اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم الحرص على الجهاد (*)
مضمون الشبهة:
يتهم بعض المشككين النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم الحرص على الجهاد؛ مستدلين على ذلك بما يزعمونه من أنه - صلى الله عليه وسلم - توقف عنه - على الرغم من ضرورته - بعد غزوة أحد، بسبب ما أصابه - صلى الله عليه وسلم - من جروح في هذه الغزوة، فلم يخرج للجهاد إلا بعد ستة أشهر لما شفي من جروحه، حينما خرج لحرب بني النضير الذين أعانوا قريشا على المسلمين، وتآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم. ويرمون من وراء ذلك إلى وصمه - صلى الله عليه وسلم - بعدم الحرص على الجهاد، خوفا من القتل.
وجها إبطال الشبهة:
1) لم يفر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أرض المعركة يوم أحد، على الرغم مما أصابه هو وصحابته من جراح، بل ثبت في وجه المشركين الذين تتابعوا عليه ليقتلوه. فلو لم يكن - صلى الله عليه وسلم - حريصا على الجهاد لفر في هذه المعركة، ولا سيما بعد أن كثرت جراحه.
2) خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة يوم أحد إلى حمراء الأسد لقتال المشركين، لكن المشركين آثروا الرجوع إلى مكة وتركوا القتال.
التفصيل:
أولا. ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من جروح يوم أحد لم يمنعه وأصحابه من مواصلة القتال حتى انسحب المشركون من أرض المعركة:
إن من الثابت في كتب السير والتاريخ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في يوم من الأيام متخاذلا عن الجهاد في سبيل الله ونصرة دينه، فكثيرة تلك المحن والمصائب التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أيا من هذه المحن لم يثنه - صلى الله عليه وسلم - عن المضي في سبيله ونصرة الحق.
والمتأمل فيما أصابه - صلى الله عليه وسلم - وفيما أصاب أصحابه - رضي الله عنهم - ليعجب أشد العجب من صبره - صلى الله عليه وسلم - وصبر أصحابه، ذلك الصبر الذي لا يمكن لبشر أن يتحمله، سواء الصبر على الجروح أم القتال أم مقتل الإخوان.
لقد انكشف المسلمون يوم أحد فأصاب فيهم العدو، وكان يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله - عز وجل - من أكرم من المسلمين بالشهادة، حتى خلص العدو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجارة حتى وقع؛ فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت[1] شفته.
وهكذا وصل جيش المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت حلقتان من حلق المغفر[2] في وجنته الطاهرة، ووقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حفرة من الحفر، وكان أبو عمار الدوسي قد حفرها ليتردى فيها المسلمون عند هجومهم، فأخذ علي بن أبي طالب بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، وأخذ الصحابة يزيلون أثر الجروح عن وجهه صلى الله عليه وسلم [3].
وعالج أبو عبيدة بن الجراح إخراج حلقتي المغفر من وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكره تناولها بيده حتى لا يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم، فأزم[4] على إحدى الحلقتين بفمه فاستخرجها، وقد سقطت ثنيته معها، ثم أزم على الأخرى فاستخرجها فوقعت الثنية الأخرى، فكان أبو عبيدة لذلك من أحسن الناس هتما،[5] ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ازدرده[6].
وقد جاء عن سهل بن سعد عندما سئل عن جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فقال: «جرح وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تغسل الدم، وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن،[7] فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا، ثم ألصقته بالجرح، فاستمسك الدم»[8].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول وقد أصابته الجراح والدم يسيل على وجهه يوم أحد:«كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله»[9] [10].
