الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح لنفسه مصافحة المرأة الأجنبية(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغالطين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح لنفسه مصافحة المرأة الأجنبية، مستدلين على ذلك بما يتوهمونه من أن قوله صلى الله عليه وسلم:«إني لا أصافح النساء» [1]، لا يفيد نهيا عاما مطلقا؛ فقد قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن بيعة النساء، فهو في زعمهم مخصوص بها لا يجاوزها ولا يكون حكما عاما. ويرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في بعض تشريعاته - صلى الله عليه وسلم - بلي عنق نصوص واردة عنه - صلى الله عليه وسلم - إطلاقا وتقييدا، ونسبة ما ليس منه له، وتحريف أحكامه - صلى الله عليه وسلم - إباحة وتحريما.
وجوه إبطال الشبهة:
1) يقدر الإسلام ما ركب في طبيعة النوعين - الذكر والأنثى - من التجاذب الذي قد يؤدي إلى الافتتان والفساد؛ ولذلك عني بسد كل ذريعة تفضي إلى إثارة الشهوة المحرمة.
2) لقد كان من اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بتحريم مس المرأة الأجنبية تحريمه في أولى الأمور التي تقتضي عادة المصافحة، وهي البيعة، لذا كان التحريم في غيرها أولى.
3) الأحاديث التي رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن مس المرأة الأجنبية، ووضعت العقوبات لذلك - تدل على عدم الجواز مطلقا.
التفصيل:
أولا. لقد حرص الإسلام على وقاية أتباعه من الوقوع في الفتن، فحرم مس المرأة الأجنبية؛ لأن المس أعظم إثارة لكوامن النفس البشرية.
من المقررات الثابتة والمسلمات المعروفة أن الإسلام يسعى جاهدا إلى تحصين أتباعه، ويحذرهم من المهلكات والوقوع فيها، وفي طريقه إلى ذلك يتبع التركيز على الجانب الوقائي قبل الوقوع فيها - المهلكات - ولذلك كان من مقاصد الشريعة "سد الذرائع".
والناظر إلى تشريعات الحكيم العليم يجد "أن اهتمام الإسلام بالجانب الوقائي يفوق بشكل كبير اهتمامه بالجانب العلاجي، وهذا ما يجعل المنهج الإسلامي متفردا على سائر المناهج ذات المنحى العلاجي المرضي" [2].
ومن المسلم به واقعا أن المرأة من أعظم الفتن على الرجال، بل هي أكبر فتنة لهم، لذلك نصبها الشيطان في أولى وسائله لإغواء بني آدم، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان» [3]. قال المنذري: أي: ينتصب ويرفع رأسه إليها ويهتم بها[4]. ولقد كان الإشفاق من وبال ذلك الداء أشد ما خامر قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي سبيل ذلك ألقى على السابقين الأولين أن الافتتان بالمرأة قد يؤدي إلى إحباط عمل من أفضل الأعمال وهو الهجرة، «فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» [5]، وحذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فتنة المرأة، ونصحه لأمته في هذا الباب أعظم النصح، فعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء» [6] [7]. وكان من وسائل الإسلام في اتقاء هذه الفتنة أن حرم النظر إليهن، ونهى عن مصافحتهن؛ إذ المصافحة أولى بالتحريم من النظر.
ومما لا ريب فيه أن تحريم الإسلام لمس المرأة باعتباره أحد وسائل الهروب من فتنة النساء أولى من تحريمه للنظر إليهن؛ "فلمس المرأة باليد يحرك كوامن النفس، ويفتح أبواب الفساد، ويسهل مهمة الشيطان" [8].
ثانيا. تحريم المس في البيعة يعني أن التحريم في غيرها أولى وأحق:
لقد كان من منطلق سد الذرائع واتقاء فتنة النساء، تحريم لمسهن، ولو كانت هذه الملامسة عن طريق المصافحة باليد.
