الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تأثر بتقاليد الجاهلية في الوثيقة التي وضعها لحكم المدينة (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغالطين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تأثر بتقاليد الجاهلية، ويستدلون على ذلك بما يزعمونه من أن الوثيقة التي وضعها - صلى الله عليه وسلم - لحكم المدينة وتنظيم شئونها كانت وثيقة شبه جاهلية أكثر منها إسلامية؛ إذ لم تشر هذه الوثيقة إلى القرآن الكريم أو تعاليم الإسلام، ولم تبن على ما فيهما من قيم وأحكام، وهم بذلك يشككون في مدى موافقة دستور دولته لمقتضى رسالته صلى الله عليه وسلم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) ما جاء في الوثيقة من قيم وأحكام وتشريعات ينافي تماما ما كان سائدا في الجاهلية من ظلم وعدوان وفساد وفوارق طبقية.
2) إن هذه الوثيقة تبدأ بالبسملة وتحمل بعض المعاني القرآنية، وهو ما يعرف بالتضمين.
3) تعد الوثيقة سبقا تاريخيا في وضع وثائق بناء الدول، وفي صياغة مبادئ وأسس تتضمنها الوثائق الدستورية الحديثة، وتحمل من المعاني الحضارية الشيء الكثير، مما توافق الناس على تسميته اليوم "بحقوق الإنسان".
التفصيل:
أولا. مخالفة ما جاء في الوثيقة لما كان عليه الناس في الجاهلية:
عرفت هذه الوثيقة بوثيقة الموادعة والمهادنة بين المسلمين واليهود في المدينة، فمجتمع المدينة كان يتكون من المهاجرين والأنصار - وهم الأوس والخزرج - واليهود، وبقية لم يسلموا بعد من الأوس والخزرج، ولقد أذاب الإسلام ما بين الأوس والخزرج من حقد، وأزال ما بينهما من ضغائن، ثم آخى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، ولكي تستقر الأحوال في المدينة كان لا بد من خلق جو من الأمن بين جميع سكانها، يسطر في وثيقة مكتوبة تلزم جميع الأطراف ببنود محددة يستشعرون من خلالها الأمان على أنفسهم، والحفاظ على عقائدهم وأموالهم، وأن تحترم بنود هذه الوثيقة دون نقص أو إخلال، وقد أملى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنود الوثيقة وارتضتها الأطراف جميعا، وجاء في مطلعها:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، وإنهم أمة واحدة من دون الناس...". فكان أول ما بدأت به هذه الوثيقة هو البسملة، وهي بما فيها من معاني الرحمة تدل على إسلامية هذه الوثيقة وما بنيت عليه من مبادئ الرحمة الإلهية، لا القسوة الجاهلية، ومن المعروف أن البسملة بهذه الصيغة (بسم الله الرحمن الرحيم) لم تنتشر إلا في ظل الإسلام، ولقد كانت وثيقة الموادعة تلك صريحة بأسباب السماحة الإسلامية، مليئة بالمبادئ الإنسانية التي لم تعرف من قبل في الجاهلية، ومن أبرز موادها: "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم" و "من خرج من المدينة فهو في أمان، ومن قعد فهو في أمان إلا من ظلم وأثم"، و "المسلمون جميعا ضد من ظلم أو بغى أو اعتدى، أو أفسد بين المؤمنين، ولو كان ولد أحدهم"، و "أنه من تبعنا من يهود فإن له النصر، والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم"، و "أن بطانة يهود كأنفسهم"، و"أنه لا يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم"، و "أن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم"، فأين هذه المبادئ الإنسانية التي شرعها الإسلام، والتي تتسم بالعدل والأمان، وحسن الجوار من تلك التي كانت سائدة في الجاهلية، وما عرف به المجتمع الجاهلي من تفكك ومنازعات قبلية واختلافات عنصرية ودينية، وما كان فيه من أحكام استبدادية وحقوق ضائعة مهدورة. إن المتمعن في نصوص الوثيقة يستخلص منها كيف اهتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببناء الأمة: أي تحديد الروابط السياسية والاجتماعية والقانونية بين فئات السكان[1]، وكان همه في ذلك هو توفير الأمن والسلام والسعادة