ادعاء أن سياسته - صلى الله عليه وسلم - كانت وحشية عدوانية (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن سياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت مبنية على العدوانية والوحشية؛ ذاك أنه كان يسعى لتأسيس مملكة كبرى له في الجزيرة العربية؛ مستدلين على ذلك بما توهموه عدوانا حين قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - مملكة غسان، زاعمين أنه - صلى الله عليه وسلم - سلبها ونهبها وضمها إلى دولته. ويرمون من وراء ذلك إلى وصم سياسته - صلى الله عليه وسلم - بالعدوانية والوحشية؛ طعنا في كيفيتها، وتشكيكا في بواعثها.
وجها إبطال الشبهة:
1) كانت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - حياة بسيطة بعيدة عن الترف والنعيم وزخرف الدنيا، حتى إن نساءه اشتكين من ضيق العيش وطلبن النفقة، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - كان مثلا رائعا في الرحمة والرأفة بالناس، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء)، فكيف يكون ملكا عدوانيا وهذه حاله؟!
2) لم يكن ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الغساسنة وعرب الشام إلا ردا على اعتداءاتهم المستمرة من قتل من يدخل الإسلام، وقطع طرق التجارة عن المدينة، ونهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - الدعاة إلى الإسلام - وسلبهم وقتلهم، وأخيرا قتل سفير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه إلى حاكمهم يدعوه وإياهم إلى الإسلام.
التفصيل:
أولا. كانت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - حياة بسيطة بعيدة عن الترف، ثم إنه كان مثالا رائعا في الرحمة والرأفة بالناس:
عاش النبي - صلى الله عليه وسلم - حياته متواضعا لله - سبحانه وتعالى - أشد ما يكون التواضع؛ فقد «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينام على الحصير حتى يرى أثره في جنبه الشريف، فإذا قيل له: ألا نبسط تحتك ألين منه؟ يقول: ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة، ثم راح وتركها» [1].
تقول السيدة عائشة - رضي الله عنها -: «ما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط عشاء الغداء، ولا غداء العشاء، ولا اتخذ من شيء زوجين ولا قميصين، ولا رداءين ولا إزارين ولا من النعال، وكان يمر به الشهر والشهران وما يوقد في بيته نار، إنما هو التمر والماء». وجاءته فاطمة - رضي الله عنها - بكسرة خبز فقال: «ما هذه يا فاطمة؟ قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى آتيك بهذه الكسرة، فقال: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام»[2].
أهذه تكون حال ملك في بيته؟! إننا نرى ونعلم كيف تكون حياة الملوك والأمراء من الترف والنعيم، ولكن هذه حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف يكون ملكا وهذه حاله، فعلى الرغم من أنه دانت له الجزيرة العربية بخيراتها، إلا أنه آثر أن يكون عبدا نبيا، لا ملكا نبيا.
ولما رأت نساؤه ما فتح الله عليه من الخير، ولم يكن لهن نصيب من ذلك، ونساء النبي - صلى الله عليه وسلم - من البشر فطلبن النفقة، وتألم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك حتى احتجب عن أصحابه، فقد جاء عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: «فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا، فقال: لأقولن شيئا أضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة - يقصد زوجته - سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "هن حولي كما ترى يسألنني النفقة"، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده؟! فقلن: والله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا أبدا ليس عنده»[3] [4].
فهل بعد هذا يكون النبي ملكا؟! أنساء الملوك يطلبن نفقة، وإنك لترى ما يكون فيه نساء الملوك من ترف ونعيم وإسراف في الشهوات والملذات، وإذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقوم بعمليات السلب والنهب كما يزعمون، فلماذا لم يظهر أثر هذا في حياته؟!
أما عن رحمته - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءت مطابقة لقوله سبحانه وتعالى: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء)، فهو - صلى الله عليه وسلم - رسول الرحمة الذي أرسله الله - سبحانه وتعالى - رحمة لجميع العالمين: رحمة للمؤمنين ورحمة للكافرين ورحمة للمنافقين، ورحمة لجميع بني الإنسان من الرجال والنساء والصبيان، ورحمة للطير والحيوان، فهو رحمة عامة لجميع خلق الله عز وجل.
