الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد على زوجته خديجة - رضي الله عنها - مخالفا ما شرعه لأمته(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغالطين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف ما شرعه لأمته من أحكام؛ مستدلين على ذلك بما يزعمونه من أنه - صلى الله عليه وسلم - أباح لنفسه أن يحد على زوجته خديجة بعد وفاتها، والحداد في الإسلام إنما هو للنساء دون الرجال. رامين من وراء ذلك إلى اتهام النبي بمخالفة تشريعاته؛ تشكيكا منهم في مصداقية تلك التشريعات، وصرفا للناس عنها.
وجها إبطال الشبهة:
1) يخلط هؤلاء بين الحداد الذي شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرأة، والحزن الذي هو شعور عام في الإنسان ذكرا كان أو أنثى.
2) حداده - صلى الله عليه وسلم - على السيدة خديجة - رضي الله عنها - زعم لا دليل عليه؛ فما كان منه - صلى الله عليه وسلم - إلا الحزن والأسى على فراقها؛ وفاء لذكراها وتقديرا لإخلاصها.
التفصيل:
أولا. الخلط بين الحداد المشروع للمرأة، والحزن العام للرجل والمرأة:
في البداية نود أن نوضح معنى "الإحداد" في اللغة والشرع، ففي اللغة: قال أبو عبيد: إحداد المرأة على زوجها: ترك الزينة، وقال ابن منظور: والحداد: ثياب المأتم السود، والإحداد في الشرع: ترك الطيب والزينة[1].
ويضيف الشيخ عطية صقر قائلا: "الإحداد مظهر من مظاهر الوفاء للزوج، والأسف على فراقه، وفترة من العيش في ظلاله بالفكر والعمل، امتدادا للعيش الحقيقي الذي كان معه، وهو كبقية مظاهر الوفاء، يقوي مركز المرأة في أعين الناس؛ لأنه يدل على عاطفة نبيلة، وقلب فيه خير كثير" [2].
ويواصل كلامه قائلا: وكان الإحداد عند عرب الجاهلية ذا طقوس غريبة، ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث روته زينب بنت أبي سلمة، جاء فيه:«وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول، فقالت زينب: وكانت المرأة إذا توفـي عنها زوجها دخلت حفشا[3]، ولبست شر ثيابها، ولم تمس الطيب حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة - حمار أو شاة أو طائر - فتفتض به - قال مالك: يعني تدلك به جلدها - فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره»[4].
وقد جاء الإسلام فنظم الإحداد على المتوفى، من جهة مدته ومن جهة مظاهره، فالمتوفى إما أن يكون غير زوج، وهو من الأقارب، وإما أن يكون زوجا، والأول لم يوجبه الشرع بل أباحه؛ مراعاة لعواطف المرأة، وجعل مدته قصيرة، وهي ثلاثة أيام فقط، وحرم ما يزيد على ذلك، ودليله ما ورد «أن زينب بنت أبي سلمة دخلت على أم حبيبة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة، خلوق أو غيره، فدهنت به جارية، ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله، ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» [5] [6].
أما الإحداد على وفاة الزوج فهو المظهر الحقيقي للوفاء والحزن، ودليله الحديث السابق الذي روته أم حبيبة - رضي الله عنها - وما ورد من منعه - صلى الله عليه وسلم - أنواعا من الزينة لمن مات عنها زوجها.
وأما مدته فكانت قبل الإسلام سنة، ولم يجعله الإسلام كالإحداد على غير الزوج، ثلاثة أيام فقط؛ لأن عاطفة الزوجة نحو زوجها أقوى من عاطفة المرأة نحو قريب آخر.
وقد جعل الله - عز وجل - مدة الإحداد هنا مرتبطة بعدة الوفاء، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، لغير الحامل، أما الحامل فعدتها تنتهي بوضع الحمل.
وأما مظاهر الإحداد فيجمعها الامتناع عن كل مظهر ينافي شرعا أو عقلا أو عرفا حكمة الإحداد، وهي إظهار الحزن والأسف، والوفاء للحياة الزوجية السابقة، وهذه المظاهر تختلف باختلاف البيئات والعصور والنيات، ولا يقتصر فيها على ما وردت به النصوص[7].