والخير للبشرية جمعاء، مع تنظيم المنطقة في وفاق واحد، فسن في ذلك قوانين السماح والتجاور التي لم تعهد من قبل في الجاهلية، ذلك المجتمع المليء بالتعصب والظلم، وكان أقرب من يجاور المدينة من غير المسلمين هم اليهود، وهم وإن كانوا يبطنون العداوة للمسلمين، فإنهم لم يكونوا أظهروا أية مقاومة أو خصومة بعد، فعقد معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاهدة ترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال، ولم يتجه إلى سياسة الإبعاد والمصادرة والخصام، وبإبرام هذه المعاهدة صارت المدينة وضواحيها دولة عاصمتها المدينة، ورئيسها - إن صح هذا التعبير - رسول الله صلى الله عليه وسلم[2]، وبمقتضى هذه الوثيقة أصبحت المدينة حرما آمنا، وأصبح كل من المسلمين واليهود في أمن من جانب الآخر، كما أصبح اليهود ملزمين بمعاونة المسلمين إذا دهم المدينة عدو، وبعدم مناصرة المشركين أو مساعدتهم، وقد قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها تحريم الجريمة والإثم والغدر والخديعة، ويعد ذلك فتحا جديدا حقا في الحياة السياسية والمدنية في العالم يومئذ، هذا العالم الذي كان يغلب عليه - في الجاهلية - روح الاستبداد، وتعيث فيه يد الظلم فسادا، ولا تراعى فيه الحقوق والحرمات[3].
مفهوم الأمة لم تعرفه الجاهلية من قبل:
إن ما تضمنته الصحيفة أو الوثيقة من مبادئ وأحكام تشريعية، مرجعه للأساس القرآني الكريم، وقد كان في طليعة هذه المبادئ تحديد مفهوم الأمة؛ فالأمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعا: مهاجرين وأنصارا، ومن تبعهم ممن لحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس، وهذا شيء جديد كل الجدة في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب[4]، ولم يعرف من قبل في المجتمع الجاهلي عند العرب، فالمعروف أن العرب في الجاهلية لم يكونوا أبدا أمة متحدة متماسكة البنيان لها دولة ذات سيادة، بل كانوا قبائل متفرقة، تتناحر فيما بينها، ويتمثل هذا التناحر في حروب طاحنة، يغزو بعضهم بعضا، ويغنم بعضهم أموال بعض، ويأسر بعضهم أبناء بعض، ويسبي بعضهم نساء بعض، وتسفك دماؤهم، ومما يؤسف له أن هذه الحروب كانت تقوم بين القبائل لأتفه الأسباب[5].
وبتحديد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الوثيقة لمفهوم الأمة الواحدة، ينقل قومه من شعار القبلية والتبعية لها إلى شعار الأمة، التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، فلقد قالت الصحيفة عنهم: إنهم "أمة واحدة"، وجاء ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى: )إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (92)( (الأنبياء).
وبهذا الاسم أو المفهوم "الأمة" الذي أطلق على جماعة المسلمين والمؤمنين ومن تبعهم من أهل يثرب، اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم تربط بينهم رابطة الإسلام، يتكافلون فيما بينهم، وينصرون المظلوم على الظالم، ويرعون حقوق القرابة والمحبة والجوار، فأصبحوا أمة واحدة تربط أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم، وتتحد قبلتهم وولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف، وهم يتمايزون بذلك كله على بقية الناس، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الوثيقة "من دون الناس"، فإذا كانت الصحيفة جاهلية كما يدعون فهل تمثل مفهوم الأمة الواحدة في المجتمع الجاهلي ذي القبائل المتناحرة المتنافرة من قبل؟! فكيف يتأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجاهلية وهو يضع مبادئ وتشريعات جديدة تخالف ما وجد في هذا المجتمع الجاهلي السابق عليه؟! كيف يتأثر بالجاهلية وهو يبني مجتمعا جديدا يناقض ما كان سائدا في المجتمع الجاهلي من ظلم واستبداد وتفرقة، وعدم مساواة بين الناس في الحقوق والواجبات؟!