ومن رحمته - صلى الله عليه وسلم - «أنه عندما كذبه قومه أتاه جبريل - عليه السلام - فقال له: إن الله - عز وجل - قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين"؟![5] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا» [6] [7].
فالرحمة والعفو كانا من شمائل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - التي كان يتحلى بها، فعندما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة أبى كل من: عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، ومن جمعوا من الناس إلا قتالا فهزموا وفروا، ثم استأمنوا فأمنوا، بل عفي عنهم، بل أعطوا من غنائم هوازن تأليفا لقلوبهم[8].
وأمثلة عفو النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة لا تحصى، ومن أظهرها وأتمها عفوه التام عن قريش يوم فتح مكة، فهل بعد كل هذا يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ملكا عدوانيا؟ إن أخلاق النبي وسماحته وعفوه ورحمته لتدل على صدق نبوته وبعده الشديد عن أخلاق الملوك والرؤساء، وقد أخبرنا القرآن الكريم عن حياة الملوك، فقال تعالى: )قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون (34)( (النمل)، وهذا عكس ما كان يحدث عندما كان يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتحا ومنتصرا في أي غزوة، والتاريخ يشهد بذلك.
وجدير بالذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يوما طالبا للسلطة أو الملك والزعامة، ولقد عرض عليه كفار قريش الملك والمال فأبى إلا أن يتم دين الله، ولما فتح البلاد ودخل الناس في دين الله أفواجا ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه تعامل معاملة الملوك، وجدير بالذكر أيضا أنه لم يكن يوما طالبا للترف والتلذذ بالدنيا وشهواتها، ولو أراد ذلك لفعل ذلك بعد زواجه بخديجة - رضي الله عنها - وقد كانت من أثرياء مكة، ولم تكن لتمنع عنه شيئا أبدا، ثم دانت له البلاد، وأصبح بعض المسلمين أثرياء، فما وجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل فعل المترفين المرفهين.
ثانيا. لم يكن ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الغساسنة وعرب الشام، إلا ردا على اعتداءاتهم المستمرة:
عندما بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - حركة الدعوة الإسلامية خارج الحدود، أرسل رسله إلى كبار ملوك ذلك الزمان ورؤسائه، فأرسل الصحابي شجاع بن وهب من بني أسد إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وكان هذا الثاني ملكا على جنوب الشام، وهي إمارة الغساسنة الذين كانوا ملوكا بالاسم؛ لأن الحكم الحقيقي والأمر والنهي كان لقيصر الروم، الذي كان يعد الغساسنة بمنزلة حاجز بينه وبين عرب الجزيرة، الذين كانوا يغيرون على أطراف دولة الروم بين الحين والحين (كان هذا من العرب الجاهليين قبل الإسلام).
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعرف من أمر الغساسنة أنهم على النصرانية، وأنهم ذوو قوة ومال، ويكرهون الإسلام، ويتضح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان على دراية بخشونة الملك الغساني، فكان كتابه له في حسم قاطع، ونص الكتاب: "سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدق، فإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك".
إنه كتاب اقتصر على الحسم والقطع والتهديد المباشر، فلما دفعه إليه الصحابي، قرأه ثم رمى به، وقال: من ينزع عني ملكي؟! وأنا سائر إليه، وكتب إلى قيصر يخبره بالخبر، فكتب إليه قيصر: لا تسر إليه، واله عنه.[9] إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد انتزاع ملكه؛ وإنما أراد هدايته ومن معه للإسلام فحسب.
