والهادي إلى سواء السبيل، ولقد كان الصحابة يتعلمون منه - صلى الله عليه وسلم - كل شيء، ولا يفعلون شيئا إلا بالرجوع إليه - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وإلى سنته بعد مماته، فكيف بعد ذلك نستطيع نسبة الأحاديث إليهم، وهم ينهلون منها ويتعلمون؟!
· إن أقوال الصحابة التي أثرت عنهم - مما صح - إنما هي تفسيرات وشروح وفتاوى تعين المسلمين على فهم دينهم الفهم الصحيح، لا سيما وأن هذه الجماعة هي الواسطة بين الأمة ونبيها، فهم أدرى الناس بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهدي القويم والسنة الحسنة.
(*) منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل، د. عزية علي طه، دار البحوث العلمية للنشر، مصر، 1987م.
[1]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 22).
[2]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 23).
[3]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 23).
[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، (1/ 241)، رقم (108).
[5]. الكامل، ابن عدي، تحقيق: د. سهيل زكار، دار الفكر، بيروت، ط3، (1/ 159).
[6]. المحدث الفاصل، الرامهرمزي، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، دمشق، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص538.
[7]. الكفاية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (1/ 506).
[8]. الكفاية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (1/ 504).
[9]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، (1/ 320)، رقم (111).
[10]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الخضر مع موسى، (6/ 497)، رقم (3401). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفضائل، باب: فضائل الخضر عليه السلام، (8/ 3505)، رقم (6047).
[11]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة، 1428هـ/ 2007م، (2/ 915).
[12]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، (3/ 1016)، رقم (978).
[13]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الغسل، باب: غسل المذي والوضوء منه، (1/ 454)، رقم (270).
[14]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكيين، مسند الحرث بن عبد الله بن أوس، رقم (15478). وصحح إسناده شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[15]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة، 1428هـ/ 2007م، (2/ 1179).
[16]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة، 1428هـ/ 2007م، (2/ 1162).
[17]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة، 1428هـ/ 2007م، (1/ 777).
[18]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة، 1428هـ/ 2007م، (1/ 777).
[19]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة، 1428هـ/ 2007م (1/ 778).
[20]. أعلام الموقعين، ابن القيم، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، د. ت، (1/ 54).
[21]. أعلام الموقعين، ابن القيم، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، د. ت، (2/ 55).
[22]. أعلام الموقعين، ابن القيم، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، د. ت، (1/ 54).
[23]. صحيح بشواهده: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، مسند محمد بن مسلمة الأنصاري، رقم (18009). وقال شعيب الأرنؤوط: الحديث صحيح بشواهده.
[24]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاستئذان، باب: التسليم والاستئذان ثلاثا، (11/ 28)، رقم (6245).
[25]. منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل، د. عزية علي طه، دار البحوث العلمية للنشر، مصر، 1987م، ص355، 365.
[26]. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (11/ 32).
[27]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: العلم، باب: رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، (9/ 3788)، رقم (6673).
[28]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، (13/ 296)، رقم (7307).
[29]. الجامع لأخلاق الراوي، الخطيب البغدادي، تحقيق: د.محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (2/ 407).
[30]. المحدث الفاصل، الرامهرمزي، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، دمشق، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص546.
[31]. الجامع لأخلاق الراوي، الخطيب البغدادي، تحقيق: د.محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (2/ 402).
[32]. الجامع لأخلاق الراوي، الخطيب البغدادي، تحقيق: د.محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م (2/ 404).
[33]. المحدث الفاصل، الرامهرمزي، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، دمشق، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص545.
[34]. حسن: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، كتاب: السلام والمصافحة، باب: المعانقة، (1/ 337)، رقم (970). وحسنه الألباني في تعليقه على الأدب المفرد.
[35]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة، 1428هـ/ 2007م، (1/ 392).
[36]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (4/ 85).
[37]. المستصفى من علم الأصول، الغزالي، تحقيق: د. محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1417هـ/ 1997م، (1/ 400).
[38]. انظر: شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 24). why do wife cheat on husband website reasons why married men cheat
|