ادعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عاجزا عن الجهاد غير قادر عليه(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عاجزا عن الجهاد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان صاحب رقة تمنعه منه، ويدللون على ذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يشارك في حرب الفجار - التي كانت بين العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم - وأنى له أن يشارك في الحرب وهو الفتى المدلل الذي لا عهد له بها ولا شأن له فيها ولا صبر له عليها على حد زعمهم. ويرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في قدرته - صلى الله عليه وسلم - على الجهاد.
وجها إبطال الشبهة:
1) لم تكن حرب الفجار حربا عادلة؛ لذلك لم يشارك فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - مشاركة فعالة، فقد كان يرمي النبال عن أعمامه، فضلا عن صغر سنه يومها.
2) لقد كان - صلى الله عليه وسلم - من الشجاعة والإقدام والثبات في الحروب والمواجهات بالمكانة العليا التي لا يدانيه فيها أحد، وليس أدل على ذلك من موقفه في غزوتي أحد وحنين.
التفصيل:
أولا. لم يشترك النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرب الفجار مشاركة فعالة؛ لأنها حرب ظالمة، فضلا عن صغر سنه يومها:
يجدر بنا أن نعرف لماذا لم يشترك - صلى الله عليه وسلم - في حرب الفجار حتى نستطيع الحكم على شخصيته، وهل هناك تناقض حقا أم أنه - صلى الله عليه وسلم - يفعل دائما الأولى؛ لأنه يميز بين الخطأ والصواب، ويضع كل فعل وقول في مكانه الصحيح، ونحن حينما نقترب من هذه الحرب ونتعرف على ملابساتها ندرك كم كانت حكمته وشجاعته وعظمته صلى الله عليه وسلم.
حرب الفجار:
يحدثنا الشيخ محمد أبو زهرة عن هذه الحرب فيقول: الفجار معناه: تبادل الفجور، وكان الفجور الذي تبادله الفريقان هو أنهما أقدما على القتال في الشهر الحرام، وابتداء القتال فيه كان حراما في الجاهلية، ولعله بقية من بقايا دين إبراهيم عليه السلام، ولذلك جاء الإسلام بتحريم ابتداء القتال فيه أو السير للقتال فيه إلا لضرورة، ولقد قال الله سبحانه وتعالى: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36)( (التوبة).
والأشهر الحرم كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هي:«ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» [1]، وكان القتال فيها حراما؛ ليكون الأمن والاطمئنان في الحج إلى البيت والعودة منه، وكان رجب محرما فيه القتال؛ لأنه شهر عمرة مضر[2].
وقصة هذه الحرب التي انتهك فيها الشهر الحرام - كما جاءت في كتب السيرة - أن "النعمان بن المنذر ملك العرب بالحيرة بعث بقافلة له إلى سوق عكاظ، وكان في حاجة إلى من يجيرها له، فجلس يوما وعنده البراض بن قيس الكناني، وعروة بن عتبة الرحال، فقال: من يجير لي تجارتي حتى تبلغ عكاظ، فقال البراض بن قيس: أنا أجيرها على بني كنانة، وكان البراض فاتكا خليعا، خلعه قومه لكثرة شره، فقال النعمان: أنا أريد من يجيرها على الناس كلهم، قال عروة: أبيت اللعن[3]، أكلب خليع يجيرها لك؟ يريد البراض، أنا أجيرها على أهل الشيح والقيصوم،[4] والمراد: على أهل البادية كلهم من أهل نجد وتهامة، فقال البراض: أتجيرها على كنانة يا عروة؟ قال: نعم، وعلى الناس كلهم!!
فأحفظ ذلك البراض، فتربص بعروة حتى إذا خرج بالتجارة قتله غدرا، وأخذ القافلة، وكانت قريش بعكاظ، فأتاهم آت فأخبرهم بما كان من البراض فارتحلوا، وهوازن لا تشعر بهم، فلما بلغ هوازن قتل عروة اتبعت قريشا فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى لاذت قريش بالحرم" [5].
