الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقدر عيسى وأمه عليهما السلام لنفوذ النصارى وسطوتهم في مكة (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغالطين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقدر النصارى ويتودد إليهم؛ لسطوتهم ونفوذهم في مكة؛ ويستدلون على ذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - ترك صور المسيح وأمه عليهما السلام على جدران الكعبة تقديرا لهما واعترافا بفضلهما. ويرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في مصداقية علاقة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنصاري.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن تقدير النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسيح - عليه السلام - وأمه كان لثناء الله - عز وجل - عليهما في القرآن الكريم؛ ولأنه أخو النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرسالة وليس توددا للنصارى.
2) كانت عبادة الأصنام هي العبادة المنتشرة في مكة، أما النصارى فلم يكن لهم وجود يذكر فيها, فضلا عن كثرتهم وسطوتهم ونفوذهم.
3) لقد جاءت رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - تحرم التصاوير والتماثيل، التي فيها مضاهاة لخلق الله؛ ولهذا فقد أزال - صلى الله عليه وسلم - ومحا جميع الصور والتماثيل الموجودة في الكعبة، ولم يثبت أنه ترك منها شيئا أبدا.
التفصيل:
أولا. مكانة عيسى - عليه السلام - عند المسلمين:
قد لا يعرف المسيحي أن الاحترام الذي يكنه المسلم لعيسى - عليه السلام - ولوالدته السيدة مريم، ينبع من إيمانه المطلق بالقرآن الكريم، ولا يذكر المسلم اسم عيسى دون أن يتبعه بقولهعليه السلام؛ احتراما لهذا النبي والرسول العظيم.
وقد لا يعرف المسيحي أيضا أن اسم عيسى - عليه السلام - ذكر خمسا وعشرين مرة في خمس عشرة سورة في القرآن الكريم، مقابل أربع مرات ذكر فيها اسم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, ومن الآيات التي ذكر فيها اسم المسيح - عليه السلام - على سبيل المثال: قال عز وجل: )وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس( (البقرة: 253)، وقال عز وجل: )يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم( (آل عمران: 45)، وقال عز وجل: )يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه( (النساء: 171)، وقال عز وجل: )وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم( (المائدة: 46)، وقال عز وجل: )وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (85)( (الأنعام).
ولقد اقترن ذكر عيسى - عليه السلام - في الإسلام بألقاب متعددة تحمل كلها أروع معاني الإجلال والتقديس، وفي هذا تقدير من العزيز الحكيم ليحدد هوية هذا الإنسان وصفته الذي خلق بمعجزة فهو ابن مريم فقط، ولا علاقة له بيوسف النجار.
وهو "عبد الله", و "رسول الله", و "كلمة الله", و "روح الله" و "آية الله".. ولم يكن أبدا ولا ينبغي له أن يكون "ابن الله"، بل هو فقط "عيسى ابن مريم".
ويكفي هذا الرسول العظيم تشريفا أنه لم ينقطع ذكره على ألسنة المسلمين,والذين ما زالوا يتلون القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، وقلوبهم عامرة بالحب والاحترام.
وكذلك أشار القرآن الكريم إلى منزلة السيدة مريم قبل إعلان ولادته، وإلى المكانة التي اختصها بها رب العالمين: )وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (42) يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (43)( (آل عمران).
وإذا تساءل المسيحي عن مصدر هذا الكلام الجميل، فالجواب تؤكده الآية التالية من رب العالمين إلى رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: )ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (44)( (آل عمران).
ولقد ذكر الوحي الإلهي للنبي - صلى الله عليه وسلم - قصة ولادة مريم؛ والتي لم يكن يعرفها من قبل, حيث نجد - كما يخبرنا القرآن - أن أم مريم، كانت عاقرا وقد دعت ربها بصدق إذا رزقها الله بولد فإنها ستوقف هذا الولد لخدمة الله, وسمع الله دعاءها وولدت مريم, فتألمت؛ لأنها كانت تحن إلى مولود ذكر، ولكن الله وهبها بنتا.
والأنثى ليست كالذكر؛ لأنها نذرت المولود ليخدم في المعبد، وانتظرت حتى كبرت مريم.
وعندما حان الوقت أخذت أم مريم مريم إلى المعبد كي تخدم فيه، وتدافع الكهنة في أمر هذه الفتاة من يقوم على رعايتها، وبعد نقاش طويل، وخصام بين الكهنة وقعت القرعة على زكريا لرعايتها.
