دعوى تأثر تشريعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في العهد المدني باليهودية(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين تأثر تشريعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطور المدني بتشريعات اليهود، ويوردون في سياق الاستشهاد لهذا أنه - صلى الله عليه وسلم - اتبعهم في صيام يوم عاشوراء[1]، وأنه وافقهم في الصلاة؛ فصلى ثلاث مرات في اليوم والليلة في المدينة بعد أن كان يصلي مرتين بمكة. ويجعلون مثل هذا مدخلا إلى القول بإن الإسلام لم يأت بجديد؛ بغية إعادة النظر في جملة تشريعاته، وإفقاد المسلمين هويتهم وطابعهم التشريعي المتفرد المتمم الخاتم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن وجود الخلاف في كثير من العقائد والأحكام بين الإسلام واليهودية يدل على أن الإسلام لم يكن مقتبسا منها، بل جعل الشارع الحكيم جنس مخالفتهم أمرا مقصودا إليه، ومن متطلبات الشرع.
2) لقد ثبت أن العرب قبل الإسلام كانوا يعرفون الصوم بكيفياته، من الامتناع عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الشمس إلى غروبها، بدليل صيامهم يوم عاشوراء، وقد صامه النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة وأمر بصيامه بعدها، ولكنه خالف اليهود في ذلك؛ فأمر بصيام يوم قبله أو بعده.
3) فرض الله - سبحانه وتعالى - على نبيه خمس صلوات في اليوم والليلة، وليس ثلاث صلوات، وذلك منذ أن فرضت الصلاة في ليلة الإسراء والمعراج، ثم إنها تختلف في أحكامها وأركانها ومقدماتها وروحانياتها عن غيرها من صلوات الأمم الأخرى.
التفصيل:
أولا. مخالفة الإسلام للشريعة اليهودية ونهيه عن التشبه بأهلها:
لعل من أقوى ما يدل على أن الإسلام لم يكن مقتبسا من اليهودية - أو النصرانية، أو غيرهما - وجود الخلاف بينهما في كثير من العقائد والأحكام، بل جعل الشارع الحكيم جنس مخالفتهم أمرا مقصودا إليه ومن متطلبات الشرع، وهناك كثير من الأحكام جعلت العلة فيها مخالفة اليهود أو النصارى، ومن ذلك:
· قوله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم»[2].
· قوله صلى الله عليه وسلم:«خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم» [3].
· عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله سبحانه وتعالى: )ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222)( (البقرة). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه».[4] قال الإمام ابن تيمية: "فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود، بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم، حتى قالوا: ما يريد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه" [5].
فهذا إقرار من اليهود بمخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كانوا عليه من شعائر حتى اشتهر ذلك بينهم، ألا يكفي ذلك برهانا ساطعا على بطلان قولهم: إنه كيف شعائر الإسلام لتتفق مع شعائر اليهود؟
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ أن بعث وحمل رسالة الإسلام، نسخ الأديان السابقة وأبطل شرعيتها، فلا نجاة لأحد من الخلق يهوديا كان أو نصرانيا إلا بالتزام شرعه والسير على نهجه، ولا بقاء لدين مع دينه - صلى الله عليه وسلم - ولا لشريعة مع شريعته، بل دينه هو الحاكم والمهيمن على كل الأديان، قال سبحانه وتعالى: )وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا( (المائدة: ٤8)[6].
وقد أشارت الآية إلى حالتي القرآن بالنسبة لما قبله من الكتب؛ فهو مؤيد لبعض ما في الشرائع السابقة، وذلك فيما لم تختلف المصلحة منه باختلاف الأمم والأزمان، وهو بهذا الوصف مصدق؛ أي محقق ومقرر، وهو أيضا مبطل لبعض ما في الشرائع السالفة، وناسخ لأحكام كثيرة من كل ما كانت مصالحه جزئية مؤقتة مراعى فيها أحوال أقوام خاصة[7].