وقد توادع الفريقان على أن يستأنف القتال بينهما من العام القادم في عكاظ، فلما توافقوا في الميعاد ركب عتبة بن ربيعة جمله، ونادى: يا معشر مضر، علام تقاتلون؟ فقالت هوازن: ما تدعو إليه؟ قال: الصلح، قالوا: كيف؟ قال: نفدي قتلاكم[6] ونرهنكم رهائن عليها، ونعفو عن دياتنا، قالوا: ومن لنا بذلك؟ قال: أنا، قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عتبة بن ربيعة، فدفع الصلح على ذلك؟ وبعثوا إليهم أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام، فلما رأوا الرهائن بين أيديهم عفوا عن دياتهم، وانقضت حرب الفجار بصلح كريم.
وهنا يحسن بنا أن نتساءل: كم كانت سن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحرب؟ وماذا كان عمله فيها؟ وما الذي حمله على الذهاب إليها؟
أما من ناحية سنه، فنقول: إن ابن هشام يقول في سيرته: "إن سنه كانت بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة". وقال ابن اسحاق: "إنه كان في العشرين من عمره الكريم".
وحتى لو كان قد بلغ العشرين فإنه لم يقدم على القتال؛ لأنها ليست حربا عادلة، وفطرة محمد السليمة ما كانت لتسمح له أن يقاتل في حرب فاجرة انتهكت فيها الحرمات من الجانبين، فكلاهما آثم، فكيف يشترك الطاهر المطهر الذي رباه الله تعالى على عينه في حرب خالطها الإثم في سببها، وفي زمانها، وفي وقائعها؟
لم يشترك النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحرب، إلا أنه شهدها بعد أن حمي وطيسها، وكان ذلك بسبب أعمامه الذين اشتركوا فيها، ولعله كان يود مشاهدتها؛ لأن له قلبا طاهرا، لا يسكن والناس في كرب، فكان يشاهد وإن لم يقم بعمل في هذه الحرب ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - في عمله: "كنت أنبل على أعمامي"، أي أمنع النبل عنهم، وهو عمل هامشي لا يعد اشتراكا في القتال،[7] حتى لو افترضنا أنه اشترك فهي مشاركة في الدفاع عن أعمامه لا في الهجوم والعدوان.
فهذا هو موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرب الفجار، تلك الحرب الظالمة، والتي يدل اسمها على ما فيها من فساد وإفساد، وما كان للطاهر المطهر أن يشترك في هذا الفساد، وهو مبعوث لإصلاح الكون؟!!
ثانيا. لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشجاعة والإقدام والثبات في الحروب والمواجهات بالمكانة العليا التي لا يدانيه فيها أحد:
"لقد امتاز الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - بعزيمة قوية، وشجاعة نادرة، وجرأة ونجدة واضحة؛ لكمال إيمانهم وقوة يقينهم بالله، وصدقهم مع الله، وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - في قمة هذه الأوصاف، فكان إقدامه في مقارعة الأعداء مثلا فذا لا مثيل له ولا نظير عند أحد من الشجعان البارزين، وهذه مواقف وشهادات تدل على هذا، حيث حضر المعارك الحاسمة، وثبت كالطود الشامخ في أشد أوقات الأزمة والمحنة، ولم يفر مرة واحدة، على عكس ما قد يحدث لكل شجاع؛ لكماله في مقام الوقار والقرار" [8].
وصدق فارس الإسلام علي بن أبي طالب حينما قال: "إنا كنا إذا حمي البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس بأسا" [9].