إن الناظر إلى تشريعات النبي - صلى الله عليه وسلم - يجد أن هذه المصافحة منهي عنها، ولو كانت في أولى الأمور بالمصافحة - إن كانت مباحة - وهي البيعة. فقد جاء في حديث مبايعة النساء أنهن قلن: «هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي لامرأة واحدة»[9].
وجاء عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبايع النساء بالكلام بهذه الآية )لا يشركن بالله شيئا( (الممتحنة: 12) قالت: وما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة إلا امرأة يملكها»؛[10] أي: تحل له[11].
ولا شك أن هذين النصين السابقين صريحان في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصافح النساء عند مبايعتهن، وقالت عائشة: «والله ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط، غير أنه يبايعهن بالكلام والله ما أخذ رسول الله إلا بما أمره الله، يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكن كلاما» [12] [13].
ولو فرضنا - جدلا - أن المصافحة قد حدثت؛ فنقول: إنها كانت بحائل، مع أن العلماء قد تأولوا الروايات في هذا الشأن، فأكثر الروايات تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصافح النساء في المبايعة، وأما ما يفهم من بعضها من أنه صافحهن، كقول أم عطية: «فقبضت امرأة يدها»؛[14] أي: لم تبايع، وقولها: «فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت»[15]، فقد أوله بعضهم على أن معنى القبض هو عدم الموافقة على البيعة، وهو لا يستلزم أن تكون هناك مصافحة سابقة، وأن مد يده ومد أيديهن لا يلزم منه المصافحة أيضا، بل كانت البيعة بالإشارة.
ومما يدل على أن المصافحة لو كانت حصلت فإنها كانت بحائل، ما رواه أبو داود في مراسيله عن الشعبي «أنه - صلى الله عليه وسلم - حين بايع الناس أتى ببرد[16] قطري فوضعه على يده، وقال:لا أصافح النساء». وللجمع بين الروايات، ولقوة حديث عدم اللمس، يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثت منه عدة مرات في المبايعة، بايع في بعضها بالمصافحة، وكان ذلك بحائل، وفي بعضها الآخر بغير مصافحة.
وعلى قاعدة "نفي الأدنى يستلزم نفي الأعلى"، فإن مصافحة النساء لا تجوز؛ لأنه "إذا كانت المصافحة في هذا الأمر الهام - وهو البيعة - ممنوعة بغير حائل، بل بحائل على بعض الروايات، فإنها بدون حاجة وبدون حائل تكون أشد منعا، وبخاصة إذا كانت هناك ريبة في المصافحة" [17].
ثالثا. هناك أحاديث كثيرة نهى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مس المرأة الأجنبية، وهي تفيد مطلق التحريم:
إن الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن مس المرأة الأجنبية، والعقوبات في ذلك تدل على حرمته لا جوازه، فعن معقل بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط[18] من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له» [19]، وإذا كان هذا في مجرد المس إذا كان بغير شهوة، فما بالك بما فوقه؟! وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة: فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش».[20] والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: «واليد زناها البطش»، وهو المس باليد بأن يمس امرأة أجنبية بيده[21].
إن المتأمل في الحديث الأول يجد عقوبة مغلظة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن يمس يد امرأة أجنبية، بل إنه جعل تعرض المرء لهذه العقوبة «أن يطعن في رأسه بمخيط من حديد» خيرا له من أن يمس المرأة الأجنبية، ونلاحظ شدة وهول العقوبة من تنكير مكونى العقوبة: المخيط والحديد، وإن كان تخصيص المخيط بالجار والمجرور، والذي يدل على النوع لا ينفي نكارتها.
ثم إن الناظر للحديث الثاني يجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجعل زنا اليد بطشها، وبطشها لمس المرأة الأجنبية، ثم في آخر هذا الحديث «ويصدق ذلك الفرج ويكذبه»، وهذا من حرص الإسلام على وقاية أتباعه قبل الوقوع في المهلكات؛ "فالوقاية خير من العلاج"، وهذا ما قررناه سابقا.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة إلا امرأة يملكها»؛ [22] أي يملك نكاحها[23].