المرجعية العليا لله ورسوله:
ومن هذه المبادئ: أن الصحيفة جعلت الفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا غير، فقد جاء فيها "وأنكم مهما اختلفتم من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم".[6] ويدلنا ذلك على أن الحكم العدل الذي لا ينبغي للمسلمين أن يهرعوا إلى غيره في سائر خصوماتهم وخلافاتهم وشئونهم إنما هو شريعة الله تعالى وحكمه.
وهذا ما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم[7]، وذلك مصداقا لقوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)( (النساء)، ويعد هذا المبدأ من أنصع مواد هذه المعاهدة، ذلك أن التحكيم فيما بينهم مرده إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يمكن أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ هذا المبدأ من المجتمع الجاهلي الذي كان يشيع فيه عبادة الأصنام والأوثان، والشرك بالله، فالعرب لم يكونوا على دين واحد يرجع إلى شرائعه، حتى يلزم المرء بتنفيذ ما جاء في حكمه[8].
فقد كان الرؤساء والأشراف يفضون المنازعات وفق العرف والعادة، وهي قوانين وضعوها وساروا عليها، ويحكمون من خلالها[9].
أما الصحيفة فقد نصت على تحقيق العدالة والمساواة بين الناس.
يقول - صلى الله عليه وسلم - في الوثيقة: "وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم" [10].
ويدل ذلك على مدى الدقة في المساواة بين الناس، لا من حيث إنها شعار براق للدعاية والعرض، بل من حيث إنها ركن من الأركان الشرعية المهمة للمجتمع الإسلامي، يجب تطبيقه بأدق وجه وأتم صورة، وحسبك مظهرا لتطبيق هذه المساواة ما قرره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا البند من الوثيقة بقوله: "ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم"، ومعنى ذلك أن ذمة المسلم أيا كانت محترمة، وجواره محفوظ لا ينبغي أن يجار عليه فيه، فمن أدخل من المسلمين أحدا في جوار، فليس لغيره حاكما أو محكوما أن ينتهك حرمة جواره هذا، كما أن المرأة المسلمة لا تختلف في هذا عن الرجل إطلاقا، فلجوارها - أيا كانت - من الحرمة ما لا يستطيع أن ينتهكه أي إنسان مهما علت رتبته وبلغت منزلته، ويؤكد هذا ما جاء عن أم هانئ بنت أبي طالب أنها ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فقالت: «يا رسول الله، زعم ابن أمي على أنه قاتل رجلا أجرته: فلان ابن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» [11].
ونستطيع أن نتأمل هذا فنعلم الرفعة التي نالتها المرأة في حـمى الإسلام وظله، وكيف أنها نالت حقوقها الإنسانية والاجتماعية التي كانت مسلوبة منها في الجاهلية، كما نالها الرجل سواء بسواء مما لم يحدث نظيره في أمة من الأمم[12].
كما أن حق الجوار والحماية لم يكن يناله كل الرجال في المجتمع الجاهلي، بل كان يناله السادة والأشراف فقط، لقد كان قانون الحماية في أرض العرب في الجاهلية يقوم على نصرة العشيرة والقبيلة، وهو أمر أكدته الأشعار والأمثال العربية مثل: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" حتى عدله الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن نصرة الظالم:«منعه من الظلم» [13].
ووفقا لقانون هذه العصبية القبلية سادت حياة العرب في الجاهلية، وبهذا كان يحصل الفرد على الضمان الأمني، أما من كان غريبا، أو لم تكن له عشيرة قوية، فقد كان يلجأ إلى أحد السادة الأشراف ويدخل في جواره، فيقوم السيد بإشهاد الناس على ذلك، ويحصل الغريب أو الضعيف على الأمن[14].
أما رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - فيقرر في هذه الوثيقة أن الناس كلهم سواء، ويتيح الحماية والأمان للجميع، ويبين لكل من الرجل والمرأة الحقوق والواجبات التي كفلها الإسلام لهما، بل يرفع مكانة المرأة ويعزها بعد ذلها وإهانتها في المجتمع الجاهلي، ووأدها في التراب حية تخلصا منها وخوفا من الفقر والعار، يقول عز وجل: )وإذا الموءودة سئلت (8) بأي ذنب قتلت (9)( (التكوير).
