الزعم أن الدين مكتمل بالقرآن دون السنة(*)
مضمون الشبهة:
يدعي منكرو السنة أن القرآن وحده يكفي المسلمين في كل ما يحتاجون إليه، ولا حاجة لهم في السنة، ويعتبرونها زيادة في الدين وليست منه، ومن ثم يرون أن السنة لا تعتمد كمصدر ثان في التشريع الإسلامي؛ إذ إن الدين قد اكتمل بالقرآن وحده دون السنة، ويستدلون على ذلك بالآتي:
· أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يصرح بأن السنة هي المصدر الثاني للتشريع.
· قوله عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم( (المائدة: ٣)، وأن هذه الآية نزلت في أواخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن للسنة وجود يومها - حسب زعمهم - فقد جمعت بعد ذلك، ولو كان الدين وكماله متوقفا عليها، لما نزلت هذه الآية.
· أن القرآن الكريم جاء بكل شيء قال عز وجل: )ما فرطنا في الكتاب من شيء( (الأنعام: ٣٨)، وقال عز وجل:)أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون (51)( (العنكبوت), وأن القرآن كما جاء بكل شيء فقد بين كذلك كل أمر من أموره وفصله بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر يفصله قال عز وجل:)ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل: ٨٩).
ويتساءلون: إذا كان القرآن جاء بكل شيء ولم يترك شيئا إلا بينه وفصله على أكمل وجه، فما الحاجة إذن إلى السنة؟ رامين من وراء ذلك كله إلى إنكار حجية السنة والطعن في كونها المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، بغية التحلل من هذا المصدر العظيم وترك العمل بها.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد تواترت آيات القرآن الصريحة في الدعوة إلى التمسك بالسنة والحض على الاعتصام بها، وأكد النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أحاديثه أن الهدي في اتباع سنته، فأمر بالأخذ بها وحذر من مخالفتها، فكيف يدعون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصرح بأن السنة هي المصدر الثاني للتشريع؟!
2) السنة النبوية كانت موجودة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانت هي الطريقة العملية والتطبيق المجسد لتعاليم الدين، وقد بثها صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته خشية التأثم بكتمان العلم، كما أن عدم كتابتها لا يعني عدم وجودها؛ إذ لا يلزم من نفي الكتابة نفي المكتوب، هذا فضلا عن أن الكتابة ليست من لوازم الحجية، لا سيما وقد حل محلها ما هو أقوى منها، وهو الحفظ الواعي عند الصحابة بعد التلقي المباشر من النبي صلى الله عليه وسلم.
3) إن القرآن لم يتضمن تفصيلا لكل أمور الشريعة كالعبادات من صلاة وصيام وحج... إلخ، وإنما جاء مجملا لكل شيء، وترك التفصيل للسنة النبوية. أليس هذا دليلا قاطعا على وجوب وجود السنة وصدورها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كمصدر ثان للتشريع؟!
4) الآيات التي استشهدوا بها لا تنفي حجية السنة، بل تؤكدها:
· فالدين في قوله عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم( (المائدة: ٣) المقصود به القرآن والسنة؛ إذ هما الوحي الذي بني عليه الدين، وليس المقصود به القرآن فقط، والدليل على ذلك أن الوحي القرآني لم يتوقف عند هذه الآية، وإنما نزلت بعدها آيات أخر تتضمن تشريعات ذات أهمية كآية الربا، ولو افترضنا أن الآية آخر ما نزل وأن معنى الدين هو القرآن فليس في ذلك نفي لحجية السنة بل هي دليل آكد على حجيتها؛ إذ هي بيان للقرآن ولا كمال للدين بدون بيان.
· المراد بـ "الكتاب" في قوله عز وجل:: )ما فرطنا في الكتاب من شيء( (الأنعام: ٣٨) هو اللوح المحفوظ الذي أحصى الله فيه كل شيء من أمور خلقه, وليس المراد به القرآن الكريم، وإذا سلمنا بأن المقصود به القرآن الكريم؛ فإن المعنى أنه يحوي كل أمور الدين، إما بالنص الصريح، وإما ببيان السنة له.
· إن استدلالهم بقوله عز وجل::)أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب( (العنكبوت: ٥١) استدلال خاطئ؛ وذلك لأن المخاطبين هنا هم المشركون حينما قالوا: لو أن الله أنزل على محمد آيات من عنده، فرد الله عليهم بأن كتابه هذا معجزة كافية لهم في التصديق برسالته، ولا علاقة لها بأن القرآن كفاية للمؤمنين في كل شيء دون السنة كما زعموا.
