الزعم أن الزكاة إتاوة فرضها النبي - صلى الله عليه وسلم - على القبائل العربية(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفرض على القبائل ما ترى فيه إتاوة أو رشوة، يسوءهم أداؤها ويذلهم دفعها ولو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاته، ويستدلون على ذلك بأن كثيرا من القبائل قد عارض دفع الصدقة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مبرهنين على ذلك بقوله - عز وجل - آمرا نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ الصدقات من هذه القبائل الكثيرة المعارضة: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها( (التوبة: ١٠٣)، متوهمين أن في الآية ما يؤكد بواعث هذا التشريع المنفر. ويهدفون من وراء ذلك إلى التشكيك في بواعث بعض تشريعاته - صلى الله عليه وسلم - طعنا فيها وصرفا للناس عنها.
وجها إبطال الشبهة:
1) لم يعرف عن أحد من معاصري النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خالف في دفع الزكاة، فضلا عن أن تكون قبائل بأكملها.
2) قوله سبحانه وتعالى: )خذ من أموالهم صدقة( لا علاقة له بفرض الزكاة على الناس، بل هو في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك.
التفصيل:
أولا. لم يمتنع أحد عن دفع زكاة ماله للنبي صلى الله عليه وسلم:
في البداية نود أن نشير إلى أن هؤلاء المدعين قد أرادوا برفعهم هذه الشعارات اللفظية - إتاوة، رشوة - تصوير النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه حاكم ظالم مستبد، يفرض على الناس ما يرهقهم ويذلهم، وما يجعلهم دائما خاضعين له؛ لكي يملأ خزانته الخاصة.
ولكن هل يصدق هذا الكلام على رجل وجدت في بيته - إبان مرض موته - بضعة دنانير، فأمر أهله أن يتصدقوا بها، فنسوا لانشغالهم بمرضه، وأفاق يوم الأحد الذي سبق يوم وفاته، فسأل عائشة: «يا عائشة، ما فعلت الذهب"؟ فجاءت ما بين الخمسة إلى السبعة أو الثمانية أو التسعة، فجعل يقلبها بيده ويقول: "ما ظن محمد بالله - عز وجل - لو لقيه وهذه عنده؟! أنفقيها»[1]. ثم تصدق بها على الفقراء، وقد لقي الله في كساء ملبد[2] وإزار غليظ[3]؟!
أيمكن أن يصدق عاقل أن رجلا مستبدا ظالما يجمع أموال الناس ليملأ خزانته، ثم يأتيه الموت، وليس في بيته إلا بضعة دنانير لم يهدأ له بال حتى تصدق بها؟!
ثم إن الحق الذي يؤيده التاريخ وكتب السير أنه لم يظهر أحد من مانعي الزكاة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - معارضا له، أو مخالفا إياه، فضلا عن أن يكون هذا المانع قبائل كثيرة:
نعم لقد ارتدت بعض القبائل العربية بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن شكل ردتهم لم يكن واحدا؛ فقد كان المرتدون أصنافا ثلاثة: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكل منهما ادعى النبوة، وصنف ثالث استمروا على الإسلام، ولكنهم جحدوا الزكاة، وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعترضوا على إعطائها لخليفة النبي - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر الصديق.
فما كان من بعض الصحابة - ومنهم عمر بن الخطاب - إلا أن أشاروا على أبي بكر بأن يترك مانعي الزكاة، ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، ويدفعوها، فامتنع الصديق عن ذلك وأباه.
فعن أبي هريرة قال: «لما توفـي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله"؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا[4] - وفي رواية عقالا[5] - كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه، قال عمر: فوالله، ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر، فعرفت أنه الحق»[6] [7].
وهكذا كان المسلمون - أفرادا وقبائل - ملتزمين بأداء الزكاة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصفها ركنا من أركان الإسلام، ولم يتخلف أحدهم عن أدائها فضلا عن أن يتخلف كثير من القبائل عن أدائها - كما يدعي مثيرو هذه الشبهة - ولو صح هذا فلماذا لم يذكروا لنا اسم قبيلة واحدة من هذه القبائل الكثيرة التي ادعوا أنها عارضت أداء الزكاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟
يقول د. محمد عمارة: "ونحن هنا أمام دعوى تقول: إن قبائل كثيرة - ومع ذلك لم يذكر لنا اسم واحدة منها - قد عارضت وتمنعت - وهي مسلمة - في دفع الصدقة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - معتقدة أنه قد فرض عليها إتاوة أو جزية أو خراجا أو رشوة، وأن إخراجها للصدقة لا طوع فيه ولا اختيار، الأمر الذي يجعل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - معها ذلة وخضوعا وخنوعا منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم!!
وبرغم شذوذ هذا الادعاء، فإننا سنناقشه بموضوعيه وهدوء، فهؤلاء - كما قلنا - لم يذكروا لنا اسم قبيلة واحدة من القبائل الكثيرة التي صنعت ذلك.. ولم يذكروا لنا اسم مرجع أو مصدر واحد ذكر هذا الادعاء، والقرآن الكريم وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وجميع مصادر التاريخ لا أثر فيها ولا إشارة لهذا الذي قالوه" [8]!