فمن أين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - معرفة هذه القصة وتفاصيلها، وقد كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة؟ أجاب الله عز وجل: )ومن أصدق من الله حديثا (87)( (النساء) في قوله عز وجل: )ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (44)( (آل عمران), إذن هو وحي إلهي تنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا ما اعترض - المدعون قائلين: لقد اختلق محمد هذه القصة أو أخذها عن اليهود والنصارى, فدعونا نسأل هذا المدعي:
هل لديك شك بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان عربيا؟
وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان يخاطب - في البداية - عربا؟
وسواء وافق العرب أم لم يوافقوا، فهو يقرر أن مريم أم عيسى - المرأة اليهودية - التي اصطفاها الله سيدة نساء العالمين، رغم أنها ليست أمه آمنة، ولا زوجته خديجة، ولا ابنته فاطمة, أو أية امرأة عربية أخرى، بل هي امرأة يهودية!! هل لك أيها المدعي أن تفسر لنا هذا؟
كيف يشرف النبي امرأة من صفوف معارضيه.. يهودية تنتمي إلى عرق ينظر إلى العرب نظرة استعلاء! كما لا يزال اليهود ينظرون إلى العرب حتى يومنا هذا على أنهم من عرق وضيع![1] وستجد أن الجواب لا يتعدى أن يكون أن هذا التشريف كان بوحي من الله, كما أن عيسى - عليه السلام - عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول، وأنه أخ للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الرسالة.
ولكن - للأسف - كل هذا التشريف لم يحظ عند النصارى بأي قبول, بل إنهم قابلوه بالرفض القاطع لظنهم أن هذا وضع من قدر المسيح عليه السلام؛ إذ يعتبرونه الإله، أو ابن الإله؛ فأين تقدير النبي - صلى الله عليه وسلم - للنصارى وهو يختلف معهم، في كنه المسيح, وكيف يتودد إلى النصاري وقد كفر بقولهم بالتثليث, أو برفع عيسى - عليه السلام - فوق درجة العبودية والرسالة؟
فالقول بأن هذا التشريف من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان تقديرا للنصارى وتوددا إليهم، أو غير ذلك؛ إنما هو زعم باطل لا دليل عليه.
ثانيا. حجم النصرانية في مكة قبل البعثة:
من الثابت تاريخيا أنه لم يكن هناك أي وجود للنصارى في مكة قبل البعثة، فضلا عن كونهم كثيرين - كما يدعون - فلو استعرضنا الحياة الدينية في مكة قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - نجد أنه " قد شاعت عبادة الأصنام في الجزيرة العربية كلها، وملئت مكة بالأصنام، وبخاصة في البيت الحرام, فقد بلغ عدد الأصنام حول الكعبة ثلاثمائة وستين صنما وأشهرها هبل، وللعرب أصنام كثيرة منها: اللات والعزى وإساف ونائلة، وكانوا يسمون بأسمائها كعبد العزى وعبد مناف، وقد ذكر القرآن بعض أسماء الأصنام كقوله عز وجل: )أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20)( (النجم).
وانتشرت عبادة الأصنام في كل قبيلة إذ اتخذت كل قبيلة صنما خاصا بها، وكانوا إذا خرجوا في سفر انتقوا حجرا فطافوا حوله، وإذا لم يجدوا حجرا مناسبا حثوا حثوة[2] من التراب وجمعوه ثم حلبوا عليها من الشاة ثم طافوا حولها" [3].
قال ابن إسحاق: "واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به، فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله".[4] ومما يؤكد ذلك أيضا أنه لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد قالوا: )أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب (5)( (ص).
وقد عبدت بعض القبائل النجوم والكواكب، كحمير وكنانة ولخم وجذام، فقد عبدت حمير الشمس، وكنانة القمر، ولخم وجذام عبدتا المشتري، وقيس عبدت الشعرى، وكانت قريش على شركها تدعي لنفسها أنها على ديانة إبراهيم وولده إسماعيل، وتفرد نفسها بخصائص ليست لغيرها، وقد خصت نفسها بهذه الخصائص لقيامها بسدانة البيت الحرام، وسقي الحجيج، وتقديم الخدمات لهم[5].