· قوله عز وجل:)ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل: ٨٩) تعني أن القرآن قد نزل مبينا لكل شيء من أمور الدين في شكل قواعد كلية مجملة، أما تفاصيل تلك القواعد وما أشكل منها فالبيان فيها قد أوكل إلى السنة النبوية, ولذلك أمر الله نبيه أن يبين للناس ما نزل إليهم، وهذا عن طريق قوله أو فعله أو تقريره، ومن ثم يتعذر الانتفاع بالقرآن دون السنة؟
التفصيل:
أولا. القرآن والسنة أوجبا العمل بما جاءت به السنة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حذر من مخالفتها:
إن الله - سبحانه وتعالى - أنزل القرآن الكريم هداية بينة، ومعجزة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - باهرة باقية، ثم أعطاه السنة مفصلة للكتاب وشارحة له كما قال عز وجل: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم( (النحل: ٤٤), فكانت السنة أصلا من أصول الدين تاليا لكتاب الله تعالى، تؤخذ منها العقائد والأحكام والأخلاق، وغير ذلك..
فالقرآن الكريم هو الأصل الأول للدين والسنة هي الأصل الثاني، ولقد اختص الله تعالى هذه الأمة الإسلامية بحفظ دينها وصيانتها له، وتعهد به سبحانه، فحفظت هذه الأمة كتاب الله المنزل إليها، فتلقته بأمانة وثقة وتواتر، وذبت الكذب والخلل عن الحديث النبوي بما وضعته من قوانين للرواية هي أصح وأدق طريق علمي في نقل الروايات واختبارها.
ولقد كانت عناية الأمة الإسلامية برواية الحديث النبوي وحفظه تهدف إلى صيانة هذا التراث العظيم من التحريف والتبديل فيه؛ فحاز حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوقاية والمحافظة ما لم يكن - قط - لحديث نبي من الأنبياء، فقد نقل لنا الرواة أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأمور كلها؛ العظيمة واليسيرة، بل في الجزئيات التي قد يتوهم أنها ليست موضع اهتمام، فنقلوا تفاصيل أحواله - صلى الله عليه وسلم - في طعامه وشرابه، ويقظته ونومه، وقيامه وقعوده، حتى ليشعر من يتتبع كتب السنة أنها ما تركت شيئا صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - إلا روته ونقلته[1].
إذا كانت عناية المسلمين بالسنة والعمل بها معلومة من الدين والتاريخ والحضارة والتراث الإسلامي بالضرورة، ولا يجهل ذلك جاهل - فإن الإنسان بعد ذلك لتأخذه الدهشة والعجب ويحار لبه في أفهام وعقول منكري السنة، كيف يطعنون في حجيتها؟! وبأي عقل وعلى أي منطق اعتمدوا في قبولهم القرآن دون السنة؟! أليس الذي أخبرنا بالقرآن هو صاحب السنة، الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى؟! أليس رواة القرآن هم رواة السنة من خير القرون وخيرة الأجيال؟! القائمين بالحق والمقيمين بالعدل من الصحابة - المشهود لهم بالثناء الحسن في التوراة والإنجيل والقرآن - والتابعين بإحسان إلى يوم الدين؟!
فلماذا يقبل منكرو السنة رواية الصحابة والتابعين للقرآن ولم يقبلوها في السنة، أليسوا هم الذين استرعاهم الله على الكتاب فكانوا أمناء وشهداء بالقسط في حفظه وصيانته وروايته، فلم وثقوا في جانب وطعنوا في آخر؟! أليست الطريق التي وصلنا القرآن والسنة منها طريقا واحدا؟!
ألم يكن منهجهم في الحفظ والتثبت والرواية واحدا، وإن اختلف في جعل الصدارة والأولوية للمصدر الأول للدين وهو القرآن، إلا أنه لم يهمل المصدر الثاني وهو السنة. إن الذين يطعنون في السنة إنما يطعنون في أخص خصوصيات هذه الأمة وهو الإسناد الذي ميز الله به أمة الإسلام وألهمها إياه - ولم يكن في أمة من قبل - لحفظ كتابه وسنة نبيه، إنهم يريدون للأمة الإسلامية أن تكون كالذين من قبلهم، حيث طال عليهم الأمد؛ فقست قلوبهم ونبذوا دينهم وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون، وما كان ضلال الأمم السابقة وتحريفهم لكتبهم إلا لفقدهم ما حبانا الله به من حفظ الإسناد، فهل المقصود أن نكون مثل الذين من قبلنا فنترك ونهدم شطر الدين؛ فنضل ونحرف ونغير ونبدل كل ما ليس له تفصيل في القرآن.
