دعوى أن أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست من السنة(*)
مضمون الشبهة:
يدعـي بعـض المتوهميـن أن سنـة النبـي - صلى الله عليه وسلم - تنحصر في فعله فقط دون قوله، مستدلين بأنه:
· لــو كـان الحديـث الـذي يقولـه الرسـول - صلى الله عليه وسلم - يعتد به أو يؤخذ به في التشريع، لوجب أخذ كلامه - صلى الله عليه وسلم - بما في ذلك ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة.
· وبأن الفعل أوقع في النفس، بحيث تطمئن إليه أكثر، ويستمر في الذاكرة زمنا أطول، فهو أجود الوسائل التي يستخدمها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأداء مهماته لا سيما في تعليم هذه الأمة؛ إذ بالفعل تتبين هيئات وتفصيلات ما يصعب بيانه بالقول, حتى إن ما يتبين بالفعل ليتعذر بيانه بالقول أحيانا، لا سيما وأن من الهيئات الفعلية ما لم يوضع له لفظ خاص.
مضيفين: أن القول يدخله احتمال المجاز والنقل، والفعل يخلو من ذلك. رامين من وراء ذلك إلى التشكيك في حجية أقواله صلى الله عليه وسلم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن المهمة العظمى التي جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجلها، هي تبليغ ما أوحي إليه من قبل ربه, عقيدة وشريعة, كتابا وحكمة, ولا يختلف اثنان في أن الوسيلة المثلى للتبليغ هي القول باللسان, وفي ذلك يقول عز وجل: )وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم( (إبراهيم: ٤) فنص على أن البيان يكون باللسان.
2) إن أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة كأفعاله؛ وذلك لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من عند الله )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، فكيف يقتصر على السنة الفعلية فقط؟! واحتجاجهم بأن ذلك يلزمنا بأقواله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة منقوض؛ إذ إننا لم نلزم إلا بما كان بعد البعثة.
3) إن البيان القولي أقوى دلالة من التطبيق الفعلي، ومرد ذلك إلى أن القول له صيغة يمكن أن يعلم بها من جميع الوجوه، بل ويمكن أن يدل به على أنه بيان للمجمل، ولذا كانت أكثر سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أقوالا، وكانت الأدلة المعتمدة في الشريعة أغلبها أقوال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه فإننا لا نستطيع إهمال أقواله - صلى الله عليه وسلم - وإلا فقدنا القسم الأكبر والرئيس من السنة، فكم من حقائق كانت موجودة بالفعل، ولكننا لم ننتبه إليها إلا بالقول.
4) لقد كشفت الدراسات التربوية عن حقيقة مفادها أن الأقوال هي أولى طرق التعليم للمعلم، وإن أولى طرق تحصيل المعرفة والتعلم الاستماع لهذه الأقوال، لذا كانت الأقوال هي الوسيلة الرئيسة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أداء مهمته، من التبليغ والدعوة إلى الله، وتربية الأمة وتعليمها، فكيف يكون الفعل مقدما على القول؟!
التفصيل:
أولا. مهمة التبليغ التي كلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقيام بها لا تؤدى إلا بالقول:
إن الإسلام دين الكافة؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى الناس كافة، فقد قال عز وجل: )وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا( (سبأ: ٢٨), وقال: )قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا( (الأعراف: ١٥٨), وها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود»[1].
فبمقتضى تلك الآيات وهذا الحديث كان الإسلام دين الكافة، وعليه فجميع الناس مطالبون بالاستجابة لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وعلى ذلك يكون الإسلام دين الجيل الذي بعث فيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ودين الأجيال من بعده حتى يوم الدين.
ومعلوم بداهة أنه لا تكليف من غير إعلام، ولا عقاب ولا ثواب من غير علم بالرسالة ودعوة إليها، وقد قام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ الكامل استجابة لأمر الله عز وجل: )يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس( (المائدة: ٦٧) [2].
