الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب ود النصارى حين استشعر قوتهم بعد غزوة مؤتة(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغالطين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدل سياسته مع النصارى، وتودد لهم بعد استشعاره مدى قوتهم بعد غزوة مؤتة؛ ذاهبين إلى أن في قوله سبحانه وتعالى: )لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82)( (المائدة)؛ ما يبرهن على صحة ما ذهبوا إليه. ويرمون من وراء ذلك إلى اتهامه - صلى الله عليه وسلم - بتلوين سياسته حسب ظروفه العسكرية.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لم يذكر التاريخ يوما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - داهن النصارى، أو غيرهم من أهل الكتاب، ولكنه بلغ وحي ربه كما أمره عز وجل: )بالحكمة والموعظة الحسنة( (النحل: ١٢٥).
2) من الثابت تاريخيا أن المسلمين قد حققوا أهدافهم من غزوة مؤتة، بعكس النصارى؛ مما كان له الأثر الفعال في قلوب المسلمين ونفوسهم.
3) ليس في الآية الكريمة التي استندوا إليها ما يثبت ما زعموه من تودد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد من النصارى، ولكنها وحي من الله - عز وجل - ليعرف بها النبي - صلى الله عليه وسلم - المجتمع من حوله، كما أنها نزلت قبل غزوة مؤتة.
التفصيل:
أولا. لم يمالئ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما أحدا من النصارى، أو غيرهم من أهل الكتاب:
مما لا شك فيه أن الإسلام قد احترم حق الآخر في الحياة والعقيدة، وحفظ له كرامته وإنسانيته، وقد أنزل أهل الكتاب منزلة خاصة لم ينزلهم مثلها أي دين أو عقيدة، أو حتى تشريع وضعي عند تعامله مع الآخر... إن الإسلام يأمر معتنقيه بالإيمان بكتب اليهود والنصارى ورسلهم، وأن يقولوا سمعا وطاعة لهذا الأمر الإلهي، حتى وإن بدا من أهل الكتاب ما يجعل حالة الود التي يأمر بها الإسلام معهم أمرا صعب المنال، قال سبحانه وتعالى: )ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير (109)( (البقرة).
وعلى الرغم من أن الإسلام يختلف عن اليهودية والنصرانية، إلا أن الحق - سبحانه وتعالى - أمر المسلمين بمناقشة أهل الكتاب بالحسنى، قال سبحانه وتعالى: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46)( (العنكبوت)؛[1] وذلك لأن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جاءت رحمة للعالمين، يقول الله سبحانه وتعالى: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء)، وهذا الخطاب الإلهي يوضح لنا بدقة خصوصية النظرة الإسلامية للآخر، فالإسلام بوصفه الدين الخاتم المكمل للرسالات السابقة له، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بوصفه آخر الأنبياء والرسل، يتعاملان مع الإنسان بوصفه إنسانا يرجى إسلامه؛ لذلك لا يقطع الإسلام أو النبي - صلى الله عليه وسلم - كل الخيوط مع أهل الكتاب بصفة خاصة، وأصحاب الديانات العديدة بصفة عامة، بل على العكس، يمد الجسور لهذا الآخر حتى يصل في النهاية للطريق الحق، قال سبحانه وتعالى: )الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين (1) ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين (2)( (الحجر) [2].
ولهذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس حرصا على هداية الناس إلى الإسلام وإنقاذهم من الضلال، ليس طمعا في زعامة أو رئاسة، ولكن تلبية لأوامر ربه في التبليغ، وحرصا منه - صلى الله عليه وسلم - على هداية الناس[3].
وهناك من يرى أن موقف الإسلام ورسوله - صلى الله عليه وسلم - المتسامح من اليهودية والنصرانية استهدف تحييدهما، وعدم إثارة الخصومة والعداء مع أصحابهما، وهو موقف يحمل معنى الإنصاف لهما والاعتراف بدورهما، ورغم حالة العداء التي قوبل بها الإسلام من يهود المدينة والمحيطين بها، ومن جيوش الروم المسيحية، ومن والاهم من نصارى الشام، إلا أن الإسلام لم يغير نظرته لأهل الكتاب، بل طالب بالاتفاق معهم على مجموعة من العقائد والأخلاقيات التي تضمن الحد الأدنى من الود والتفاهم، قال سبحانه وتعالى: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران) [4].