كما يقول المولى عز وجل: )وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم (58)( (النحل)، فهل كانت تلك المبادئ التي يقررها الرسول - صلى الله عليه وسلم - موجودة في العصر الجاهلي؟ ذلك العصر الذي اتسم بالظلم والجهل والعصبية، أيمكن أن يستمد الرسول - صلى الله عليه وسلم - منه هذه القيم والأخلاقيات التي شرعها في وثيقته؟
ويمكنك بسهولة ويسر أن تلاحظ الفرق بين ما أحدثه نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم - من عدل ومساواة إنسانية رائعة، وبين ما كان سائدا في الجاهلية من تفرقة واستبداد، لقد أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأسس والمبادئ ليتوخى منها سعادة الناس كلهم رجالا ونساء، أفرادا وجماعات[15]، وقام - صلى الله عليه وسلم - بإلغاء نظام الطبقية وجعل الناس سواء، لا فرق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، والمعروف أن سكان الجزيرة في الجاهلية ساد بينهم النظام القبلي، وكانت القبيلة العربية مجموعة من الناس تربط بينهم وحدة الدم (النسب)، وهذا النظام القبلي يتألف من ثلاث طبقات:
1. طبقة الأحرار: وهم أبناء القبيلة الصرحاء، وهم السادة والأشراف.
2. طبقة الموالي: وهم من انضموا إلى القبيلة من العرب الأحرار من غير أبنائها بطريق الحلف أو الجوار، أو العتقاء من العبيد.
3. طبقة العبيد: وهم المجلوبون عن طريق الشراء أو الأسر في الحرب، وقد سلبوا معظم حقوقهم الإنسانية وأهدرت إنسانيتهم حتى جاء الإسلام فقضى على تلك الطبقية[16]، وجعل الناس سواء لا فرق بينهم بسبب الجنس أو اللون أو الثروة، وبين أن التفاضل بينهم ليس بالأحساب والأنساب، وإنما هو بالتقوى والعمل الصالح.
فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الوثيقة ينص على العدل والمساواة بين الناس، وإذا كانت الجاهلية تقوم على نظام الطبقية والتفرقة بين الناس، فكيف تأثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجاهلية وهو يناقض في هذه الوثيقة كل ما كان سائدا فيها من مفاسد وانحرافات؟!
ثانيا. بدأت الوثيقة بالبسملة وتضمنت معاني الآيات القرآنية:
لقد بدأت الوثيقة بـ "بسم الله الرحمن الرحيم"، واستندت في أحكامها ومبادئها على آيات القرآن الكريم، فنجد في كل بند من بنودها إشارة إلى قول من أقوال الله في القرآن الكريم، ولنتأمل بعض هذه البنود وما أشارت إليه من آيات:
· قوله صلى الله عليه وسلم: "إنهم أمة واحدة من دون الناس"، إشارة إلى قوله تعالى: )إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (92)( (الأنبياء).
· وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى الرسول"، إشارة إلى قوله تعالى: )فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر( (النساء: ٥٩).
· وقوله صلى الله عليه وسلم: "على أنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسوله"، إشارة إلى قوله تعالى: )فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين (42)( (المائدة).
فقد خير القرآن الكريم النبي - صلى الله عليه وسلم - بين قبول الحكم في اليهود، أو ردهم إلى أحبارهم، ومن القضايا التي أراد اليهود تحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها اختلاف بني النضير وبني قريظة في دية القتلى بينهما، فقد كانت بنو النضير أعز من بني قريظة، فكانت تفرض عليهم دية مضاعفة لقتلاها، فلما ظهر الإسلام في المدينة امتنعت بنو قريظة عن دفع الضعف، وطالبت بالمساواة في الدية، فنزلت الآية الكريمة: )وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45)( (المائدة).