وعلى هذا نلاحظ أن وظيفة النبي - صلى الله عليه وسلم - البلاغية تمحورت في أربع مهام أساسية، نوجزها في الآتي:
المهمة الأولى: بيان القرآن، أي تفسير ما غمض من معانيه، وإيضاح ما أشكل منه، ورفع ما فيه من إجمال، وتقييد مطلقه، وتخصيص عامه، لكي يفهم على الوجه الذي أراده الله, قال عز وجل: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (44)( (النحل).
المهمة الثانية: الدعوة إلى الله بدعوة الكفار إلى الإيمان، ودعوة العصاة والمذنبين إلى الإقلاع مما يبعدهم عن رحمة الله، فكان - صلى الله عليه وسلم - مكلفا بأن يكون داعيا إلى التبرؤ من الكفر، والفسوق، والعصيان، كما كلف أن يدعو إلى الأعمال الصالحة من العبادة وفعل الخير، ليكون في ذلك كله موصلا إلى الجنة، ولذا اتصلت بهذه المهمة مهام: التذكير، والتبشير، والإنذار.
المهمة الثالثة: تعليم الأمة القرآن والسنة؛ فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم القرآن وحفظه، ويساعدهم على تدبره وتفهمه واستنباط الأحكام منه، حتى يصبحوا به علماء من جميع الوجوه، كما هو الشأن في السنن.
المهمة الرابعة: التزكية، وهي تربية النفس وتهذيبها بالأخلاق الطيبة والشمائل.
والقرآن الكريم يبين مجملا هذه المهام في قوله تعالى: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة( (الجمعة: ٢)[3].
وإذا كانت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تبليغ لرسالة ربه - عز وجل - فإن أقواله قد شملت الجانب الأكبر من سنته؛ إذ كانت هي الوسيلة الرئيسة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أداء هذه المهام، بدليل قوله عز وجل: )وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم( (إبراهيم: ٤)، فذكر - عز وجل - أن البيان يكون باللسان لأهميته, وهذا لا يعني حصر وسيلة التبليغ في اللسان، فنحن لا نغفل الدور البارز للأفعال النبوية في تنفيذ المهام المطلوبة، لا سيما في مهمة البيان، ومهمة التعليم والتزكية[4].
وإذا كنا متفقين على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل للناس كافة، فإنه كان ولا بد من أن تصل رسالته إلى جميع أرجاء الدنيا؛ "لذلك كان تكليف النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ دعوته تكليفا لأمته أيضا وقد صرحت بذلك الآيات البينات من كتاب الله تعالى: )قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني( (يوسف: 108).
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن التبليغ سيكون بالقول في المرتبة الأولى، وإذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - حريصين على حفظ كل قول وفعل وإقرار صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - فإنهم ميزوا سنته القولية من سنته الفعلية والتقريرية، واتضح لنا أن السنة القولية تفوق السنة الفعلية والتقريرية، لذلك استحقت العناية والاهتمام، وإذا ألقينا نظرة سريعة على الأحكام الشرعية، فإننا نجد أن أكثرها قد تأسست على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم[5].
ونتساءل: ألم يكن تبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم - في بادئ الأمر إعلاما بالقول؟! ألم يكن تبليغ القرآن وتعليمه يحتاج في المقام الأول إلى القول؟! فلا مجال إذن لهذا القول الواهي الذي يفرق بين أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله؛ إذ الأفعال تطبيق للأقوال، والأقوال توضيح وبيان للأفعال.
ثانيا. أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة كأفعاله، ولا إلزام بما كان منها قبل البعثة:
إن أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة كأفعاله؛ وذلك لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من عند الله عز وجل: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى (5)( (النجم).
والدليل في الآية: أنه - صلى الله عليه وسلم - منزه أن يصدر نطقه عن هوى، بل كل ما يصدر عنه وحي من الله عز وجل.
ومما يؤكد هذا أيضا ويعضده قوله تعالى: )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( (الحشر: ٧).
ووجه الدلالة في الآية: أنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الخطأ، وأن كل أقواله أمرا كانت أو نهيا, من عند الله عز وجل[6].
وعليه نعلم أن العصمة صفة لازمة وواجبة شرعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويترتب عليها حتمية صدقه - صلى الله عليه وسلم - في كل ما ينطق به من:
1. قرآن تلقاه عن الله - عز وجل - بالوحي.
