دعوى مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - للأحكام الشرعية في الخلافات الزوجية(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافات الزوجية؛ ويستدلون على ذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - استثنى نفسه من الأخذ بمبدأ التحكيم، بوصفه حلا للخلافات الزوجية، والمشار إليه في قوله سبحانه وتعالى: )وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا (35)( (النساء)، وذلك حيث آلى من نسائه شهرا. هادفين من وراء ذلك إلى وصمه - صلى الله عليه وسلم - بالخروج على قواعد شرعه التي جاء بها.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن غضبه - صلى الله عليه وسلم - من زوجاته واعتزاله لهن شهرا بالإيلاء[1]، لا يعني مخالفته مبدأ التحكيم عند ضخامة الشقاق؛ بل هو حق الزوج في تقويم زوجاته.
2) إن المطالع المنصف لسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم ـ؛ يجده قد طبق الحكم الشرعي بالرجوع إلى أهل الزوجة؛ وذلك عندما طلب نساؤه منه النفقة، فجعل الأمر إليهن بعد مشاورة أهلن، وخيرهن بين المعيشة معه أو الطلاق.
التفصيل:
أولا. إيلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أزواجه:
هذا الحادث الذي نزل بشأنه صدر سورة التحريم، هو واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي حياة أزواجه، وقد وردت بشأنه روايات متعددة؛ منها ما روته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فواطيت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير؟ إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا» [2].
فهذا هو ما حرمه على نفسه وهو حلال له: )لم تحرم ما أحل الله لك( (التحريم: 1)، ويبدو أن التي حدثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث وأمرها بستره قالت لزميلتها المتآمرة معها، فأطلع الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الأمر، فعاد إليها في هذا وذكر لها بعض ما دار بينها وبين زميلتها دون استقصاء لجميعه، تمشيا مع أدبه الكريم، فقد لمس الموضوع لمسا مختصرا لتعرف أنه يعرف وكفى، فدهشت هي وسألته: )قالت من أنبأك هذا( (التحريم:3)؟ ولعله دار في خلدها أن الأخرى هي التي نبأته، ولكنه أجابها: )نبأني العليم الخبير (3)( (التحريم: 3)، فالخبر من المصدر الذي يعلمه كله، ومضمون هذا أن الرسولـ صلى الله عليه وسلم ـيعلم كل ما دار، لا الطرف الذي حدثها به وحده، ولقد كان من جراء هذا الحادث، وما كشف عنه من تآمر ومكايدات في بيت الرسولـ صلى الله عليه وسلم - أن غضب فآلى من نسائه لا يقربهن شهرا... ثم نزلت الآيات. فهدأ غضبه وعاد إلى نسائه.
وهناك رواية أخرى من حديث أنس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله عز وجل: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك( (التحريم: ١)» [3].
وفي رواية لابن جرير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وطئ مارية أم ولده إبراهيم في بيت حفصة، فغضبت وعدتها إهانة لها، فوعدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحريم مارية وحلف بهذا، وكلفها كتمان الأمر، فأخبرت به عائشة... فهذا هو الحديث الذي جاء ذكره في السورة[4].
أما وقوع هذا الحادث - حادث إيلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أزواجه - فيصوره الحديث الذي جاء عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللتين قال الله لهما: )إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما( (التحريم: ٤)، فحججت معه فعدل[5] وعدلت معه بالإداوة،[6] فتبرز[7] حتى جاء فسكبت على يديه من الإداوة فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللتان قال الله عز وجل لهما: )إن تتوبا إلى الله(. فقال: واعجبي لك يا ابن عباس عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه، فقال: إني كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي - صلى الله عليه وسلم - فينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره، وإذا نزل فعل مثله، وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصحت على امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك! فوالله، إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل. فأفزعني، فقلت: خابت من فعل منهن بعظيم، ثم جمعت علي ثيابي، فدخلت على حفصة، فقلت: أي حفصة، أتغاضب إحداكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليوم حتى الليل؟ فقالت: نعم، فقلت: خابت وخسرت، أفتأمن أن يغضب الله لغضب رسوله - صلى الله عليه وسلم - فتهلكين؟ لا تستكثري على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تراجعيه في شيء ولا تهجريه، واسأليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يريد عائشة - وكنا تحدثنا أن غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابي ضربا شديدا، وقال: أنائم هو، ففزعت فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم، قلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول، طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، قال: قد خابت حفصة وخسرت، كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون، فجمعت علي ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدخل مشربة[8] له فاعتزل فيها، فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي، قلت: ما يبكيك؟ أو لم أكن حذرتك؟ أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري هو ذا في المشربة، فخرجت فجئت المنبر فإذا حوله رهط[9] يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلا، ثم غلبني ما أجد، فجئت المشربة التي هو فيها، فقلت لغلام له أسود: استأذن لعمر، فدخل فكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم خرج فقال: ذكرتك له فصمت، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فجئت فذكر مثله، فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فذكر مثله، فلما وليت منصرفا فإذا الغلام يدعوني قال: أذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخلت عليه، فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه متكئ على وسادة من أدم[10] حشوها ليف، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم: طلقت نساءك؟ فرفع بصره إلي فقال: "لا"، ثم قلت وأنا قائم أستأنس: يا رسول الله، لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على قوم تغلبهم نساؤهم فذكره، فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قلت: لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتبسم أخرى، فجلست حين رأيته تبسم، ثم رفعت بصري في بيته، فوالله، ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة[11] ثلاثة، فقلت: ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، وكان متكئا، فقال: "أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا. فقلت: يا رسول الله، استغفر لي» [12].
