الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وظف الغنائم في تطويع أصحابه لتحقيق أهدافه (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وظف الغنائم بمهارة فائقة في تطويع أصحابه، مدعين أنه - صلى الله عليه وسلم - لما علم بمكانة الغنائم وأهميتها في قلوب صحابته؛ استغل هذا الجانب وأخذ يوزع عليهم الغنائم والأنفال والأسلاب؛ كي يكسب طاعتهم له. رامين من وراء ذلك إلى التشكيك في بواعث جهاد الصحابة من جهة، وإلى الطعن في حسن سياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة أخرى.
وجها إبطال الشبهة:
1) ظل النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو بدعوته في مكة ثلاث عشرة سنة، وقد احتمل في سبيل دعوته اضطهاد قريش غير الإنساني له - صلى الله عليه وسلم - وللصحابة، ولم يكن له - صلى الله عليه وسلم - أي غنائم أو أسلاب.
2) وزع النبي - صلى الله عليه وسلم - نصيبه من الغنائم على أناس أسلموا؛ كي يتألفهم بذلك، وأناس لم يسلموا ليحببهم في الإسلام، مثلما حدث في تقسيمه - صلى الله عليه وسلم - غنائم الطائف، وهو في هذا وذاك متبع لتعاليم السياسة الشرعية الإسلامية الحكيمة.
التفصيل:
أولا. تحمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأذى والاضطهاد في مكة قبل الغنائم والأنفال:
من الثابت تاريخيا أن فترة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة لم يكن فيها أي غنائم، وإنما كان هناك بدلا من ذلك الاضطهاد غير الإنساني المستمر الذي وصل لحد القتل، وكان هناك الحصار والإخراج من الوطن، والاستيلاء على الأموال والممتلكات والدور، فكيف استطاع محمد - صلى الله عليه وسلم - تطويع أتباعه لتحمل كل هذا؟! وأين تلك الغنائم التي يزعمون أنه كان يطوعهم بها؟ أكان يشكل عصابات سرقة تسطو على بيوت مكة ليلا، ثم تحمل إليه ما يجود الله بها عليها في كل طلعة ليوزعها على الأتباع؛ كي يروضهم ويكسب طاعتهم؟!
إنهم يقولون: إن حياة الصحابة قبل الإسلام كانت قائمة على السلب، فأدرك محمد - صلى الله عليه وسلم - أهمية الغنائم والأنفال لديهم، وهذا كذب بين، ذاك لأن الذين آمنوا به طوال الثلاث عشرة سنة المكية، إنما كانوا كلهم تقريبا من قريش، وقريش كانت قبيلة تجارية، وعليه لم يكن ثمة غزو ولا سلب في حياتها.
وعلى كل حال، فقد كان خصوم محمد - صلى الله عليه وسلم - يوزعون الأموال والغنائم على أتباعهم الذين كانت أعدادهم أضعاف أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو معلوم، فلماذا لم يفلحوا وأفلح محمد صلى الله عليه وسلم؟
إن السر يكمن في أن أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم ــ كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر، أما خصومه وأتباعهم فقد كانوا لا يرون إلا الدنيا، ولولا الإيمان لما كانت لأموال العالم كله أية ثمرة في حياة المسلمين، وبسبب هذا الإيمان كان الصحابة ينفقون من أموالهم عن سعة في الزكوات، والصدقات، وفي ميدان الجهاد؛ إرضاء لله سبحانه وتعالى، وإيثارا لما عنده على ما في أيديهم[1].
ثم إنه لما ذهب الصحابة إلى المدينة، أكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحتاج إلى التودد إليهم ليطيعوه، أم أنهم كانوا - رضوان الله عليهم - يتلقفون أمره بالتنفيذ طاعة لله الذي قال في كتابه الكريم: )من يطع الرسول فقد أطاع الله( (النساء: ٨٠)، ثم ما الغنائم التي كانوا ينتظرونها، وهم لم يخرجوا لجهاد إلا كان عددهم أقل من عدد عدوهم؟!
إن أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا في يوم طلاب مال؛ حتى يتوهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخدم الغنائم في تطويعهم، وإن كانوا كذلك فلماذا تحملوا العذاب الذي لا يطاق من مشركي مكة؟ هل لمعرفتهم أن المستقبل يحمل إليهم أموال كسرى وقيصر، أم للإيمان الذي في قلوبهم؟ هذا الإيمان الذي كان في قلوب الصحابة وهو الذي جعل رستم - قائد الفرس - يخسأ عندما عرض الذهب والكساء على المسلمين قبل القادسية.