2. أحاديث قدسية بلغها إليه الوحي باللفظ، أو به مع المعنى.
3. أحاديث نبوية يشرع بها النبي - صلى الله عليه وسلم - حكما شرعيا يبين حله أو تحريمه.
وفي هذا ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله - عز وجل - فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما حرم الله»[7] [8].
ولنا أن نتساءل: هل يقع التحريم بالفعل أم بالقول اللغوي؟!
لا شك في أنه يكون بالقول المفيد من النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك أن القول أبلغ من الفعل، فكيف لا يكون كلامه حجة؟!
إضافة إلى ذلك فإن الرسالة سفارة بين الله تعالى، وبين عباده لتبليغ أحكامه التي أوحاها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليوصلها إلى عباد الله - عز وجل - فلو لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادقا في أخباره البلاغية، لبطلت دلالة المعجزة ولفات المقصود من الرسالة، فرسالته دليل صدقه في أخباره البلاغية.
وعلى هذا فعصمته - صلى الله عليه وسلم - التي هي مقتضى رسالته ليست مقصورة على أفعاله - صلى الله عليه وسلم - فحسب، فقد أجمع العلماء على أنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم عن كل ما يخل بالتبليغ سواء كان خبرا قطعيا، أو فعلا، أو تقريرا، أو أمرا، أو نهيا، فإن ذلك كله من أنواع البلاغ.
وعلى عكس ما توهمه أصحاب هذه الشبهة، فإن العلماء كما استدلوا على حجية السنة بالقرآن - كما تقدم - استدلوا بأمره - في أكثر من موضع - بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على حجية أقواله وأفعاله وتقريراته.
ومما سبق يتبين زيف هذه الشبهة، وجهل أصحابها، وذلك لثبوت حجية السنة بأنواعها كما أن عصمته - صلى الله عليه وسلم - في الخبر البلاغي، دليل مستهل يغنينا وحده في إثبات جميع أنواع السنة[9].
· احتجاجهم بأن أقواله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة ملزمة إذا ما احتججنا بأقواله بعدها:
إن ما استدل به أصحاب هذه الشبهة من دليل وجوب الأخذ بكلامه - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة دليل ساقط؛ لأننا غير ملزمين بأخذ ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة سواء كان قولا أو فعلا أو غير ذلك.
وإذا كانت السنة هي ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة لم يكن نبيا، لذلك كل ما صدر عنه قبل البعثة لا يندرج تحت تعريف السنة، أو يكون من أقسامها. وانطلاقا من هذه القاعدة يبطل دليل أصحاب هذه الشبهة، ويتضح زيف ما ادعوه.
وبالرغم من هذا، فإننا لو استعرضنا حاله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة، نجد أنه - صلى الله عليه وسلم - قد لقب بالصادق الأمين، فلو أخذنا بكلامه - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة، فلا شيء في ذلك، وإن لم نأخذ به، فلا شيء أيضا فيه، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قد بعث بعد، ولم يدخل كلامه في دائرة السنة، فقوله وفعله وتقريره - صلى الله عليه وسلم - في هذه المدة ليس بسنة، ولسنا ملزمين به، وبذلك يبطل دليلهم، وما يترتب عليه من ادعاء وطعن.
ثالثا. البيان القولي أقوى دلالة من التطبيق العملي الفعلي؛ لذا كانت الأدلة المعتمدة في الشريعة أغلبها أقوال:
لقد احتج علماء الأصول على أن القول أقوى دلالة من الفعل، بما يأتي:
أن القول له صيغة، فيمكن أن يعلم المراد به من جميع الوجوه، والتعبير به عن كل ما في النفس، بما يكون نصا في المطلوب أو ظاهرا، حيث إن الألفاظ موضوعة لمعان معلومة يمكن تركيبها لتدل على المراد عينا، وبدرجة العموم والخصوص المطلوبة، وبما يدل على الحكم المراد، وقد قال الشاعر:
القول ينفذ ما لا ينفذ الإبر
أما الفعل فلا يقع إلا على صورة واحدة، ولا يتعدى تلك الصورة بنفسه، فلا يفهم منه بنفسه درجة الحكم أهي الوجوب، أم الاستحباب، أم الإباحة، ولا يعلم قدر انسحابه على أشخاص آخرين غير الفاعل، وعلى أحوال أخرى غير الحالة التي وقع عليها.