وعلى هذا نكون قد وضحنا الإحداد: تعريفه وأحكامه بصورة موجزة؛ كي يتضح لهؤلاء الفرق بينه وبين الحزن.
ومما سبق يتضح لكل ذي لب أن الإحداد تشريع خاص بالنساء في شتى الأديان السماوية والأرضية، ولكنه لم يكن منظما قبل ذلك، أي قبل ظهور الإسلام، مع اتسامه بالقسوة الشديدة، حتى جاء الإسلام منظما له، وذلك أنه جعل منه تشريعا منظما من جهة مظاهره، ومدته، وحكمته، وأحكامه بلا إفراط ولا تفريط؛ لأن الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال في كل شيء.
أما الحزن فمباح للجميع ذكرا كان أم أنثى، صغيرا كان أم كبيرا؛ لأن كل إحداد حزن، وليس كل حزن إحدادا، بمعنى أن الحزن هو الحكمة من الإحداد لما فيه من الوفاء للحياة الزوجية السابقة كما ذكرنا ذلك سلفا.
ثانيا. حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - على زوجته خديجة ليس إحدادا منه عليها، ولكنه وفاء منه بحقها:
لقد ذكرنا سلفا، أن الإحداد تشريع خاص بالنساء فقط لا يصح شرعا أن يشاركها الرجال فيه، فضلا عن عدم جواز ذلك عقلا، والإحداد ليس حكرا على الإسلام فحسب، بل هو موجود في كل الأديان والنحل، وفي كل البيئات والعصور، ولكن الإسلام وقف منه موقفا وسطا، فأقر بعض مظاهره التي كان عليها في الجاهلية وأبطل بعضها؛ من أجل تحقيق المصلحة العامة للنساء.
ومن المعلوم والثابت لكل ذي لب سليم أن من ادعى أو زعم شيئا وجب عليه إحضار البينة التي تثبت صحة ادعائه وزعمه، إذ البينة على من ادعى.
من هذا المنطلق نؤكد أن زعمهم بأنه - صلى الله عليه وسلم - أحد على زوجته السيدة خديجة - رضي الله عنهاـ زعم باطل؛ لأنهم عجزوا عن أن يأتوا ببينة تثبت صحة ادعائهم وزعمهم، ولكنهم لم يعترفوا بهذا، وأخذوا يستدلون على زعمهم هذا خطأ بأن الإحداد خاص بالنساء، وأن الرجال ليس عليهم إحداد، فهذا الاستدلال باطل لا يصلح أن يكون استدلالا على ادعائهم؛ لأنه بمنزلة حق أريد به باطل.
ونحن نقول لهؤلاء: من أين أتيتم بهذا الافتراء؟ هل وجدتم ذلك مسطرا في كتاب من كتب السيرة الموثوق في صحتها أم هو الافتراء والكذب؟
ثم كيف يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - فعل تتجاهله كتب السيرة ولا تذكره، مع أن هذه الكتب لم تترك شاردة ولا واردة من سيرته العطرة، إلا وسجلتها؟!
هب أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أحد على زوجته السيدة خديجة - رضي الله عنها - هل كان كفار قريش حينها سيتركونه دون توجيه طعن له، وهم الذين كانوا يتربصون به - صلى الله عليه وسلم - منتظرين أية هفوة أو ثغرة؛ كي ينالوا من شخصه صلى الله عليه وسلم؟!!
فإذا كان الإحداد تشريعا خاصا بالنساء فقط، فلا يصح شرعا أن يشاركها الرجال فيه، فضلا عن عدم جواز ذلك عقلا، فكيف إذن يدعى أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أحد على زوجته السيدة خديجة - رضي الله عنها - وهو الذي نهى في أحاديث كثيرة من سنته عن التشبه بالنساء؟!
فقال في الحديث الذي جاء عن ابن عباس قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال» [8] [9].
وإذا كان الإحداد زعما لا دليل عليه - كما أوضحنا - فما الذي فعله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة السيدة خديجة أم المؤمنين؟ ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - إلا الحزن والأسى على فراقها، وفاء لها، وعرفانا بالدور الكبير الذي لعبته في حياتهـ صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة، وبعدها.