مواقف ظهور شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم:
يقول الشيخ محمد بن علوي المالكي الحسيني: لقد كان - صلى الله عليه وسلم - من الشجاعة والإقدام والثبات أمام الأهوال في أشدها، بالمكانة العليا التي لا يدانيه فيها أحد، ولا يعلم مقدار سموها إلا من وهبها جلت كلمته، ولهذا حضر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حضر من الغزوات في كل حياته الجهادية، وما حفظ عنه مرة أنه هم بالتأخر عن مقامه قدما أو أصبعا، وهو الأمر الذي جعله بين أصحابه ملء العيون والصدور، قائدا مطاعا يبتدر الصغير منهم والكبير إشارته، لا لأنه رسول الله فقط، بل ولما كانوا يرون منه من الشجاعة التي كانوا يرون أنفسهم بالنسبة لها عدما صرفا، وفيهم الأبطال الذين كانت تضرب بشجاعتهم الأمثال.
فمن ذلك ما يحكيه سيدنا جابر إذ يقول: «كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع، فلما أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي - صلى الله عليه وسلم - معلق بالشجرة، فاخترطه[10] فقال له: تخافني، قال صلى الله عليه وسلم: "لا"، قال: فمن يمنعك مني، قال: الله» [11].
ومن ذلك ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بن خلف في غزوة أحد؛ إذ شد ذلك اللعين وهو على فرسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعترضه رجال من المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هكذا"؛ أي: خلوا طريقه، وتناول الحربة من الحارث بن الصمة فانتفض بها انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعراء[12] عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله النبي - صلى الله عليه وسلم - فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ[13] منها عن فرسه مرارا، فرجع إلى قومه يقول: قتلني محمد، وهم يقولون: لا بأس بك، فقال: لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم، أليس قد قال: أقتلك؟ والله، لو بصق علي لقتلني، فما لبث اللعين إلا أياما حتى مات.
ومن ذلك ما جاء عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعا - وقد سبقهم إلى الصوت - على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا» [14] [15].
وموقف النبي يوم حنين يدل دلالة واضحة على عظيم شجاعته - صلى الله عليه وسلم - لأنه - صلى الله عليه وسلم - ثبت في مكان الخطر وقد فر الناس، وفي البداية هب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكان الخطر قبل أن يتحرك الناس، والذين لهم علم بالحرب يعرفون أنه بهذا الموقف تمتحن الشجاعة، فليس أصعب على النفس من السبق إلى الخطر ولا من الصبر عليه، وقد استولى الخوف وغلب الرعب[16].
ولعلنا بعدما عرفنا شجاعته - صلى الله عليه وسلم - نتساءل: هل هذا الإنسان صاحب كل هذه الشجاعة يكون ممن تحجزه رقته عن القتال؟!! إن من يقول ذلك رجل متعصب متعسف، ولو كان منصفا لرأى كما رأينا سويا من خلال هذه المواقف القليلة التي ذكرناها - وهي غيض من فيض - أنهـ صلى الله عليه وسلم - أشجع الناس، سواء في حروبه، أو في شجاعة قلبه التي جعلته يحمل هم هذه الدعوة؛ ليبلغها للناس جميعا، ويقود كل هذه الجيوش في الغزوات وينتصر فيها.
الخلاصة:
· لم يشارك النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرب الفجار؛ لأنه كان صغير السن حينها، واقتصر دوره فيها على أنه كان يمنع أعمامه من النبال حتى لا تصيبهم، ولم يقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الحرب؛ لأنها ليست حربا عادلة، فضلا عن أن فطرته - صلى الله عليه وسلم - السليمة ما كانت لتسمح له بأن يقاتل في حرب فاجرة، انتهكت فيها الحرمات من الجانبين، فكلاهما آثم، فكيف يشترك الطاهر المطهر الذي رباه الله - عز وجل - على عينه في حرب خالطها الإثم في سببها، وفي زمانها، وفي وقائعها؟!
· لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشجاعة والإقدام والثبات أمام الأهوال في أشدها بالمكانة العليا التي لا يدانيه فيها أحد، وإلا فكيف كان - صلى الله عليه وسلم - يقود هذه الجيوش في غزواته المتعددة؟! وكيف انتصر على كل أعدائه؟! وليس أدل على شجاعته من موقفه يومي أحد وحنين.
(*)