إن القول يمكن أن يدل به على أنه بيان للمجمل بخلاف الفعل، فإنه لا يدل بنفسه على ذلك، فلا يعلم ذلك إلا بدليل غير فعلي, إما بالقول، وإما بالعقل، وإما بأن يعلم ذلك بالضرورة من قصده.
إن الفعل لا يمكن الدلالة به على المعدوم والمعقول، بل على الموجود والمحسوس خاصة، بخلاف القول إذ يمكن التعبير به عن كل ذلك.
إن الفعل البياني قد يلازمه حركات وأوصاف غير مراد أن تكون بيانا، ويعرف ذلك بالاستقراء، وهذا قد يجعل في كل جزء من أجزاء الفعل البياني احتمالا أنه غير مراد، وهذه الاحتمالات لا يمكن إزالتها إلا بتكرار الفعل مع حذفها، أو بالقول، أو بغير ذلك من القرائن، كما وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة في مكان معين، ولكي لا يظن ظان أن ذلك المكان مقصود قال: «وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف»[10]، وقال في مزدلفة مثل ذلك، وقال في النحر بمنى: «نحرت ها هنا ومنى كلها منحر»[11]. والقول يمكن إخلاؤه عن مثل هذه الاحتمالات.
ومما يدعم هذه الرؤية أن القول تتبلور به الأحكام والصلات بين الأمور، وكم من حقائق كانت موجودة بالفعل، ولكن لا يلتفت الناس إلى وجودها، ولا ينتبهون إلى أنها تمثل دورا فيما يجري (بالفعل) أمام أبصارهم, فلما قيض لها شخص ذو فطانة وذكاء، فلمحها وعبر عنها بالقول أصبحت شيئا معلوما يمكن لغيره من الناس فهمه وتطبيقه والاستفادة منه.
ومما يؤكد ذلك حوادث استخراج قوانين الظواهر الطبيعية، كالكهرباء والجاذبية والمغناطيسية والحرارة والبرودة، وتأثيراتها المختلفة.
ويكفي للتدليل على ذلك ما نراه لعلماء الصحابة كعائشة رضي الله عنها في فهمها للأحكام وأسبابها من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شئون طهارته, وصلاته بالليل والنهار، وصيامه، وغير ذلك، وما نراه لأئمة الأصوليين من استنباطهم لقوانين الأصول، مع أنها كانت جارية قبلهم (بالفعل) في نصوص الكتاب والسنة وكلام الناس، وهكذا الخليل مع قوانين العروض، وهكذا أيضا قوانين كل علم وفن مما يوفق الله من شاء من أهل المواهب لاستخراجه والتعبير عنه[12].
الأدلة المعتمدة في الشريعة أغلبها أقوال:
فالسنة النبوية من حيث طبيعتها تنقسم إلى قسمين هما:
1. الأقوال.
2. الأفعال.
ولقد توسع الزركشي في البحر المحيط في ذكر أقسام السنن بالتفصيل، فجعلها ثمانية: القول، الفعل، التقرير، ما هم به، الإشارة، الكتابة، الترك، التنبيه على العلة[13].
وعلى هذا فإن القول هو أهم أقسام السنة، ولذلك صدرت به الأقسام، فكيف يدعى بعد ذلك أن أقواله - صلى الله عليه وسلم - ليست من السنة؟!
ثم إن كثيرا من الأقوال يعبر عنها بما يوهم الفعلية، ويجب ألا يخدعنا ذلك في حقيقة كونها أقوالا، وذلك مثل: تشهد، وكبر، وسبح، ولبى، لاألا
ومدح، وأثنى، ووبخ فلانا، ولعنه، ودعا عليه، وأمره، ونهاه.
ودليل أنها أقوال أنها تفسر بالقول، فـ "التشهد" هو قول: أشهد أن لا إله إلا الله، و"التسبيح" هو قول: سبحان الله، و "التلبية" هي قول: لبيك اللهم لبيك، وهكذا[14].