من تلك الأحاديث - ومن غيرها - يرى جمهور فقهاء الأمة عدم جواز مصافحة المرأة الأجنبية، ومن تساهل في مصافحة النساء، واحتج بطهارة قلبه وسلامة نيته، وأنه لا يتأثر بذلك - فإنه ينادي على نفسه بنقص الرجولة، وهو كذاب في دعواه طهارة قلبه وسلامة نيته، وهذا أطهر ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - وأخوفهم لله، وأرعاهم لحدوده، يقول وهو المعصوم: «لا أمس أيدي النساء» [24]، ويقول: «إني لا أصافح النساء» [25]، ويمتنع من ذلك حتى في وقت البيعة الذي يقتضي عادة المصافحة، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء مع أن الشهوة فيهم غالبة، والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري منهم مجرى الدم؟! كيف وقد قال سبحانه وتعالى: )لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21)( (الأحزاب) [26].
ولا غرو في تحريم الإسلام لمطلق المس؛ فإنه من التحصينات وسد الذرائع التي يتفرد بها المنهج الإسلامي الذي حرم النظر، فكان من باب أولى أن يحرم المس[27]. ولكثرة أحاديث عدم الجواز، وتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم ـأنه لا يصافح النساء، ونقل أكثر الرواة عنه ذلك، يرى كثير من العلماء والفقهاء تحريم المصافحة بحائل، وبالتأكيد من غير حائل، "فحكم المصافحة باليد حرام، إلا إذا كانت زوجة أو محرما؛ فإن في مصافحتهن - أي الأجنبيات - من الفتنة ما لا يخفى، ولم يثبت من طريق صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صافح امرأة أجنبية من غير حائل ولا بحائل" [28].
أصبح الخلاف الآن منحصرا في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صافح في البيعة بحائل أو لا، ولو فرضنا أنه في أمر مهم كالبيعة صافح - صلى الله عليه وسلم - بحائل على بعض الروايات - إذا سلمنا بصحتها - فليس هذا بمسوغ - إطلاقا - لمن قال: إنه - صلى الله عليه وسلم - أباح مس المرأة الأجنبية، وهذا ما لا يقول به عاقل منصف، بل إن الأمر يقتضي خلاف ذلك تماما؛ لأن هذا قياس باطل؛ لأنه قياس معكوس.
وبناء على ما سبق، فإننا نستطيع أن نقرر واثقين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجز مس المرأة الأجنبية مطلقا، ولو من قبيل المصافحة، حتى ولو كان ذلك في أمر خطير كالبيعة.
الخلاصة:
· إذا كان الإسلام حريصا على حماية مجتمعاته من الفتن؛ فإنه يتبع في ذلك منهج الوقاية خيرمن العلاج؛ لدرء الوقوع في المخاطر والفتن، وكان من الطبيعي أن يتبع هذا المنهج في أشد الفتن وأضرها على الرجال، وهي فتنة النساء، فكان تحريم النظر، وأما تحريم اللمس فهو أولى؛ لأنه أبلغ من النظر في اللذة وإثارة الشهوة؛ ولأنه يحرك كوامن الشهوة، ويسهل إغواء الشيطان.
· تدل أحاديث بيعة النساء على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصافحهن ولم يمس يد امرأة في المبايعة، بل كان يبايعهن بالكلام فقط، والمنع في أمر يقتضي المصافحة كالبيعة يقتضي بالتبعية عدم الجواز في غيره، تبعا لأن "نفي الأدنى يستلزم نفي الأعلى".
· إذا سلمنا - جدلا - بصحة الروايات التي جاءت فيها المصافحة في البيعة، فإنها - فضلا عن تأويل العلماء لها - كانت بحائل.
· أحاديث النهي وتحريم مصافحة النساء تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبح مس المرأة الأجنبية، والنهي في الأحاديث على الإطلاق، كما أن العقوبة الواردة في الحديث "لأن يطعن..." تدل على شدة التحريم.
(*)