إن الذين يطعنون في السنة يكذبون القرآن؛ لأن الله تعهد بحفظ الكتاب والسنة، قال تعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، وصدق وعده فقيض للقرآن رجالا حفظوه وذبوا عنه، كما قيض للسنة رجالا حفظوها وذبوا عنها.
إن الذين يطعنون في السنة إنما يطعنون في القرآن ويكذبونه ويخالفون أوامره؛ لأن القرآن أمر باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعته ونهى عن مخالفته وعصيان أمره، وحث على التمسك بالسنة والاعتصام بها، فكيف يدعون أنهم يؤمنون به وهم يخالفونه؟!
· القرآن الكريم يفرض علينا طاعة الرسول والأخذ بسنته:
لقد أمرنا الله - عز وجل - باتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم - وحثنا على الاقتداء به، والعمل بسنته، وحذرنا من مخالفته, وجاءت آيات القرآن في ذلك صريحة واضحة، ويمكن تصنيفها إلى:
§ آيات تأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم.
§ آيات تأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم.
§ آيات تحذر من مخالفته صلى الله عليه وسلم.
§ آيات تبين قدره صلى الله عليه وسلم.
o أما الآيات التي تأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم: فمنها قوله عز وجل: )قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31) قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32)( (آل عمران).
وقد روي في سبب نزول هذه الآية أن قوما على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا محمد إنا نحب ربنا، فأنزل الله عز وجل: )قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31)( (آل عمران)[2]، فجعل اتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم - سببا لحب الله، وجعل العقاب لمن خالفه.
أما الآيات التي تأمر بطاعته - صلى الله عليه وسلم - فمنها قوله عز وجل: )وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132)( (آل عمران)، وقوله عز وجل: )تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم (13)( (النساء).
فجعل ربنا - عز وجل - طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - طاعة له سبحانه؛ وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - مبلغ عن الله، وما جاء به إنما هو من رضوان الله، وفي ذلك إعلاء لكل ما جاءنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإعلاء لقدر طاعته وأنها طاعة لله، وأن سنته من دين الله، على المسلم أن يلتزم بها، وأن يطيع أوامر القرآن الكريم والسنة النبوية، وأن ينتهي بنواهيهما، والله تعالى يقول: )إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51)( (النور).
حيث يؤدب الله - عز وجل - الأمة كلها، ويعلمها أن تسمع وتطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفرد الضمير في قوله )ليحكم(؛ لأنه يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو المباشر للحكم، وإن كان الحكم في الحقيقة لله عز وجل.
هذا، وإن كان سياق الآية على طريقة الخبر، فليس المراد به ذلك، بل المراد به تعليم هذا الأدب، وأنه يجب على المؤمنين أن يقبلوا حكمه - صلى الله عليه وسلم - ويمتثلوا أمره، وهم بذلك المفلحون الفائزون بخيري الدنيا والآخرة، دون من عداهم ممن لم يمتثلوا أمره[3].
o أما الآيات التي تحذر من مخالفته - صلى الله عليه وسلم - فإنها جاءت لتبين أن من خالفه - صلى الله عليه وسلم - فقد ضل ضلالا مبينا، ومصيره جهنم خالدا فيها، وله عذاب مهين, منها: قوله عز وجل: )وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36)( (الأحزاب).
والمعنى: أنه لا يصح أن يكون للمؤمن اختيار فيما قضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فعلى كل المؤمنين أن يطيعوا أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالامتثال، لا سيما وقد عطف قضاء رسول الله على قضاء الله؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - مبلغ عن الله عز وجل، فطاعته طاعة لله عز وجل.
وحذر ربنا سبحانه المؤمنين من معصيته، ومن معصية رسوله مبينا أن هذه المعصية ضلال بين وانحراف عن سواء السبيل.
ومن هذا المنطلق حرص السلف على هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فها هو طاوس بن كيسان يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: اتركهما، قال: إنما نهى عنهما أن يتخذا سنة. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: قد نهى عن صلاة بعد العصر فلا أدري أتعذب عليهما أم تؤجر؛ لأن الله تعالى يقول: )وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم( (الأحزاب: ٣٦)[4].