وعليه فإن الأفعال والأقوال على علاقة وطيدة، لا سيما ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ إنه لم يصلنا نحن إلا عن طريق القول المفيد.
وإذا كنا متفقين على ذلك، فإننا لو أخرجنا أقواله - صلى الله عليه وسلم - من حيز السنة، لضاع الكثير منها؛ إذ إن الأقوال أدل على الأحكام، وهي الأصل في التبليغ والبيان، ومباحث الأفعال تؤخر في أبواب السنة غالبا عن مباحث الأقوال، وما هذا إلا لأهمية الأقوال في السنة.
وذلك لأن الأدلة المعتمدة في الشريعة أغلبها أقوال؛ فالكتاب العظيم قول الله تعالى، والسنة النبوية منها أقوال، ومنها أفعال، والإجماع منه قولي ومنه فعلي، ومذهب الصحابة عند من قال به، منه قولي ومنه فعلي.
وعليه فسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تنبني أول ما تنبني على أقواله - صلى الله عليه وسلم - ومما يؤكد ذلك بالإضافة إلى ما سبق أن الأدلة إما أقواله، وإما أفعاله، وإما غيرهما.
ويقول ابن تيمية: "الأصل قول الله وفعله، وتركه القول وتركه الفعل، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، وتركه القول وتركه الفعل، وإن كانت جرت عادة عامة الأصوليين أنهم لا يذكرون من جهة الله إلا قوله الذي هو كتابه، ومن جهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون قوله وفعله وإقراره"[15].
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي: إن الأحاديث القولية تمثل في الواقع جمهرة السنة، وعليها مدار التوجيه والتشريع، وفيها يتجلى البيان النبوي، وتتمثل البلاغة المحمدية بأجلى صورها، وفيها "جوامع الكلم" التي خص الله بها خاتم رسله - صلى الله عليه وسلم - ويراد بها: الأحاديث التي جمعت في ألفاظ قليلة معاني جمة.
وإن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - بمجردها لا تدل على أكثر من جواز الفعل، أما استحبابه أو وجوبه، فلا بد أن يدل عليه دليل من قوله - صلى الله عليه وسلم - وذلك مثل قوله في أفعال الصلاة «صلوا كما رأيتموني أصلي»[16]، وقوله في أفعال الحج: «لتأخذوا مناسككم»[17][18].
وبهذا يتضح بما ليس فيه مجال للشك أن القول بعدم حجية أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - قول ساقط لا يقول به عاقل يدرك معاني الألفاظ؛ ومن ثم فليس لقائل أن يقول أمام هذه الأدلة الدامغة: إن أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست من السنة أو حتى أنها تقل درجة عن أفعاله صلى الله عليه وسلم.
رابعا. الدراسات التربوية تثبت أن القول أول طرق التحصيل المعرفي:
لقد كشفت الدراسات التربوية عن أن تأثر شخص ما بشخص آخر في تحصيل أنواع المعرفة والتعليم، واكتساب الاتجاهات والقيم والعادات، يمكن أن يتم بثلاث طرق: الاستماع للأقوال، والمشاهدة للأفعال والاقتداء بها، والممارسة من جانب المتعلم مع التصحيح من جانب المعلم.
إذن فاستماع الأقوال هو أول طرق التعلم وتحصيل المعرفة، وعليه فالقول أساسي في عملية التعليم، وبه تنتقل الأفكار والمعلومات من ذهن المعلم إلى ذهن المتعلم عن طريق حاسة السمع، ويمكن بهذه الواسطة نقل معلومات وافرة في برهة قصيرة.
وتمتاز هذه الطريقة بإمكان التحديد الدقيق للمعلومات وربط السبب بالمسببات، وذكر الصيغ بدرجة العموم والخصوص المطلوبة، وذلك بما توفره أداة اللغة من إمكانيات لا تكاد تقف عند حد، يستطاع بواسطتها أداء الفكرة على درجة عالية من الكمال، بحسب تمكن المعلم من الفصاحة والبلاغة، ووفرة محصوله من الألفاظ والتراكيب[19].