وكانت أخلاقيات النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك من بداية الدعوة إلى نهايتها، ولم يكن في يوم من الأيام بغير هذه السماحة والأخلاقيات، ولذلك خاطبه ربه - عز وجل - قائلا: )فذكر إنما أنت مذكر (21) لست عليهم بمصيطر (22) إلا من تولى وكفر (23) فيعذبه الله العذاب الأكبر (24) إن إلينا إيابهم (25) ثم إن علينا حسابهم (26)( (الغاشية). ويقول سبحانه وتعالى: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل: ١٢٥).
وتحدد هذه الآيات الكريمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - أسلوب الدعوة إلى الله عز وجل، وهي دعوة تتسم باللين والرفق والمناقشة التي لا تحقر من شأن الآخر.
وإذا كان الخطاب في الآيات الكريمة موجها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو يسري ويجب على المسلمين عامة، فالمسلم عليه حق الدعوة إلى الله، وأن يبلغ رسالة التوحيد إلى الآخر، دون أن يجبره على الإيمان، أو أن يخاطبه بأسلوب غير لائق، فليس للمسلم حق محاسبة الآخر على معتقداته، فهذا حق الله وحده على عباده، حتى الرسول الكريم، أحب خلق الله إلى الله ليس له حق محاسبة الآخر على معتقداته، ولذلك قال سبحانه وتعالى: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن( (العنكبوت: ٤٦)، فأمره - سبحانه وتعالى - بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون - عليهما السلام - حين بعثهما إلى فرعون[5].
وعلى هذا فلم يذكر التاريخ بوقائعه وأحداثه يوما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مالأ النصارى وغيرهم أو داهنهم حينما استشعر قوتهم وبأسهم، ولكنه - سبحانه وتعالى - بلغ وحي ربه - عز وجل - إلى الناس كافة، وأهل الكتاب بطبيعة الحال من بينهم، وقد كان نهجه - صلى الله عليه وسلم - الدعوة بالحسنى، وقد عرض عليهم جميعا الإسلام في غير استجداء أو تزلف[6] مصطنع، وانظر إلى رسالته إلى هرقل عظيم الروم، أو إلى المقوقس كبير القبط في مصر تجد دليلا قاطعا على صحة ما نقرره.
ثانيا. من الثابت تاريخيا أن المسلمين قد حققوا أهدافهم من غزوة مؤتة، بعكس النصارى:
تعد غزوة مؤتة أول لقاء حربي بين المسلمين والنصارى، وسببها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد بعث إلى ملك بصرى الحارث بن عمير الأزدي أحد بني لهب بكتابه، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني - النصراني - فأوثقه رباطا ثم قدمه فضرب عنقه، ولم يقتل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول غيره، فاشتد ذلك عليه حين بلغه الخبر فبعث البعوث[7].
ولقد قاتل الجيش المسلم قتال الأبطال، وهو ثلاثة آلاف مقاتل أمام مائتي ألف نصراني عربي ورومي، وثبت ثبات الجبال الرواسي، وفوت على العدو تحقيق أهدافه، وعاد بعد قتال سبعة أيام إلى المدينة، بعد أن أعاد خالد بن الوليد تعبئة الجيش، ومع هذا فإن شعب المدينة، وقف يقول لهذا الجيش المنتصر: يا فرار، فررتم في سبيل الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم - الذي ربى الناس على الحرية في الرأي - وضح لهم أنهم ليسوا بالفرار، بل هم الكرار.
ويلوح لنا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يهدف من إرسال الجيش إلى مؤتة تأديب المعتدين على سفيره وعلى المسلمين والثأر منهم، وإقامة الحجة على الأعداء بدعوتهم إلى الإسلام، وجس نبض أعدائه، وكان يهدف إلى معرفة قوتهم ومدى رد فعلهم تجاه إعلان المسلمين الحرب عليهم، ومهاجمتهم في عقر دارهم ومستوى الروح المعنوية عندهم، وإرهاب العدو، والحفاظ على هيبة الدولة.