ثانيا. آية التوبة لا علاقة لها باستدلالهم:
لقد استدل أصحاب هذه الدعوى بقوله سبحانه وتعالى: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (103)( (التوبة) على أن قبائل كثيرة امتنعت عن دفع الصدقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها اعتبرتها جزية أو خراجا أو إتاوة أو رشوة، يسوءهم أداؤها ويذلهم دفعها، فما كان من الله - عز وجل - إلا أن قضى على هذه الممانعة وتلك المعارضة، وذلك بأن أنزل هذه الآية، آمرا رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يأخذ الصدقات من هؤلاء الممانعين المعارضين.
هذا هو التفسير الخاطئ الذي فسر به هؤلاء آية سورة التوبة، ولا نصيب له من الصحة، وذلك أن المفسرين اختلفوا في هذه الصدقة المأمور بها في قوله سبحانه وتعالى: )خذ من أموالهم صدقة( فالجمهور على "أن الآية نزلت في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك، وكانوا ربطوا أنفسهم في سواري المسجد كما فعل أبو لبابة، وعاهدوا الله - عز وجل - ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يطلقهم ويرضى عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أؤمر بإطلاقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين"، فأنزل الله هذه الآية، فلما نزلت أرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأطلقهم وعذرهم، فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا. فقال: "ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا"، فأنزل الله سبحانه وتعالى: )خذ من أموالهم صدقة(قال ابن عباس: كانوا عشرة أنفس منهم أبو لبابة؛ فأخذ ثلث أموالهم، وكانت كفارة الذنوب التي أصابوها" [9].
فالجمهور إذن على أن هذه الآية مخصوصة بمن أنزلت فيهم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ منهم ثلث أموالهم، وليس هذا من الزكاة المفروضة في شيء؛ يقول د. محمد عمارة: "فإن آية )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم( تأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ صدقة هو ممتنع أو متوقف في أخذها.. ولا تأمر القبائل بدفع الصدقات المعارضين في دفعها!!
إن آية )خذ من أموالهم صدقة( قد نزلت عقب غزوة تبوك سنة 9هـ في صدقة تطوع بها نفر تخلفوا عن الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للغزو في تبوك، وهذه الصدقة التي أرادوا بها التكفير عن ذنب اقترفوه قد كانت ثلث أموالهم - التي فضلوا البقاء معها على الخروج للغزو، فلا علاقة لها بالزكاة والصدقات المفروضة، والمعروف مقاديرها في الأحاديث النبوية ومكاتبات الرسول - صلى الله عليه وسلم - للولاة، وفي كتب الفقه الإسلامي.
وعليه فالآية تتحدث عن صدقة، والرسول هو المتوقف في أخذها؛ لأنه لم يكن لديه فيها أمر بشيء، فأين هذه الصدقة التطوعية من الصدقة الفريضة التي يزعم هؤلاء أن كثيرا من القبائل قد كانت رافضة لفرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها وممتنعة عن أدائها؟!
فنحن هنا أمام نفر تطوعوا بكل أموالهم، كفارة عن ذنب اقترفوه، راجين التطهر من هذا الذنب، وطالبين من الرسول - صلى الله عليه وسلم - التصدق بهذا المال عنهم.
فأخذ ثلث أموالهم كفارة عن ذنبهم تصدق بها عنهم، وهو الأمر الذي يباعد بين تلك الكفارة وبين الصدقة الواجبة المفروضة ذات المقادير المحدودة والمحددة، التي فرضها الله - عز وجل - ولم يفرضها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكنه سوء القصد، يستعين بالتلفيق ليصور الرحمة المهداة في صورة المستبد الذي كانت كثير من القبائل المسلمة تتململ مما يفرضه عليها من إتاوات ترى فيها الذل والخضوع والخنوع" [10]!
الخلاصة:
· لم تكن الزكاة التي فرضها النبي - صلى الله عليه وسلم - على القبائل بمنزلة الإتاوة أوالرشوة، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا مستبدا ظالما يجمع أموال الناس بغير وجه حق، وكيف يوصف بذلك، وقد مات ولم يكن في بيته إلا بضعة دنانير أمر أن يتصدق بها قبل وفاته.
· كان المسلمون جميعا ملتزمين بأداء الزكاة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصفها ركنا من أركان الإسلام، ولم يتخلف أحدهم عن أدائها، فضلا عن أن يكون هذا المتخلف قبائل كثيرة كما يزعمون؟
· آية سورة التوبة )خذ من أموالهم صدقة( تأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ صدقة كان متوقفا في أخذها حتى يأمره الله - عز وجل - بأخذها، ممن تخلف عن غزوة تبوك من أصحابه، ومن الافتراء على الله القول بأن كثيرا من القبائل امتنعت عن دفع الصدقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تلك الآية آمرا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمعها من هؤلاء المعارضين؛ لأن أسباب النزول توقيفية لا يصح معها الاجتهاد.
(*) سقوط