وبهذا يتضح أن طريقة الإلقاء والقول كانت هي الوسيلة الرئيسة لأداء مهام النبي النبوية[20] من التبليغ والدعوة إلى الله، وتربية الأمة وتزكيتها وتعليمها؛ إذ إن مهمات الرسول - صلى الله عليه وسلم - تتحقق أول ما تتحقق بالقول المفيد والبيان اللغوي؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المعلم الأول والمربي لهذه الأمة؛ فلا يخفى علينا أن التعليم يستدعي من المعلم الملاحقة والمواصلة لعملية التعليم يوما بعد يوم، بل ربما ساعة بعد ساعة، وأن ينتهز الفرص لإلقاء المعلومات وتفسيرها وتكرارها، والمناقشة فيها، وتصحيح أخطاء المتعلمين عند استذكارها وتطبيقها، والثناء عليهم إذا أحسنوا استيعابها والعمل بها، وأن لا يخليهم من ذلك كله إلا بعد أن يطمئن إلى أن ما حصلوه رسخ لديهم على وجه مستقيم، وأصبحت لهم ملكة قوية وهكذا كان شأنه - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه رضي الله عنهم.
ولأهمية هذه الطريقة، ومن أجل ميزاتها المذكورة، جعل الله أصل الشريعة الأصيل قولا يتلى ويسمع، وسماه "قرآنا مبينا", وجعله مشتملا على المسائل الرئيسة في الشريعة، وأمر بتلاوته وتدبره وتفهمه، ليستمع الجميع كلام الله غضا كما أنزل، فتحصل منه المنافع الجمة الكثيرة.
فكيف لنا أن نهمل أقواله - صلى الله عليه وسلم - ولا نعدها من السنة، والقسم الأكبر منها هو سنن قولية؟!
فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبلغ بلفظه ما يوحى إليه من أحكام، ويبين بلفظه ما أشكل من معاني القرآن، ويجيب عن الأسئلة والاستفسارات الموجهة إليه من صحابته الكرام، ويدعو إلى الله تعالى الأفراد والجماعات في لقاءات خاصة، أو اجتماعات عامة لأمور واقعة، أو لمناسبات تتكرر، كما في مجالس حديثه - صلى الله عليه وسلم - مع المؤمنين، في المسجد، والسوق، والمنزل، والسفر والإقامة، وكما في خطبه في الجمعات والأعياد والحج وغير ذلك، واتخذ المنبر ليسمع قوله أكبر عدد من الحاضرين، بأكبر قدر من الوضوح، واتخذ له أصحابه دكة من طين في المسجد يجلس عليها، إذا أراد أن يكلمهم ويعلمهم.
وإذا تبين لنا هذا تأكد لدينا أن طريقة الإلقاء والقول، كانت هي الوسيلة الكبرى لأداء المهمات النبوية[21]، وإذا تقرر هذا، واستقر فكيف لعاقل أن يقول: إن أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست سنة؟!
الخلاصة:
· إن كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من عند الله تعالى، وصدق الله حيث يقول )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم).
· لا شك في أن الرسالة سفارة بين الله تعالى وبين عباده، ولو أهملنا كلامه - صلى الله عليه وسلم - لضاع المقصود من هذه الرسالة، وتلك السفارة، فتبين من ذلك أن السنة هي ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، دون ترك أي قسم من هذه الأقسام.
· إن القسم الأعظم والأهم من السنة هي السنة القولية؛ لأن الأدلة المعتمدة في الشريعة أغلبها أقوال,كما أن هناك أفعالا كثيرة لا يلتفت الناس إليها، أو يدركون وجودها أو كنهها، ولا يستطيعون الاستفادة منها إلا إذا وفق عالم وأظهرها بالبيان والقول المفيد, فلو تركنا أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاتنا كثير من سنته صلى الله عليه وسلم.
· إن ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة لم نؤمر بالعمل به؛ لأنه ليس سنة؛ إذ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن نبيا آنئذ.