ثبات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يوم أحد:
على الرغم مما نزل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من جراح يوم أحد، إلا أنه قد ثبت كالجبل الأشم، يدافع ويجالد جموع المشركين المحيطين به من كل ناحية، وهو يقول: "إلي عباد الله، إلي عباد الله"، ففاء إليه الكثيرون ممن أذهلتهم شائعة أنه قتل فقعدوا عن القتال، وممن تفرقوا يقاتلون بين الصفوف، حتى تكونت حوله ثلة[11] من أصحابه، فسار بهم يريد الصخرة التي فوق الجبل، ثم أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعلو الصخرة التي في الشعب من الجبل، فلم يستطع من كثرة ما نزف من دمه الزكي، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ: "أوجب طلحة"، وبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجماعة من المشركين فيهم خالد بن الوليد على ظهر الجبل، فقال: "لا ينبغي لهم أن يعلونا"، ثم أرسل إليهم عمر بن الخطاب في رهط من المهاجرين، فقاتلوهم حتى أهبطوهم من الجبل، وهذا يدل على أن المسلمين على الرغم مما أصابهم من جروح وهزيمة، كان بهم قوة ومنعة.
وهكذا نرى ثبات النبي - صلى الله عليه وسلم - موقفا بطوليا فذا لا يكون إلا من نبي يوحى إليه، ولولا هذا الموقف منه - صلى الله عليه وسلم - لما تجمع الأبطال حول البطل[12].
هذا وقد كان صعود جيش المسلمين إلى الجبل بعد أن أبعدهم المشركون، فيصلا بين الاضطراب في جيش المؤمنين، وبين إعادة الخطة والسير على المنهاج من غير اضطراب، وحمل اللواء علي؛ ولذا أخذوا يضربون بشكل أقوى في المشركين بقيادة خالد بن الوليد، وينتصفون منهم، وقد زال عنهم وعث الجروح، وانتظم جيش النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك أنهى المشركون القتال وشيكا، ولم يستمروا خشية أن تدور عليهم الدائرة، كما ابتدأ المسلمون يحسونهم[13] بإذن الله سبحانه وتعالى.
فلم يتوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه إذن عن القتال يوم أحد، على الرغم مما أصابه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من جراح في ذلك اليوم، وإنما أنهى أبو سفيان زعيم المشركين الحرب فرحا، راضيا بما وصل إليه، وإن لم يحقق نصرا على المسلمين، ولكنه أدرك الثأر وكفى، والوقائع أقنعته بأن يكتفي بذلك، حتى لا يضيع من يده ما أخذه[14]، وفرح المشركون بهذا النصر المؤقت، وخشوا أن يضيع منهم، فأنهوا القتال، واكتفوا بما أصابوا مقتله من المسلمين، ورضوا بذلك لأنهم لا طاقة لهم فيما وراء ذلك، وقد رأوا السيوف الإسلامية تبرق من جديد.
ونستخلص من ذلك أن ما كان في أحد ليس هزيمة للمسلمين، وإن كان لا يسمى نصرا، وإنما يسمى جراحا للمسلمين، كما سماها القرآن الكريم: )إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس( (آل عمران: ١٤٠).
وعليه فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه المعركة، ولم يعترف بانتهائها بإنهائهم لها، بل سار وراءهم حتى فروا فرارا[15]، فكيف يزعم زاعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قد توقفوا عن القتال حتى شفي النبي - صلى الله عليه وسلم - من جراحه؟!
ثانيا. خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى حمراء الأسد:
وفي اليوم التالي لمعركة أحد طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه الخروج في طلب العدو، واشترط ألا يخرج إلا من شهد القتال بالأمس؛ أي: حضر معركة أحد، وقد استجاب المسلمون لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرجوا معه، وقد فشت فيهم الجراحات، وخرج معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مجروح في وجهه وشفته، ومشجوج في جبهته.
ولما سمع المسلمون نداء بلال: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس، قال أسيد بن حضير - وبه تسع جراحات وهو يريد أن يداويها - لما سمع النداء: سمعا وطاعة لله ورسوله، ولم يعرج على دواء جرحه، وخرج من بني سلمة أربعون جريحا، وكان بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا، وبخراش بن الصمة عشر جراحات، وبقطبة بن عامر تسع جراحات[16].
وكذلك خرج طلحة بن عبيد الله وفي صدره تسع جراحات، ووثب سائر المسلمين إلى سلاحهم، وما عرجوا على دواء جراحاتهم.
فلم يقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذن عن الجهاد حتى يشفى هو وأصحابه من الجراح، بعد ستة أشهر كما يزعمون، بل ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أروع الأمثلة في الصبر على الأذى والجراح، والتضحية من أجل نصرة الحق، وإعلاء كلمة الله.