ومن هنا كان شرع من قبلنا شرعا لنا إذا ثبت أن الله قد أقره ولم ينسخه، فإذا كان هناك تشابه بين التشريعات في الإسلام واليهودية، فذلك يرجع إلى أن المشرع واحد وهو الله، ورغم ذلك فإن الله - سبحانه وتعالى - قد أمر نبيه أن يخالف اليهود في كثير من تشريعاتهم، ولا يتبع أهواءهم، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48)( (المائدة).
وقد روي أن اليهود عرضوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام بعينها، منها حكم الرجم للزاني، وأن هذا التحذير في هذه الآية قد نزل بخصوص هذا العرض، ولكن الأمر - كما هو ظاهر - أعم من حالة بعينها وعرض بعينه، فهو أمر يعرض في مناسبات شتى، ويتعرض له أصحاب هذه الشريعة في كل حين، وقد شاء الله أن يحسم هذا الأمر، وأن يقطع الطريق على الرغبة البشرية الخفية في التساهل مراعاة للاعتبارات والظروف، وتأليفا للقلوب حين تختلف الرغبات والأهواء، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: إن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولكنه جعل لكل منهم طريقا ومنهاجا.
إذن لا يجوز له - صلى الله عليه وسلم - أن يفكر في التساهل في شيء من الشريعة لتجميع المختلفين في المشارب والمناهج، فهم لا يجتمعون، بذلك أغلق الله - عز وجل - مداخل الشيطان كلها، وبخاصة ما يبدو منها خيرا وتأليفا للقلوب وتجميعا للجميع! أو في مقابل ما يسمونه وحدة الصفوف.
إن شريعة الله أبقى وأغلى من أن يضحى بجزء منها في مقابل شيء قدر الله ألا يكون، فالناس قد خلقوا ولكل منهم استعداد، ولكل منهم مشرب، ولكل منهم منهج، ولكل منهم طريقة، ولحكمة الله خلقوا هكذا مختلفين، وقد عرض الله عليهم الهدى وتركهم يستبقون، وجعل هذا البلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم، يوم يرجعون إليه، وهم إليه راجعون.
ومن هنا فإن محاولة التساهل في شيء من شريعة الله - في ظل هذا النص الصادق الذي يبدو مصداقه في واقع الحياة البشرية في كل ناحية - تبدو محاولة سخيفة[8].
فإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهي عن مجرد التساهل في شريعة الله - إرضاء لليهود - فكيف يتهمونه بأن شريعته قد جاءت متأثرة باليهود؟! وإذا كانت الوثائق التاريخية تؤكد محاولات اليهود لإقناع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل على شريعتهم، وأن يخالف شريعة الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يأبى ويتمسك بأوامر الله وشريعته ويرفض أن ينفذ رغباتهم، بل يرفض إسلامهم بهذه المساومة الدنيئة - فهل يعقل بعد ذلك أن يقال: إن شريعته جاءت متأثرة بهم؟!
ثانيا. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم يوم عاشوراء ويعظمه قبل مقدمه إلى المدينة:
لقد ثبت أن العرب قبل الإسلام كانوا يعرفون الصوم بكيفيته المقررة من الامتناع عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الشمس إلى غروبها، بدليل صيامهم يوم عاشوراء، وقد صامه النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وأمر بصيامه بعدها، ولكنه خالف اليهود فأمر بصيام يوم قبله أو بعده.
أما عن اتهامهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان يصوم عاشوراء تقليدا لليهود واتباعا لهم، فنقول في الرد عليه: لقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم عاشوراء في مكة قبل قدومه المدينة، ويدل على ذلك قول عائشة - رضي الله عنها -: «كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه» [9]، وفي رواية: «وكان يوم تستر فيه الكعبة» [10]، فدل بهذا على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصمه موافقة لليهود أو اقتداء بهم، وإنما صامه وأمر بصيامه تعظيما له، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه وأمته أحق بموسى من اليهود، فإذا صامه موسى شكرا لله، كنا أحق أن نقتدي به من اليهود، لا سيما إذا قلنا: شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخالفه شرعنا.
كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين نوع مخالفته لليهود في صيام عاشوراء، عندما شرع صيام يوم قبله أو بعده، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفـي رسول الله صلى الله عليه وسلم»[11] [12].
وقد اتهموا النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا بأنه أخذ مدلول الصوم - بمعنى الإمساك عن الطعام والشراب - عن اليهودية، ولكن لماذا يلجأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليهود لينقل مدلول الصوم عنهم، وقد كان الصوم بهذا المدلول معروفا عند العرب قبل الإسلام؟!
فقد ورد أن العرب كانوا يصومون - كما جاءت الأخبار - قبل الإسلام، وكان ذلك من بقايا الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام.
قال الإمام ابن تيمية: كان معقولا عندهم - أي العرب - أن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع، ولفظ "الصيام" كانوا يعرفونه قبل الإسلام ويستعملونه، كما في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن يوم عاشوراء كان يوما تصومه قريش في الجاهلية" [13].
وقال الإمام ابن القيم: "فلا ريب أن قريشا كانت تعظم هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه، ولكن إنما كانوا يعدون بالأهلة فكان عندهم عاشر المحرم، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وجد اليهود يعظمون ذلك اليوم ويصومونه، فسألهم - صلى الله عليه وسلم - عنه فقالوا: «هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى - عليه السلام - وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيما له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن أولى بموسى منكم» [14]، فصامه وأمر بصيامه تقريرا لتعظيمه، وأخبر أنه أحق بموسى من اليهود، فإذا صامه موسى شكرا لله، كنا أحق أن نقتدي به من اليهود" [15]، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بسنة عزم أن يصوم التاسع من المحرم لينضم إلى العاشر حتى يخالف بذلك تعظيم اليهود له، حيث أصبحت مخالفة اليهود والنصارى من المقاصد الشرعية التي يراها كل مستبصر ودارس للإسلام.
وقال سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183)( (البقرة)، فهذه شهادة بأن الله تعالى فرض الصيام على هذه الأمة، شأنها في ذلك شأن الأمم من قبلها، فلم ينكر الإسلام هذه الشعيرة عند الأمم السابقة، بل أقرها وأثبتها، وجعل فرضيتها في الإسلام محققة للتقوى في قلوب المسلمين. قال الإمام ابن كثير: وقد روي أن الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر ثلاثة أيام، عن معاذ وابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة والضحاك بن مزاحم وزاد: "لم يزل هذا مشروعا من زمان نوح - عليه السلام - إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان". وقيل: (كما فرض على الذين من قبلكم) من أهل الكتاب أيام معدودات، وهي شهر رمضان؛ لأن من بعد إبراهيم كان مأمورا باتباع إبراهيم - عليه السلام - وذلك أن الله - عز وجل - جعله إماما للناس، وقد أخبرنا أن دينه كان الحنيفية المسلمة، فأمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - بمثل الذي أمر به من قبله من الأنبياء.
ويقول الدهلوي: اختلفت سنن الأنبياء - عليهم السلام - في الصوم، فكان نوح - عليه السلام - يصوم الدهر، وكان داود يصوم يوما ويفطر يوما، وكان عيسى - عليه السلام - يصوم يوما ويفطر يومين أو أياما، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في خاصة نفسه يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم، ولم يستكمل صيام شهر إلا رمضان.
فالصوم شريعة الله لأنبيائه جميعا وإن اختلفت سننهم في الأخذ من هذه الشريعة.
ومن ذلك يتبين لنا أن الصيام كان فريضة على المسلمين كما كان فريضة على أمم من قبلهم، وأنه لم يكن تقليدا لليهود أو غيرهم، وإنما هو شريعة شرعها الله للمسلمين، وأمرهم بها كما أمر الأمم من قبلهم، فإن كان هناك تماثل أو تشابه بين هذه الشرائع، فذلك يرجع إلى أن المشرع واحد وهو الله سبحانه وتعالى.