لقد أجاب زهرة بن الحوية رستم - حينما قال له: "انصرف وقومك ولكم منا جعلا" - قائلا: "إنا لم نأتكم بطلب الدنيا، إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة". فلو أراد الفاتحون مالا دون نشر الدعوة والعقيدة، لرضوا بالمال دون دماء، ولحفظوا أرواحهم وعادوا بأموال تكفيهم بلا تعب، ولا إرهاق.
ولقد ظن ملك الصين ما ظنه رستم من قبل، ففي عام (96هـ)، أناب قتيبة بن مسلم الباهلي هبيرة بن المشمرج الكلابي لمقابلة الملك بناء على طلبه، فقال الملك لهبيرة: انصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، أو أبعث عليكم من يهلككم ويهلكه.
فقال هبيرة: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابع الزيتون؟ وكيف يكون حريصا من خلف الدنيا قادرا عليها وغزاك؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه[2].
فهل يعقل أن أمثال هؤلاء ممن يخضعون للإغراء بالمال؟! ومن الذي يغريهم؟ أهو الرسولصلى الله عليه وسلم؟!!
ثانيا. اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في تقسيمه السياسة الشرعية الإسلامية الحكيمة:
لم يكن دافع النبي - صلى الله عليه وسلم - من تقسيمه الغنائم هو رياضة أصحابه وتطويعهم، بل كان - صلى الله عليه وسلم - يأخذ نصيبه من الغنائم حسبما حدده القرآن الكريم وهو (الخمس)، ويوزع معظمه على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، مثلما حدث معه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر الكبرى "حينما أسهم لمن استشهد ببدر، فأعطى ذلك لورثتهم وهم أربعة عشر مسلما: ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - هو غاية العدل والإنصاف، وقد سبق به إلى رعاية أسر الشهداء وذويهم، وضمان عيشة كريمة لهم بعد وفاة عائليهم قبل أن يعرف العالم الحديث ذلك" [3].
ولم يقصر عطيته - صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء فحسب، بل كان يتعداهم إلى أناس لم يسلموا كي يحببهم في الإسلام من خلالها، وإلى أناس أسلموا يـتألفهم بذلك؛ لأنهم حديثو عهد بالإسلام، مثلما حدث في توزيعه - صلى الله عليه وسلم - غنائم الطائف، فأعطى من نصيبه في الغنيمة مائة من الإبل لكل من أبي سفيان، وابنيه: معاوية ويزيد، والحارث بن هشام، وحكيم بن حزام، وكان كلما أعطاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مائة استزاده حتى قال له: «يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى» [4].
وقد أثرت هذه الموعظة في نفس حكيم، فأخذ المائة وترك ما عداها، ثم قال: «والذي بعثك بالحق لا أرزأ[5] أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - يعرضان عليه العطاء فلا يأخذه».
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن بعض النفوس عبيد الإحسان فتألفهم بذلك، وهو ضرب من ضروب السياسة الشرعية الحكيمة؛ ولهذا جعل الشارع الحكيم للمؤلفة قلوبهم سهما في الزكاة، ونعما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن كثيرين ممن لم يسلموا قد أسلموا، وكثيرين ممن أسلموا ولم تشرب قلوبهم حب الإيمان قد صاروا بعد من أجلاء المسلمين، وأعظمهم نفعا للإسلام.
ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل هذا لهوى في نفسه، فحاشاه من ذلك، وإنما الأمر كما قال: «إني أعطي قوما أخاف ظلعهم[6] وجزعهم، وأكل قوما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى» [7].
ويدل على هذا ما حدث بين الأنصار والرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد توزيع الغنائم في حنين:
«لما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشا والمؤلفة قلوبهم وغيرهم من سائر العرب ولم يعط الأنصار، وجد بعض الأحداث منهم في نفسه، وقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم!! فلما نميت المقالة إلى رسول الله أرسل إليهم وجمعهم في قبة وحدهم، فلما اجتمعوا قام خطيبا فيهم فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "ما حديث بلغني عنكم"؟ فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله... ثم قال: "يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم"؟! قالوا: بلى، ثم قال: "ألا تجيبون يا معشر الأنصار"؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك؟ المن لله ولرسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله، لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفا فأمناك، ومخذولا فنصرناك"، فقالوا: المن لله ولرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة[8] من الدنيا تألفت بها قوما أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون أنتم برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفسي بيده، لو أن الناس سلكوا شعبا، وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار"، فبكى القوم حتى أخضلوا لـحاهم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله قسما، ثم انصرفوا». [9] [10]
فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستغل الغنائم في تطويع أصحابه لكان من الأولى به أن يرضي الأنصار ولا يغضبهم؛ حتى لا ينقلبوا ضده، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أوضح لهم الأمر، وقدم مراده ولذا آبوا إلى رشدهم، وكلهم مطيعون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل ومن بعد، فهل كانوا يطيعونه للغنائم واكتسابها إذن؟!
وبهذا يتبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختص أهل مكة الذين أسلموا عام الفتح بمزيد من الغنائم عن غيرهم، ولم يراع في تلك القسمة قاعدة المساواة الأصلية بين المقاتلين، وذلك لحكم ومقاصد يعجز البشر عن إدراك كنهها، وهي استخدام الغنائم في تأليف القلوب للإسلام، لا استخدامها - كما يقولون - في تطويع طاعتهم وكسبها.
كما أن الغنائم مشروعة لكل شخص شارك في إحراز النصر على الأعداء بوجه أو بآخر، وهذا ما يقتضيه العقل والمنطق؛ فالغنائم مشروعة من قبل الله - عز وجل - لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وحلها مختص بها، وثبت ذلك بالكتاب والسنة والإجماع:
· دليل الكتاب قوله سبحانه وتعالى: )واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير (41)( (الأنفال)، ووجه الدلالة من الآية: أن الله - سبحانه وتعالى - جعل الغنيمة مقسومة على هذه الأسهم الخمسة، وجعل أربعة أخماسها للغانمين؛ لأن الله - عز وجل - أضاف الغنيمة إلى الغانمين في قوله: )غنمتم(، وجعل الخمس لغيرهم، فدل على أن سائرها لهم.
· دليل السنة النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة» [11] [12].
فقد وضح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الغنائم حلال له ولأمته. وبهذا يتضح أن المشرع للغنائم هو الله عز وجل، وليس الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يقال: إنه استخدمها في تطويع أصحابه، فهي تدخل في باب الإلزام لا التطوع.
الخلاصة:
· ظل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو في مكة ثلاث عشرة سنة، وقد نتج عن هذا اضطهاد قريش غير الإنساني له - صلى الله عليه وسلم - وللصحابة، والذي وصل لحد القتل، فأين كانت الغنائم والأنفال والأسلاب وقتذاك؟! وما الوسيلة التي اتبعها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وجود الغنائم، في تطويع أصحابه؟!
· لم يكن الدافع وراء توزيع الغنائم هو رياضة الصحابة وتطويعهم - كما يزعمون - بل هو شرع الله - عز وجل - المنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - لتبليغه للناس. فكان توزيعه - صلى الله عليه وسلم - نصيبه من الغنائم على الفقراء والمساكين، وابن السبيل، وذوي قرباه، وعلى أناس أسلموا يتألفهم بذلك، وأناس لم يسلموا ليحببوا في الإسلام، وكذلك لم تكن الغنائم هي دافع الصحابة لطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
· هل يتسنى له - صلى الله عليه وسلم - أن يكون هدفه من توزيع الغنائم هو رياضة أصحابه وتطويعهم مع أنه قد حرم الأنصار من غنائم حنين، ووزعها على أناس آخرين؟!! ولو كان الأنصار طلاب مال لانقلبوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا لم يحدث، بل انصاعوا للرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما فهموا مقصده.
· تعتبر الغنائم بمنزلة الحق التملكي لكل شخص شارك في إحراز النصر على الأعداء.
· من الثابت تاريخيا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن هدفه ولا هدف الصحابة - رضوان الله عليهم - من الجهاد الحصول على الغنيمة، بل كان جهادهم لإعلاء كلمة الله - عز وجل - في كل مكان، حتى تنعم البشرية بالحياة في رحاب الإسلام.
(*)