وتعلق د. عائشة عبد الرحمن على هذا الموقف فتقول: "استرد عمر طمأنينته، فما طلق نساءه، وإنما هجرهن شهرا... وردت الروح إلى عمر فاستأذن ونزل إلى المسجد، فبشر المسلمين: لم يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه. خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فتلا فيهم قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم (1)( (التحريم) إلى قوله سبحانه وتعالى: )عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا (5)( (التحريم)" [13].
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلق نساءه، ولطف الله بهن فاكتفى بإنذارهن، إن لم يتبن فعسى ربه إن طلقهن أن يبدله أزواجا خيرا منهن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنا بداخل عليهن شهرا" من شدة موجدته عليهن، وحين عاتبه الله - عز وجل - طارت البشري إلى أمهات المؤمنين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عائد إلى بيته، بعد إيلائه منهن تسعا وعشرين ليلة، فوقفن بأبوابهن في لهفة يلتمسن نظرة إلى وجهه الكريم إذ يعود من معتزله، على حين بقيت عائشة داخل بيتها تستعد للقاء الحبيب العائد، إذ كانت تعرف على يقين أن إليها أول المطاف!
وأمسكت قلبها أن يذوب حين سمعت خطواته تقترب من بابها، ولاذت بكل ما استطاعت من تجمل لتتلقاه قائلة في عتاب رقيق: "بأبي أنت وأمي يا نبي الله! قلت كلمة لم ألق لها بالا فغضبت علي".
وإذ أقبل عليها مصغيا استطردت تقول في دلال ودعابة حلوة: "أقسمت أن تهجرنا شهرا، ولما يمض منه غير تسع وعشرين"؟! فأشرق وجهه - صلى الله عليه وسلم - وقد سره أن يعرف أنها كانت تحصي ليالى الفراق عدا، وقال لها: "إن شهرهما ذاك تسع وعشرون ليلة" [14].
ثانيا. طبق النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم الشرعي بالرجوع إلى أهل الزوجة عندما طلب نساؤه منه النفقة، فجعل الأمر إليهن بعد مشاورة أهلهن، وخيرهن بين المعيشة معه والطلاق:
ذات يوم طلب نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - النفقة، وتألم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك حتى احتجب عن أصحابه، «فأقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس ببابه جلوس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فدخلا والنبي جالس وحوله نساؤه وهو - صلى الله عليه وسلم - ساكت، فقال عمر: لأكلمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفا فوجأت[15] عنقها! فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه،[16] وقال: "هن حولي يسألنني النفقة"، فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقول: تسألان النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده؟! فنهاهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقلن: والله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا المجلس ما ليس عنده، قال: وأنزل الله - عز وجل - الخيار، فبدأ - صلى الله عليه وسلم - بعائشة فقال: "إني أذكرك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك"، قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها: )يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (29)( (الأحزاب)، قالت عائشة: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى ورسوله، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله - عز وجل - لم يبعثني معنفا، ولكن بعثني معلما ميسرا، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها» [17]. واختارت نساؤه كلهن الله ورسوله[18].
وبهذا يتبين لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ بالحكم الشرعي وهو تحكيم أهل الزوجة عند الخلاف والنشوز، وطلب من زوجاته ألا يستعجلن في الرد، وأن يستشرن أهلهن قبل الرد، إلا أنهن على الفور اخترن الله ورسوله، والدار الآخرة على الدنيا ومتاعها وملذاتها.
الخلاصة:
· من حق الزوج أن يقوم زوجاته بالطريقة التي تصلح أحوالهن، وهذا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما آلى من أزواجه شهرا، نتيجة لما حدث منهن تجاهه، فقد رأى - صلى الله عليه وسلم - أن أنسب الطرق لعلاجهن هو اعتزالهن، وكان لهذا العلاج تأثيره الفعال في ردهن طائعات مستجيبات لأمر الله ورسوله، وليس في هذا مخالفة منه - صلى الله عليه وسلم - لمبدأ التحكيم عند النشوز والاختلاف كما يدعون.
· لقد طبق النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم الشرعي "مبدأ التحكيم" حينما استدعى الأمر ذلك، عندما طلب منه نساؤه زيادة النفقة، وعندئذ خيرهن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين العيش معه - صلى الله عليه وسلم - على حالته البسيطة، أو أن يمتعهن، ويسرحهن سراحا جميلا، وقد طلب منهن أن يستشرن أهلهن قبل أن يتخذن القرار، إلا أنهن بدون أن يرجعن إلى أهلهن في ذلك اخترن الله ورسوله على الدنيا وملذاتها وزينتها، فهل في هذا مخالفة لما جاء به - صلى الله عليه وسلم - من تشريع؟!!
(*)