ومن الآيات التي تحذر من مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوله عز وجل: )إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا (15) فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا (16)( (المزمل)، واتساقا مع ما أسلفنا نجد أن القرآن الكريم يؤكد على وجوب العمل بسنته صلى الله عليه وسلم، بدليل هذه الآية التي أبانت أن فرعون إنما عذب لمخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعليه فكل من عصى رسوله المبعوث إليه من قبل رب العزة فلينتظر الأخذ الوبيل في الدنيا والآخرة.
o أما الآيات التي تعظم قدره صلى الله عليه وسلم: فمنها قوله عز وجل: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء)، و "العالمين" اسم لما سوى الله عز وجل، جمع عالم فيشمل جميع المخلوقات، فهو - صلى الله عليه وسلم - رحمة لكل الخلائق.
قال ابن عباس رضي الله عنهما هو رحمة للمؤمنين والكافرين إذا عوفوا مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة[5].
وقال عز وجل: )يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16)( (المائدة).
ولا شك أن هذه الآيات وأمثالها - وهي كثيرة في كتاب الله - تأخذ بأيدي المؤمنين إلى الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - والحرص على كل ما هو من سنته وطريقته، فهو الذي اصطفاه الله لدينه، وأنزل عليه وحيه، وأسرى به وأراه من آياته، ووفقه وشرفه، وأعلاه وكرمه.
وقد اتبعه السلف اتباعا صادقا، فاقتدوا به، في كل أمر، واهتدوا به في كل حال، وهكذا يجب على كل مسلم أن يتبع سنته في كل مكان وزمان، وفي كل حلال وحرام[6].
ومما تجدر الإشارة إليه أن القارئ المتدبر للقرآن الكريم، يجد أن القرآن في دعوته إلى التمسك بالسنة، وأمر المؤمنين بذلك قد اتخذ ثلاث صور[7]:
الصورة الأولى: فتتمثل في طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في آن واحد، وهذا مستمد من مثل قوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون (20)( (الأنفال).
وكقوله عز وجل:)فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين (1)( (الأنفال).
الصورة الثانية: فتتمثل في طاعة الله - عز وجل - وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في مثل قوله عز وجل: )وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين (12)( (التغابن).
الصورة الثالثة: فتظهر في الطاعة مستقلة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في مسائل ترك فيها الحق - سبحانه وتعالى - لرسوله مهمتي البلاغ والبيان؛ إذ لم يرد لها بلاغ في القرآن الكريم، وأوضح دليل على الأمر باتباع السنة، والسمع والطاعة لكل ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد في سورة الحشر في قوله عز وجل: )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7)( (الحشر).
فالآية تؤكد على عقوبة الاكتفاء بالقرآن، وتحذر من شدة العقاب يوم القيامة، ثم إن هناك آيات في القرآن خارج هذه الصور الثلاث تنص على أن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من طاعة الله في مثل قوله عز وجل: )من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80)( (النساء).
كما تنص أخرى على نفي الإيمان، عمن لم يحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يقوله ويقضي به، ومثالها قوله عز وجل: )فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)( (النساء).
ومعلوم أن هذا الذي قضى به - صلى الله عليه وسلم - لم يكن تنفيذا لآية موجودة في القرآن، وإنما كان بحكم من عنده هو صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد أعلن القرآن أن الإنسان لا يعد - أيا كان - مؤمنا بالله إلا إن قبل حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخضع له، ثم لم يجد أي حرج تجاهه[8].
والله أمرنا عند التنازع أن نرجع إلى القرآن والسنة في قوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)( (النساء)[9].
قال "ابن القيم" تعليقا على هذه الآية: "فأمر الله - عز وجل - بطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا، سواء كان ما أمر به في الكتاب، أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا، بل حذف الفعل، وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول، إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة[10].
ومن ثم فالآية تدل دلالة واضحة على أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام بعد القرآن الكريم الذي يمثل المصدر الأول له، ولا يمكن لدين الله أن يكتمل، ولا لشريعته أن تتم إلا بالأخذ بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - جنبا إلى جنب مع القرآن الكريم.
وبعد.. فماذا يصنع منكر السنة بهذه الحجج القرآنية التي إن قبلها رجع إلى السنة فبطل قوله، وإن لم يرجع، خالف القرآن بزعمه أن الدين اكتمل به دون السنة.
· النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر باتباع السنة ويحذر من مخالفتها:
أما زعمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصرح بأن السنة هي المصدر الثاني للتشريع، فهذا أوهى من أن يعتبر، وهل عموا عن الأحاديث المتعددة التي تأمر باتباع السنة وتوجب ذلك وتؤثم من يخالفها، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصرح بأنه أعطي السنة وحيا كما أعطي القرآن تماما، فقد روى المقداد بن معديكرب أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه...»[11].