ويحسن بنا أن نذكر ما أورده ابن إسحاق في سيرته من: أن عبد الله بن سهل، ورافع بن سهل، من بني عبد الأشهل رجعا من أحد، وبهما جراح كثيرة، وعبد الله أثقلهما من الجراح، فلما سمعا بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره به، قال أحدهما لصاحبه: والله، إن تركنا غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغبن، والله ما عندنا دابة نركبها! وما ندري كيف نصنع! قال عبد الله: انطلق بنا، قال رافع: لا، والله ما بي مشي، قال أخوه: انطلق بنا نتجار ونقصد رسول الله، فخرجا يتزاحفان فضعف رافع، فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبة، ويمشي الآخر عقبة، ولا حركة به، حتى أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند العشاء، وهم يوقدون النيران، فأتي بهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر، فقال: ما حبسكما؟ فأخبراه بعلتهما، فدعا لهما بخير[17].
هل يظن أحد من الناس أن هؤلاء بشر عاديون؟ لقد استحقوا ثناء الله تعالى عليهم: )الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (172)( (آل عمران).
وهكذا تسامى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على لوازم بشريتهم، وتناسوا إراحة أبدانهم، وما هم فيه من جراحات، وخرجوا ليرفعوا راية الجهاد، ونصرة الحق دون النظر إلى أدنى حقوق النفس، وهي الراحة بعد التعب، ومداواة الجروح والآلام.
وتقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه وهم على تلك الحال، حتى وصلوا إلى مكان يقال له: حمراء الأسد، وهو على بعد ثمانية أميال جنوبي المدينة، وأمر أصحابه أن يوقدوا النيران، فأوقد كل رجل نارا، فأوقدوا خمسمائة نار حتى رؤيت من مكان بعيد، وذهب ذكر معسكر المسلمين ونيرانهم في كل وجه، وكان ذلك مما كبت الله به عدوهم، فأقام - صلى الله عليه وسلم - بحمراء الأسد الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، وكان قصد المسلمون بهذا الخروج إعلان تحديهم لمشركي مكة، وإظهار قوتهم وعزتهم في الجزيرة العربية كلها، ولقد تحقق ما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الخروج، فلم تصب قريش من المسلمين بعد الذي أصابته في أحد[18].
وبعد هذا البيان أيحق لأحد أن يدعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تقاعد عن الجهاد لمدة ستة أشهر حتى شفي هو وأصحابه من الجراح؟! لا شك أن هذا لا يقوله إلا من يريد أن يصوغ أحداث التاريخ على هواه، ويقلب حقائقه كما يحلو له، ونحن على كل حال لا نستطيع أن نجبره على الاقتناع بالحق، ولكن كل ما في وسعنا أن نجلي الحقيقة لمن يريد أن يعرفها.
الخلاصة:
· لقد أصيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد بكثير من الجراحات، فقد شج وجهه، وكسرت رباعيته، وجرحت شفته، وكذلك فشت الجراحات في أصحابه، فقد كان بأسيد بن حضير سبع جراحات، وبالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا، وبخراش بن الصمة عشر جراحات، وبكعب بن مالك بضعة عشر جرحا، وبطلحة بن عبيد الله تسع جراحات، وكذلك اجتمعت الجراح والآلام على عامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
· وعلى الرغم مما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من جراحات إلا أن ذلك لم يوهن من عزمهم وثباتهم يوم أحد، فقد واصل القتال هو وأصحابه حتى أنهى المشركون المعركة وانسحبوا من أرضها، ورضوا بما أصابوا من المسلمين.
· لم ينتظر النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تشفى جراحه وجراح أصحابه بعد أحد، بل خرج هو وأصحابه في اليوم التالي من غزوة أحد إلى حمراء الأسد، لملاحقة جيش مكة الذي آثر الرجوع إلى مكة خوفا من أن يضيع النصر المؤقت من يده، وقد أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في حمراء الأسد يوم الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، حتى علم العرب جميعا مدى قوة المسلمين وعزتهم.
(*)