وأما أهداف النصارى فيمكن إدراكها بسهولة، وتلخيصها في الدفاع عن أنفسهم، والقضاء على الجيش الإسلامي المهاجم، وإضعاف الروح المعنوية في القتال عند المسلمين من خلال سحق الجيش الإسلامي، بهذا الحشد الذي بلغ سبعين ضعفا لأعداد المسلمين وعدتهم.
فماذا كانت النتيجة؟
لقد حقق الجيش الإسلامي أهدافه في هذه المعركة، فبلغ الرسالة وأدب المعتدين على سفير المسلمين، وحافظ على هيبة الدولة الإسلامية، وتجلت قوة الروح المعنوية العالية عند المسلمين في القتال، وضعف الروح المعنوية عند النصارى على كثرتهم في العدد والسلاح.
وفي الوقت ذاته لم تتحقق أهداف الجيش المعادي من سحق الجيش الإسلامي القليل - وقد حشدوا عشرات أضعافه - وإضعاف الروح المعنوية في القتال عنده، بل ظهرت لهم قوتها في الثبات والإصرار على قتلهم، فقد كان عدد الذين استشهدوا من المسلمين اثني عشر شهيدا، في حين أن المسلمين قد قتلوا من النصارى العرب والروم أضعاف ذلك، يدلك على هذا ما جاء عن خالد بن الوليد أنه قال: «لقد تقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صحيفة يمانية»[8].
فكم كسرت هذه الأسياف من الأعناق قبل أن تتكسر، وكل واحد من الجيش الإسلامي قد قاتل واستبسل في القتال، ولم يول واحد منهم الأدبار أثناء القتال.
قال ابن كثير يعقب على الحديث: وهذا يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلا. ولقد استطاع قطبة بن قتادة العذري قائد الميمنة في الجيش الإسلامي أن يصرع أمير النصارى العربي مالك بن زافلة.
وأخيرا كلمة الفصل في نتيجة المعركة كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن نتيجة المعركة كانت نصرا وفتحا على المسلمين، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم»[9].
وجاء في كتاب الجامع: ثم اتفق المسلمون على خالد بن الوليد، ففتح الله به وقتلهم، وقدم البشير بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر بذلك كله - صلى الله عليه وسلم - قبل قدومه.
ولقد كان انتصار المسلمين في هذه المعركة ذا أثر فعال على الروح القتالية عند الرومان في المعارك القادمة مع المسلمين؛ إذ تهيبوا من ملاقاة المسلمين في تبوك، وقد جاءوا يغزونهم في عقر دارهم، وفي معركة اليرموك لم تصمد الكثرة الكافرة من النصارى أمام القلة المؤمنة فولت الأدبار، وسقط الجنود المربوطون بالسلاسل في النهر، فقد كانت معنوياتهم في القتال منهارة[10].
وعلى هذا فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغير لهجته لكانت لهجة الشدة؛ لأنه المنتصر، ولأن جيشه قد حقق أهدافه من المعركة، ولأن الروح المعنوية لدى مقاتلي النصارى قد انهارت، بدليل ما حدث بعد ذلك في الحروب التي دارت بينهم وبين المسلمين.
ولقد أكد هذه الحقيقة الشيخ صفي الرحمن المباركفوري قائلا عن هذه المعركة ونتائجها: "لقد كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، إنها ألقت العرب كلها في الدهشة والحيرة، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن معنى جلادها[11] هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظلف،[12] فكان لقاء هذا الجيش الصغير - ثلاثة آلاف مقاتل - مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير - مائتا ألف مقاتل - ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر، كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند الله، وأن صاحبهم رسول الله حقا؛ ولذلك نرى القبائل اللدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سليم، وأشجع، وغطفان، وذبيان، وفزارة وغيرها.
وكانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان، فكانت توطئة وتمهيدا لفتوح البلدان الرومانية، وانتشار الإسلام في الأراضي البعيدة النائية" [13].