فقوله صلى الله عليه وسلم: «أوتيت الكتاب ومثله معه» معناه أنه أوتي الكتاب وحيا يتلى وأوتي مثله من البيان، أي: أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص، وأن يزيد عليه فيشرع ما ليس في الكتاب له ذكر فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل به كالظاهر المتلو من القرآن [12].
وفي هذا الحديث النبوي معجزة نبوية ودلالة قاطعة على حجية السنة، فإنه إضافة إلى تحقيق نبوءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بظهور هذه الشرذمة من منكري السنة - وهذه معجزة دالة على حجية السنة وليس بعد ذلك برهان - إلا أن الأقوى إعجازا من ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفهم بصفاتهم التي نراها فيهم أمامنا وذلك بقوله: "يوشك رجل شبعان على أريكته"، ولفظ "رجل شبعان" كناية عن البلادة وسوء الفهم الناشئ عن الشبع أو عن الحماقة اللازمة للتنعم والغرور، وقوله: "على أريكته" أي: سريره، وأراد بهذه الصفة: أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم من مظانه... [13]، نعم لا تجد واحدا منهم له شيخ في العلم وكلهم جهلة بالدين وعلومه؛ لذا فإننا نوضح أن النصوص النبوية في هذا المجال كانت على اتجاهين: الأمر باتباع السنة، والتحذير من مخالفتها.
أما الاتجاه الأول فيتمثل في:
أمره - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته، وقد تعددت صيغ هذا الأمر، وتنوعت أساليبه:
منها ما ورد عن العرباض بن سارية قال: «قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فوعظنا موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقيل: يا رسول الله، وعظتنا موعظة مودع، فاعهد إلينا بعهد، فقال: عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا، وسترون من بعدي اختلافا شديدا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة»[14].
ولقد ترجم ابن حبان لهذا الحديث في صحيحه بعنوان "باب: وصف الفرقة الناجية من بين الفرق التي تفترق عليها أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم "، وقال عقب إيراد هذا الحديث في صحيحه: قال أبو حاتم في قوله صلى الله عليه وسلم «فعليكم بسنتي» - عند ذكره الاختلاف الذي يكون في أمته - بيان واضح أن من واظب على السنن، وقال بها، ولم يعرج على غيرها من الآراء" هو "من الفرقة الناجية في القيامة، جعلنا الله منهم بمنه"[15].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين»، فإن لفظ «فعليكم» اسم فعل أمر معناه "الزموا" أي: الزموا سنتي واعملوا بها واحرصوا عليها ثم أكد ذلك - صلى الله عليه وسلم - فقال: "فتمسكوا بهذا" أي: لا تحيدوا عنها، ولا ينبغي أن يصرفكم عنها صارف، ولا يصح أن تقبلوا أي بديل لها، لا من شرق ولا من غرب.
ثم أكد - صلى الله عليه وسلم - ثانية فقال: «عضوا عليها بالنواجذ»، والنواجذ: الأضراس التي في آخر الفك، والعض: كناية عن شدة ملازمة السنة والتمسك بها.
ومع هذه التأكيدات حذر - صلى الله عليه وسلم - من غيرها فقال: «إياكم ومحدثات الأمور»؛ أي: الأمور التي يبتدعها بعض الناس ولا دليل لها من القرآن ولا من السنة، هذه المبتدعات إياكم أن تعملوا بها، «وإياكم»: أسلوب تحذير، أي احذروا محدثات الأمور. وتدعيما لهذا الأمر يقول الإمام الجنيد: "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتبع سنته ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه".[16] وواضح من كل ما تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا باتباع سنته، والشواهد على ذلك من السنة كثيرة وفيما ذكر كفاية.
أما الاتجاه الثاني فيتمثل في التحذير من مخالفتها:
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»[17].
والشاهد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن رغب عن سنتي فليس مني»، وفعل «رغب» يحدد معناه حرف الجر الذي بعده، "فرغب عن كذا" معناه أعرض عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم «فليس مني»؛ أي ليس على ملتي؛ لأن الإعراض عن السنة كفر.
وبهذا يتضح أن الله - عز وجل - قد أوحى لنبيه بالقرآن والسنة، وما دامت السنة وحيا، فإنه لا بد من العمل بها، ونبذ كلام أهل البدع الذين يدعون إلى بدعة الاكتفاء بالقرآن وترك السنة، وهو - صلى الله عليه وسلم - يحذر من هذا، فإن سنته البيان الصادق للقرآن.