يقول د. ناصر محمد السيد: "إننا لسنا مولعين بإنكار التشابه بين الإسلام ومواريث الحق الباقية من اليهودية والمسيحية؛ لأننا - نحن المسلمين - نؤمن بأن دين الله واحد، تعددت شرائعه باختلاف الزمان والمكان، حتى جاءت الرسالة الخاتمة، فكانت موائمة لكل زمان ومكان، موافقة لحاجات الإنسان الروحية والمادية، ونؤمن بأن الله - عز وجل - فرض عليهم صلاة وزكاة وصوما وحجا، ومن ثم فالتشابه بين مقررات الإسلام ومواريث الحق الباقية من هاتين الديانتين أمر طبعي، ولكننا نبغي الموضوعية في المعالجة، وألا يعلو في ديننا غير الحق".
وثمة ملاحظات مهمة يقف عليها الدارس للصوم في اليهودية والنصرانية، وهي تدل على الفرق الشاسع بين الصوم في الإسلام والصوم في اليهودية والنصرانية، ومن هذه الملاحظات:
· الصوم عندهم ليس فرضا، فالصوم الوحيد المذكور في الكتاب المقدس هو صوم يوم الكفارة، ولم يذكر صراحة، وإنما ذكر كنوع من تذليل النفس؛ وأما الأنواع الأخرى المذكورة فليس فيها ما يدل على فرضيته، كما أن الممارسة العملية لشريعة الصوم في الوقت الحاضر تدل على ذلك. وفي المسيحية، لا يوجد في الأناجيل نص يقضي بفرض الصوم، وإنما فيه ذكره ومدحه واعتباره عبادة فقط، وذلك كالنهي عن الرياء وعدم العبوس في الصوم.
· يلاحظ تصرف الكهنة والحاخامات اليهود ورجال الدين النصارى في هذه الشعيرة بالزيادة والنقصان.
· الصوم لديهم عبارة عن إمساك كلي عدة ساعات عن الطعام والشراب، وبعد ذلك إمساك عن مطعومات معينة خلال مدة معينة، وهو مخالف تماما لطبيعة الصوم في الإسلام.
وعند إمعان النظر في الفرق بين شريعة الصوم في الإسلام والديانات الأخرى نجد فروقا جوهرية، من حيث طبيعة الصيام وعدد الأيام والحكمة من الصيام وتنظيم الشعيرة، وكل هذه الفروق تصب لمصلحة الشعيرة في الإسلام[16].
فأين هذا الاقتباس إذن؟ بل أين هذا التشابه؟
ثالثا. سعة الخلاف في الصلاة بين اليهودية والإسلام، وقد فرضت في الإسلام خمسا من أول الأمر:
إن الصلوات الخمس فرضت بمكة ليلة الإسراء والمعراج، حين عرج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء، ولا خلاف بين أهل العلم وأهل السير في ذلك، وهذا الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي وردت في صفة الإسراء والمعراج في الصحيحين وغيرهما، من أحاديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم[17].
وقد جاء جبريل - عليه السلام - في مكة إلى النبي يعلمه مواقيت الصلاة فكانت خمس صلوات، وذلك ما يرويه ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمني جبريل عند البيت، فصلـى بي الظهر حين زالت الشمس، فكانت قدر الشراك، ثم صلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى بي المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى بي العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، ثم صلى الغد الظهر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم صلى بي المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى بي العشاء إلى ثلث الليل الأول، ثم صلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إلي فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين»[18].