ثالثا. ليس في آية المائدة ما يثبت ما زعموه من تودد، فضلا عن كونها نزلت قبل غزوة مؤتة:
في قول الحق سبحانه وتعالى: )لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82)( (المائدة) يقسم الحق - عز وجل - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن واقع الحياة مع فرقتين كاليهود والنصارى سيتجلى واضحا، على الرغم من أن كل جانب منهما مخالف لرسول الله في ناحية، فمواجيد هؤلاء الناس وأهواؤهم مختلفة، ولكنهم اتفقوا جميعا في الهدف.
فاليهود أشد عداوة؛ لأنهم أخذوا سلطة زمانية جعلتهم السادة في المنطقة، أما النصارى فلم تكن لهم سيادة ولا سلطة زمانية، وكانوا عاكفين في صوامعهم وبيعهم يعبدون الله، والجانب الذي ليس له سلطة زمانية لا يعادي من جاء ليسحب من أهل الجور سلطتهم الزمانية، ويقيم العدل بين الناس[14].
ولذلك يقول الحق عز وجل: )ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون( وهذه الآية كما يذكر القرطبي في تفسيره: "نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى خوفا من المشركين وفتنتهم، وكانوا ذوي عدد، ثم هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد ذلك، فلم يقدروا على الوصول إليه، حالت بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحرب فلما كانت وقعة بدر، وقتل صناديد الكفر، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة، فأهدوا إلى النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة بهدايا، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم، فقاموا تفيض أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله فيهم: )ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى( " [15].
ومن هنا يتبين لنا بطلان ما زعموه؛ وذلك لأنهم فسروا الآية تفسيرا يوافق هواهم، زاعمين أنها دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ يتودد إلى النصارى ويداهنهم بعد غزوة مؤتة، غافلين - أو متغافلين - أنها نزلت قبل هذه الغزوة، ضاربين بأقوال المفسرين في تفسير هذه الآية عرض الحائط.
الخلاصة:
· النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يداهن أو يمالئ النصارى أو غيرهم من أهل الكتاب، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان رحمة مهداة للعالمين، وعلى هذا الأساس كان يعامل كل البشر - سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين - انطلاقا من قول الله سبحانه وتعالى: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107» (الأنبياء)، ولم تكن تلك الرحمة أبدا تقربا لأحد، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبلغ وحي ربه كما أمره - عز وجل - فهو القائل عز وجل: )( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل:١٢٥)، )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن( (العنكبوت: ٤٦).
· المتأمل في غزوة مؤتة ونتائجها يدرك مدى عظمة الجيش الإسلامي وانتصاره في هذه الغزوة على الرغم من قلته عددا وعدة عن جيش النصارى، فقد حقق أهدافه من هذه المعركة؛ فبلغ الرسالة، وأدب المعتدين على سفير المسلمين، وحافظ على هيبة الدولة الإسلامية، وتجلت قوة الروح المعنوية العالية عند المسلمين في القتال، وتجلى ضعف الروح المعنوية عند النصارى على كثرتهم في العدد والسلاح، وفي الوقت نفسه لم تتحقق أهداف الجيش المعادي من سحق الجيش الإسلامي القليل، مما أضعف الروح المعنوية للمقاتلين النصارى، وظهر هذا جليا في معاركهم بعد ذلك مع المسلمين، ولذلك انكسروا وانهزموا، وضاع ملكهم على يد المسلمين.
· قول الحق سبحانه وتعالى: )لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى( ليس فيه ما يثبت ما يزعمونه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تودد إلى النصارى بعد غزوة مؤتة، ولكن فيها تعليما للنبي - صلى الله عليه وسلم - من ربه حتى يعرفه المجتمع من حوله، كما أن هذه الآية نزلت في النجاشي والقسيسين من حوله لـما سمعوا كلام الله - عز وجل - من جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - في هجرة الحبشة، فأنزل الله - عز وجل - في حقه ومن معه هذه الآية. ولعل من المفارقات العجيبة أن هذه الآية نزلت قبل غزوة مؤتة، فكيف يستندون إليها في اتهامهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه غير خطابه بها مع النصارى بعد هذه الغزوة؟!!
(*)