ثانيا. وجود السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
السنة النبوية وحي مثل القرآن انقطع بموته صلى الله عليه وسلم، فكيف يدعون عدم وجودها في عهده صلى الله عليه وسلم:
إن من أغرب الفرى التي ما كان يتصور أن تصدر عن إنسان يحترم عقله - أن يدعي منكرو السنة أنها لم تكن موجودة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يزعمون أنها وجدت بعد ذلك بقرون... والحق أننا أمام دعاوى متهافتة تنقض نفسها بنفسها؛ فلسنا ندري كيف تكون السنة غير موجودة في حياة صاحبها ثم تكون موجودة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - بقرون؟! هل يقصدون أن الأمة قد اخترعتها من تلقاء نفسها ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم يقصدون أنها لم تكن مدونة في عهده صلى الله عليه وسلم، ثم جمعت ودونت بعد ذلك؟
فإذا كانوا يقصدون الأول، فقد تم الرد على ذلك باستفاضة وبينا زيف الدعاوى التي تتهم الأمة بالتواطؤ على الكذب والوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصلنا جهود الأمة في حفظ السنة في مواضعه، وإن كانوا يقصدون الاحتمال الثاني فإننا كذلك قد عالجنا كل ما يتصل بقضايا كتابة السنة وتدوينها وتوثيقها، وفندنا كل المزاعم التي تغرض إلى الطعن في السنة من ناحية التدوين بالأدلة العقلية والتاريخية والواقعية في مواضعه أيضا.
ومع هذا فإننا نشير في إيجاز إلى بطلان ذلك الزعم الذي لا دليل عليه، بل الأدلة على خلافه؛ إذ لا ينكر وجود السنة في عهده - صلى الله عليه وسلم - أو حتى بعد وفاته إلا جاهل أو مكابر، فالأصل في حياة الصحابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده هو العمل بالسنة: أولا لأمر القرآن المتكرر باتباع السنة واقتفاء أثره - صلى الله عليه وسلم - والتحذير من مخالفته وعصيانه، وقد بينا ذلك منذ قليل، وثانيا لأن السنة كانت الطريقة العملية والتطبيق المجسد لتعاليم الدين منذ نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك حظيت السنة النبوية من العناية والحفظ والتمحيص والدرس بذات القدر الذي حظي به القرآن الكريم، فقد عاش - صلى الله عليه وسلم - بضعا وعشرين سنة يبلغ عن ربه عز وجل، فكانت كل أقواله وأفعاله وحركاته وأحواله وصفاته وتقريراته، وأسفاره وغزواته محل ملاحظة أصحابه وحفظهم وعنايتهم ودرسهم، وفوق ذلك كله العمل بها وتطبيقها بحيث صارت لهم منهج حياة، لا سيما وحبهم له فاق الوصف فقد فدوه بأرواحهم وأموالهم وأهليهم، إضافة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الشخص الوحيد الذي لا تنطوي حياته على أسرار أو خفايا يجب أن لا يطلع عليها الناس أو أن لا يعرفوها، فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يحجر على واحدة من أزواجه أو واحد من أصحابه أن ينقل عنه ما يرى أو يسمع، ولهذا رويت تفاصيل حياته حتى في أخص الأمور.
ولم تكن عناية الصحابة بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدافع حبهم له والاستجابة لأمر القرآن بطاعته أو لأنه معلمهم ومرشدهم والمبين لهم عن الله مراده فقط، وإنما أيضا لأن السنة وحي مثل القرآن لقوله عز وجل: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم) إلا أن القرآن وحي متلو، متعبد بتلاوته، لا يجوز روايته بالمعنى، معجز بلفظه ومعناه، بينما السنة وحي غير متلو، منزلة بالمعنى واللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم [18]، يقول العلامة ابن حزم: "لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجدناه - عز وجل - يقول فيه واصفا رسوله: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم) فصح لنا بذلك أن الوحي من الله - عز وجل - إلى رسوله على قسمين:
أحدهما: وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن.
والثاني: وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام، ولا متلو لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله - عز وجل - مراده منا، قال عز وجل: )لتبين للناس ما نزل إليهم( (النحل: ٤٤)، ووجدناه - سبحانه وتعالى - قد أوجب طاعة هذا القسم الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن دونما تفريق، فقال عز وجل: )وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول( (المائدة: ٩٢)"[19].