والحديث فيه دليل صريح على عدد الصلوات منذ أن شرعت ليلة الإسراء والمعراج، فكانت خمس صلوات، وقد علمها جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه كذلك دليل على أن ذلك كان في مكة عند البيت الحرام، فإذا كانت الصلاة منذ أن فرضت خمس صلوات، وكان ذلك قبل الهجرة في مكة، فأين ما يزعمونه من أن الصلاة كانت في مكة مرتين، ثم صارت ثلاث مرات في المدينة تأثرا باليهود؟!
وقال ابن العربي في هذا الحديث: ظاهره يوهم أن هذه الصلوات في هذه الأوقات كانت مشروعة لمن قبله من الأنبياء، وليس كذلك، وإنما معناه أن هذا وقتك المشروع لك، يعني الوقت الموسع المحدود بطرفين: الأول والآخر، وقوله: "وقت الأنبياء قبلك" يعني ومثله وقت الأنبياء قبلك، أي صلاتهم كانت واسعة الوقت، وذات طرفين، وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذا الميقات إلا لهذه الأمة خاصة، وإن كان غيرهم قد شاركهم في بعضها[19].
فالصلاة الإسلامية بمواقيتها هذه لا تعرف عن أمة أخرى، إنما هي مما امتازت به هذه الشريعة عن شرائع الأمم السابقة، وذلك يزداد وضوحا عند مقارنة صلاة المسلمين بالصلاة اليهودية التي يدعى أنها مقتبسة منها:
عدد الصلوات اليهودية:
الصلوات الواجبة على اليهود ثلاث في كل يوم:
1. صلاة الفجر: ويسمونها صلاة السحر "شحاريت"، ووقتها منذ تبين الخيط الأبيض من الخيط الأزرق إلى ارتفاع عمود النهار، وفيها يرتدي المصلي ملاءة خاصة، ويربط التعويذات بالذراع الأيسر والرأس.
2. صلاة نصف النهار أو القيلولة "منحة": وتجب منذ انحراف الشمس عن نقطة الزوال إلى ما قبل الغروب.
3. صلاة المساء: ويسمونها صلاة الغروب "عربيت"، ووقتها من غروب الشمس وراء الأفق إلى أن تتم ظلمة الليل الكاملة.
وكانت الصلاتان الأخيرتان تختزلان إلى صلاة واحدة "منحة معاريف" ويجب على اليهودي أن يغسل يديه قبل الصلاة[20].
وكانت الصلاة عندهم تتضمن ركوعا وسجودا، فقد خاطب الله بني إسرائيل في القرآن الكريم )واركعوا مع الراكعين( (البقرة: ٤٣)، )وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم( (البقرة: ٥٨).
ولكن تطورا حدث لهذه الصلاة بفعل التدخل البشري القاصر في دين الله، فقد تغيرت حركات اليهود أثناء الصلاة عبر العصور، ففي الماضي كان اليهود يسجدون ويركعون في صلواتهم، ولكن الأغلبية العظمى الآن تصلي جلوسا على الكراسي، ولا يخلع اليهود نعالهم أثناء الصلاة باستثناء الفلاشاه السامريين.
وهو دليل واضح على بشرية، بل وثنية هذه الديانة في صورتها الحالية[21].
وقد أوردنا هذه الصورة المبسطة عن الصلاة اليهودية وكيفية أدائها وعددها ليتبين مدى الاختلاف الشاسع بينها وبين الصلاة في الإسلام؛ فالصلاة في اليهودية ثلاث صلوات، أما الصلاة في الإسلام فهي منذ أن فرضها الله خمس صلوات، وقد كان ذلك في مكة في ليلة الإسراء والمعراج - كما ذكرنا من قبل - والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في ذلك الوقت قد اختلط باليهود، فالمعروف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتعامل مع اليهود وعلمائهم إلا في المدينة بعد الهجرة، وتشريع الصلاة كان في مكة وقبل الهجرة، فهذا الفرق الكبير في الزمن الذي يفصل بين تشريع الصلوات الخمس، وبين تعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - على اليهود والتعامل معهم في المدينة بعد الهجرة - يكفي للرد على بطلان ما يزعمون، فكيف يأخذ عنهم الصلاة، وهو لا يعرفهم ولم يتعامل معهم، ولم يكن له علم من قبل، فقد كان أميا لا يقرأ ولا يكتب؟! ولو كان قد أخذ عنهم الصلاة كما يزعمون لكان عدد الصلوات ثلاث صلوات كما هي عند اليهود؛ ولكن الصلاة في الإسلام هي منذ أن شرعت خمس صلوات، ولم تتغير منذ أن فرضها الله على أمة الإسلام ليلة الإسراء والمعراج.