· وقوله صلى الله عليه وسلم: "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"، إشارة إلى قوله تعالى: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة: ٢٥٦) [17].
· وفي تأكيده - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من بنود من الوثيقة على أن تحكم كل طائفة بالعدل والقسط، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين"، إشارة إلى قوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (135)( (النساء).
فهذا نص قرآني صريح في تكليف المجتمع القيادي المسلم بتحقيق العدل على أتم صوره، وأكمل أحواله، فالعدل على النفس وعلى أقرب ذوي القربى كالعدل مع غير النفس مهما بعد.
· وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيها: "وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من اتبعنا من يهود فإن له النصر، والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم"، ومما ورد في القرآن الكريم تأكيدا لمبدأ المساواة قوله عز وجل: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات).
وعليه فالقرآن الكريم هو دستور المجتمع المسلم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما قرره من تشريعات ومبادئ في هذه الوثيقة مستندا إلى ما أوحي إليه في كتاب الله، فكان كل بند من بنودها يتضمن إشارة إلى قول من أقوال الله في القرآن الكريم، وهو ما يعرف "بالتضمين" وهو من أقوى الأساليب البلاغية في اللغة العربية، وهذا يدل على فصاحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أمر معترف به عند العرب منذ فجر صباه[18].
فإذا كان ما في الوثيقة من مبادئ وأحكام استند على آيات من القرآن الكريم، وقد بينا بعضا منها على سبيل المثال، فكيف يدعون أن الوثيقة لا تشير إلى آيات من القرآن الكريم؟ وكيف تكون الوثيقة جاهلية، وهي تستند في كل بند من بنودها على آية من آياته؟! إن ما جاءت به الوثيقة من أحكام وتشريعات مصدره القرآن الكريم، وهو بعيد كل البعد عما كان سائدا في المجتمع الجاهلي من عادات وأعراف، ولولا أن هذه المبادئ والأحكام عادلة منافية لما كان سائدا في الجاهلية من ظلم وفساد، لما وافقت عليها جميع الأطراف، ومنهم اليهود الذين كانوا معروفين بحنكتهم وخبرتهم، وفضلا عن ذلك فهم أهل كتاب، فكيف يكونون من أهل الكتاب ويرضون بهذه الوثيقة، إن كانت جاهلية كما يدعون؟!
ثالثا. تعد الوثيقة نموذجا في صياغة مبادئ الوثائق الدستورية الحديثة، وأسسها:
وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - وثيقة الحكم في المدينة بطريقة واضحة وصاغها بنظرة واسعة متعمقة، فأتت موادها مترابطة شاملة وصالحة لعلاج الأوضاع في المدينة آنذاك، وكان فيها من القواعد والمبادئ ما يحقق العدالة المطلقة والمساواة التامة بين البشر، وأن يتمتع بنو الإنسان - على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم - بكافة الحقوق ومطلق الحريات، يقول الأستاذ محمد سليم العوا: "ولا تزال المبادئ التي تضمنتها هذه الصحيفة في جملتها معمولا بها، والأغلب أنها ستظل كذلك في مختلف نظم الحكم المعروفة إلى اليوم... وصل إليها الناس بعد قرون من تقريرها في أول وثيقة سياسية دونها الرسول صلى الله عليه وسلم" [19].
لقد أعلنت الصحيفة أن الحريات مصونة، كحرية العقيدة والعبادة وحق الأمن والمساواة وغير ذلك، فحرية الدين مكفولة: "للمسلمين دينهم ولليهود دينهم"، ومن خلال هذه المبادئ استطاعت الدولة الإسلامية أن تقوم وأن تحقق العدل بين الناس، وتفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه؛ ليصل إليه بأيسر السبل وأسرعها دون أن يكلفه ذلك جهد أو مال، ومنعت أي وسيلة من شأنها أن تعوق صاحب الحق عن الوصول إلى حقه[20].