أما عن مظاهر وجود السنة في حياته - صلى الله عليه وسلم - فهي أكثر من أن تحصى ولكن نذكر منها بعض الصور:
1. حرص الصحابة على تعلم العلم والعمل جميعا:
لقد كان الصحابة يتعلمون من النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم، يقتصرون منه على آيات معدودات، يتفهمون معناها، ويتعلمون فقهها، ويطبقونه على أنفسهم، ثم يحفظون غيرها، وفي ذلك يقول أبو عبد الرحمن السلمي: "حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يقترئون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل"[20].
ومعنى هذا أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان همهم الأكبر أن يتلقوا العلم النظري متمثلا في القرآن الكريم مشفوعا به التطبيق العملي من الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك أن أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوجيهاته وأفعاله إنما هي بمثابة التطبيق والتنفيذ لآيات وأحكام القرآن الكريم، فكان أصحابه - رضي الله عنهم - يحرصون على تلقي الأمرين جميعا.
ومذهب الصحابة - رضي الله عنهم - في طلب العلم والعمل هذا قد أمرهم الله - عز وجل - به في كتابه العزيز، فقال: )وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم( (التوبة: ١٢٢).
أي: إذا نفر المسلمون إلى الجهاد فلتبق طائفة منهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا، فإذا رجع النافرون إليهم أخبروهم بما سمعوا وعلموه. وفي هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة[21]، فهذه الآية تقتضي أن أقوال وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - تحفظ عنه وتبلغ إلى غيرهم.
وكذلك قال الله - عز وجل - في موضع آخر: )لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة( (آل عمران: ١٦٤)، والحكمة هي السنة. فهل بعد هذا يقال: إن السنة لم تكن موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أرشد الله الصحابة إلى تعلمها وتبليغها للناس.
2. مفارقة الأهل والوطن من أجل سماع الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقي العلم عنه:
لقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يقيمون عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يعودون بعد ذلك إلى أهليهم وذويهم يعلمونهم ما تعلموه ويفقهونهم بما فقهوه. فعن مالك بن الحويرث قال: «أتينا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين يوما وليلة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيما رفيقا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا - أو قد اشتقنا - سألنا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه. قال: "ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلموهم، ومروهم - وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها - وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم»[22].
هكذا يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقيموا عند أهليهم؛ ليعلموهم ما تعلموه، ولينقلوا إليهم ما شاهدوه من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبادته، وأن تكون صلواتهم كصلاته صلى الله عليه وسلم.
3. التناوب في طلب العلم وسماع الحديث:
لقد كان لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يشغلهم - كغيرهم - من الأعمال والمهن والتجارات، بحثا عن القوت الحلال لهم ولمن يعولونهم من الأهل والولد، وعلى الرغم من ذلك كان حرصهم شديدا على حضور مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسماع حديثه، فكان الواحد منهم يتناوب مع صاحبه في حضور مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيبلغه ما فاته ليحفظه وليعمل به!
فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية ابن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك...» الحديث[23].
4. تجشم المتاعب والمشاق في سبيل سماع الحديث وجمعه:
يدل على ذلك ماذكره الخطيب البغدادي من حديث عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: "لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم اليوم كثير. قال: واعجبا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فيهم؟ قال: فترك ذاك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح علي من التراب، فيخرج، فيقول: "يا ابن عم رسول الله! ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: "أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث قال: فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: "هذا الفتى كان أعقل مني"[24].
إن هذا الموقف من ابن عباس رضي الله عنهما ليرسم لنا صورة دقيقة عما كان يتجشمه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المتاعب والمشاق في جمع حديث نبيهم وسماعه وتحريره.
بل لقد كان الصحابي - منهم - يقطع المسافات الطويلة ليسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حكم شرعي، ثم يرجع إلى أهله لا يلوي على شيء.
فعن عقبة بن الحارث: «أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج. فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل؟ ففارقها عقبة ونكحت زوجا غيره. أي: ذهب من مكة إلى المدينة طلبا للعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم»[25].
5. الحرص على مذاكرة ما يسمعونه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد بلغ من حرص الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - على حديث نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أن كانوا يتدارسونه ويتذاكرونه فيما بينهم؛ وذلك ليحفظوه ويفقهوه، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كنا نكون عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه"[26].
وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها «كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه»[27].
6. لم يكن يمنعهم الحياء عن سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومراجعته:
لم يمنع الحياء الصحابة من أن يسألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أخص أمورهم وأكثرها سرية، حرصا منهم على العلم والفقه في الدين، فعن قيس بن طلق بن علي عن أبيه قال: «جاء رجل كأنه بدوي، فقال: يا رسول الله، ما ترى في رجل مس ذكره في الصلاة، قال: وهل هو إلا مضغة منك أو بضعة منك»[28].