يقول الإمام محمد أبو زهرة: "كانت خديجة هي الفقيدة الثانية التي أدخل موتها الحزن في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان قطعة من نفسها، وهي التي أذهبت عنه الرعب يوم جاءها يرجف فؤاده من أول لقاء بالوحي الإلهي، وهي التي كانت تأسو جراح قلبه، كلما لقي من قومه صدودا وأذى، وهي التي شاركته في حمل ضرائه، وكانت لها المنزلة الأولى بين نسائه.
ولمكانتها في نفسه لم يتزوج في حياتها غيرها قط معها، ولكن تزوج من بعدها، وإنها لعظم منزلتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الإسلام، بشرت ببيت في الجنة من قصب،[10] فقد جاء عن أبي هريرة أنه قال: «أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب» [11].
وقد قال السهيلي: "إنما بشرها ببيت في الجنة من قصب، يعني قصب اللؤلؤ؛ لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان، ولا صخب فيه ولا نصب؛ لأنها لم ترفع صوتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تتعبه في الدهر، فلم تصخب عليه يوما، ولا آذته أبدا".
ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يذكرها دائما بالخير، يحب من كانت تحبه، ويود من كانت توده، حتى كان ذكرها الدائم يثير غيرة بعض نسائه، حتى لقد قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: «ما غرت من امرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة، لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله - عز وجل - أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن» [12].
وكان مع ذكره لها يكرم ذاكرها، ومن يذكره بها، «ولقد استأذنت عليه هالة بنت خويلد أختها، فعرف استئذان خديجة، فارتاع[13]، فقال: اللهم هالة»[14].
وإننا نرى من هذا الكلام كله مكانة أم المؤمنين خديجة في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف كانت المواسي إذا ادلهمت الأمور واشتد البلاء، وكيف كانت المؤنس إذا استوحش من الناس، وكيف كانت الهدأة والسكن إذا ارتاع من هول ما يفعل الناس، فكان حقا عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يسمي عام وفاتها ووفاة عمه الكريم "عام الحزن"، وقد فقد فيه الحبيبين، الحامي المكافح، والمؤنس المواسي" [15].
وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثالا عاليا للوفاء ورد الجميل لأهله؛ فقد كان - صلى الله عليه وسلم - في غاية الوفاء مع زوجته المخلصة في حياتها وبعد موتها[16].
فهل في هذا أية مخالفة لما شرعه الله عز وجل؟ ومعلوم أن من سنته - صلى الله عليه وسلم - الطيب والتزين عند كل صلاة، لا سيما صلاة الجمعة، يقول سبحانه وتعالى: )يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31)( (الأعراف).
ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ترك تلك السنة بعد وفاة السيدة خديجة - رضي الله عنها - إحدادا عليها، فهو أرفع وأعلى مكانة من أن يفعل هذا؛ لأن الحداد خصيصة من خصائص النساء، وهو - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن التشبه بهن - كما ذكرنا ذلك سابقا - نظرا لاختلاف طبيعة الرجل عن طبيعة المرأة في ذلك الأمر، وفي أمور كثيرة انفرد بها كل نوع عن الآخر، فمن أين أتيتم إذن أيها المدعون الطاعنون بهذا الكلام المزعوم الذي يفتقد إلى دليل؟
الخلاصة:
· هناك بون شاسع بين الإحداد والحزن؛ إذ إن الإحداد خاص بالنساء، وهو واجب في حق الزوج، ومباح في غيره، أما الحزن فمباح للجميع، ذكرا كان أم أنثى، فكل إحداد حزن، وليس كل حزن إحدادا.
· إن الإحداد مظهر من مظاهر الوفاء للزوج، والأسف على فراقه، وهو كبقية الوفاء، يقوي مركز المرأة في أعين الناس؛ لأنه يدل على عاطفة نبيلة، وقلب فيه خير كثير.
· لقد وجد إحداد النساء لدى عرب الجاهلية، إلا أنه كان ذا طقوس غريبة، فلما جاء الإسلام نظمه، محددا أنواعه ومدته ومظاهره.
· إن الزعم بأنه - صلى الله عليه وسلم - قد أحد على السيدة خديجة - رضي الله عنها - زعم لا دليل عليه، والبينة على من ادعى، بل لم يكن منه - صلى الله عليه وسلم - إلا الحزن والأسى على فراقها؛ وفاء منه لإخلاصها، وهذا الحزن لا يمكن بحال من الأحوال أن يوصف بأنه حداد.
(*)