لقد أشعل عرب الشام فتيل الصراع بين المسلمين والبيزنطيين، فقد دأبت قبيلة كلب - من قضاعة التي كانت تنزل على دومة الجندل - على مضايقة المسلمين، وحاولت أن تفرض عليهم نوعا من الحصار الاقتصادي عن طريق إيذائها للتجار الذين كانوا يحملون السلع الضرورية من الشام إلى المدينة؛ ولذلك غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبيلة كلب بدومة الجندل سنة (5 هـ)، ولكنه وجدهم قد تفرقوا، كما أن رجالا من جذام ولـخم قطعوا الطريق على دحية بن خليفة الكلبي عند مروره بحسمى[10] بعد إنجازه لمهمة أناطها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستلبوا كل ما معه، فكانت سرية زيد بن حارثة إلى حسمى في سنة (6 هـ)، ويضاف إلى ذلك ما قامت به قبيلتا مذحج وقضاعة من اعتداء على زيد بن حارثة وصحبه في العام المذكور (6 هـ)، وذلك عندما ذهبوا إلى وادي القرى في بعثة بغرض الدعوة إلى الله.
وبعد صلح الحديبية أخذ هذا المسلك العدواني يأخذ منحى أكثر خطورة، بعد مقتل الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حاكم بصرى التابع لحكم الروم، فقد قام شرحبيل بن عمرو الغساني بضرب عنق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تجر العادة بقتل الرسل والسفراء، كما أن الحارث بن أبي شمر الغساني حاكم دمشق أساء استقبال مبعوث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدد بإعلان الحرب على المدينة، ثم حدث أن بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية بقيادة عمرو بن كعب الغفاري يدعو إلى الإسلام في مكان يقال له "ذات أطلاح"، فلم يستجب أهل المنطقة إلى الإسلام، وأحاطوا بالدعاة من كل مكان، وقاتلوهم حتى قتلوهم جميعا إلا أميرهم كان جريحا فتحامل على جرحه حتى وصل إلى المدينة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قام نصارى الشام بزعامة الإمبراطورية الرومانية بالاعتداءات على من يعتنق الإسلام أو يفكر في ذلك، فقد قتلوا والي معان حين أسلم، كما قتل والي الشام من أسلم من عرب الشام.
كانت هذه الأحداث المؤلمة - وبخاصة مقتل سفير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحارث بن عمير الأزدي - محركة لنفوس المسلمين، وباعثة لهم ليضعوا حدا لهذه التصرفات النصرانية العدوانية، ويثأروا لإخوانهم في العقيدة الذين سفكت دماؤهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ونبينا محمد رسول الله، كما أن تأديب عرب الشام التابعين للدولة الرومانية، والذين دأبوا على استفزاز المسلمين وتحديهم، وارتكاب الجرائم ضد دعاتهم أصبح هدفا مهما؛ لأن تحقيق هذا الهدف معناه فرض هيبة الدولة الإسلامية في تلك المناطق، بحيث لا تتكرر مثل هذه الجرائم في المستقبل، وبحيث يأمن الدعاة المسلمون على أنفسهم، ويأمن التجار المترددون بين الشام والمدينة من كل أذى يحول دون وصول السلع الضرورية إلى المدينة.
وفي سنة (8 هـ) أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالتجهز للقتال فاستجابوا للأمر النبوي، وحشدوا حشودا لم يحشدوها من قبل، وبلغ عدد المقاتلين في هذه السرية ثلاثة آلاف مقاتل، واختار النبي - صلى الله عليه وسلم - للقيادة ثلاثة أمراء على التوالي: زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة، فقد روى البخاري في صحيحه بإسناده من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - قال: «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة» [11].
وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجيش الإسلامي أن يأتي المكان الذي قتل فيه الحارث بن عمير الأزدي، وأن يدعو من كان هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا فبها ونعمت، وإن أبوا فليستعينوا بالله عليهم ليقاتلوهم، وقد زود الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجيش في هذه السرية وغيرها من السرايا بوصايا تتضمن آداب القتال في الإسلام، فقد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بقوله: "أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا، اغزوا باسم الله في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تقتلوا وليدا، ولا امرأة ولا كبيرا فانيا، ولا منعزلا بصومعة، ولا تقربوا نخلا، ولا تقطعوا شجرا، ولا تهدموا بناء، وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى إحدى ثلاث: فإما الإسلام، وإما الجزية، وإما الحرب" [12].
وانتهت هذه الغزوة بنجاة الجيش الإسلامي من أن يقع فريسة لجيش الكفر المتكاثف، وحسب ذلك نصرا مبينا، وقال بعض كتاب السيرة: إن النتيجة كانت السلامة ولم تكن نصرا.
فغزوة مؤتة أول غزوة تخرج عن دائرة الجزيرة العربية إلى دائرة أراض تحت سلطان الرومان.
ولا تهمنا حوادث المعركة، بل يهمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رفع سيفا في وجه الغساسنة وأسيادهم الروم، إلا بعد قتل رسوله إليهم، واستعداد الحارث للسير إلى المدينة لحرب الإسلام في عاصمة الإسلام، فكانت سرية مؤتة، ولا ريب أن قتل الرسل كان مخالفا للعرف الدولي آنذاك وهو انتهاك له؛ لأن الرسل لا تقتل مهما عملت ومهما تكلمت[13].
وبعدما انتهت المعركة نهائيا أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا يترك هؤلاء الأعراب من غير تأديب، وكما قال الله سبحانه وتعالى: )الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم (97)( (التوبة)، فكان لا بد أن يمنعهم من أن يسترسلوا في الشر فأرسل عمرو بن العاص يستنفر العرب ليستميلهم إليه بذرابة لسانه...
ولكن لم يفلح في استمالة أحد، وأرسل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليبعث إليه الرجال وبقي ينتظر المدد، عندئذ بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشا من المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر، والقائد أبو عبيدة عامر بن الجراح.
وأخذ الجيش الإسلامي يطارد القبائل التي ظاهرت الروم، فتوغل الجيش الإسلامي، وكلما انتهى إلى قبيلة ولت الأدبار، ولم يصطدم إلا مرة واحدة، وانتهت بفرارهم، وبذلك كان تأديب هذه القبائل الأعرابية، وبدت كلمة الإسلام عالية كما هي، وسميت بـ "سرية ذات السلاسل" [14].
مما سبق يتضح لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يوما منتقما من الغساسنة أو متبنيا سياسة الهجوم عليهم؛ وكل ما فعله أنه رد على اعتداءاتهم المتتالية وأفعالهم الإجرامية التي اتخذوها ضد من أسلم من عرب الشام، فكان لا بد من تأديب هؤلاء الأعراب لتأمين خط التجارة بين الشام والمدينة، أفيسمى ذلك اعتداء وعدوانا؟
الخلاصة:
· كانت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيدة كل البعد عن حياة الملوك؛ إذ كان يعيش عيشة بسيطة خالية من الترف والنعيم وزخرف الدنيا، وكان يقول: «مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ثم راح وتركها» [15]، حتى إن نساءه طلبن منه النفقة لما لم يجدن عنده شيئا.
· كانت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلا للرحمة والعفو عند المقدرة، وهذا يظهر واضحا جليا في موقفه من أهل مكة يوم فتحها، وعفوه عنهم.
· لم ينتقم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغساسنة وغيرهم من عرب الشمال، وإنما قام برد اعتداءاتهم المتكررة حينما استفحل خطرهم وأخذوا يهددون الدولة الإسلامية من جهة الشمال، ويقطعون حركة التجارة بين المدينة والشام، واستعملوا بعض أساليب النهب والسلب وقطع الطريق على الدعاة الذين يبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأخيرا كان من حاكمهم الحارث بن أبي شمر الغساني أن قتل رسول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه إليه يدعوه وقومه للإسلام، ولما لم يجد النبيـ صلى الله عليه وسلم - ـ صلى الله عليه وسلم - بدا من قتالهم بعث لهم سرية مؤتة، ثم سرية ذات السلاسل بقيادة عمرو بن العاص وأبي عبيدة بن الجراح، فكانوا كلما اقتربوا من قبيلة وجدوهم قد هربوا حتى أتم الله لهم النصر، ودانت لهم هذه القبائل.
(*)