إن حرص الأصحاب الكرام على العلم دفعهم إلى السؤال؛ لا فرق بين القريب للرسول - صلى الله عليه وسلم - الملازم له وبين الأعرابي البعيد عنه، كلهم يريد الحق، ومعرفة الصواب من المعلم صلى الله عليه وسلم.
وإذا حدث واستحى أحدهم أن يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن شيء ما - كلف غيره عبء السؤال، فعن محمد بن الحنفية قال: «قال علي: كنت رجلا مذاء[29]، فاستحييت أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: فيه الوضوء»[30].
وسبب استحياء سيدنا علي بينه لنا الإمام البخاري - في رواية أخرى للحديث[31] - أنه لمكان ابنته فاطمة وأنها زوج علي - رضي الله عنهما، مما يجعلنا نقول إن سبب حيائه هو أدبه ووقاره رضي الله عنه.
ولا يتوقف الأمر عند الرجال، بل إن النساء - ومن طبعهن الحياء - لم يكن يمنعهن الحياء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليتفقهن في الدين!! فعن أم سلمة رضي الله عنهما قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يارسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأت الماء، فغطت أم سلمة - تعني وجهها - وقالت: يا رسول الله، وتحتلم المرأة؟! قال: نعم تربت يمينك، ففيم يشبهها ولدها»[32].
بل حرص نساء الصحابة أن يسألن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أخص من ذلك، لم يمنعهن الحياء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «جاءت امرأة رفاعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كنت عند رفاعة. فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثوب[33]، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا. حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»[34].
وهكذا كانت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأساس هي التطبيق العملي لأصحابه في حياته، وهي كما لاحظنا إما تفسير وبيان للقرآن أو أحكام مستقلة لم ترد في القرآن.
وبذلك يتضح أن السنة كانت موجودة في حياته - صلى الله عليه وسلم - وكانت متداولة بين الناس والعمل جار عليها في كل شئون الحياة[35].
أما زعمهم أن السنة جمعت بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرون فهذا إن سلمنا به جدلا وهو غير صحيح[36] لا يقوم حجة على نفي وجود السنة في عهده صلى الله عليه وسلم، بل هو دليل على وجودها محفوظة في الصدور؛ لأنهم يقيمونها ويطبقونها على أنفسهم ويتدارسونها ليل نهار، إضافة إلى أن العرب كانوا أمة أمية، من يجهل الكتابة فيهم أضعاف أضعاف من يعلمها، ومن ثم قوت عندهم ملكة الحفظ، وتوقدت قرائحهم، واشتدت قواهم التذكرية نظرا لتعويلهم على هذه الوسيلة دون غيرها.
ومعلوم عقلا أن صيانة الحجة تحصل بعدالة حاملها، ومدى قدرته على المحافظة عليها، وصيانتها من التبديل والخطأ.
ومعلوم أيضا أن التحمل يكون إما عن طريق حفظ اللفظ، أو كتابته، أو الفهم لمعناه فهما دقيقا مع التعبير عن ذلك المعنى بلفظ واضح الدلالة عليه، دون لبس ولا إبهام.
وأي نوع من هذه الأنواع الثلاثة يكفي في الصيانة، ما دامت صفة العدالة متحققة، وإذا انتفت العدالة انتفت الصيانة، ومن ثم فالكتابة ليست من لوازم الحجية - إذ كان المهم في المحافظة على حجية السنة عدالة الحامل لها - على أي وجه كان حملها - كما سلف.
وكانت وسيلة الحفظ عند العرب أقوى؛ لأن جهلهم بالكتابة، جعلهم يتكئون على الحفظ، عكس الأمم المتمرنة على الكتابة المتعلمة لها, فتضعف فيهم ملكة الحفظ، ويكثر عندهم الخطأ والنسيان لما حفظوه.
وهذه الحال مشاهدة فيما بيننا، فإنا نجد الأعمى أقوى حفظا لما يسمعه من البصير؛ لأنه جعل كل اعتماده على ملكة الحفظ، بخلاف البصير فإنه يعتمد على الكتاب، وأنه سينظر فيه عند الحاجة.
فإذا كان هذا حال العرب في جاهليتهم، فما بالك بحال الصحابة الذين قيضهم الله لحفظ الشرع وصيانته، وحمله وتبليغه لمن بعدهم، وما كانوا عليه من الحفظ، والتثبت والتيقظ لكل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم.