الزعم أن قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين كان لأسباب تجارية(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان يقاتل المشركين لأغراض تجارية؛ ويستدلون على ذلك بدخوله - صلى الله عليه وسلم - في صراع مسلح مع قريش للسيطرة على الممرات التجارية والحصول على المال، وخروجه في غزوتي بدر الأولى والثانية حاملا تجارته معه. ويهدفون من وراء ذلك إلى التشكيك في بواعث جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بغية إثبات أنها لم تكن من أجل نشر الإسلام، وإنما كانت لأغراض دنيوية.
وجها إبطال الشبهة:
1) لم يكن خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر لسلب الأموال؛ بل لاسترداد بعض أموال المسلمين التي خلفوها وراءهم في مكة لما هاجروا، إلى جانب إثبات الوجود العسكري والسياسي لمجتمع المدينة الجديد.
2) اصطحاب التجارة والأمتعة في الحرب كان ضرورة لاتقاء العوز في حالة دوام القتال، وكان ذلك أمرا شائعا عند العرب.
التفصيل:
أولا. لم يكن خروج المسلمين يوم بدر لسلب أموال، بل كان استردادا لجزء مما تركوه في مكة، وإظهارا لقوة المسلمين:
إن حقيقة الجهاد في الإسلام ليست - كما يدعون - لأسباب تجارية أو اقتصادية، ولكنها ذات حكمة سامية؛ فالجهاد يكون للدفاع عن النفس والجماعة من أذى الكفار أو ظلمهم؛ لذلك نرى الآيات الأولى التي أذنت للمسلمين بالجهاد تقول: )أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39)( (الحج)، فالآية تبين أن المسلمين أمروا بالقتال للدفاع عن أنفسهم، لما أصابهم من ظلم نتيجة هجرتهم، وقد تركوا أموالهم وديارهم للكفار في مكة.
وقد بين القرآن الكريم أن المسلمين لا يبدءون بالاعتداء على غيرهم، وإنما يقاتلون من اعتدى عليهم، يقول سبحانه وتعالى: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة)، وهذا يوضح أن الإسلام يكره إراقة الدماء؛ لذلك يرفض البدء بالعدوان على الآخرين كما بينت الآية، وهذا حق مشروع لكل أمة من الأمم، أن تدافع عن نفسها وعقيدتها وأراضيها وكيانها في الحياة، وتؤكده المواثيق الدولية في العصر الحديث.
يقول عبد الرحمن عزام صاحب كتاب "بطل الأبطال أو أبرز صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم": قد يكون من المفيد أن نخص معركة بدر ببعض ما تستحقه من إفاضة الحديث لما لها من الأثر الحاسم في تاريخ المسلمين العسكري، ولا أستطيع أن أصف المعركة في بدر دون أن أشير إلى الحالة العسكرية في الجزيرة قبل بدر، وما صارت إليه بعد بدر.
لقد كان العرب على علم تام بضروب القتال، كما هي الحال في العالم في ذلك العصر، فكانوا يعرفون فنونه وأدواته كما تعرفها الأمم المحيطة بهم، وكانت قريش بين العرب ممتازة بالثروة والرحلة، والإحاطة بما يحدث في العالم أكثر من غيرها من القبائل العربية، كما كانت تتمتع بالسيادة الدينية في الجزيرة، وتتمتع بتجمع قواها في مكة، مما يمكنها دائما من سرعة الحشد والتعبئة. لكل ذلك آلت إليها القيادة العسكرية، كما آلت إليها القيادة الدينية، فكانت مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - انتزاع هذه السيطرة من قريش، لينتزعها من الجزيرة كلها. ولم يكن من الممكن أن يصل إلى حرية العقيدة بسبب سطوة قريش، ونفوذها في العرب، وإصرارها على ألا ينازعها هذه السيطرة، فغزوة بدر لم تكن أمرا عرضيا، ولا كان كل المقصود بها في الواقع مجرد الاستيلاء على عير قريش، بل كان المقصود كذلك ضرب قريش في قوتها الحربية.
وقد أدرك الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أصحابه أصبحوا - من النظام الذي بثه فيهم، والروح المعنوي الذي سرى في نفوسهم - من اجتماع الكلمة والفناء في سبيل الحق، بحيث يستطيع أن يلقى بهم سادة الجزيرة العربية في أول معركة منظمة. ولو لم يكن يعلم هذا وكان يخشى لقاء قريش مجتمعة، لذهب إلى طريق الشام يلقى عيرها، ولكان ذلك أهون عليه؛ لأنه يلقاها في مكان أبعد عن مكة من المكان الذي لقيها فيه، فهو - إذن - لم يقصد قافلة التجارة لذاتها، ولكنه أحب أن يلقى معها جيش قريش.
تقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر بكتيبة ليس لها من معدات الجيوش ما لقريش؛ فقد كانت الخيالة فيها لا تزيد على فارسين في رواية، وثلاثة فرسان في رواية أخرى، ولم تكن لها دروع ولا سلاح غير السيوف، بل لم يكن لها ما يكفي من الإبل لحمل العتاد والرجال. هذا على حين كان لقريش العدد والعدة، فكان عدد فرسانها مائة فارس، وكان مشاتها ثلاثة أضعاف المشاة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان معها من الإبل ما يكفي لأن يذبحوا لطعامهم عشرة كل يوم، وكان كل ما يعرف من أنواع السلاح إذ ذاك متوافرا لها بسبب ثرائها واستعدادها الدائم للحرب، وخصوصا هذه المعركة، ولكن شيئا آخر عظيما كان متوافرا لأصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاستعاضوا به عما كان ينقصهم من العدد والعدة، هذا الشيء العظيم هو أمور ثلاثة:
الأول: النظام؛ فإن التربية المحمدية سواء أكانت في صورة العبادة، أم تلقين عقيدة التوحيد، أم إرجاع الأمر إلى الله مع حسن العمل، أم الإيمان بالمساواة في عمل الدنيا والآخرة، أم إيثار الشهادة في سبيل العقيدة على الحياة، وما يتعلق بها من أحوال الأهل والعشيرة، وكذلك انطباع نفوسهم بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأولى الأمر منهم - إن هذه التربية أحدثت فيهم قوة جديدة لم يكن العرب يعرفونها من قبل، تلك هي قوة النظام التي رجحت بها كتيبة المؤمنين على جيش المشركين.
والثاني: القوة المعنوية التي ملأ بها الإسلام نفوسهم؛ فإنهم دون مشركي العرب كانوا يؤمنون بالبعث، فهم لذلك لا يرون في الموت فناء مطلقا، بل يرون أن وراءه - مع إدراك فضل الشهادة - حياة أبقى وأسعد من هذه الحياة.
كيف تكون هذه التضحيات من أجل التجارة؟ فما قيمة التجارة إذن؟!!
من أمثلة ذلك أن شابا في السادسة عشرة من عمره كان في كتيبة المؤمنين، فلما سمع الرسول يحرض المؤمنين على القتال ويعدهم بالجنة قال: إذن ليس بيني وبين الجنة إلا هذه التمرات؟ وهي تمرات كان يأكلها، فقذفها، وحمل بسيفه على المشركين، فلم يزل يقاتل مستبسلا حتى لقي الموت الذي يريده، فهل كان هذا يهدف إلى التجارة؟!!.
والثالث: وحدة القيادة؛ فقد كان المسلمون ممتازين بها، يتفانون في الإخلاص، والطاعة لقائدهم، وذلك من الأمور التي ضاعفت قواهم.
ولنذكر لذلك ما حدث في أثناء المعركة، «إذ رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقوم الصف سواد بن غزية حليف بني عدي وهو مستنتل[1] من الصف، فطعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقدح في بطنه، وقال: "استو يا سواد". فقال: يا رسول الله، أوجعتني وقد بعثك الله بالعدل، فأقدني[2] قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقد"، قال: يا رسول الله، إنك طعنتني وليس علي قميص، قال: فكشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بطنه، وقال: "استقد". قال: فاعتنقه وقبل بطنه، وقال: "ما حملك على هذا يا سواد"؟ قال: يا رسول الله، حضرني ما ترى، ولم آمن القتل، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بخير».[3] وهذا دليل آخر على فساد شبهتهم، فكيف يبحث هذا الرجل عن تجارة أو دنيا وهو ينتظر الموت؟!! إنه لشيء عجاب.
تلك أهم الأسباب التي استعاض بها المؤمنون عما كان في جيشهم من نقص العدة والعدد، ولا تظنوا أن قريشا كانت خائرة فاقدة للنظام والقوة المعنوية، فقد كان لديها أكمل نظام يعرفه العرب، ولها من عزتها ومن حب المحافظة على سيطرتها العسكرية، ومن الرغبة في الانتقام لحادثة نخلة وقتل ابن الحضرمي، ومن العزم على الاحتفاظ بحرية التجارة وسلامة الطرق الموصلة لهذه التجارة - ما جعلها تقاتل مستبسلة، حتى إن رجلا منها أقسم أن يرد حوضا وسط جيش محمد صلى الله عليه وسلم، فلما قطعت رجله قبل أن يصل إليه دفع نفسه إلى الحوض، وهدم جزءا منه برجله الأخرى، ولما جرح أبو جهل مر به رجل من المسلمين وهو في حشرجة الموت، فوضع قدمه على عنقه، وقال: أرأيت كيف أخزاكم الله؟ قال: وبم أخزاني؟ أعار أن أقتل؟
من هذا تدركون عظم مهمة الجيش الإسلامي في سبيل انتزاع السيطرة العسكرية التي كانت لقريش، ولك أن تدرك هذا أيضا إذا علمت كيف وقعت المعركة نفسها، فقد تقدم الجيش الإسلامي من الشمال إلى الجنوب، فلما وصل إلى ساحة بدر كانت ميمنته سلسلة من التلال المرتفعة، وكذلك على ميسرته سلسلة أخرى أقل ارتفاعا.
وتقدم جيش المشركين وكان أمامه كثبان من الرمل تقع غرب وادي بدر، وعلى ميسرته أرض صخرية قليلة الارتفاع.
وفي السهل الذي بين هذه الجبال، وهذه الكثبان وقع أول تصادم بين القوتين، وكانت الليلة التي سبقت المعركة شاتية، فهطل مطر غزير في ناحية قريش، وكان أقل غزارة في ناحية المسلمين، جعل مهمة قريش في التقدم إلى ساحة بدر أشق من مهمة المسلمين، ولما تقدموا في الصباح استقبلت المشركين الشمس من المشرق، وهم متجهون إليها، فكانت من العوامل الطبيعية المؤذية لهم.
نشبت المعركة بفرسان يتقدمون الصفوف ويتبارزون، فتقدم ثلاثة من بني هاشم، ولقيهم ثلاثة من صناديد المشركين، وفي دقائق معدودة فتك المسلمون بأندادهم، فكان هذا استفتاحا حسنا للقتال، وهنا أمر رسول الله بذلك الأمر الحكيم، أمر الكتيبة الإسلامية أن تتراص وألا تتحرك من مكانها، وأن تصد بالنبال خيل العدو وهي تأتيها من جوانبها.
فرأت قريش لأول مرة كيف تثبت الراجلة أمام حملات الخيالة غير هيابة ولا مرتبكة، وللخيالة كما قدمنا هيبة عظيمة في هجومها، يعرفها الذين مارسوا الحرب وشاهدوها.
حمي الوطيس[4] ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو ويحرض على القتال، والمشركون على عديدهم وعدتهم واستبسالهم، يحاربون قوما قد امتنعوا بسيوفهم، وآثروا الموت على الحياة. انتهى الأمر بهزيمة المشركين، فانطلق المسلمون في إثرهم، وأثخنوا[5] فيهم، لا يلتفتون إلى نهب ولا سلب، كعادة العرب في ذلك العصر، حتى انقلبت الرجعة القرشية فرارا مخزيا، وانكسارا غير مسبوق لقريش.
ثمرة المعركة لا علاقة لها بالتجارة والغنائم في شيء:
كان قتلى قريش في هذه المعركة خمسة أمثال قتلى المسلمين، وكان أسراهم مثل قتلاهم، ولكن ليس المهم في بدر عدد من دفن من القتلى، ولا عدد الأسرى، ولا مقدار الغنائم، وإنما المهم هو أن قريشا دفنت في وادي بدر سيادتها على الجزيرة العربية. وليس الأمر الخطير هو أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رجع بأعدائه مكبلين إلى يثرب، وإنما هو أنه رجع بالسيطرة العسكرية وقد انتقلت من مكة إلى المدينة.
رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وقد ثبت أن النظام العسكري الذي استحدثه هو نظام يفوق ما يعلمه أهل العصر، فوضع في بدر قواعد الجيش الإسلامي، وكانت هذه الكتيبة نواة له.
ومنذ بدر والإسلام ينتشر، وجيوشه تسير إلى المشرق والمغرب، تطوي الممالك، وتثل[6] العروش، وتتغلب على العقبات بأمرين: حب النظام، واحتقار الموت، ولا يزال هذان الأمران دعامتي النصر، ولن ترجع للمسلمين سيادتهم الأولى حتى يقيموا حياتهم وجيوشهم على الأساسين اللذين وضعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللذين مكنا له في بدر برغم العدة والعدد والبسالة التي كانت لخصومه[7].
فليس الأمر مقصورا إذن على عير قريش وتجارتها بقدر ما هو إثبات للوجود الإسلامي في المنطقة وما حولها، وبقدر ما هو انفتاح للدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية. "لقد جاء الوقت المناسب لإنزال الضربة النهائية على رءوس الذين يعرقلون ويمنعون الدعوة المخلصة الصافية إلى الله تعالى، وإلى إعلاء كلمة الله، ولكي يقال لأعداء الله: لن تستطيعوا بعد الآن منع ذكر الله - عز وجل - في أرجاء الأرض، ولن تستطيعوا إدامة الضغوط على النفوس المنفتحة على دعوته. أجل، فدعوة الله يجب ألا تبقى منحصرة في مكان محدد، بل يجب أن تدخل إلى النفوس جميعها لتطمئن بها جميع القلوب، ويجب أن تزال جميع العقبات من أمام إعلاء كلمة الله؛ لكي لا تبقى هذه الكلمة في نطاق الأسر، بل لتنتشر في آفاق الإنسانية كلها، ولكي يقوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإنزال الضربة الأخيرة على مشركي مكة الذين لم يعترفوا له بحق الحياة الكريمة في مكة، فكان لا بد أن يفتح الطريق المؤدية إلى حرية الفكر، ويحطم كل ما يعوق أو يمنع هذه الحرية" [8].
لقد فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - طريق الدعوة والحرية الدينية على مصراعيه، بعد هذا النصر الذي كان في أمس الحاجة إليه، خاصة أن بعض القبائل كانت تريد الدخول في الإسلام، ولكنها تخاف من بطش قريش وأهلها.
وأخيرا نقول: وإن قيل: فلماذا خرج الرسول إذن على هذه القافلة دون من عداها؟! قلنا: لأن الأموال التي بحوزة الكفار كان للمسلمين فيها حق شرعا ودينا وقانونا وعرفا وتقليدا وضميرا، إن المسلمين لم يخرجوا على قافلة واحدة لكفار قريش لإضعاف قوتهم، وإن أخذوا شيئا من أموال هذه القافلة فهي جزء من حقوقهم لدى كفار قريش؛ لأن المسلمين عندما هاجروا من مكة للمدينة تركوا ديارهم وأراضيهم وأغنامهم وأثاث منازلهم، وكل ما يملكون، وقد اغتصبها كفار قريش، واستولوا عليها، وبذلك أصبح لهم حق لدى كفار قريش وهو قيمة ما تركوه بمكة من أرض ونخيل، وأثاث منازل وبهائم وحيوانات، وعلى ذلك فعندما يخرج المسلمون على قافلة كفار قريش، فإن ذلك حق المسلمين الشرعي في جميع الأديان، بأن يأخذوا جزءا من حقوقهم لدى كفار قريش، وكان هذا أيضا على هامش أهداف الغزوة، وليس فيه قطع للطريق، أو دليل على أن جهاده - صلى الله عليه وسلم - الطويل كان لأهداف تجارية، وذلك واضح حيث كان في شبه الجزيرة العربية أكثر من خمسمائة قبيلة تقوم بالتجارة من مكة إلى الشام برحلتين في الصيف والشتاء، أي كانت تقوم بحوالي ألف قافلة تجارية كلها تمر من أمام المسلمين، فهل خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون على أي قافلة تجارية لأي قبيلة أخرى، حتى يقال عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنه قاطع طريق[9]؟!
وبهذا يتضح لنا أن الهدف من الغزوة كان إثبات القوة العسكرية قبل أي شيء، وإثبات الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة وما حولها.
ثانيا. اصطحاب التجارة والأمتعة إلى الحرب كان ضرورة لاتقاء العوز في حالة دوام القتال، وهذه كانت عادة عند العرب عند خروجهم للحرب ولقاء العدو:
من العبث بمكان فصل الحياة الاقتصادية عن الحياة السياسية!! إن اصطحاب التجارة والأمتعة إلى الحرب حينذاك كان ضرورة لاتقاء العوز في حالة دوام القتال، حينما يكونون بعيدين عن حاجات الحياة، ثم لاكتساب الفرص في البيع والشراء بعد توطيد الأمر؛ إذ يكون من الوعي الصحيح والنشاط الكبير أن يفكر المرء في الأمرين معا ما دامت المسافة بعيدة والنقل شاقا.
فهذا إذن ليس معناه أن الغرض الأول في تلك الغزوات التجارة فحسب، وليس في هذا التعليل ما يوجب تغيير وصف الغزوتين من أنهما حربان للقضاء على الشرك إلى "حرب من أجل المال".
والواقع التاريخي ينكر ما يدعونه، فأين تكون الحملة التجارية في غزوة بدر الكبرى، وقد كان خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في أصحابه لثمان خلون من شهر رمضان سنة 2 هـ، وكان جنوده ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا يعتقب كل اثنين بعيرا، وأحيانا كل ثلاثة أو أربعة يعتقبون بعيرا، إذ كان عدة ما معهم سبعين بعيرا وثلاثة أفراس، ولم تلبث الحرب أن نشبت بعد أيام.
أما بدر الآخرة فلم يكن بها معركة، وإنما كان أبو سفيان قد أنذر المسلمين يوم أحد بالحرب في بدر العام القادم، فحمل المسلمون إلى سوق بدر تجارتهم وهم مستعدون لحماية أموالهم لو أن أبا سفيان أنفذ وعيده، فالرحلة كانت للتجارة، ولكنها كانت تجارة قوم محاربين يتربص العدو بهم الدوائر، وحين جاء أبو سفيان على رأس ألفي مقاتل أو يزيدون ووصلوا مجنة من ناحية الظهران، قال أبو سفيان لقومه: "يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب، وإن عامكم هذا جدب،[10] وإني راجع فارجعوا". ورجع الناس، وفرغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من تجارتهم بعد ثمانية أيام من مقدمهم في شعبان سنة 4هـ، فرجعوا إلى المدينة سالمين غانمين دون اشتباك ولا معركة[11].
وقد كان العرب يأخذون بعض تجارتهم وأموالهم في الحروب، فقد أخذت قريش بعض مالها وذهبت إلى مكان بدر، وأخذ الكفار ينحرون الجزور،[12] ويأكلون ويشربون حتى اشتبكوا مع المسلمين، وبانت هزيمتهم فتركوا كل ما معهم وفروا هاربين عندما أدركتهم الهزيمة، كذلك أخذت هوازن في غزوة حنين كل ما تملك من متاع وأموال حتى النساء والصبية، تشجيعا لهم على التقدم والحماس والقتال، بدلا من التقهقر والخذلان، ولكن حدث عكس ما يتوقعون.
فالمسألة إذن لا تتوقف على المسلمين فقط، ولكنها كانت مسألة عامة، حتى لا ينتهي الزاد وينفد الطعام، ويتعرض الجيش للجوع والعطش، مما يؤدي حتما إلى هزيمته.
وبهذا يتضح لنا أن خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لأهداف تجارية بقدر ما كان لأهداف عسكرية، ولقد هدف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى فرض قوته ومن معه على الجزيرة، وتأمين الدعوة الإسلامية وامتدادها في كل مكان.
الخلاصة:
· ليست الحرب في الإسلام لأغراض تجارية، كما يدعي المدعون؛ لأن الحرب المشروعة في الإسلام - أو الجهاد - هي حرب دفاعية هدفها رد العدوان فقط، قال سبحانه وتعالى: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة).
· ثم إن غزوة بدر الكبرى كانت لضرب قريش في قوتها الحربية، لكي يصل المسلمون إلى حرية العقيدة ولا تعوقهم سطوة قريش ونفوذها في العرب. فغزوة بدر لم تكن أمرا عرضيا، ولا كان المقصود منها في الواقع مجرد الاستيلاء على عير قريش، بل كان المقصود كذلك ضرب قريش ضربة سياسية في مكانتها وسط العرب؛ لانتزاع السيطرة العسكرية التي كانت تتمتع بها؛ ولذلك فإن نتائج بدر لم تكن لها علاقة بالتجارة والغنائم بقدر ما أعطت المسلمين حرية في الانتشار، وما كانت سعادته - صلى الله عليه وسلم - حينما رجع إلى المدينة بالغنائم كسعادته بالسيطرة العسكرية، وقد انتقلت من مكة إلى المدينة.
· إن اصطحاب التجارة والأمتعة إلى الحرب حينذاك كان ضرورة لاتقاء العوز، في حالة دوام القتال حينما يكون المحاربون بعيدين عن حاجات الحياة، ولا يعني هذا أن الغرض الأول في تلك الغزوات التجارة فحسب، حتى ولو كانت في غزوة بدر الآخرة تجارة فهي تجارة قوم محاربين يتربص العدو بهم الدوائر، ولا يعقل أبدا بأي حال من الأحوال أن يشعل قوم الحرب لكي يستغلوها في التجارة، إذ المعهود أن الحرب لا تجر وراءها إلا الدمار والخراب، ومهما كانت المكاسب في الحروب، فهي لا تتعدى الخسائر ولا تغطيها.
· إن حروب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن لأغراض تجارية، وإنما كان الهدف منها نشر الدعوة الإسلامية، والتخلص من كل ما يعوق انتشارها في كل مكان.
(*)