وكان مبدأ المساواة الذي قرره الإسلام من أهم المبادئ التي جذبت الكثير من الشعوب للدخول في الإسلام؛ لأنهم قد افتقدوه قبل مجيء الإسلام، لما كان سائدا من عبودية وفوارق طبقية، وعندما جاء الإسلام جعل الناس سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، فألغى الفوارق بين الناس بسبب الجنس أو اللون أو النسب أو الطبقة، فالناس كلهم في نظر الشرع سواء؛ ولذلك كانت الدولة الإسلامية الأولى تعمل على تطبيق هذ المبدأ بين الناس، وكانت تراعي ما يأتي:
1. أن مبدأ المساواة أمر تعبدي، تؤجر عليه من خالق الخلق عز وجل.
2. إسقاط الاعتبارات الطبقية والعرفية والقبلية والعنصرية، وغير ذلك من الشعارات الماحقة لمبدأ المساواة الإنسانية، وإحلال المعيار الإلهي بدلا منها للتفاضل، ألا وهو التقوى.
3. أن تطبيق مبدأ المساواة ينتج عنه مجتمع متماسك متراحم يعيش لعقيدة ومنهج ومبدأ.
لهذا كانت هذه الوثيقة سبقا تاريخيا حققه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنها قد اشتملت على أتم ما قد تحتاجه الدولة من المقومات الدستورية والإدارية وعلاقة الأفراد بالدولة، فالوثيقة خطت خطوطا عريضة في تلك الترتيبات الدستورية اللازمة لبناء أي دولة، وتعد في القمة من المعاهدات التي تحدد صلة المسلمين بالأجانب - غير المسلمين - المقيمين معهم، في شيء كثير من التسامح والعدل والمساواة، وعلى التخصيص، إذا لوحظ أنها أول وثيقة إسلامية تسجل وتنفذ في أقوام كانوا منذ قريب وقبل الإسلام أسرى العصبية القبلية، ولا يشعرون بوجودهم إلا من وراء الغلبة والتسلط، وبالتخوض في حقوق الآخرين وأشيائهم. إن هذه الوثيقة فيها من المعاني الحضارية الشيء الكثير، وما توافق الناس على تسميته اليوم بـ "حقوق الإنسان" [21].
ومما سبق يتضح أن نبينا الكريم - من خلال هذه الوثيقة - هو أول من دعا إلى حقوق الإنسان التي لم تكن موجودة في الجاهلية، وقام بتحقيقها، فأخرج مجتمعه من الظلام والفساد والعبودية إلى النور والصلاح ورفعة شأن بني الإنسان، فهل يمكن بعد ذلك أن يصدق عاقل ادعاء مدع أن هذه الوثيقة قد تأثر فيها - صلى الله عليه وسلم - بالجاهلية وتقاليدها؟!
الخلاصة:
· إن ما جاءت به هذه الوثيقة النبوية من أحكام وتشريعات وقوانين سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينافي ما كان سائدا في الجاهلية من ظلم وتعصب واستبداد وتفرقة بين الناس، فالوثيقة كلها تدعو إلى المساواة بين الناس.
· إن هذه الوثيقة قد حققت مفهوم الأمة، في حين كان المجتمع الجاهلي يعيش حياة متفرقة في ظل نظام القبيلة القائم على التناحر والعداء مع الآخر.
· جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المرجعية الأولى في فض المنازعات لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - بينما كان فض المنازعات في الجاهلية يحكم فيه السادة والأشراف وفق العرف والعادة وتحكم الأهواء.
· حقق النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلال هذه الوثيقة مبدأ المساواة والعدالة بين الناس، بينما كان يقوم المجتمع الجاهلي على أساس نظام الطبقية البغيض.
· لقد ظهر تأثر هذه الوثيقة بالقرآن الكريم في مواضع عديدة منها، وإنه من السهولة بمكان أن ترد كل معنى ورد في هذه الوثيقة إلى آية قرآنية، تشير إليه وتتضمنه وتعضده، وهذا ما يعرف في البلاغة بـ "التضمين".
· إن هذه الوثيقة ببنودها جميعها، تعد سبقا تاريخيا في وضع وثائق بناء الدول، وفي صياغة المبادئ والأسس التي تتضمنها الوثائق الدستورية الحديثة، ولا تزال موادها مترابطة شاملة تصلح لكل زمان ومكان.
(*) سقوط