كما أن البعد العقدي والأخلاقي والاجتماعي والصحي للصلاة في الإسلام لا يمكن أن تدانيه تلك الصلوات اليهودية التي شابتها عناصر وثنية انحرفت بها عن القدسية، وقطعتها عن مصدرها الإلهي.
إن دقة التشريع الإسلامي في الصلاة، وشموله وكماله في عددها وأركانها وسننها وهيئاتها، وفيما يتقدمها من نوافل ويتأخر عنها، وفي أوقاتها، وفيما يسبقها من طهارة ويخلفها من أذكار وختام، وفي تنوع تراكيبها، وفي تناسقها، وفي روحانياتها - كل هذا يدل على قدسية مصدرها، وعظمة المقصود بها، وطهارة من علمها للناس، واقتداء الخلف بعد السلف في أدائها بالمعصوم - صلى الله عليه وسلم - بحيث لو قام - صلى الله عليه وسلم - في الناس اليوم لم ينكر منها شيئا[22].
وهذا كله يبين لنا بطلان قولهم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ من اليهود صلاتهم أو أي شيء من شرائعهم.
الخلاصة:
· لقد جعل الله - سبحانه وتعالى - مخالفة اليهود في كثير من التشريعات التي شرعها للنبي - سبحانه وتعالى - أمرا جازما، إذ وضح - سبحانه وتعالى - أن لكل أمة شريعة ومنهاجا، تختص بها دون غيرها، يقول سبحانه وتعالى:)لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا( (المائدة: 48).
· ومن مظاهر هذه المخالفة قوله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم" [23]، والأمثلة على ذلك كثيرة، حتى إن اليهود قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لم يترك شيئا إلا خالفنا فيه، فكيف يأخذ عنهم ثم يخالفهم فيما جاء به؟!
· لقد ثبت أن العرب قبل الإسلام كانوا يعرفون الصوم بكيفياته، حتى إنهم كانوا يصومون يوم عاشوراء من طلوع الشمس إلى الغروب، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صام عاشوراء قبل النبوة، ثم أمر بصيامه بعد النبوة حتى فرض صيام شهر رمضان، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم - صوم يوم عاشوراء - سنة، من شاء صامه ومن شاء أفطره، ثم إنه في العام الأخير من حياته قد نبه على ضرورة مخالفة اليهود، فأمر المسلمين بأن يصوموا قبله يوما أو بعده يوما، وقال: إن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر، وليس في هذا ما يدل على أخذه منهم أو تشبهه بهم.
· من الثابت والمعلوم أن الصلاة عندما فرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإسراء والمعراج، قد جعلها الله خمس صلوات في اليوم والليلة، حيث فرضها الله - سبحانه وتعالى - في أول الأمر خمسين صلاة، فظل النبي - صلى الله عليه وسلم - يرجع إلى ربه ويسأله التخفيف حتى صارت خمسا في العمل وخمسين في الأجر، فكيف يدعون أن عدد الصلوات في الإسلام قد أخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود عندما جاء المدينة؟! ثم إن الصلاة في الإسلام تختلف بكيفياتها وروحانياتها وأوقاتها ومقدماتها والأذكار التابعة لها عن أية صلاة أخرى في أي دين آخر، وهذا ما يميز شريعة الإسلام عن غيرها من الشرائع الأخرى.
(*) موسوعة القرآن العظيم، د. عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2004. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م.