· إن أداء مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - يرتبط ارتباطا وثيقا بأقواله؛ إذ إن القول المفيد والبيان اللغوي هو الوسيلة الرئيسة لأداء هذه المهمة من التبليغ، والدعوة، والتربية، والتعليم، والتزكية، فكيف نهمل بعد كل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم؟!
· إن الإسلام دين للناس كافة، ولا شك أن الوسيلة المثلى لتبليغ الإنسانية كلها برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي القول بدليل القرآن والمنطق العقلي السليم.
· إن الدليل على قوة البيان القولي ووضوحه هو أن القول له صيغة، فيمكن أن يعلم المراد به من جميع الوجوه، والتعبير به عن كل ما في النفس، ويمكن للقول أيضا أن يدل به على أنه بيان للمجمل، وبه تتبلور الأحكام، فكم من حقائق كانت موجودة بالفعل، ولكن لا يلتفت الناس إليها، فلما عبر عنها بالقول أصبحت شيئا معلوما للناس جميعا.
· إن الراغب في تعلم مهنة ما مشافهة، يدرس - أولا - أسسها نظريا، ويتفهم قواعدها وأصولها مشافهة من أقوال مدرسيها؛ إذ تعد الأساس الأول في التعليم، مما يؤكد أن القول شيء أساسي في هذه العملية، فبه تنتقل الأفكار والمعلومات من ذهن المعلم إلى ذهن المتعلم، ومن ثم قدم القول على الفعل؛ لذلك كان القسم الأكبر من السنة النبوية سننا قولية.
(*) رياض الجنة في الرد على المدرسة العقلية ومنكري السنة, د. سيد بن حسين العفاني، دار العفاني، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م. أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م. دفاع عن السنة، د. محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1428هـ/ 2007م.
[1]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، (3/ 1083)، رقم (1143).
[2]. الدعوة إلى الإسلام "تاريخها في عهد النبي والصحابة والتابعين والعهود المتلاحقة، وما يجب الآن", محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1992م، ص16, 17.
[3]. أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م, (1/ 38: 40) بتصرف.
[4]. أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م، (1/ 40) بتصرف.
[5]. الدعوة إلى الإسلام, محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1992م، ص19.
[6]. الرد على المستشرقين في شبهاتهم حول السنة النبوية, محمد شيخ عبد الله، مكتبة عباد الرحمن، القاهرة، ط 1، 1429هـ/ 2008م، ص12 بتصرف.
[7]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، المقدمة، باب: تعظيم حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتغليظ على من عارضه، (1/ 6)، رقم (12). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (12).
[8]. السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين، د. رؤوف شلبي، مطبعة السعادة، القاهرة، ط1، 1398هـ/ 1978م، ص11.
[9]. السنة النبوية حجية وتدوينا, محمد صالح الغرسي، مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2002م، ص103.
[10]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحج، باب: ما جاء أن عرفة كلها موقف، (5/ 1958)، رقم (2903).
[11]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحج، باب: ما جاء أن عرفة كلها موقف، (5/ 1958)، رقم (2903).
[12]. أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م, (1/ 99: 101) بتصرف.
[13]. انظر: البحر المحيط في أصول الفقه, الزركشي، تحقيق: عبد القادر العاني ود. عمر سليمان الأشقر، دار الصفوة، مصر، 1413هـ/ 1992م، (2/ 260).
[14]. أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م, (2/ 55).
[15]. المسودة في أصول الفقه, آل تيمية، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني، القاهرة، ص268.
[16]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة، (2/ 131)، رقم (631).
[17]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا، (5/ 2037)، رقم (3079).
[18]. المدخل لدراسة السنة النبوية, د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط5، 1425هـ/ 2004م، ص24 بتصرف.
[19]. وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفصح العرب، وقد أوتي جوامع الكلم، قال الشافعي: "ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي". (الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق: أحمد شاكر، المكتبة العلمية، بيروت، د. ت، ص42).
[20]. أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م، (1/ 41, 42) بتصرف.
[21]. أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م، (2/ 40: 42) بتصرف.
husbands who cheat
open my boyfriend cheated on me with a guy
why do wife cheat on husband
wife cheaters reasons why married men cheat