أما النصرانية فلم يكن لها أثر يذكر في مكة، والسبب في عدم انتشار النصرانية في بلاد العرب, التعقيدات التي فيها لا سيما في باب الألوهية، فإنه لا يقبلها العقل العربي، كما أن بها الكثير من الأمور التي يزعم القسس أنها من الأسرار، وطبيعة العربي تأبى ذلك أيضا[6]؛ ولذلك لم يعتنق النصرانية إلا عدد قليل من أهل مكة لا يعدو أصابع اليدين ولم تكن معرفتهم بالنصرانية إلا مجرد الانتماء، فأين كثرتهم تلك التي يتحدثون عنها؟!
ثالثا. لقد جاءت رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - تحرم التصاوير والتماثيل؛ ولهذا أزال النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع الصور والتماثيل الموجودة في الكعبة، ولم يثبت أنه ترك منها شيئا:
إن الزعم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك صور المسيح وأمه اعترافا بفضلهما، فيه من الغرابة ما فيه، فمن المعروف أن تعاليم الإسلام تحرم التصاوير والتماثيل، التي فيها مضاهاة, أو مشابهة لخلق الله عز وجل, فقد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله» [7]، وفي رواية: «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون» [8].
وكذلك عندما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب إلى اليمن أوصاه قائلا: «لا تدع تمثالا إلا طمسته[9]، ولا قبرا مشرفا[10] إلا سويته..».[11] فكيف يحرم الإسلام - الذي أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم - التصوير والتماثيل, ثم يأتي محمد - صلى الله عليه وسلم - ويبقي على صور أو تماثيل في الكعبة بعد دخوله إياها، فهذا إذن ضرب من التناقض. ومما يبطل هذا الزعم، أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل الكعبة حتى أخرج منها كل ما فيها من صور وأصنام؛ فقد روى أبو داود عن جابر - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عمر بن الخطاب - وهو بالبطحاء - أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها حتى محيت الصور»[12]، وعن أسامة بن زيد «أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة، فرأى صورا، فدعا بماء فجعل يمحوها»[13]. وهذه الأحاديث في مجموعها تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالرسوم المخطوطة على الجدران فمحيت، كما أمر بالصورة المجسمة القائمة في جوفها فأخرجت، ويبدو أنه حينما دخل بعد ذلك وجد آثارا لتلك الرسوم على بعض جدرانها فدعا بماء، وجعل يبالغ في حتها ومحوها[14].
وعليه فلو كان الأمر اعترافا بالفضل أو توددا لأحد لكان الأولى أن يترك - صلى الله عليه وسلم - صورة إبراهيم عليه السلام؛[15] إذ إن الإسلام هو ملة إبراهيم عليه السلام، قال عز وجل: )ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل( (الحج: ٧٨), كما أن العرب هم أولاد إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - وكان مشركو مكة يزعمون أنهم على دينه، ألم يكن من الأولى للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتودد لهؤلاء المشركين، وهم الأكثر عددا وعدة؟!
الخلاصة:
· إن التقدير الشديد من المسلمين لعيسى - عليه السلام - وأمه نابع من إيمان المسلمين بالقرآن الكريم، الذي أثنى الله - عز وجل - فيه على المسيح عليه السلام, ووصفه بأنه عبد الله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم البتول، ولقد أوحى الله - عز وجل - لنبيه قصة عيسى عليه السلام, وأنه ولد بمعجزة من غير أب، ثم إن هذا التشريف لم يلق قبولا من النصارى؛ إذ إنهم يتخذون عيسى - عليه السلام - إلها، أو ابن إله، فأين تقدير النبي - صلى الله عليه وسلم - للنصارى، وهو يختلف معهم في كنه المسيح عليه السلام.
· إن أهل مكة كانوا قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - يعبدون الأصنام، ولم يكن فيها نصارى, اللهم إلا عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليدين، لا يعرف عن المسيحية إلا الانتماء إليها، وليس لهم وزن أو ثقل في تغيير مجريات الأمور.
· إن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءت بتحريم التماثيل والتصاوير التي فيها مضاهاة لخلق الله، وعلى هذا فقد محا النبي - صلى الله عليه وسلم - كل التصاوير التي كانت موجودة في الكعبة بما فيها من صور للمسيح - عليه السلام - وأمه السيدة مريم, ولم يترك منها شيئا, ولو كان الأمر اعترافا بجميل أحد أو توددا لأحد لكان من الأولى أن يترك صورة إبراهيم عليه السلام, ولكن هذا لم يحدث.
(*) لكن محمدا لا بواكي له، د. إبراهيم عوض، دار الفكر العربي، القاهر